كوبريلي أحمد باشا
كانت سنة ١٦٥٦ ميلادية سنة وَيْل وَثُبُور، بل سنة ظلام ومصائب على الدولة العثمانية، فإن القائمين بالأمر فيها كانوا من ذوي الآراء الضعيفة والأفكار الواهية، بل على كل حال كانوا ضعاف الإرادة.
في تلك السنة أظلم جو السياسة، واكفهرت سماؤها؛ فهاجم أسطول البندقية (فنيستا) جزيرتي لمنوس وتنيدوس، واحتلتا احتلالًا انتهى بالقبض على أزمة الأمور فيها.
ومن ثم جر الطمع أولئك المشاغبين السفلة؛ فهاجموا الدردنيل واحتلوه رغمًا من مناعته، فهددوا القسطنطينية أمل الإسلام وقوته.
ولكن أبى الله إلا نصرة الإسلام على أعدائه، فقيض له من أبنائه عائلة كوبريلي الألبانية؛ فنجتها من خطر محدق بها كادت تركيا تضيع بسببه.
وكان رأس تلك العائلة كوبريلي محمد باشا، وهو رجل ولا كل الرجال له حنكة الشيوخ وهمة الشبان، أَلِف الدهر وعاركه.
كان في الثمانين من عمره حين قبض على أزمة الرئاسة؛ فأبدى من سياسة المحافظة على المملكة خير سياسة، فكان خير حاكم أخرج للناس في ذلك العهد، كان عادلًا محبًّا لخير الأمة العثمانية، ناشرًا العدل والمساواة في أنحاء البلاد، متخذًا الحرية قاعدة له، يسير على منهج الخلفاء الراشدين، متبعًا قاعدة الشرع الشريف، يسير على طريقها القويم.
بدأ هذا الشهم حياته السياسية بتغير سياسة الدولة؛ فبدلًا من اتباع سياسة سليمان القانوني والرجوع إليها في صداقة فرنسا وغيرها ابتدأ بتغير دفتها، وسار ميممًا سياسة الوحدة، أي اتباع تركيا طريقًا تكون فيه بعيدة عن التأثر بسياسة أي دولة من دول أوروبا.
أما سياسته الداخلية فكانت مقصورة على: تنظيم المديريات والمقاطعات، وإقامة حكام يراعون العدل في نظامهم، والتؤدة في سياستهم، والحنكة في أمورهم.
وقد باشر طرد الأسطول الفنيسي عن لمنوس وتنيدوس، فانجلوا في أقرب وقت تاركين الأوطان لأهلها، والبلاد لسكانها.
وبهمته المعهودة ضرب بيد من حديد على ثورة كان للانكشارية يد فيها؛ فأسكتهم وأمن اضطراباتهم.
وعلى كل حال؛ فإنه أحيا تركيا حياه طيبة، وألبسها ثوبًا قشيبًا خاطته يد الحنكة السياسية، والتدبير والعدل والروية.
فإن المنية فاجأت هذا البطل سنة ١٦٦١.
تولى بعده الصدارة كوبريلي أحمد باشا ابنه الأكبر، فكان خير شبل لخير أسد.
هو ذلك الرجل الذي توجنا باسمه الجليل (الفصل الأول)، وهو أيضًا قد اتبع سياسة الوحدة، فكان لا يحيد عنها قيد شبر.
ابتدأ في جهاده لرفعة المملكة العثمانية بتجريد جيش يبلغ عدده نيفًا ومائتي ألف مقاتل وهاجم النمسا والمجر.
وما بلغ هذا الخبر مسامع فرنسا حليفة الأتراك بالأمس حتى أرسل لويس الرابع عشر ثلاثين ألف مقاتل ليساعدوا النمسا بالنسبة لما أبداه كوبريلي محمد باشا من قطع العلائق معه واتباع ابنه سياسته.
كان قائد النمساويين في ذلك الوقت منثكوكولي الإيطالي، فانتصر على الأتراك بعد واقعة شابت لهولها ناصيته، وتلك هي واقعة سان جوتار على نهر الراب.
ولكن رغمًا عن هذا الانتصار فإن الفوز الحقيقي كان في جانب الأتراك.
فقد خاف الإمبراطور ليوبولد إمبراطور النمسا وقتئذٍ سطوة لويس وتداخله؛ فعقد صلحًا أبرمه مع أحمد باشا في مدينة فاسفار سنة ١٦٦٤.
فنال أحمد في هذا الصلح حصنًا في المجر، واحتلال ترانسلفانيا أدار بعد ذلك هذا البطل وجهه فوجد أن الأتراك أراقوا دماءهم الزكية في جزيرة كريت، وأن فنسيا قد احتلتها. فجرد جيشًا، وحاصرها سنة ١٦٦٩، وهاجم القائد الفنيسي مروسيني واضطره للتسليم وعمل صلح.
انتهى من تلك الحرب، فذهب إلى القسطنطينية ليستريح من وعثائها، فلم يستقر حتى هبت في وسط أوروبا ريح تحمل صراخ قوازق الأكرين، وتبلغ آلامهم إلى جميع ممالك أوروبا.
وقد استغاث أولئك الأقوام بأحمد باشا؛ فاستعد ليحارب بولاندا، وينصف أقوامها.
ونحن إنما جئنا بتاريخ ذلك البطل هنا ليكون منسجمًا مع بقية الحديث.
ندع الآن تلك الوقائع والمعاهدات، والحروب والإغارات، ونرجع إلى القسطنطينية محط رحال آل عثمان بهجة الإسلام وقرة عينه.
سر أيها القارئ في ناحية بيوكدرة، تلك الناحية المشهورة بجمال موقعها، وطيب هوائها، وحسن أخلاق سكانها، جُل بنظرك في أنحائها تجد في الشرق على شاطئ البحر قصرًا شامخ البنيان عالي الأركان مرمري العمد، فخم الأثاث، حافلًا بآله، عامرًا بصحبه، ادخل إليه تجده ملآن بالخدم والحشم، ولا عجب فهذا هو قصر الصدر الأعظم ثاني رجل في الإسلام.
ودعنا الآن من وصف داخل القصر، وسر بنا إلى أوسع قاعات الدور الأسفل، تجد غرفة مفروشة على النمط الغربي المحض.
جلس في صدرها رجل، وخط الشيب ناصيته، بشوش الوجه، رَبع القامة، كبير الشاربين، ينبعث الذكاء من عينيه، تدل ملامحه على التؤدة والروية، وهو رجل الدولة ومصباحها، وقائدها وهاديها، هو أحمد باشا كوبريلي.
وأمام ذلك الوزير جلس رجل يدل لباسه على أن قوزاقي، من سكان الأكرين، ابتدأ الحديث بينهما، فكان كما يأتي:
قال القوازقي: إنا لم نلجأ لجناب الوزير الكبير إلا ونحن على علم تام بأنا سنلاقي عضدًا قويًّا، وكنفًا نحتمي به، فننجوا من مصائب كادت تقضي على حياتنا لسوء معاملات النبلاء لنا واستعبادهم إيانا كأنا خُلقنا لنكون لهم خدمًا وعبيدًا.
– وهل هناك أيها الرجل فرق كبير بين الشعب وما يسمونهم النبلاء؟
– نعم يا مولاي فإني أصرح بذلك، والأسف يقطع نياط ذلك القلب المسكين، الذي إنما يبكي على دولته التي سوف يمحيها حكم الدهر، بل حكم حكامها السفلة الذين ينقادون إلى ما يفعلون بطمعهم الأشعبي، واستبدادهم المميت.
أصرح يا مولاي أن نبلاء بولاندا يرون في أنفسهم حكام المملكة وأصحابها، يستعبدون الشعب، ويجرونه بيد من حديد سوف تقذفنا وإياهم في هاوية التعاسة والشقاء، إنهم يا مولاي يقودون الشعب للعمل بلا أجر، يكممون من يقول الحق، يقتلون من يعارضهم، يسوقوننا للموت كالأغنام للذبح.
– ولكن أهل فقدت العدالة؟ وساد الظلم؟ وعدمتم محاكم تنجيكم مما أنتم فيه؟ أليس في الأمة من رجل بمعنى الكلمة يقودها حيث ترقى وتعتز؟!
– إن لبولاندا يا سيدي الوزير مجلسًا يطلق عليه اسم «الديت» وهناك تنفَّذ القوانين ويصدق عليها، هناك يحكمون على الشعب حكمهم الذي لا يقبل النقض والإبرام، ولكن الغريب المزري بشرف الأمة البولاندية، هو أنه إذا تغيب نبيل وقت التصديق على قانون، بل كان حاضرًا وعارض، فإن ذلك القانون يُعد لاغيًا، فهم والحالة هذه يصدقون على قوانين في صالحهم أكثر مما هي في صالحنا، فهم في نعمة ورفاهية، ونحن في نقمة وبلاء.
– يا للفظاعة! هل الإنسان يفعل ذلك بأخيه في الإنسانية وشريكه في المرافق الحيوية؟!! ولكن على كل حال إنكم استعنتم بتركيا، وهي ستعينكم، وهي في غنى أيضًا عن أية مساعدة حربية كانت أو مالية.
ولكن الإنسان بطبيعته ميال إلى صالح نفسه، فجلالة السلطان إذا رأى مثلًا أن فتح بولاندا لا يكلفه إلا القليل من المال والرجال ما دمتم أنتم مساعديه؛ ليخلصكم من رق واستعباد فهو لا يرفض ذلك أبدًا، ونحن إن هاجمنا فإنما نهاجم لصالحكم؛ فلا يصح أن ننصب ونتعب وأنتم على مهاد من الراحة نائمين.
فأفصِح لي عن مواضع الضعف فيكم، عن حصونكم وأحوالها، عن عدد جنودكم، عن قوادكم المشاهير، حتى ندبر للأمر عدته ونحارب على بينة.
وهنا لو دخل عليهما ثالث، وحقق النظر إلى وجهه القوزاقي لعجب من منظره، فإنه كان أحمر الوجه بدرجة غير محدودة، وذلك إنما لأنه كان يخون وطنه، ويلقى بأسراره إلى غريب لا يحق له أن يطلع عليها، ولكنه في هذه الحالة يبوح مضطرًّا بحكم المعاملة التي يلقاها في بلاده.
وبعد دقائق معدودات رفع القوزاقي رأسه وقد ألقى إلى الوزير الكبير كل ما أراده، ثم تابع حديثه، وقال: وإني أحذر سيدي الوزير من نائب حرٍّ اسمه سوبيسكي، شديد الغيرة على مصالح بلاده، يتنبأ له الكثيرون بأنه سوف يكون عضدًا قويًّا لبولاندا، وينجيها من عدو سوف يقضمها بين أشداقه خضمة الإبل نبتة الربيع.
– إنا سنكون على حذر أكثر من اللازم، وبعد شهر أو أقل سترى ملائكة الرحمة متقدمة جيش أمير المؤمنين الظافر، وسترون كيف ينتصر آل عثمان للعدل والحق والإنسانية.
انتهى الحديث بينهما على هذه الصفة، فقام مندوب القوزاق متمهلًا إلى أن خرج، وهنا خلا الجو لذلك الرجل الكبير الذي تُعلق عليه الدولة آمالها، فجلس يمعن الفكر فيما هو قادم عليه، وجعل يحدث نفسه قائلًا:
أي أحمد، ألم يزل علم السعد خفاقًا، وما برحت من الفائزين، وأنت يا أبي نَمْ في قبرك مستريحًا، وأنتِ أيتها الروح استقري في قبرك مطمئنة، واعلمي أني متبع وصيتك لا أحيد عنها أبدًا، تلك الوصية التي تقول لي فيها: «إياك والركون إلى أعداء الدين، وطع في الدنيا اثنين ربك وملكك، واسعَ لخير أمتك ودولتك.» فأنا بإذن الله منجز وعدي، ومبلغ بدولتي مقرها الذي ينبغي أن تكون فيه.
وبولاندا لا بد من افتتاحها، وأني أرى الطريق تنفتح أمامي؛ إذ لا أسهل من افتتاح مملكة تنافر عنصراها، وانطبق عليها قول السياسي: «فرِّق تسد»، مملكة ضاعت أواصر المحبة والاتحاد بين أفرادها، مملكة نصرت الظلم، وطمست العدل، مملكة قبض على أزمة أمورها أمير ضعيف ونبلاء أقوياء يديرونه كما يشاءون.
وهنا دخل عليه خادم غرفته الخصوصي سعيدًا منبئًّا أن هناك حاجبًا من يلدز يستدعيه لمقابلة خليفة المسلمين؛ فقام توًّا ملبيًّا الأمر، فلندعه سائرًا حيث المهابة والجلال، والخلافة الإسلامية بأسمى معانيها، ولنسِر إلى بولاندا لنرى حال مملكة ضاعت وانمحت.