الديت
الديت اسم أُطلق على ذلك المجلس النيابي الذي أخذه البولانديون بعد شق الأنفس، بل بعد ما جاهدوا جهاد الأتراك سنة ١٩٠٨، ولا غرو؛ فإنهم ما كانوا يحاربون عبد الحميد واحدًا، بل كانوا يحاربون ما يفوق ألف نبيل يماثل كل واحد منهم طاغية كهذا الطاغية المستبد.
أخذوا ذلك المجلس الذي ليس له من المجالس النيابية إلا اسمها، وإنما أعطاه سالبهم إياه ليسد أفواهًا ملأ صراخها آذان العالم المتحضر، وأزعج أنينها قلوب المتمدنين من ممالك أوروبا، بل أيقظ من كان نائمًا لم يسمع أن بولندا لا تزال تحت أثقال من الظلم راسخة.
كان أعضاء ذلك المجلس كلهم من النبلاء، لا يصدقون على قانون يكون مخالفًا لمصلحتهم، ولو قامت ثورة كثورة الفرنسيس تنتهي بقتل زعماء الحكام، كما انتهت بقتل لويس وماري.
فهم إنما كانوا يلبسون لكل حادثة لباسها، ويمثلون على مرسح الأطماع رواية هم الفائزون فيها.
كان أولئك الذين ليس لهم من النبل إلا اسمه لا يصدقون إلا على قوانين توافق مشاربهم وتلائم مصالحهم، فقضوا على الشعب المسكين وأضاعوه.
فأصبح عدوًّا لهم، وهكذا غدا من السهل اقتناص بولاندا وضربها ضربة قاضية في حريتها واستقلالها، ما دام التنافر أخذ محلًا في قلوبهم، متمكنًا في أفئدتهم، فالنبلاء يستعبدون الشعب استبعاد العبيد، ويجرونه، بل يسوقونه كما تُساق الشاه للذبح، بل كما كان فرعون يسوق المصريين للعمل في بناء الأهرام بدون أجر؛ فكافؤوه بعدم دفنه فيها.
وهكذا يتملك المستبد الرقاب، ويتحكم بالعباد إلى أن تحين لهم فرصة فيهجمون عليه هجوم الذئاب الجائعة على معتقليها، فيزلزلون عرشه، ويجعلونه مزعزَع القوائم.
ندع الآن النصح لذلك المستبد السافل الذي لا يجد عبرة في هدم عرش شارل الأول وسفك دمه، وبتر رأسه بسيف الجلاد.
بل لا يجد عبرة بانتصار الشعب على لويس السادس عشر وقتله إياه مع عقيلته ماري أنطوانيت التي شربت الكأس نفسها.
بل لا ينتصح بالقريب الذي ملأ آذان العالم المتمدين من قلب عرش المستبد إلى مجلس شورى وإنزال طاغية القسطنطينية من عرشه ونفيه إلى سالونيك.
ندع كل ذلك ونسير بالقارئ خطوة كبيرة، نترك بها دار السعادة، ونحط برحالنا في وارسو عاصمة بولاندا وحاضرتها.
هناك بعد أن نستقبل المدينة من الجهة الشرقية شارع يقال له شارع جونسكي، إذا توسطته وجدت به بنيانًا فخمًا، يكاد يسد منافذ القبة الزرقاء، وقد أُطلق عليه ذلك الاسم الذي صدرنا به الفصل الثاني.
الديت
ففي الخامس من شهر (آب) سنة ١٦٧٢ كان السائر في هذا الطريق يلفت أنظاره كثرة الازدحام حول باب الديت؛ وذلك لأن اليوم موعد انعقاد جلسة للمباحثة في تقرير ضريبة جديدة، والمناقشة فيما يتعلق بقانون جديد سينشئونه ضد قوازق الأكرين.
أما الضريبة؛ فسنعلم قريبًا من أي نوع هي.
أما القانون فكان يقضي على كل قوزاقي وُجد في منزله اجتماع واشتبه فيه أن يجازى بدفع غرامة لا تقل عن خمسماية روبل، وإن توانى عن الدفع فأمامه خمسة أشهر يقضيها بعيدًا عن أعين إخوانه مسجونًا.
وهذا هو ما كان يخرجه أولئك المستبدون من القوانين القتالة للحرية الشخصية والعمومية.
خذ بيدي — أيها القارئ الكريم — وادخل بنا إلى ذلك المجلس لترى فظائع تعصب النفس للنفس، بل لترى الأنانية، وكيف يكون مبلغها، بل لتنظر مبلغ احتقار الإنسان لأخيه الإنسان.
هناك بين أوسع قاعات المجلس قاعة تسمى قاعة الجلسات، فما وافت الساعة التاسعة صباحًا حتى توافد نبلاء القوم ليقرروا القوانين ويصدقوا على المواد، ويضربوا الضرائب على شعب آنٍّ من الظلم، وبلغت شكايته عنان السماء.
انتصفت الساعة التاسعة فنادى منادٍ بالانتظام، فسكن الجميع وانتظروا أقوال رئيس المجلس الكونت سمولنسكي حيال هذه القوانين والضرائب.
أيها الإخوان، هنا اجتمعنا اليوم لنقرر ما يدفع عنا صرخات ذلك الشعب الثقيل الذي لا يريد إلا أن يكون صاحب الأمر والنهي، لا يلوي على أي سيد كان.
ونحن إنما نسينا ذلك المثل العربي القائل: «لا تطعم العبد الكراع فيطمع في نيل الذراع.»
فنحن بيدنا زعزعنا مراكزنا، وآثرنا عليها ذلك الحيوان الممقوت، فقد أعطيناه ما أراد، فظن أننا طوع أمره، فطلب الزيادة، وجب إذن أيها الإخوان إيقافه عند حده خيفة أن يمتد لهيبه المحرق، فيزعزع الملكية والنبلاء، ويهدم ما شيده أجدادنا (تصفيق حاد من الشمال).
فكرت في ذلك أنا ورفاقي — أولو الأمر وأصحاب السيادة في وطننا العزيز — فوجدنا أن خير قانون هو معاقبة أي قوزاقي اشتبه فيه محرضًا لاجتماع أن يسجن خمسة شهور، وإن أراد أن يفدي نفسه فيدفع خمسمائة روبل لحكومة جلالة الملك، فهل أنتم موافقون؟
نعم موافقون، نعم موافقون (حزب الشمال).
كلا، إن ذلك قاتل مجحف (بعض حزب اليمين).
وهنا قام أحد أعضاء حزب اليمين جون سوبيسكي فقال: أيها الرئيس، أيها الإخوان، إن ذلك القانون الذي أخرجه جناب الرئيس وزملاؤه ووافقتهم أنتم عليه لأنه موافق لمصلحتكم قاتل لغيركم، قاتل للشعب، قاتل لذلك الملك الذي ينقلب بالإرهاق شيطانًا.
فهل فكرتم كلكم في أن مراكزكم التي أنتم فيها لم تُحفظ وأن أموالكم لم تبقَ، وأن حياتكم لم تسلم، إلا لأن الشعب هادئ لا يحرك ساكنًا؟ ألا وشرف بولاندا إن نفخة واحدة في تلك النار المدفونة لكافية أن تكشف عنها الرماد؛ فنرى رجلًا ككروميل يمثل على مرسح البلاد البولاندية رواية شارل الثاني (ضجيج تافف).
اسكت، اسكت، لا نريد أن تتكلم (حزب الشمال).
(سوبسيكي في وسط الصخب) دعوني أتكلم أيها الإخوان؛ فتروا صحة كلامي حتى إذا مت يومًا ما وذكرتم اسمي ترحمتم على فرد يسوؤه انحلال بولاندا.
فيا أيها الرئيس ويا أيها الإخوان، أفيقوا واعلموا أن تلك القوانين تثير الشعب، وإنكم إنما تحفرون قبوركم بأيديكم، أنتم تثيرون النار بنفخ الرماد، رفقًا بأنفسكم، ورفقًا بشعب تقودونه، بل بشعب أنابكم ووكلكم أموره.
(حزب الشمال وبعض حزب اليمين) اسكت يا نصير الشعب، ها ها ها، لا نريد أن تتكلم، كفى هذيانًا.
(الرئيس) سنأخذ أغلبية الأصوات بطريقة سرية، فليكتب كل عضو رأيه في ورقة وليلقها في هذا الصندوق. وأشار إلى صندوق وضعه على طاولة أمام المصوتين.
وهنا تمتم سوبيسكي قائلًا: الآن تمت الغلبة للظلمة، وصار النصر في جانب العسف، وضاع العدل بين أولئك الذين ليس لهم من النبل إلا اسمه، فيا ويح أمة أنتم نوابها!
وبعد ردهة من الزمان سكتت الجلبة على صوت الرئيس؛ إذ قال: أيها الإخوان سيسري القانون بأغلبية الأصوات.
والآن فإن أمامنا ضريبة نريد أن نقررها؛ لأن المالية في حاجة إلى المال لتحسين الحالة الإدارية في المملكة.
وما انتهى الرئيس من كلامه حتى قام جون سوبيسكي وقال: إنك يا جناب الرئيس ويا حضرات النبلاء لو كنتم تخالطون الشعب لأدركتم حالته المالية، فلا بد أنكم كنتم بدلًا من ضرب الضرائب تخففونها عنه؛ لأنها أصبحت حملًا ثقيلًا على كاهله يئن تحتها، فرفقًا بالأمة يا قادتها، ورفقًا بالشعب يا نوابه، ورفقًا بالمملكة يا رؤساءها.
الرئيس: ذلك أمر جلالة الملك، ومع كل فسنرى بأغلبية الأصوات، فيا حضرات النواب هل توافقون على ضرب ضريبة جديدة؟
(من اليمين ومن الشمال) نعم، نعم، ذلك من حق جلالة الملك وحقنا. وبعد قليل وافقت أغلبية المجلس على ضرب ضريبة جديدة.
وما هي تلك الضريبة؟
إنها كانت على قَطع الأخشاب من الغابات، إذ قرر أن كل طن من الخشب يؤخذ عليه ثلث ثمنه رسمًا.
وهكذا كان ذلك المجلس يضيِّق على أنفاس الشعب ويذيقه كؤوسًا يضيق لها صدر الحليم.
انفض الاجتماع أخيرًا، فكان أول المجتمعين خروجًا جون سوبيسكي الذي دافع بكل قواه عن الشعب، وبذل كل مجهوده للذود عن حوضه.
فما ظهر أمام الجمع المحتشد أمام باب المجلس حتى هتفوا هتافًا بلغ عنان السماء كان يتخلله قولهم: «ليحيَ النائب الحر» «ليحيَ سوبيسكي» «ليسقط الظلم» «ليسقط الاستبداد»، وهكذا كان الشعب يحيي قائده والمُدافع عنه، ويظهر له ما يمكن أن يعبر به عن سروره واحتفائه به.
وبالجملة فإن جون سوبيسكي لم يمكنه أن ينسرق من هؤلاء الذين يودون الموت فداءه إلا بكل عناء، فذهب توًّا إلى قصره واستراح، وبعد أن تناول غذاءه ركب عربته وسار متنزهًا، فما توسطت عربته طريق ميخائيل حتى تقدم إلى العربة رجل لابس لباس الخدم البولانديين وبيده رسالة، وما لبث سوبيسكي أن رآه حتى أوقف العربة وقال: خيرًا يا سرجيوس.
– إن شاء الله يا سيدي، ولكن سيدتي أرسلتني لأقابلك وأعطيك هذه الرسالة.
فأخذ سوبيسكي الرسالة وأمر سائقه بالمسير، وفضها فوجد بها سطرًا واحدًا هو: «قابلني الليلة بغار السعادة» والإمضاء صوفيا.
فقال: يا ترى أي أمر جد؟ وأي حادث حدث وأنا تاركها بالأمس قريرة العين؟ ولكن على كل حال سأراها اليوم.
وقف السائق أخيرًا أمام قصر سيده، فنزل سوبيسكي من المركبة وصعد القصر.
فلنتركه الآن، ولنسر بالقارئ حيث يلتقي العاشقان.