البولاندية الحسناء
صوفيا جاركوف غادة بولاندية تسكن وارسو عاصمة بولاندا وحاضرتها، وهي معروفة فيها بحبها للخير والإحسان ومد يد المعونة لفقراء وارسو وعائلاتها، وطالما رأوها سائرة متبرقعة بقناع كثيف حاملة بيدها مؤونة أو مالًا تريد أن تُحسن به مخترقة أزقة ضيقة وأماكن قذرة لا يسكنها إلا الشعب الفقير الذي صار في النزع الأخير من حياته؛ لما أصابه من تضييق في الحرية، وسلب في الأموال، وضياع في القوى.
تسير تلك الغادة الحسناء حتى تقف ببيت خيم عليه الفقر، فصارت أيام ساكنيه أشد سوادًا من حظ المنكود؛ فتنقلب تعاستهم سرورًا وأحزانهم حبورًا، ولا غرو؛ فقد كانت كملائكة الرحمة، لا تنزل في مكان إلا وتترك به أثرًا من آثار النعمة، تواسي المرضى فتسقيهم، وتساعد الفقراء فتنجيهم، وتطعم الأطفال فيفترون عن ثغر باسم شاكرين لها تلك اليد.
ومن ثم تخرج محفوفة بدعوات خارجة من قلوب مخلصة، تود لها الخير من صميمها، تخرج ووراءها ألسنة منطلقة بشكرها والثناء عليها.
تسير في الطرقات فيشيرون إليها قائلين: «هذه ملاك وارسو صوفيا جاركوف ذاهبة إلى منزلها بعد أن ساعدت عائلات فقيرات خيم البؤس على منازلهن، فما خرجت منها حتى صيرتها جنة.»
«إن الطيور على أشكالها تقع» ذلك مثل عربي طالما ساعد الدهر على إثباته ولا غرو؛ فإن صوفيا جاركوف ملاك وارسو — كما يلقبونها — كانت حبيبة ذلك النائب الحر والبولاندي الطاهر المُدافع عن الحق، الذائد عن المروءة «جون سوبيسكي».
رآها ذات يوم جالسة في حديقتها تخيط ثيابًا لا شك في أنها كانت لعائلة فقيرة، وكان قلب ذلك البطل الذي صار فيما بعد أشجع قائد في زمانه خلوًّا من الهوى، فما رآها وصادفت عيناه عينيها حتى امتزجت روحاهما، ومالا إلى بعض كل الميل، ولم يمضِ يوم أو يومان حتى تقابلا، وتلك سُنة الغرام الطاهر والحب الشريف.
تلاقيا بعد ذلك مِرارًا، وإنما كانا يتلاقيان في غار بعيد عن المدينة، يطلق عليه اسم «غار السعادة».
كان ذلك لأن أبا صوفيا الكونت سمولنسكي رئيس «الديت» يكره أن تتلاقى ابنته مع رجل كسوبسيكي يساعد الشعب على النبلاء، مع أنك لو سألت ذلك الرجل بشرفه ونبله عن رأيه في سوبيسكي لصاغ لك المدح عقودًا وأعجب به أيما إعجاب، ولكنه لا يمكنه أن يصرح بذلك خيفة أن ينتزعوه من مركزه عنوة واقتدارًا ويبدلوه بغيره.
وإن مركز رئيس الديت لمركز تتوق إليه نبلاء بولاندا، فكلمة شكٍّ تبدر من فم الكونت سمولنسكي تودي به، وتنزله من حالق مجده.
وكان لصوفيا خادم أمين، تربى في بيت أبيها من صغره، فكان هو الوحيد المطلع على غرامها الطاهر، بل كان الرسول بين الروحين، المقل للرسائل بينهما بأمانة قلما يشاركه فيها آخر من بني آدم.
تقابلا ذات يوم في غار السعادة، ولم يلبث سوبسيكي قليلًا حتى استأذن حبيبته بالانصراف؛ وذلك لأنه قد ورد له خطاب من الديت يفيده بأن موعد الانعقاد باكر، وأنه لا بد من حضوره لحصول أمور ذات أهمية وتقرير قرارات كبيرة.
وإنما كان ذلك اليوم هو الخامس من شهر (آب) الذي دافع فيه جون سوبيسكي عن الشعب دفاع المستميت، بل هو اليوم الذي قابله فيه خادمها سرجيوس بخطابها الذي تدعوه فيه.
وذلك لأن ميخائيل ملك بولاندا استدعى الكونت سمولنسكي أباها بعد اجتماع المجلس وتقريره تلك القوانين.
فلما عاد استفسرته ابنته عما دار بينه وبين الملك أجابها قائلًا: اطمئني يا ابنتي، فإنه لم يدعني إلا ليخبرني أن الأتراك برئاسة أحمد باشا كوبريلي صدرهم الأعظم قد احتلوا كامنياك احتلالًا نهائيًّا، وأنهم يتقدمون بانتظام نحو العاصمة، وقد خيَّرني في انتخاب قائدٍ لهم فأشرت عليه بانتخاب جون سوبيسكي.
– ماذا يا أبي؟ هل ضاع حب الوطن من أفئدتكم؟ فإنك تروي لي خبر احتلال الأتراك لبادوليا وكامنياك بكل سهولة وبساطة، ثم تفاجئني بتعيين سوبيسكي أهل تريدون بهذا التعيين أن تبعدوا عن المجلس خيرة نوابه وأرقى منتخبيه؟!
– ألا فاسكتي فإنه تقرر نهائيًّا ولا مرد لأمر جلالة الملك ونبلائه.
خرجت صوفيا من غرفة أبيها، وقد غص ريقها، وصار تعيين ذلك الحبيب قائدًا لجيوش بولاندا قذى في عينيها، وشجى في حلقها، ولا ريب فإنهما ما يكادا يرتشفان كؤوس الحب الطاهر والغرام العذري حتى وافى نبأ الفراق، وحتم عليهما أن لا يتلاقيا بعد، وربما وافى حبيبها أجله المحتوم في تلك الحرب التي ولا ريب سيقاتل فيها مقاتلة الشجاع المستميت.
فكتبت تلك الرسالة ونادت سرجيوس، وقالت له:
سرجيوس، عليك بمقابلة جون، وإعطائه هذه الرسالة يدًا بيد، ولا بد من إيجاده، وإن كان في المجلس فانتظره، وإياك أن تأتيني إلا بخبر يسرني، وما هو إلا إيجاده وإعطاؤه الرسالة.
– سترين كل ما يسرك يا سيدتي.
غاب سرجيوس ورجع، فكان أول من قابله صوفيا؛ إذ كانت جالسة في حديقتها فسألته: أقابلته؟
– نعم يا سيدتي، وقد أخذ الرسالة، واستفسر من صحتك.
إذن فاستعد يا سرجيوس الليلة — في منتصف الليل — لأننا سنذهب إلى غار السعادة، فقد بلغ الأمر من الأهمية أكبرها.
– سمعًا وطاعة يا سيدتي.
انتصف الليل، ونامت وارسو، وساد عليها السكون، حتى الطبيعة فإنها شاركتها في ذلك السكون؛ فلم تكن تسمع غير حفيف الأشجار، وخرير نهر الفستيولا، فلم يكن هناك من انتبهت عيونهم ولم يشاركوا ذلك المجموع الآخر في نومه إلا ثلاثة، هم: جون سوبيسكي، وحبيبته صوفيا، وسرجيوس ملاكهما الحارس.
فلو سار القارئ في ذلك الوقت قاصدًا ذلك الغار ملتقى العاشقين لوجد سرجيوس واقفًا على بابه حارسًا، وهما في الداخل يتشاكيان الغرام، ويتبادلان كؤوس المحبة.
فلنتخذ من الظلام سترًا لنكون على مقربة منهما، فنسمع آيات الحب يفوه بها ذلك الفم اللطيف الطاهر.
ابتدأ سوبيسكي الحديث؛ فقال:
أي صوفيا، خيرًا إن شاء الله، فإني تركتك أمس قريرة العين، جذلة الفؤاد، فما الذي دعاكِ إلى إرسال هذا الخطاب؟
ما هذا الكلام أيها الحبيب؟ ألا تريد أن نكون على مقربة من بعض؟ ألا فاعلم أنَّا عن قريب سنفترق، فإن الأتراك هاجموا بولاندا، وقد عينوك قائدًا لجيوشنا.
فتجهم وجه جون وصاح: ماذا أيتها الحبيبة؟ إن ذلك لخبر لم أسمع به حتى الساعة إلا منك! وإذا كان خبر كهذا له من الأهمية ما له، ولا أسمع به حتى الساعة، بينا الأتراك يتقدمون ممتلكين بلادنا ونحن نسكت حتى الآن؟ ألا إنه خير لبولاندا أن تنحل من أن تكون في مركز كهذا، أما أنا؛ فإني أتقدم لا لأكون قائدًا، بل لأتطوع كجندي بسيط أحارب أعداء وطني، وما أعداؤه في الحقيقة إلا مليكه ونبلاؤه، والآن كيف يتسنى لهم جمع الجيش وصد هجمات أولئك الأتراك الذين طالما سمعنا عن خبر انتصاراتهم العديدة؟!
فيا رب كن مساعدي، وقوِّ ساعدي؛ حتى أرد غارات قوم سوف يبتلعون وطني العزيز فيذهب ضحية أولئك السفلة القابضين على أزمة الأمر فيه، أما أنتِ أيتها الحبيبة ففراق — إن شاء الله — يعقبه تلاقٍ بانتصار وخير، ودِّعيني — أيتها الحبيبة — التي إن مت فليس أمامي إلا شبحان يهيجان قلبي وضميري؛ أولهما بولاندا، والثانية أنتِ يا صوفيا.
فصلِّي وادعي لي في صلواتك بالنصر، عساني انتصر؛ فأكون ممن جاهدوا في سبيل أوطانهم.
وأنتِ — أيتها الحبيبة — ألا ترين ذلك الضعيف ميخائيل؟ وكيف لم يصل إلينا خبر الحرب ونحن أعضاء مجلس الشورى لبولاندا؟ بل لولاكِ لم يصل إليَّ إلا ربما حينما يكون الأتراك على أبواب وارسو، والآن — أيتها الحبيبة — ودِّعيني، قبليني، دعيني أتملى من حُسنك الفتان، فآخذ لي منه زادًا أتزود في غمار تلك الحرب الشعواء.
– أواه — أيها الحبيب — أتفارقني ولم يكبر للآن غرامنا ويشب؟! ما هذا يا رباه؟ أهل قُدِّر عليَّ التعاسة والشقاء؟ أيها الحبيب، استحلفك بغرامنا الطاهر أن تبقى بجانبي، ولا تُقدم على حرب سوف تنتهي بانخذالنا.
رفقًا يا صوفيا فنحن لسنا في موقف غرام، بل في موقف وطن وإقدام، فشخصك لا يبرح مخيلتي، ولكن وطني، وطني الذي إن مات متنا، وإن عاش عشنا، لا بد من إنقاذه، وإلا ذقنا من يد الأتراك كأس الموت، وصرنا سُبة الدهر، وعار التاريخ، والآن وداعًا أيتها الحبيبة، وسأترك بجانبك سرجيوس، فهو ملاكك الحارس.
وهنا كانت الساعة المؤلمة ساعة الوداع؛ فغص ريقهما، وبللت دموعهما خديهما، وودا لو أن الساعة تقوم، فيموتان معًا ويُحشران معًا.
ولكن سوبيسكي قاوم نفسه، وهرب مودعًا إياها.
فلنتركهما الآن، ولندع مواقف الغرام وراءنا، ولنستقبل ساحة الحرب ومواقف الطعان لنرى حب الوطن، وكيف يكون مبلغه.