كامنياك
نسير الآن زحفًا إلى بدوليا، قاصدين كامنياك، حصنها الحصين، بل تلك القلعة التي حصنتها أيدي الطبيعة، ودبجتها يد العناية الإلهية؛ فكانت كالأسد الرابض المنيع الجانب.
فلا مرتفعات واترلو التي تحصن بها ولنجتون، فقهر نابليون، وأطفأ بيده نجم سعوده، وقهره بيد القادر المتمكن، وأنزل ذلك الجبار الذي أطلق عليه لقب الرجل الذي لا يُغلب من سماء مجده إلى أسفل سافلين.
بل ولا مضيق ملونا الذي تحصن به اليونان في حربهم الأخيرة وقهرهم فيه أدهم باشا بهمته المعروفة وحيلته الهائلة.
ولا غرو؛ فقد كان كامنياك حصنًا حصينًا قائمًا في وسط سهل كبير، لا يمكن لأحد أن يحمي نفسه بأي شيء تحت نيران مدافعه وبنادقه، فالذي يتعرض للهجوم عليه كمتعرض لأسد بلا سلاح، أما ارتفاعه فقد كان هائلًا، ولكن حكومة بولاندا أهملته إهمالًا فظيعًا، ونبذته نبذ النواة، فلم تعد دفاعه كما كان المطلوب.
فصار من السهل افتتاحه واحتلاله على قوم كالأتراك يقول عنهم نابليون «لو كان لي جيش من الأتراك لفتحت العالم بأسره.»
فقد كان، وسار أحمد كوبريلي باشا بجيش يزيد عن ربع مليون جندي مدرب يحمل عدة كاملة، وكلهم ذوو عزيمة حادة قوية، طالما حببتهم إلى الحربيين من كل مملكة.
فقد كان الجندي العثماني يقاتل بشجاعة واطمئنان قتال الحافظ للمثل القائل: «من مات في سبيل وطنه مات شهيدًا»، فهو شجاع يعلم أن الموت موت واحد، ولكن عدوه جبان يموت مائة مرة قبل أن يدخل في غمار الحرب. وزيادة على ذلك فهو صبور لدرجة لا تُطاق يكتفي بالقليل من الطعام.
تقدم كوبريلي أحمد باشا بهذا الجم الغفير، وكلهم قلب واحد يودون النصر، وكلهم مشتاقون لذلك.
ففي التاسع من شهر نوفمبر سنة ١٦٧٢ ظهرت طلائع جيش أحمد باشا، فرأتها الحامية التي في الحصن، ولم تكن تزيد عن خمسة آلاف جندي، ليس عندهم من المؤونة إلا ما يكفيهم أيامًا قلائل.
رأى أولئك الجنود ذلك الجيش الذي سوف يهاجمهم عن قريب، فعوَّلوا على الدفاع إلى آخر نقطة من حياتهم، والموت شرفاء يذكرهم التاريخ بأنهم لم يسلموا وفيهم نقطة دم، بل يذكرهم بأنهم ماتوا دفاعًا عن أوطانهم.
فعسكرت جنود أحمد في السهل على مقربة من الحصن، وعولوا على المهاجمة بعد قليل.
وقد باشروا الهجوم على الحصن في صباح العاشر من شهر نوفمبر، فكانت قذائف الأعداء تنهال عليهم كالوابل الهتون، فيثب عزرائيل قابضًا روح هذا مستمهلًا ذاك، والحي منهم يجعل الميت ترسًا يحمي عنه رصاص الحامية وقذائفها، فلم ينتصف النهار حتى كان الأتراك على قاب قوسين أو أدنى من الحصن.
ومن ثم صرخ أولئك الشجعان صياحهم المعروف وقت النصر: «الله أكبر» «الله أكبر» فاهتز الوادي والحصن معًا لهذا الصياح المخيف من فم ربع مليون جندي، كلٌّ له صوت يَدُكُّ معقلًا.
فكان صياحهم كالقذائف أصابت قلوب البولانديين؛ فهلعوا وصاروا كالجرذان لحقتها السنانير فسكنت أصوات الحامية، ولا غرو؛ فإنهم دافعوا عن الحصن إلى أن خلصت المؤونة.
كان لكل جندي عثماني فأس في حزامه، فأخرجها وتحطمت الأبواب، ودخل الأتراك منتصرين، ثملين بخمرة الفوز عادتهم في كل موقعة.
أما البولانديون فإنهم عمدوا إلى السيوف فأخرجوها من أغمادها واستعدوا للموت.
وقلدهم الأتراك، فكانت مذبحة انتهت بقتل جميع البولانديين حامية الحصن عن آخرهم، حتى قائدهم؛ فإنه أسلم الروح من يد ضابط انكشاري، ضربه ضربة فصل بها رأسه عن جسده.
وهكذا بَرَّ البولانديون بوعدهم، وقاوموا إلى النهاية؛ فذهبوا ضحية حبهم لوطنهم، يحفظ لهم التاريخ ذكرًا حسنًا ما كرَّ الجديدان.
دخل أحمد كوبريلي الحصن، وأمر كشافي الجيش بالذهاب ليروا جيوش البولانديين، وهل تقدمت أم لا.
هبت ريح نقلت أنباء الحرب إلى جميع أنحاء بولاندا؛ فعلم القاصي والداني، الصغير والكبير بما آلت إليه حال مملكته، وكيف هزم الأتراك جيوشها، بل كيف يتهاون ملك بولاندا ونبلاؤها في الدفاع عن وطنهم ضد عدو مخيف كالأتراك.
فلم تصل أخبار الانتصار إلى قوزاق الأكرين حتى هبوا ثائرين سائلين الإصلاح، طالبين العدل والإنصاف، ولا غرو؛ فقد جاءت الفرصة وحان وقتها، والزمن فرص؛ إن تُرِكت عادت غصصًا.
ولغاية ذلك الوقت لم يهتم نبلاء بولاندا — بل ولا مليكها الذي كان يجب عليه أن يخاف على عرشه من الاضمحلال — أي اهتمام.
بل ولم يعقدوا مجلسًا ليبحثوا عن أحسن الطرق لرد ذلك العدو الذي يتقدم باطمئنان.
ولكنهم بهذيان المحموم أمروا أن يُولى على الجيش جون سوبيسكي، وأن يجمع الجيش بسرعة زائدة.
وعلى هذا الدرب سار أولو الأمر في بولاندا، فولوا جون سوبيسكي قيادة الجيش؛ لأنه رجل يحبه الشعب، ويود لو يفديه بأرواحه.
فلم يكد يصل نبأ هذا التعيين إلى المدن والقرى المجاورة حتى توافدت الجنود المنظمة، والأهالي المتطوعة، زرافات ووحدانًا؛ ليكونوا تحت إمرة قائد يحبونه ويجلُّونه.
فلم تمضِ أربعة أيام حتى استعد الجيش للمسير ليحارب عدوًّا هائلًا وأسدًا رابضًا، سار الجيش وصراخه يصم الآذان؛ قائلًا: لتحيَ بولاندا، ليحيَ الوطن، ليسقط الأتراك، ليعش جون سوبيسكي.
وهكذا نسي الشعب في ذلك الوقت أضغانه السابقة، لأولئك الذين جعلوا همهم قتله، والتضييق على حريته.
تناسوا الأضغان، وإنما لأن الوطن في ضيق يجب عليهم أن يساعدوه بكل قواهم، وأن يبذلوا جهدهم لينقذوه من مركزه الحرج، وبعد ذلك يولون وجوههم شطر أولي الأمر؛ فيحاسبونهم على غلطاتهم الماضية، على استبدادهم وتعسفهم على قوانينهم القتالة.
وعلى هذا النمط سار ذلك الجيش تحت أمر قائد مدرب خبير وكلهم قلب واحد، يطيعون أمره إطاعة الرضيع لوالدته.
فلنسر معه خطوة خطوة حتى نلتقي بالأتراك في جوقزين؛ فنرى كيف يكون الغلط أصل التقهقر بل كيف ينتصر الجيش ما دام متحدًا قويًّا يقوده رجل محنك وطني كسوبيسكي.