جوقزين ولمبرج
جوقزين ولمبرج هما اسما تلك الواقعتين اللتين حارب فيهما سوبيسكي محاربة الضعيف اليائس، ولكن بعزيمة لا تفل، وقوة لا تمل، فقد استعمل قواه وأجهد فكرته في إيجاد طريقة لهزيمة عدوه.
وقد كلل عمله بالنجاح وظفر أخيرًا على الأتراك وهزمهم شر هزيمة في الواقعة الأولى «جوقزين»، ومن ثم سار متبعًا إياهم إلى أن لحقهم في «لمبرج» وبقوة المنتصر ألحق بهم خسارة عظيمة وهزمهم.
تحققت نبوءته يوم قال لصوفيا: «تلاقٍ يعقبه انتصار وفرح» فانقلب يأسه شجاعة، وود لو قابل الأتراك ليقهرهم ثالثة، ولكن هي الدنيا «يوم لك ويوم عليك».
والآن فلنصف قدر الإمكان جوقزين، ومن ثم لمبرج ليعلم كل كيف يريق الناس دماءهم دفاعًا عن وطنهم بل كيف يستميتون في الدفاع عن حقوقه.
قلنا: إن الأتراك دخلوا كامنياك بانتصار كبير، وأرسل أحمد كوبريلي باشا كشافة الجيش ليروا كيف يتقدم الجيش البولاندي الذي خرج من وارسو قاصدًا كامنياك ليخلصه من أعداء الوطن.
فلم يزل متقدمًا سائرًا ببطء حتى وصل جوقزين، وهي قرية في منتصف المسافة بين كامنياك ووارسو، فعسكروا خارجها بأمر من سوبيسكي.
منتظرين جديدًا من قائدهم الباسل.
وقد عسكر سوبيسكي خارج هذه القرية، وإنما كان غرضه الوحيد في هذا العمل هو أن يسحب الأتراك إلى ناحية ليقاتلهم في واقعة منظمة يكونون فيها أمامه.
وذلك لأنه فكر وهو في الطريق إلى كامنياك فوجد أن الحصن منيع، والأتراك قد زودوه بما معهم من مدافع وذخيرة فصار أمنع، وعلى هذا فإنه يلقي بنفسه فى أتون من نار إذا تقدم يريد الدخول إلى الحصن وأخذه.
بل هو يلقي بنفسه في فم الليث بدون أن يتخذ له درعًا أو شيئًا يدفع عنه الضرر الذي سوف يلحق به.
وقد ساعده الحظ على إتمام مراده، فإن أحمد سار قاصدًا إياه، وذلك لأن الكشافة بعد أن تنسموا الأخبار وعلموا علم اليقين أن البولانديين معسكرون خارج قرية جوقزين ساروا قاصدين كامنياك، فأخبروا أحمد بحقيقة الأمر.
وأخيرًا بأمل الانتصار كما انتصر قبلًا عول على الزحف ليلاقي عدوه.
فأمر أركان حربه باتخاذ معدات السير ولزوم السكون والتؤدة.
وفي اليوم الثاني نادى منادٍ بالرحيل، فتحرك ذلك الجيش الجم الكثير، تاركًا القلعة لحامية غير قليلة، وترك معها مؤونة كافية، وسار الكل قاصدين جوقزين، وكل يُمنِّي نفسه بانتصار كبير على سوبيسكي وجنوده.
وهكذا يُمَنِّي المنتصر دائمًا نفسه بالانتصار حتى إذا غُلِبَ وكان من ذوي النفوس الضعيفة اليائسة رجع القهقرى، أما إذا كان من ذوي النفوس الكبيرة والهمم العالية علل نفسه بالانتصار؛ منشدًا قول الشاعر:
ومن هذا الصنف الأخير كان كوبريلي أحمد باشا؛ فقد كان رجلًا قوي الهمة على الآمال، لا تعجزه أية عقبة، ولا يقف في طريقه أي مانع، يسير إلى مرمى فكره ولبه، ولم يغب عن العالم ما فعله هذا الرجل العظيم، بل لا يجهل المؤرخون تلك المواقع التي كتبها بحد حسامه، وإن هُزم أولًا فإنه انتصر أخيرًا، والعبرة بالآخر لا بالأول.
سار أحمد يقوده جيشه العرمرم، وكله آمال بالانتصار، فوصل إلى ضواحي جوقزين في سهل هناك وعسكر.
وصل خبر الأتراك إلى البولانديين؛ فأحدث هرجًا بين الجنود الذين لم يلبثوا أن سمعوا نفيرًا يأمرهم بالاجتماع، فاصطفوا، وخرج سوبيسكي من خيمته ممتطيًا مركبه الأدهم الجميل إلى أن توسط الجيش فوقف، ووجد في هذه الساعة أن خير مشجع هو أن يلقي على جنوده خطابة صغيرة، تبث فيهم روح الإقدام، ولو أنهم كانوا في غنى عن أي مشجع.
أيها الجنود الشجعان
أدير رأسي وأوجه نظري فلا أرى أي ثغورٍ باسمة، ولاوجوه نضرة دلالة على أنكم جنود بمعنى الكلمة تريدون النصر، وسيكون إن شاء الله حليفكم.
إنكم اليوم ستقاتلون عدوًّا مخيفًا، قاهرًا، طالما سمعتم عن انتصاراته العديدة، ولكن ذلك لا يمنعكم عن الانتصار، انتصارًا باهرًا يذكره التاريخ وكتبه، ويفتخر به أبناؤنا من بعد.
كونوا متحدين قلبًا وقالبًا، تغلبون أعداءكم، وتسعدون وطنكم الذي هو في حاجة كبيرة إلى الانتصار؛ إذ إنه يتوقف عليه سعادتكم أو ذُلُّكم.
قاتلوا جنبًا إلى جنب، ولا تجبنوا يتم لكم النصر، واعلموا أن العالم كله سينظر إلى هذه الموقعة؛ إذ تهزمون قومًا يقول عنهم بقية إخوانكم الأوربيون إنهم لا يُغلبون.
والآن هيا إلى الحرب، هيا إلى الأتراك.
فأجابه أصوات الجند التي تحركت وقتئذ للأمام؛ قائلة: «إلى الأتراك.» «إلى الانتصار.»
فكان يجيبهم كصدى على صياحهم قول الأتراك: «الله أكبر»، «الله أكبر»، الذين تقدموا باطمئنان نحو عدوهم. تلاقى الجيشان في سهل يُطلق عليه الآن سهل تيرونوفتش، فأطلقت القذائف، ولمعت السيوف، واحتلت السهل جنود عزرائيل، واكفهرت السماء، واغبَّر وجه الجو.
وفي أحرج أوقات المعركة بينما كانت ميمنة العثمانين زاحفة بانتصار، أمر أحمد كوبريلي باشا أحد أركان حربه بالذهاب إلى بعض فرق الميمنة يأمرها بالانضمام إلى الميسرة؛ لأنها كانت على وشك الانهزام لضعفها.
فبدلًا من أن يطيع الأمر اختلط عليه الأمر؛ فذهب إلى الميسرة فأمر بعض فرقها بالذهاب إلى الميمنة.
وبهذه الحالة أمكن البولانديون من التغلب على ميسرة الأتراك، ومن ثم تقدموا إلى القلب فهزموه أيضًا.
وفي هذا الوقت تم النصر للبولانديين؛ فتعقبوا الأتراك الذين التجئوا إلى قرية لمبرج فدخلوها وعسكر الباقي هناك، وتوافدت الجنود العثمانية إلى لمبرج يتبعها قائدها أحمد كوبريلي باشا الذي عوَّل على القتال إلى النهاية.
أما سوبيسكي وجنوده فانتظروا إلى أن هجم الليل بجيوشه وساروا قاصدين لمبرج بآمال المنتصر ليجهزوا على العثمانيين الباقين.
فوصل إلى المعسكر منتصف الليل فدوت أبواق الحراس، وقام الأتراك إلى سلاحهم، ولكن التعب الذي لاقوه والنصب الذي قاسوه أثر عليهم، فلم يلبثوا أن انهزموا بانتظام تحت أستار الظلام، وكلهم يردد قائلًا: «إلى سهل كلاستكي.»
وهو أمر تلقوه من قائدهم الأكبر، فساروا جميعًا إلى ذلك السهل الذي يشرف عليه «كاميناك».
فلم ينبلج الصباح حتى كنت ترى معسكر الأتراك وخيمه في ذلك السهل مبعثرة هنا وهناك، والجميع تحت سلطان النوم؛ فلم يؤذِّن مؤذن بالصلاة حتى كنت تراهم بملابسهم الحمراء كزهور أرجوانية نابتة في سهل من الحنطة.
وأحمد باشا كوبريلي في خيمته يفكر في طريقة يهزم بها جون سوبيسكي؛ فأرسل العيون والكشافين من القوزاق.
فلم يلبثوا أن أتوه بالخبر اليقين، وهو أن سوبيسكي معسكِر في زراونو، فعوَّل على مهاجمته في مقره.
فجمع أركان حربه، وقسم جيشه قسمين، أمر الأول بالمسير تحت إمرة أحد كبار قواده سيف الدين باشا، ولا يعلم أحد وجهته إلا قائده.
أما هو فإنه بعد يومين شد رحاله إلى زراونو وسار ميممًا إياها.