زراونو ومعاهدتها
يقول المؤرخون: إن «أحمد باشا كوبريلي» حاصر «جون سوبيسكي» في زراونو محاصرة عنيفة، ولكن كان اسم سوبيسكي كافيًا لأن يدع أحمد باشا وجيشه يسلم بعمل معاهدة مع البولانديين أهم فقراتها أن يأخذ الأتراك بادوليا، والبولانديون الأكرين.
ولكن جميع من لهم ذرة من العقل والفكر يحكمون بأن هذه الحقيقة وَهم كاذب لا نصيب له من الصحة.
إذ كيف يعقل أن يحصر «أحمد باشا كوبريلي» «سوبيسكي» بفئة أكبر وأكثر من فئته ثم يسلم على زعم أن اسم «سوبيسكي» كان كافيًا لأن يدع الأتراك يسلمون؟
رباه، إنهم كلما جاؤوا إلى حقيقة في جانب الإسلام قلبوها كذبًا، فهم يحاربوننا في بلادنا، في أموالنا، في نسلنا، في علومنا، بل وفي تاريخنا.
إن جيش أحمد باشا لو كان سنانير لكانت كافية لأن تسحق قوة سوبيسكي وفئته التي لا حول لها ولا قوة، بل محصورة تحت رحمة الله ويد أحمد باشا، فالحقيقة المرة التي تصيب قلوب أولئك المؤرخين هو أن أحمد باشا كوبريلي إما أنه سلم بعمل معاهدة حسمًا للنزاع، أو أنه وجد أنه خير له أن يباشر هذه المعاهدة من أن يطيل أمد الحرب.
فقلبوا الآية، وقالوا: إن اسم سوبيسكي كان له رعب كافٍ لأن يجعل الأتراك يبرمون معاهدة.
نرجع الآن إلى سياق الحديث، إذ تركنا أحمد باشا كوبريلي سائرًا بنصف جيشه بعد أن أمر النصف الثاني بالمسير قبل يومين تحت قيادة سيف الدين باشا.
وزراونو قرية محاطة بتلال عالية، احتلها جماعات البولانديين، وجعلوها كدرع يحمي المدينة غوائل عدوهم المبين.
ففي السادس من شهر دسمبر سنة ١٦٧٥ بانت طلائع الأتراك من الجهة الشرقية للمدينة فأصلتها الحامية نارًا من مدافعها جعلتها تُقهقر للوراء، ومن ثم عسكرت بعيدًا عن مرمى قذائف العدو.
نسير الآن حيث سيف الدين باشا قائد النصف الآخر بأمر رتبه كوبريلي باشا، فقد ذهب هذا البطل وقبلته زراونو، فسار قاصدًا إياها، ولكن من طريق يقتضي زمنًا كثيرًا، وحدد له كوبريلي باشا أن يهجم على المدينة من الجنوب نصف الليل تمامًا في ليلة ٧ دسمبر سنة ١٦٧٥، حيث يهجم هو من جهة الشمال، وعلى هذا يمكنهما القضاء على سوبيسكي وآماله.
هجم الليل والسكون ضارب أطنابه مخيم على زراونو وضواحيها، والقمر يشرق آنًا ويحتجب آخر، والظلام سادل سترًا على الجيش، فلم تكن تسمع إلا خطوات الحراس المنتظمة، ولكن في الساعة الحادية عشرة أي قبل منتصف الليل بساعة كان المار بقرب معسكر الأتراك يرى حركة غير عادية والكل في يقظة كأنهم على قرب أن يلتحموا مع عدوهم في موقعه.
وقبيل نصف الليل بقليل تحرك الكل بسكون حتى إذا كانوا على قاب قوسين أو أدنى من المعاقل البولاندية احتجب القمر وراء السحاب، فزحفوا على بطونهم، ومن ثم أصدر كوبريلي باشا أمره؛ فهللت تلك الجموع وكبَّرت، وهجمت هجمة الآساد على معتقليها.
التحم الجيشان، ولمعت السيوف، وكنت تسمع صفير الرصاص يمر كالوابل الهتون، فتقدم الشجاع، وفر الجبان.
كانت هجمة الأتراك شديدة جدًّا بدرجة أن البولانديين تقهقروا قليلًا بانتظام، ومن ثم أعادوا الهجوم فكانوا على قاب قوسين أو أدنى من الفوز لو لم يحدث ما حدث.
وإليك أيها القارئ ما حصل: فإن سيف الدين باشا هجم بجيشه على البولانديين من الجنوب، بينما كان الأتراك مبتدئين بالهجوم من الشمال.
ففازوا فوزًا مبينًا، وقهروا البولانديين، ودخل الأتراك فائزين، واتجهت منهم قوة كبيرة إلى الشمال؛ لينجدوا كوبريلي باشا وجنوده؛ فجاؤوا في الوقت الملائم.
جاؤوا وقت أن بدأ البولانديون بتجديد الهجوم فحوصروا بين قوتين قويتين؛ فسلم من سلم وقُتل من حارب.
فلنقف هناك بعد الساعة الرابعة؛ حيث ابتدأ النهار أن ينبلج والصبح أن يتنفس؛ لنرى الأوصال الممزقة؛ والجسوم المفرقة.
لنقف هناك حيث ضاق رحب الفضاء، بآكام الأشلاء، لنقف ولا تنقل قدمًا، فإن على الأرض أجسامًا لم ينضب ماؤها، وقلوبًا لم تجف دماؤها، ووجوهًا لم يزايلها حياؤها.
لنقف وتذكر قول أبي العلاء:
اللهم إن القلم ليقف بين الأنامل مشدود الوثاق، والقلب لينعصر من الجزع والإشفاق، ليسطر نكبات الحرب ومصائبها ودواهيها وكربها، بل وما تجلبه على الأهلين من موت وخراب ديار، وتبديد عائلات وضياع آثار، بل وما يجنيه العالم من رزاياها السافلة، فالمقهور يُقاسي آلام الانكسار، والمنتصر يتلذذ بنعمة الانتصار، ولكن كلاهما أضاع نفوسًا زكية، وبدد أموالًا، وأسال دماء بريئة.
فالحرب داهية شعواء، فهي كغراب البين، ما وجدت في بلد إلا دمرته، وما الانتصار إلا غطاء خفيف، إذا ما انكشفت ظهرت آثار الجرح التي لم تندمل، وبقايا المصائب التي لم تذهب آثارها.
دخل أحمد كوبريلي باشا زراونو ظافرًا منتصرًا بعد أن سلمت له الحامية بأجمعها.
ولكن ذلك المنتصر الظافر أمر عند تسليم المدينة كف القتال، وعامل جيوش بولاندا الباقية وقائدها جون سوبيسكي معاملة الخدن للخدن، فلم يتعسف ويستبد بهم، بل فاق في تلك الحالة في الرحمة أولئك المتمدنين أبناء أوروبا في القرن العشرين، الذين يدعون أنهم ملائكة الإنسانية.
وإنا لا نضرب مثلًا بالبعيد الماضي، بل بالقريب الحاضر، بإيطاليا التي فتكت بالطرابلسيين شرَّ فتكٍ، ومثلت بأسرى الحرب أشنع تمثيل، وفتكت بالأيامى والأطفال والأرامل، فكانت طرابلس مدينة النجيع حقًّا؛ فالدماء تُدفع، ورؤوس الأبرياء تُقطع وقلب المدنية عليهم يتوجع.
اجترمت إيطاليا ذلك الجرم في رابعة النهار على رؤوس الأشهاد، وأوروبا واقفة ناظرة بعين وُضع عليها حجاب ولسان أخرس لا ينطق، خرقت المعاهدات والمحالفات، ولم تحرك أوروبا ساكنًا كأن لم يحدث هناك حادث.
نرجع إلى زراونو لنرى الرحمة، وكيف تكون، والرأفة وكيف يصير مبلغها؟ وذلك في وسط القرن السابع عشر، أي حينما كانت أوروبا لا تزال، ومحكمة التفتيش راسخة الأقدام بها، والاضطهاد الديني منتشر بها، والخزعبلات قائمة على ركن متين.
ذهب أحمد باشا إلى سوبيسكي في قصره، وقد كان يبكي آسفًا على انتصار أعقبه خذلان، ولكنه عزى نفسه بجوقزين ولمبرج، تقابلا فأنست سوبيسكي رؤية أحمد باشا كل ما كان يقاسيه من آلام، وما يعانيه من متاعب.
وقد كانت نتيجة تلك المقابلة عقد معاهدة أطلق عليها اسم زراونو، وكانت هي التي يقول عنها المتخرصون الساسة الاستعماريون، والمؤرخون الذين يراعون في تاريخهم حب النفس والأنانية: إنها نتجت عن خوف الأتراك من سوبيسكي، كانت نتيجة المعاهدة وأهم فقراتها: أن تأخذ تركيا بادوليا وأن تأخذ بولاندا الأكرين على شرط أن تدفع لهم كل سنة جزية مخصوصة.
انتهت الحرب على خير، فسار أحمد كوبريلي باشا ووجهته القسطنطينية، فكان هذا آخر عهدنا به، أما جون سوبيسكي فإنه توجه وقبلته وارسو محط رحاله وآماله.
سار إلى حيث يدعوه غرامه الطاهر، وحبه الشريف، سار إلى حيث يلاقي صوفيا، تلك التي كان خيالها لا يبرح ذهنه طول هذه الحرب الشعواء.
فسار حيث يلاقي غرامه ومجده، فإنه بلا شكٍّ كان منتظرًا من الأمة والحكومة أن يكافئاه على ما قام به لهما من خدمات جليلة، لولاه لكان قضي الأمر، وصارت بولاندا مستعمرة تركية.
فلنسر معه حتى نرى كيف تكافئ الأمم الحية قادتها، بل كيف تفرح الشعوب بمنقذيها، وكيف ينال العاملون من خير رغمًا عن سعي أعدائهم وكيدهم، والله يجازي كلًّا على قدر عمله، إنه خير المحسنين.