الانتخاب (سعادة الأمة بعدل الأمير)
أشرق فجر يوم الثامن من شهر فبراير سنة ١٦٧٦ وسكان وارسو لم يغمض لهم جفن، فقد قضوا ليلهم في احتفالاتهم بانتصار سوبيسكي على الأتراك، وإنهاء الحرب بسلام، كما كان يود كل محب لوطنه.
وقد زادهم يقظة على يقظة: أن في الغد سينعقد الديت لانتخاب ملك على بولاندا ليبتدئوا حياة جديدة غير حياتهم الأولى.
حياة متعلقة بذلك الذي سينتخبونه، فإن كان من أولئك النبلاء المتشبثين بعاداتهم القديمة كميخائيل ذلك الملك الضعيف الإرادة، المسلِّم أموره إلى نبلاء أضعف منه رأيًا وأقل عقلًا؛ فإنهم ولا شك ملاقون حياة تبدأ بالاستبداد وتنتهي بالموت، حياة يقضونها تحت نير الظلم، يستغيثون ولا من مغيث.
أما إذا انتخب رجل من رجال الأمة المحبين لخيرها، الساعين لمصالح الشعب، الساعين في تقويض أركان الظلم، وإقامة معالم العدل؛ فإنهم بلا شك سيحيون حياة طيبة يكون لبولاندا منها الشطر الأوفر.
وعلى هذا؛ فقد كان أمر الانتخاب مهمًّا جدًّا؛ لدرجة أن وارسو ازدحمت بالوافدين من القرى والضواحي ليشاهدوا انتخاب مليكهم الذي عليه تتوقف سعادتهم أو مصيبتهم.
سار الشعب كالسيل المنهمر، فكان طريق جونسكي يتموج بذلك البحر الزاخر المنتظر نتيجة الانتخاب بفروغ صبر.
وكان النواب يفدون كل بعربته، فيُفْتَح له منفذ في ذلك البنيان المتماسك إلى باب المجلس، فيصعد.
دقت الساعة النصف بعد الثامنة، فأقبلت عربة كان الراكب فيها ذلك الرجل العظيم «جون سوبيسكي».
فما رآه الشعب حتى افتر عن ثغر باسم وصاح قائلًا: «ليحيَ سوبيسكي»، «ليحيَ مليك اليوم»، «ليحيَ منقذ الوطن»، «ليسقط الظلمة» وهكذا صار جون سوبيسكي كالعروس يزفها الشعب إلى أن وصل إلى باب المجلس، فصعد وهو يقول: (مليك اليوم يا ليتها تحقق فأقوم بأمتي) ومن ثم اكتمل نظام الجلسة فنادى منادٍ بالانتظام.
أيها الإخوان
إن قضيتنا اليوم قضية أمة، بل قضية شعب يصيح طالبًا ملكًا يضع ذلك التاج على رأسه، فليكن التروي قائدنا، والاطمئنان رائدنا.
مستقبل الأمة بيدكم، فانتخبوا من ترون فيه الكفاءة لأن يتولى قيادتنا، وليضع كل منكم رأيه في ورقة ويقذفها داخل هذا الصندوق.
أيها الكونت، ويا أيها النواب
أنا إن تصديت للكلام هنا في هذا المكان؛ أي حيث لا يدخل إلا النبلاء والنواب؛ فإنما أنساق إليه بقوة الواجب؛ لأن أطهر سمعة الشعب وشرف الأمة التي أنا منها.
وإن هذا المجموع الواقف تحت نوافذ المجلس منتظر بفروغ صبر أن ينتخبوا ما قد انتخبه هو أيضًا.
أتعرفون يا حضرات النبلاء من هو؟ إنه أوفدني لأقول لكم إنه انتخَب ذلك الذي أنقذ بولاندا، ونجاها من عدوها المخيف، وكان في كل وقت نظير صداقته للشعب والأمة، إنه جون سوبيسكي أيها السادة.
وفي الوقت نفسه سمع من تحت نوافذ المجلس أصوات كهدير الأمواج وهي تصيح «ليحيَ جون سوبيسكي» «ليحيَ مليك بولاندا».
وكان العامل يتكلم ويعلن هذه الأقوال، والشمم ظاهر على وجهه مشوب بالحياء والشرف، وهو يتكلم ببساطة، إلى أن قال: والجيش أيها السادة مُقِرٌّ على انتخاب سوبيسكي؛ إذ كيف لا ينتخبه وهو قائده الذي كان له الفضل الأكبر في انتصاراته الأخيرة؟!
وأنا أتنحى تاركًا لضميركم الحر أن تساعدوني، أنا مندوب الشعب الذي به حياة الأمة في تحقيق فكرته.
أيها الرجل، بل يا مندوب الشعب
اعلم أن الانتخاب سيكون سِرِّيًّا، وسينتخب بأغلبية الأصوات، فقل للشعب أن يطمئن فإن الحق سيجري مجراه.
والآن أيها الإخوان ابتدئوا في الانتخاب؛ فإن الوقت قد حان لأن يجلس على عرش بولاندا أمير يقودها؛ لأن تكون مملكة حرة عاملة، وقد نطق الكونت بكلامه هذا وهو مطمئن على مركزه؛ فإنه علم أن الشعب في جانب سوبيسكي، والعاقل من اتخذ الكفة الراجحة.
كتب كل نبيل ما يريد في ورقة وقذفها في الصندوق، وابتدأ الرئيس يفتح الأوراق.
فنال الأغلبية جون سوبيسكي إذ نال ١٢٣ صوتًا، ونال الكونت تيروفسكي أغنى أغنياء بولاندا ٩٢ صوتًا، أما الخمسة والأربعون الباقون فكانوا متفرقين بين النبلاء الآخرين.
وفي الحال أطل الكونت سمولنسكي من شرفة المجلس، ونادى الشعب قائلًا: «تم الانتخاب وصار سوبيسكي ملكًا على بولاندا.»
وفي هذا الوقت انتشر الخبر في وارسو انتشار الهباء، فقامت لهذا الخبر وقعدت، والبولانديون يصيحون صياح الجذل الفرح المستبشر بالمستقبل، كأن الله ضمن لهم السعادة، ولم يدروا ما خبأ لهم الحظ في صفحات كتابه.
تم الأمر كما أراد الشعب، وتُوج سوبيسكي ملكًا على بولاندا، ولم يلبث أن أعلن رغبته في اتخاذ قرينة له تشاركه سعادة الحياة، وأن يتقدم له الكونت سمونسكي ليخطب ابنته صوفيا.
فكان فرح الشعب في هذا الوقت مضاعفًا؛ فقد اقترن سوبيسكي بصوفيا ملاك وارسو التي يحبها الشعب من كل قلبه، ويريد لها الخير.
أما عن يوم اقترانهما فلا تسل عن فرح الشعب وحبوره بهما.
وعلى كل حال فإن سوبيسكي نال ما تمنى واقترن بصوفيا، فابتدأ يكد لسعادة مملكته. وكيف لا وهو مدين لها بحياته وعزه وشرفه، ونجاحه في غرامه؟
كيف لا يكد ليرقيها وسعادتها مرتبطة بسعادته؟ إذا سقطت سقط، وإن ارتقت ارتقى، والملوك بأممهم، فكان سوبيسكي في حياته مثالًا للملك العادل المحب لرعيته، المتفاني في إحيائها، المرخص حياته وكل ذلك في سبيل ارتقائها.
أما الشعب فقد كان في مدة حكمه غارقًا في الرفاهية والعز، لا يقاسي آلامًا كالتي كان يقاسيها في الزمن الماضي، فقلل الضرائب والجبايات، وسعى سعيه المشكور في إقامة جيش يدافع عن المملكة وحدودها.
وأقام على ولايات مملكته ولاة ممن على مشربه، اتخذوا العدل ديدنًا لهم، فسعدت العباد، واستراح الشعب، وكنت إذا جلت في بولاندا لا تسمع إلا آيات المدح تنظم عقودها في ذلك المليك الذي لم يترك لحظة تمضي من حياته دون أن يسعى ليريح أمته، ويهيئها لأن تكون مملكة قائمة برجالها.
وإنا إذا كنا نريد مثالًا للحياة الطيبة فإن حياة سوبيسكي كانت خير مثال.
فقد كانت حياته المنزلية مثال الدعة والسكون، وإنه ليغبط على ما هو فيه، كما قال «قاسم أمين»:
إذا كان هناك إنسان جدير بالحسد فهو الزوج المحبوب.
أما حياته الخارجية: فكانت نعم الحياة؛ إذ لا خير من ملك ارتكز عرشه على القلوب، وسوبيسكي ذو عرش ثابت يحبه شعبه وجنده، وعلى هذه الحالة استمرت بولاندا ترتقي تحت إمرة تلك العائلة الكبيرة؛ فكانت بين الممالك التي يخاف جانبها، إلى أن وقعت تلك الحروب الكبيرة بين تركيا وروسيا فكانت بولاندا مرسحًا للخراب؛ إذ لا ويل أكبر من الحرب.
فكان لا بد من التهامها، وحيث إن كاترين كانت ترى الممالك الأوروبية فاتحة عيونها فشاركت معها النمسا وألمانيا.
وهكذا تعاون الثلاثة على ابتلاع بولاندا ومحو اسمها من عالم الوجود، وإضاعة آثارها من الدنيا.
ولم ذلك؟
لأنها وقفت في سبيل إحداهن فضربتها الضربة القاضية، وإنما كان ذلك لأن القائمين بالأمر فيها كانوا من أمثال ميخائيل ضعاف الإرادة فوقعوا، ولم يكن هناك رجل كسوبيسكي يقود جيشًا كجيشه سنة ١٦٧٦.
وعلى هذا كانت نهاية بولاندا، فعفت آثارها، وراحت ضحية الجشع الاستعماري، والطمع الإنساني، وتألبت عليها ثلاث دول من خيرة الدول التي تتمشدق بإدعاء المدنية والبر بالإنسانية فأماتتها.
إيه بولاندا، تأكدي أن لك في قلوب المحبين الحقيقيين للإنسانية أثرًا لا يُمحى، وذكرًا لا يبلى ما كرَّ الجديدان وما هبت الصبا.