اَلْخُطَّةُ والْجَزاءُ
(١) تَأْكِيدُ الْوَعْدِ
عِنْدَ هٰذا الْحَدِّ، أَمْسَكَ «أَبُو عامِرٍ» عَنْ مُواصَلَةِ الْحَدِيثِ.
قُلْتُ لَهُ: «ماذا بَعْدَ ذٰلِكَ، مِنْ أَمْرِ «أَبِى أِسْحٰقَ»؟»
قالَ «أَبُو عامِرٍ»: «لَقَدْ وَعَى النَّصِيحَةَ، وَأَحْسَنَ فَهْمَ الِاقْتِراحِ. لَمَّا فَرَغْتُ مِنْ عَرْضِ ما ﭐقْتَرَحْتُهُ عَلَيْهِ، أَجْزَلَ شُكْرَهُ لِى. فَعَلَ ذٰلِكَ، جَزاءَ إِنْجائِهِ مِنْ وَرْطَتِهِ، وَخَلاصِهِ مِنْ كُرْبَتِهِ. كَرَّرَ تَأْكِيدَهُ أَنَّهُ سَيُنْجِزُ وَعْدَهُ بِأَداءِ ما تَوافَقْنا عَلَيْهِ. ما جاءَ الْغَدُ، حَتَّى أَنْفَذَ «أَبُو إِسْحٰقَ» الْخُطَّةَ كامِلَةً بِحِذْقٍ. هَيَّأَ الدَّارَ أَجْمَلَ تَهْيِئَةٍ، لاِسْتِقْبالِ مَنْ يَقْدَمُونَ لِلزِّيارَةِ. تَجَلَّى «رَأْسُ الْوَزَّةِ» وَهُوَ فِى أَبْهَى حُلَّةٍ، وَأَرْوَعِ زِينَةٍ. أَعَدَّ ذٰلِكَ كُلَّهُ، قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ لِلْوافِدِينَ عَلَيْهِ دارَهُ. أَطْلَقَ مِنْ حَلْقِهِ نَبْحَةً بَعْدَ نَبْحَهٍ، تَرَدَّدَ صَداها حَوْلَهُ. عَجِبَ الْجِيرانُ لِسَماعِهِمْ نُباحَ كَلْبٍ مِنْ دارِ «أَبِى إِسْحٰقَ». لَمَّا فُتِحَ بابُ الدَّارِ، تَوافَدَ لِلدُّخُولِ فِيهِ مُخْتَلِفُ الزُوَّارِ. كانَ رَدُّ «رَأْسِ الْوَزَّةِ» عَلَى تَحِيَّاتِهِمْ، نُباحًا بَعْدَ نُباحٍ.»
(٢) مُحاوَلاتُ الدَّائِنِينَ
سَمِعَ الدَّائِنُونَ بِأَنَّ «رَأْسَ الْوَزَّةِ» قَدْ ظَهَرَ بَعْدَ الاِخْتِفاءِ. اِسْتَبْشَرُوا بِظُهُورِهِ، وَتَوَقَّعُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَى مُبْتَغاهُمْ مِنْهُ. فَسَّرُوا ذٰلِكَ بِأَنَّهُ دَبَّرَ أَمْرَهُ، وَجَمَعَ مِنَ الْمالِ ما عَلَيْهِ.
حَثَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَيْهِ خُطاهُ، عَسَى أَنْ يُحَقِّقَ لَدَيْهِ مُناهُ. لَمْ يَتَيَسَّرْ لِأحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَظْفَرَ — فِى لِقائِهِ لَهُ — بِجَدْوَى. كانَ «أَبُو إِسْحٰقَ» لا يَسْتَقْبِلُ أَحَدَهُمْ بِغَيْرِ نُباحِهِ الْمَوْصُولِ.
اِخْتَلَفَ الدَّائِنُونَ — فِيما بَيْنَهُمْ — فِى مُواجَهَةِ ذٰلِكَ النُّباحِ الْعَجِيبِ. بَعْضُهُمْ كانَ يَضِيقُ بِالْعُواءِ ذَرْعًا، فَيُوسِعُ صاحِبَهُ تَأْنِيبًا وَتَعْنِيفًا. مِنْهُمْ مَنْ حَرَصَ عَلَى أَنْ يُلِيِنَ لَهُ جَانِبَهُ، عَسَى أَنْ يَسْتَمِيلَهُ. تَساوَى عِنْدَهُ مَنْ أَسْرَفَ فِى تَعْنِيفِهِ، وَمَنْ تَلَطَّفَ بِهِ. لَمْ يَرْجِعْ عَنْ مَسْلَكِهِ تَصْدِيقًا لِوَعْدً، أَوْ خَوْفًا مِنْ وَعِيدٍ. تَنازَعَ الدَّائِنُونَ فِى شَأْنِ «رَأْسِ الْوَزَّةِ»، وَما بَدَا مِنْهُ. بَيْنَ الدَّائِنِينَ مَنِ ﭐسْتَيْقَنَ أَنَّهُ مُتَكَلِّفٌ مُتَصَنِّعٌ خَدَّاعٌ. قِلَّةٌ مِنْهُمْ تَوَهَّمَتْ أَنَّ الرَّجُلَ أَصابَتْهُ عِلَّةٌ مَسَخَتْ صَوْتَهُ. خُلاصَةُ الْأَمْرِ أَنَّ جَماعَةَ الدَّائِنِنَ باءُوا بِالْخَيْبَةِ وَالْإِخْفاقِ. لَمْ تُجْدِ فِى رَدِّ أَمْوالِهِمْ حِيلَةٌ، وَلَمْ تُفِدْ مِنْهُم وَسِيلَةٌ.
(٣) بَيْنَ يَدَىِ الْوالِى
قُلْتُ لَهُ: «لا بُدَّ أَنَّ قِصَّةَ «رَأْسِ الْوَزَّةِ» لَمْ تَنْتَهِ.»
قالَ «أَبُو عامِرٍ»: «كَيْفَ تَنْتَهِى، وَهُناكَ دائِنُونَ، بِحَقِّهِمْ يُطالِبُونَ؟ أَنْتَ تُؤْمِنُ بِالْحِكْمَةِ الْقائِلَةِ: «لا يَضِيعُ حَقٌّ وَراءَهُ مُطالِبٌ». لِيَتَّسِعْ صَدْرُكَ لِما أَنا قاصُّهُ عَلَيْكَ، ﭐسْتِكْمالًا لِحَدِيثِى مَعَكَ. الدَّائِنُونَ عَجِبُوا مِنْ مَسْخِ صَوْتِ إِنْسانٍ، لِيَصِيَر صَوْتَ كَلْبٍ.»
تَحَسَّرُوا عَلَى مافَقَدُوهُ مِنْ أَمْوالِهِمْ عِنْدَ الرَّجُلِ الْمَمْسُوخِ. أَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ — أَخِيرًا — أَنْ يَرْفَعُوا الْأَمْرَ إِلَى والِى الْمَدِينَةِ. قَدَّرُوا أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ، بِمَكانَتِهِ، أَنْ يَصُونَ ما لَهُمْ مِنْ حُقُوقٍ. وَقَفَ وَكِيلُ الدَّائِنِينَ أَمامَ الْوالِى، يَعْرِضُ عَلَيْهِ أَحْداثَ الْقِصَّةِ. اِشْتَدَّ ﭐرْتِيابُهُ فِيما أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسانِ النَّابِحِ.
أَقْسَمَ الْوَكِيلُ إِنَّهُ لَصادِقٌ، وَما كانَ لِيَكْذِبَ عَلَى الْوالِى. طَلَبَ الْوالِى مِنْ أَعْوانِهِ، أَنْ يُحْضِرُوا لَهُ «رَأْسَ الْوَزَّةِ». قَدَّمُوهُ إِلَيْهِ، فَرَآهُ إِنْسانًا سَوِيًّا فِى شَكْلِهِ، وَمَلامِحِهِ، وَزِيِّهِ. سَأَلَهُ: «أَخْبِرْنِى ماذا مَنَعَكَ مِنْ أَنْ تَرُدَّ أَمْوالَ الدَّائِنِينَ؟»
صَمَتَ «رَأْسُ الْوَزَّةِ»، فَزَجَرَهُ الْوالِى، قَائِلًا: «هَلْ أَصابَكَ الْخَرَسُ؟»
كانَتْ إِجابَةُ الرَّجُلِ عَنْ ذٰلِكَ، أَنَّهُ أَطْلَقَ مِنْ حَلْقِهِ النُّباحَ.
(٤) عاقِبَةُ النُّباحِ
ضَجِرَ الْوالِى، أَشَدَّ الضَّجَرِ، مِنْ تَصَرُّفِ، «رَأْسِ الْوَزَّةِ» مَعَهُ. قالَ لَهُ: «غابَ عَنْكَ أَنَّكَ فِى حَضْرَةِ والٍ لَهُ مَهابَتُهُ. كَيْفَ سَوَّلَتْ لَكَ نَفْسُكَ أَنْ تَتَّخِذَ أَمامِى هٰذِهِ الْأَلاعِيبَ؟ إِنَّكَ تَخْدَعُ مَنْ أَقْرَضُوكَ أَمْوالَهُمْ، بِاصْطِناعِ نُباحِكَ الْمُنْكَرِ. كَيْفَ ساغَ لَكَ فِعْلُ ذٰلِكَ فِى مَجْلِسِى، دُونَ حَياءٍ؟! أَتَجْهَلُ أَنِّى فِى مُسْتَطاعِى أَنْ أُعاقِبَكَ، وَأَنْ أُنَكِّلَ بِكَ؟»
أَصَرَّ «رَأْسُ الْوَزَّةِ» عَلَى أَنْ يَكُونَ جَوابُهُ: النُّباحَ، لا غَيْرُ. أَدْهَشَ الْوالِىَ أَنَّ ذٰلِكَ النُّباحَ كَأَنَّهُ صَوْتُ الْكِلابِ الْعاوِياتِ! عَبَّرَ الْوالِى عَنْ ثَوْرَتِهِ وَغَضَبِهِ بِمُخْتَلِفِ أَلْوانِ الْوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ. أَمْضَى وَقْتًا طَوِيلًا، يُحاوِلُ أَنْ يَدْفَعَ «رَأْسَ الْوَزَّةِ» إِلَى الْكَلامِ. اِسْتَعْمَلَ الْحِيَلَ الْمُتَعَدِّدَةَ مَعَهُ، لِيَكْشِفَ ما يَصْطَنِعُهُ مِنَ الْخِداعِ: تارَةً يَقْسُو عَلَيْهِ، وَيُذَكِّرُهُ بِما سَوْفَ يُلْحِقُهُ بِهِ مِنَ الْعَذابِ. حِينَ لا يُجْدِى ذٰلِكَ، يَتَّخِذُ أُسْلُوبَ الْمُلايَنَةِ والْمُلاطَفَةِ والتَّرْغِيبِ. مِمَّا لَجَأَ إِلَيْهِ: وَعْدُهُ بِأَنْ يَكُونَ عَوْنًا لَهُ عَلَى أَداءِ دُيُونِهِ. لَمَّا أَخْفَقَتْ حِيلَةُ الْوالِى مَعَ «رَأْسِ الْوَزَّةِ» أَمَرَ بِحَبْسِهِ. وَكَّلَ بِهِ حارِسًا يَتَقَصَّى خَبَرَهُ، لِيَتَبَيَّنَ أَمْرَهُ، وَيَعْرِفَ سِرَّهُ.
(٥) إِطْلاقُ السَّراحِ
دَخَلَ «رَأْسُ الْوَزَّةِ» ﭐلسِّجْنَ، وَلَمْ تَبْدُ عَلَيْهِ أَيَّةُ مُبالاةٍ. ظَهَرَ عَلَيْهِ الِاْرْتِياحُ إِلَى خَلاصِهِ مِنْ أَنْ يُطارِدَهُ دائِنُوهُ. لَمْ يُقَصِّرْ حارِسُهُ فِى التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ، وَمُلاحَظَةِ حَرَكاتِهِ وَتَصَرُّفاتِهِ.
كانَ «رَأْسُ الْوَزَّةِ» أَذْكَى مِنْ أَنْ تَفُوتَهُ تِلْكَ الرَّقابَةُ عَلَيْهِ. تَعَمَّدَ أَنْ يَقْسِمَ وَقْتَهُ بَيْنَ النُّباحِ الْعالِى، والْهَرِيرِ الْخافِتِ. كانَ كَأَنَّما هُوَ فِى نُباحِهِ يَسْتَغِيثُ، وَفِى هَرِيرِهِ يَتَوَجَّعُ. نَقَلَ الْحارِسُ إِلَى الْوالِى حالَ «رَأْسِ الْوَزَّةِ»، كَما عَهِدَها مِنْهُ. شَهِدَ الْحارِسُ بِأَنَّ الرَّجُلَ الْحَبِيسَ لا يَنْطَوِى أَمْرُهُ عَلَى خِداعً.
قالَ الْوالِى فِى نَفْسِهِ: «حَبْسُ الرَّجُلِ — إِذَنْ — ظُلْمٌ مُبِينٌ.»
اِسْتَدْعاهُ إِلَيْهِ، وَتَرَفَّقَ بِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ سَيُخْلِى سَبِيلَهُ. لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى إِطْلاقِ سَراحِهِ، بَلْ أَرْصَدَ الْعُيُونَ لِمُراقَبَتِهِ. كَمَنَ الرُّقَباءُ حَوْلَ دارِهِ، وَتَبِعُوا ظِلَّهُ فِى غَدَواتِهِ وَرَوْحاتِهِ.
لَمْ يَأْخُذُوأ عَلَيْهِ أَىَّ شَىْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَصَنِّعٌ كَذُوبٌ. رَثَى الْوالِى لِحَالِهِ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مَخْبُلٌ، أَصابَهُ مَسٌّ مِنْ جُنُونٍ.
(٦) إِسْقاطُ الدُّيُونِ
قُلْتُ لِـ«أَبِى عامِرٍ»: «لا بُدَّ أَنَّ «رَأْسَ الْوَزَّةِ» ﭐسْتَراحَ رَأْسُهُ!»
أَجابَ بِقَوْلِهِ: «كَيْفَ يَسْتَرِيحُ لَهُ رَأْسٌ، والدَّائِنُونَ حَوالَيْهِ؟»
قُلْتُ لَهُ: «وَماذا فِى وُسْعِهِمْ أَنْ يَصْنَعُوهُ، بَعْدَما كانَ؟»
قَالَ لِى: «اِنْطَلَقَ عَدَدٌ مِنْهُمْ إِلَى الْوالِى، يُعاوِدُ الشَّكْوَى.»
قُلْتُ: «لَسْتُ أَدْرِى، ماذا فِى مَقْدُورِ الْوالِى أَنْ يَفْعَلَ؟»
قالَ: «صَرَّحَ لِلشَّاكِينَ بِأَنَّهُ مُقْتَنِعٌ بِبَراءَةِ «رَأْسِ الْوَزَّةِ». قالَ لَهُمْ: «لَيْسَ لِلرَّجُلِ يَدٌ فِيما نابَهُ، فَبِأَىِّ ذَنْبٍ نُعاقِبُهُ؟» أَصْدَرَ الْوالِى أَخِيرًا حُكْمَهُ الْقاطِعَ بِإِسْقاطِ دُيُونِ «رَاْسِ الْوَزَّةِ». تَسامَعَ الدَّائِنُونَ بِهٰذا الحُكْمِ، فامْتَلَأَتْ نُفُوسُهُمْ أَسَفًا وَحَسْرَةً. عَلِمَ «رَاْسُ الْوَزَّةِ» بِذٰلِكَ، واطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ إِلَى يَأْسِ دائِنِيِهِ. أَخَذَ يَغْدُو فِى الطُّرُقِ وَيَرُوحُ، يَأْمَنُ تَعَقُّبَهُمْ لَهُ، وَثَوْرَتَهُمْ عَلَيْهِ. بَعْضُ الدَّائِنِينَ لَمْ يَكُفُّوا عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهِ، كُلَّما رَأَوْهُ، بِارْتِيابٍ. هُناكَ دائِنُونَ صَدَّقُوا أَنَّهُ مُصابٌ بالْخَبالِ، وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِالرِّثاءِ. هٰكَذا ﭐنْتَهَتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ «رَأْسِ الْوَزَّةِ» وَدائِنِيهِ، كَما شاءَ!»
(٧) إِنْكارُ الْجَمِيلِ
قُلْتُ لِـ«أَبِى عامِرٍ»: «تَمَّتْ قِصَّةُ «رَاْسِ الْوَزَّةِ» وَدائِنِيهِ، كَما رَسَمْتَ. مَعْنَى ذٰلِكَ: أَنَّهُ قَدِ ﭐبْتَدَأَتِ الْآن الْقِصَّةُ الَّتِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. اَلْحَقُّ أَنَّ الْقِصَّتَيْنِ هُما قِصَّةٌ واحِدَةٌ، لَها طَرَفانِ ﭐثْنانِ. خَبِّرْنِى: ماذا كانَ مِنْ أَمْرِ الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنَ الْقِصَّةِ؟»
أَمْسَكَ «أَبُو عامِرٍ» عَنْ مُواصَلَةِ الْكَلامِ، وَهُوَ مُطْرِقٌ بِرَأْسِهِ. ظَلَّ واجِمًا، وَقَدْ بَدَتْ عَلَى وَجْهِهِ أَماراتُ الْحَسْرَةِ والاِنْقِباضِ. رَفَعَ أَخِيرًا رَأْسَهُ، كَأَنَّما أَفاقَ مِنْ إِغْفاءَةٍ مَلَكَتْ عَيْنَيْهِ.
قالَ لِى: «لا بُدَّ أَنَّكَ تَعْنِى بِالطَّرَفِ الْآخَرِ: رَدَّ الْجَمِيلِ. أَلَسْتَ تَسْأَلُنِى: هَلْ رَدَّ لِى دَيْنِى مُضاعَفًا، كَما وَعَدَ؟ لَقَدْ تَخَلَّصَ، بِفِكْرَتِى الَّتِى أَمْلَيْتُها عَلَيْهِ، مِمَّا كانَ يَحِيقُ بِهِ. لَمْ يَعُدْ دَيْنُهُ هَمًّا لَهُ فِى لَيْلِهِ، أَوْ ذُلًّا فِى نَهارِهِ. يُؤْسِفُنِى إِخْبارُكَ بِما أَظُنُّهُ لا يَخْطُرُ لَكَ، أَوْ لِغَيْرِكَ، بِبالٍ.»
قُلْتُ لَهُ عِنْدَئِذٍ: «سَأُقاطِعُكَ، لِأُخْبِرَكَ أَنا بِكُلِّ ما جَرَى. لا رَيْبَ أَنَّ تِلْمِيذَكَ النَّجِيبَ وَعَى فِكْرَتَكَ، وَأَنْفَذَ خُطَّتَكَ. لَمْ يَحِدْ قِيدَ أُنْمُلَةٍ عَمَّا رَسَمْتَهُ، لاِغْتِيالِ أَمْوالِ دائِنِيهِ. أَنْفَذَها نابِحًا فِى وَجْهِكَ، كَنُباحِهِ مَعَ مُطالِبِيهِ، أَوْ مَعَ والِيهِ.»
(٨) يَأْسُ «أَبِى عامِرٍ»
قَالَ «أَبُو عامِرٍ» مُتَعَجِّبًا: «ما أَبْرَعَ ذَكاءَكَ، وَأَلْمَعَ فِطْنَتَكَ؟! لَمْ تَعْدُ الصَّوابَ فِيما قُلْتَ، كَأَنَّكَ كُنْتَ مَعَنا: رَأَيْتَ وَسَمِعْتِ! قَصَدْتُ دارَ «رَأْسِ الْوَزَّةِ»، بَعْدَ ﭐنْجلِاءِ غُمَّتِهِ، وانْقِضاءِ مِحْنَتِهِ. قُلْتُ فِى نَفْسِى: سَأَلْقاهُ، بَعْدَ أْنْ هَدَأَ بالُهُ، وَصَلَحَتْ حالُهُ. عَزَمْتُ — فِى لِقَائِى لَهُ — أَنْ أُذَكِّرَهُ عَهْدَهُ، وَأَسْتَنْجِزَهُ وَعْدَهُ. لَمْ يُخالِجْنِى أى شَكٍّ فِى أَنِّى مُلاقٍ مِنْهُ ما أَحْمَدُهُ لَهُ. ما فَتَحْتُ فَمِى بِالسَّلامِ، حَتَّى أَجابَنِى بِالْعُواءِ بَدَلَ الْكَلامِ. دَهِشْتُ أَشَدَّ الدَّهَشِ مِنْ غَرِيبِ جُرْأَتِهِ، وَإِغْراقِهِ فِى صَفاقَتِهِ. ما خَطَرَ لِى قَطُّ بِبالٍ، أَنْ يَلْقانِى وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحالِ. قُلْتُ لَهُ مُؤَنِّبًا: «لَكَ أَنْ تَصْطَنِعَ ذٰلِكَ مَعَ أَىِّ صاحِبٍ. أَمَّا أَنْ تُمَثِّلَهُ مَعِى، فَذٰلِكَ: الْعَجَبُ الْعاجِبُ، والرَّأْىُ الْخائِبُ. دَعْ — أَيُّها الْأَحْمَقُ — ذٰلِكَ النُّباحَ، وَكَلِّمْنِى كَما أُكَلِّمُكَ بإِفْصاحٍ.» كانَ يُشِيحُ بِوَجْهِهِ عَنِّى، كَىْ لا تَقَعَ عَلَى عَيْنِهِ عَيْنِى. كُلَّما كَرَّرْتُ لَهُ — فِى غَضَبٍ — قَوْلِى، تَمادَى فِى نُباحِهِ حَوْلِى. لَمْ يَنْتَهِ الْمَوْقِفُ، بَيْنَهُ وَبَيْنِى، إِلَى نَتِيجَةٍ تَبْعَثُ عَلَى الاِطْمِئْنانِ. غَادَرْتُ دارَهُ حَيْرانَ، لا أَدْرِى: كَيْفَ أَتَصَرَّفُ فِى أَمْرِىَ الْآنَ؟»