أَخْلاقُ النَّاسِ
(١) خَصْلَةُ الْغَدْرِ
لاذَ «أَبُو عامِرٍ» بِالصَّمْتِ حِينًا، كَأَنَّما يُفَكِّرُ فِيما هُوَ صانِعٌ. ما شَهِدْتُهُ عَلَى أَسارِيرِهِ يُوحِى بِأَنَّ مَرارَتَهُ تَكادُ تَنْشَقُّ غَيْظًا. عَبَّرَ ذٰلِكَ عَنْ شُعُورِهِ بِوَبالِ تَصَرُّفِهِ، وَأَنَّهُ يَكْتَوِى بِحَرِّ نارِهِ.
قُلْتُ لَهُ: «خَلِّ عَنْكَ ما أَنْتَ فِيهِ مِنْ عَذابِ التَّفْكِيرِ. لَنْ تَنْجْوَ مِنْ إِحساسِكَ بِالْهَمِّ، إِلَّا بِأَنْ تَنْسَى ما كانَ. ما فَقَدْتَهُ مِنَ الْمالِ قَدْرٌ لا يُسْتَهانُ بِهِ، وَلٰكِنْ: ما الْعَمَلُ؟ لَنْ يُعَوِّضَكَ طُولُ التَّفْكيرِ الْمَرِيرِ، عَمَّا أَصَابَكَ مِنَ الْخُسْرانِ.»
قالَ لِى: «أَكانَ يُنْتَظَرُ مِنْ «رَأْسِ الْوَزَّةِ» هٰذا السُّلُوكُ؟! أَيَكُونُ مِنْهُ خُلُقُ الْغَدْرِ بِى، بَعْدَ كُلِّ ما أَسْدَيْتُهُ لَهُ؟ أَهٰذِهِ خَصْلَةٌ يَجُوزُ لِاْمرِئٍ عاقِلٍ كَرِيمٍ أَنْ يَتَّصِفَ بِها؟»
قُلْتُ لَهُ: «لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَجَبًا سَلْبُ الْحُقُوقِ، وَلُؤْمُ الْعُقُوقِ. اِعْلَمْ أَنَّ صاحِبَكَ «رَأْسَ الْوَزَّةِ» يَتَّصِفُ بِأَخْلاقِ بَعْضِ النَّاسِ. اَلْغَدْرُ خَصْلَةٌ سَيِّئَةٌ ذَمِيمَةٌ، وَلٰكِنَّها فِى حَياةِ الْإِنْسانِ قَدِيمَةٌ. اَلْغَدْرُ لَوْنٌ مِنْ أَلْوانِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ الشَّرُّ فِى الدُّنْيا بِسِرٍّ.»
(٢) أَنْتَ الْمَلُومُ
سَمِعَ «أَبُو عامِرٍ» ما أَفْضَيْتُ بِهِ إِلَيْهِ مِنْ تَوْضِيحٍ وَتَفْسِيرٍ. جَعَلَ يَهُزُّ كَتِفَيْهِ، وَيَعَضُّ عَلَى شَفَتَيْهِ، كَأَنَّهُ يَسْتَوْعِبُ ما قُلْتُ. بَعْدَ وَقْتٍ قَلِيلٍ، وَجَدْتُهُ يُحَدِّقُ بِعَيْنَيْهِ فِى وَجْهِى بِشِدَّةٍ.
قالَ يَسْأَلُنِى: «كَيْفَ ﭐسْتَبانَتْ لَكَ خاتِمَةُ الْقِصَّةِ، يا «أَبا الْغُصْنِ»؟ لَقَدْ أَوْضَحْتَ لِى تَفْصِيلَها، قَبْلَ أَنْ أَتَفَوَّهَ بِشَىْءٍ مِنْها!»
قُلْتُ لَهُ: «اَلْمُقَدِّماتُ تَدُلُّ مَنْ يُعْمِلُ عَقْلَهُ عَلَى النَّتائِجِ. اَلسُّلُوكُ الَّذِى ﭐتَّخَذَهُ «رَأْسُ الْوَزَّةِ» مَعَ دائِنِيهِ، صارَ طَبِيعَةً فِيهِ. هٰذا التَّصَرُّفُ الْمُنْكَرُ الْعَجِيبُ، لَكَ مِنْهُ — يا أَخِى — نَصِيبٌ. كَيْفَ تَعْجَبُ مِنْهُ فِيما صَنَعَ، وَأَنْتَ أَجْدَرُ مِنْهُ بِالْعَجَبِ؟ لَيْسَ عَلَى «رَأْسِ الْوَزَّةِ» أَىُّ ذَنْبٍ، فَلا يَكُنْ مِنْكَ عَتْبٌ. ماذا يَرِيبُكَ فِيما جَرَى مِنْ إِخْلافِهِ لِوَعْدِهِ لَكَ، وَعَهْدِهِ مَعَكَ؟ أَلَمْ تَشُقَّ لَهُ طَرِيقَ غَوايَةٍ، وَهَدَيْتَهُ إِلَيْهِ شَرَّ هِدايَةٍ؟ بِحَقِّكَ: ماذا تُنْكِرُ أَنْتَ مِنْ عَمَلِهِ؟ وَما وَجْهُ شَكْواكَ مِنْهُ؟ لَوْ تَدَبَّرْتَ أَمْرَكَ فِى تَعَقُّلٍ، لَما غَضِبْتَ عَلَيْهِ فِيما يَعْمَلُ.»
(٣) عاقِبَةُ السُّوءِ
كانَ هٰذا مُجْمَلُ حَدِيثِى مَعَ «أَبِى عامِرٍ»، لِأُهَوِّنَ عَلَيْهِ ما بِهِ. رَأَيْتُ أَنْ أُتابِعَ الْحَدِيثَ عَلَى هٰذا النَّحوِ، لِكَىْ أُقْنِعَهُ.
قُلْتُ: «صارِحْنِى، يا «أَبا عامِرٍ»: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِنْكارَ مَسْئُولِيَّتِكَ؟ أَلَمْ يَكُنْ مِنْكَ تَعْلِيمُ «رَأْسِ الْوَزَّةِ» ما حَفِظَهُ وَوَعاهُ؟ أَلَمْ يَتَلَقَّنِ الدَّرْسَ الَّذِى يَعْرِفُ بِهِ كَيْفَ يَحْتالُ وَيَغْتالُ؟ لَمْ يَزِدْ — فِيما ﭐلْتَزَمَ — عَلَى أَنْ وَثِقَ بِكَ، وَأَنْ أَطاعَكَ. لَقَدْ حَسَّنْتَ لَهُ أَنْ يَخْدَعَ النَّاسَ، وَأَنْتَ واحِدٌ مِنَ النَّاسِ. حَسْبُكَ مِنْهُ صِدْقُ أَمانَتِهِ فِى تَطْبِيقِ الْمَنْهَجِ، واتِّباعِ الْقِياسِ. كَيْفَ تُرِيدُهُ إِذَنْ عَلَى أَنْ تَنْفَرِدَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِوَفائِهِ؟! أَلَيْسَ ما وَعَدَكَ بِهِ، وَعاهَدَكَ عَلَيْهِ، حَقًّا كَسائِرِ الْحُقُوقِ؟ لِماذا يَخُصُّ حَقَّكَ وَحْدَكَ بِالْوَفاءِ، وَحَقَّ سائِرِ النَّاسِ بِالْعُقُوقِ؟! ما أَجْدَرَكَ — يا صاحِبِى — بِأَنْ تَشْكُرَ صاحِبَكَ، بَدَلًا مِنْ مَلامَتِهِ. أَنْتَ الَّذِى جَعَلْتَهُ يُقْدِمُ عَلَى الْغَدْرِ والاِحْتِيالِ، واغْتِيالِ الْأَمْوالِ. لَوْ أَنَّكَ زَيَّنْتَ لَهُ الْوَفاءَ، لَكانَ لَكَ مِنْهُ أَحْسَنُ الْجَزاءِ.»
(٤) اَلذِّئْبُ والْغَنَمُ
أَحَسَّ «أَبُو عامِرٍ» بِأَنَّهُ شَرِيكُ «رَأْسِ الْوَزَّةِ» فِى سُوءِ عَمَلِهِ.
قُلْتُ لَهُ: «بَقِىَ أَنْ تَصْدُقَنِى الْقَوْلَ فِيما أَعْرِضُهُ عَلَيْكَ. أَكُنْتَ تَشْكُو غَدْرَ «رَأْسِ الْوَزَّةِ» بِالنَّاسِ، لَوْ لَمْ يَغْدِرْ بِكَ؟ أَكُنْتَ تَنْقَمُ مِنْهُ لَوْ أَدَّى دَيْنَكَ وَحْدَكَ، واغْتالَ دُيُونَ غَيْرِكَ؟ هَبْكَ سَمِعْتَ أَنَّ رَجُلًا هَدَى إِلَى الْغَنَمِ أَحَدَ الذِّئابِ. هٰذا الرَّجُلُ أَخَذَ عَلَى الذِّئْبِ عَهْدًا أَلَّا يَنالَ غَنَمَهُ بِمَكْرُوهٍ. أَتُرَى الذِّئْبَ كانَ يُعْفِى غَنَمَ الرَّجُلِ مِنَ الْعُدْوانِ عَلَيْها؟ قِصَّةُ عَهْدِ الذِّئْبِ والرَّجُلِ، هِىَ قِصَّةُ عَهْدِ «رَأْسِ الْوَزَّةِ» مَعَكَ. حَقِّقِ النَّظَرَ فِى مِرْآتِكَ: عَلَّمْتَ «رَأْسَ الْوَزَّةِ» الْغَوايَةَ، فَغَوَى. زَيَّنْتَ لَهُ حِيلَةَ الْعُواءِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنِ ﭐحْتالَ بِها، وَعَوَى. اِسْتَباحَ مِنَ الْحُقُوقِ ما لا يُسْتَباحُ، بِما أَتْقَنَ مِنَ النُّباحِ. لَيْسَ هٰذا أَوَّلَ منْ نَبَحَ، فَكَسَبَ — بِفَضْلِ نُباحِهِ — وَرَبِحَ! كَمْ مِنَ النَّاسِ بَلَغُوا الْمَجْدَ بِباطِلِ الْأَقاويِلِ، وَكاذِبِ الْأَضالِيلِ! اِحْتالُوا بِذٰلِكَ ليُصْبِحُوا كَأَنَّهُمْ أَعِزَّةٌ، كَما فَعَلَ «رَأْسُ الْوَزَّةِ»!»
(٥) اَلْجَزاءُ الْعادِلُ
اِزْدادَ إِحْساسِى بِاقْتِناعِ «أَبِى عامِرٍ»، وَهُوَ إِلَى قَوْلِى مُنْصِتٌ. رَأَيْتُ أَنْ أَسْتَمِرَّ عَلَى هٰذا النَّحْوِ مِنَ الْحَدِيثِ، لِيَقْوَى ﭐطْمِئْنانُهُ.
قُلْتُ لَهُ: «أَنْتَ جَدِيرٌ بِارْتِضاءِ ما نالَكَ مِنْ عَدْلِ الْجَزاءِ. ما ظَلَمَكَ «رَأْسُ الْوَزَّةِ»، ولا غَبَنَ. ما حَقَدَ عَلَيْكَ، وَلا ضَغِنَ. إِنَّكَ — بِمَشُورَتِكَ الْجائِرَةِ — لَمْ تَرَ فِى ظُلْمِ غَيْرِكَ مِنْ بأسٍ. لا عَجَبَ إِذا ظَلَمْتَ نَفْسَكَ، مَعَ مَنْ ظَلَمْتَ مِنَ النَّاسِ. لا تَجْزَعْ — يا «أَباعامِرٍ» — مِنْ سُنَّةٍ سَنَنْتَها، وَخُطَّةٍ نَهَجْتَها. لَكَ أَسْوَةٌ فِى شَبِيهٍ لَكَ قَدِيمٍ، حادَ عَنِ ﭐلنَّهْجِ ﭐلْقَوِيمِ. عامَلَهُ ﭐبْنُ عَمِّهِ بِمِثْلِ مُعامَلَتِهِ، وَكافَأَهُ مِنْ جِنْسِ مُكافَأَتِهِ. أَسْرَعَ إِلَى مُجازاتِهِ ظُلْمًا بِظُلْمٍ، فَلَمْ يَجُرْ عَلَيْهِ فِى الْحُكْمِ. صَرَخَ الرَّجُلُ باكِيًا مُعْوِلًا، كَما صَرَخْتَ أَنْتَ شاكِيًا مُوَلْوِلًا. أَرَى مِنَ الْخَيْرِ لِى وَلَكَ، أَنْ أَقُصَّ قِصَّتَهُ الْعَجِيبَةَ عَلَيْكَ. سَوْفَ تَتَجَلَّى لَكَ فِى قِصَّةِ هٰذا الشَّبِيهِ، عِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ وَتَنْبِيهٌ. فِى سَماعِكَ لَها — إِلَى جانِبِ ذٰلِكَ — عَزاءٌ وَتَسْلِيَةٌ وَتَرْفِيهٌ.»
(٦) اَلشَّبِيهُ الذَّمِيمُ
بَدا عَلَى «أَبِى عامِرٍ» تَطَلُّعُهُ إِلَى سَماعِ حِكايَةِ الشَّبِيهِ. غَرائِبُ الْقِصَصِ تَبْعَثُ عَلَى الاِنْتِباهِ، وَتُجَدِّدُ الشَّوْقَ إِلَى السَّماعِ.
قُلْتُ لَهُ: «كانَ فِى بَلَدِنا — هٰذا — سَيِّدٌ عَظِيمُ الشَّانِ. كانَ يَعِيشُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ تُولَدَ أَنْتَ، أَوْ أُولَدَ أَنا، بِأَزْمانٍ. عُرِفَ بِسَدادِ الرَّأْىِ وَنَفَاذِ الْبَصَرِ، وَرِفْعَةِ الْقَدْرِ وَجَلالَةِ الْخَطَرِ. أَصْبَحَ لِسُمُوِّ مَكانَتِهِ، وَسَعَةِ حِيلَتِهِ، إِمامًا لِجماعَتِهِ، وَزَعِيمًا لِعَشِيرَتِهِ. شَدَّ ما كانَتْ تَلْجَأُ إِلَيْهِ، وَتَجْعَلُ مُعَوَّلَها — بَعْدَ اللهِ — عَلَيْهِ. تَلُوذُ بِكَنَفِهِ إِذا أَلَمَّتْ بِها الْحَوادِثُ، وَدَهِمَتْها الْخُطُوبُ والْكَوارِثُ. تَسْتَطْلِعُ فِكْرَهُ كُلَّما تَعَقَّدَتْ أُمُورُها، وَضاقَتْ بِحادِثاتِ الدَّهْرِ صُدُورُها. تَتَفَقَّدُهُ عِنْدَ الْبَأْساءِ، كَما نَتَفَقَّدُ نَحْنُ الْبَدْرَ فِى اللَّيْلَةِ الظَّلْماءِ. تَهْتَدِى — عَلَى الدَّوامِ — بِهَدْيِهِ الصَّائِبِ، وَتَسْتَنِيرُ بِرَأْيِهِ الثَّاقِبِ. مِنْ سُوءِ حَظِّهِ أَنَّهُ حادَ عَنِ السَّدادِ، وَتَنَكَّبَ سَبِيلَ الرَّشادِ. دَفَعَتْهُ الْأَنانِيَّةُ إِلَى أَنْ يُعامِلَ ﭐبْنَ عَمِّهِ مُعامَلَةً غادِرَةً. اِرْتَضَى السَّيِّدُ لِنَفْسِهِ — عَلَى غَيْرِعادَتِهِ — خُطَّةً مُلْتَوِيَةً ماكِرَةً.»
(٧) اَلسُّنَّةُ ﭐلسَّيِّئَةُ
قالَ «أَبُو عامِرٍ»: «أَيُبِيحُ لِنَفْسِهِ مَسْلَكَ الْغَدْرِ مَعَ ﭐبْنِ عَمِّهِ؟!»
قُلْتُ: اِنْحِرافُ النَّفْسِ يُسَهَّلُ عَلَيْها الاِسْتِهانَةَ، والتَّفْرِيطَ فِى الْأَمانَةِ. فِى هٰذِهِ الْحالِ، يَتَساوَى عِنْدَهُ الْغَدْرُ بِالْقَرِيبِ، وَغَيْرِ الْقَرِيبِ! كانَ جَزاءُ السَّيِّدِ مِنِ ﭐبْنِ عَمِّهِ، أَنْ كافَأَهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ. قابَلَ السِّئَ مَنْ غَدْرِهِ وَخِيانَتِهِ، بِمِثْلِ السَّىِّءِ مِنْ فَعْلَتِهِ. صَرَخَ السَّيِّدُ — عَظِيمُ قَوْمِهِ — كَما صَرَخْتَ، وَشَكا كَما شَكَوْتَ. اِنْطَلَقَ يَسُبُّ خَصْلَةَ الْأَنانِيَّةِ والْأَنانِيِّينَ، وَيَلْعَنُ خُلُقَ الْغَدْرِ والْغادِرِيِنَ. أَتَعْرِفُ كَيْفَ كانَ جَوابُ ﭐبْنِ الْعَمِّ لِذٰلِكَ السَّيِّدِ الْعَظِيمِ؟ أَعْرَضَ عَنْهُ فِي اسْتِكْبارٍ، وَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ فِي ٱحْتِقارٍ. أَنْشَدَهُ هٰذا الشِّعْرَ، يَصِفُ حالَهُ وَحالَ جُنُوحِهِ إِلَى الْغَدْرِ:
(٨) يَقَظَةُ الضَّمِيرِ
اِسْتَيْقَظَ ضَمِيرُ «أَبِى عامِرٍ» بِما ضَرَبْتُ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْثالِ. تَجَلَّى لَهُ — عِنْدَئِذٍ — طَرِيقُ الصَّوابِ، فارْعَوَى عَنْ باطِلِهِ وَأَنابَ. تبَيَّنَ لَهُ سُوءُ ما قَدَّمَ لِـ«رَأْسِ الْوَزَّةِ» مِنْ تِلْكَ الْمَشُورَةِ. اِنْفَرَجَتْ أَسارِيرُهُ وَتَطَلَّقَ مُحَيَّاهُ، وَتَجَلَّتْ أَماراتُ الْبِشْرِ عَلَى سِيماهُ.
عِنْدَئِذٍ قَالَ لِى «أَبو عامِرٍ»: «ما أَعْدَلَ قَضاءَكَ، وَأَصَحَّ آراءَكَ. شُكْرًا لَكَ عَلَى ما بَذَلْتَهُ مِنْ رِعايَةٍ، وَأَسْدَيْتَهُ مِنْ نُصْحٍ وَهِدايَةٍ. أَنْتَ بَصَّرْتَنِى بِما أَصابَنِى مِنْ عَيْبٍ، وَما ﭐقْتَرَفْتُهُ مِنْ ذَنْبٍ. صَدَقَ الْقائِلُ: «اَلْمَرْءُ لا يَرَى عَيْبَ نَفْسِهِ، بَلْ يَرَى عَيْبَ سِواهُ»! ما أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قالَ: «اَلصَّاحِبُ لِصاحِبِهِ: نِعْمَ الْمِرْآةُ»! ما أَجْدَرَكَ بِالثَّناءِ والتَّكْرِيمِ، لِأَنَّكَ هَدَيْتَنِى إِلَى الصِّراطِ الْمُسْتَقِيمِ! فَتَحْتَ عَيْنَىَّ بِحَدِيثِكَ الْبارِعِ الْعَظِيمِ، عَلَى الْمَسْلَكِ الصَّائبِ الْقَوِيمِ. صَبَرْتَ مَعِى صَبْرًا جَمِيلًا، لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا صَدِيقٌ حَمِيمٌ.»
سَمِعْتُ هٰذا مِنْهُ، فانْشَرَحَ مِنِّى الصَّدْرُ، لِما عَمِلْتُ مِنْ خَيْرٍ.
اِبْتَهَجْتُ أَنا، كما ﭐبْتَهَجَ هُوَ، بِانْكِشافِ الضُّرِّ، وَصَلاحِ الْأَمْرِ.