البحر والغروب
هذا ما حدث في أواخر صيف العام التاسع من عصر «بون إيه». ولأنه ستوجد ضرورة فيما بعد، أضيف على ذلك أن العام التاسع من عصر «بون إيه» هذا يوافق عام ١٢٧٢م.
يصعد خادم معبد عجوز، ومعه فتًى صغير، جبل «شوجوغاتاكه» القابع خلف معبد «كينتشوجي» بمدينة كاماكورا. خادم المعبد هذا كان يحب بعد أن ينتهي من التنظيف في حرارة شمس الصيف، الصعود إلى جبل «شوجوغاتاكه» قبل وقت الغروب في الأيام التي يتوقع أن يكون شفق الغروب جميلًا.
أما الفتى فهو أحد أطفال القرية الذين يأتون للمعبد من أجل اللعب، ولكن لما كان أصمَّ وأبكمَ، فقد كان باقي الأطفال لا يشركونه معهم في لعبهم، ممن جعل خادم المعبد يعطف عليه ويصحبه معه إلى قمة جبل «شوجوغاتاكه».
لا يوجد بلغته اليابانية التي يتحدث بها ما يدل على أنه أجنبي، وليس له تلك اللكنة التي يُعرف منها أنه من دولة أخرى. لقد مرَّ بضع وعشرون عامًا على مجيء أنري مع راهب البوذية العظيم «دايكاكو زينجي» مؤسس هذا المعبد.
كانت أشعة شمس الصيف قد مالت قليلًا، مما جعل المساحة المحيطة بقاعة المراسم قد أحاط بها الظل بالفعل، بعد أن حجب الجبلُ عنها الشمسَ. يرتفع مدخل الجبل سامقًا، وكأنه بالفعل الحد الفاصل بين الظل والشمس. إنه الوقت الذي تتزايد فيه تدريجيًّا ظلال الأشجار الكثيرة الموجودة في حرم المعبد بأكمله.
ولكن على الجانب الغربي من جبل «شوجوغاتاكه» الذي يصعده أنري والفتى، ما زالت أشعة الشمس تسطع فوقه بقوة لا تلين. أصوات حشرات الزيز المنتشرة في جميع أركان الجبل مزعجة للغاية. وعلى جانبي الطريق الجبلية الممتلئة بالحشائش، تفتَّحت عدة زهرات من زهور الزنبق الحمراء مبكرة عن فصل الخريف.
عندما وصل الاثنان إلى القمة، لم يمسحا العرق، بل تركا نسمات الهواء الجبلية الضئيلة تجفف بشرتَيْهما.
من مكانهما يمكن رؤية أبراج معبد كينتشوجي المتعددة؛ برج «سايراي إن»، وبرج «دوكيه إن»، وبرج «ميوكو إن»، وبرج «هوشو إن» وبرج «تنغين إن»، وبرج «ريوهو إن». يمكن من قمة الجبل رؤية شجرة العرعر اليانعة، التي أحضر بذورها الراهب العظيم «دايكاكو زينجي» معه من موطنه «سونغ» في الصين، وقد استأثرت أوراقها بأشعة شمس الصيف بجانب مدخل الجبل.
كذلك في بطن جبل «شوجوغاتاكه» يبدو سقف مبنى «أوكونو إن» للمعبد أسفله مباشرة. ثم أسفل المبنى مباشرة يقف برج الناقوس شامخًا. وأسفل كهف التأمل وصلاة الزن الذي استخدمه الراهب العظيم، توجد غابة أشجار الكرز التي تُكوِّن بحرًا من زهور الكرز في موسم الإزهار، تصنع أوراقها ظلالًا غنية وفيرة. وفي سفح الجبل توجد بحيرة «دايكاكو» التي تُعلن عن وجودها بواسطة انعكاس خافت لسطح مائها من بين الأشجار.
ولكن ليست تلك المناظر هي التي يأتي أنري ليراها،
بل ما يريد رؤيته هو البحر المتألق بعيدًا الذي يصنع خطًا أفقيًّا متعرِّجًا مع منحنيات الجبال والوديان في كاماكورا. في فصل الصيف، يمكن من هذا المكان رؤية الشمس وهي تغرب في البحر، حول منطقة رأس «إيناموراغاساكي».
تتشابك السحب المتراصَّة بانخفاض عند خط الأفق ذي اللون الأزرق الغامق، حيث يلتقي البحر مع السماء. السحب لا تتحرَّك، ولكنها في الواقع تتفكك في هدوءٍ بالغ يشبه تساقط أوراق زهرة الدُّبَّاء، فيتغيَّر شكلها ببطء تدريجيًّا. وفوق ذلك المنظر، توجد السماء زرقاء تمامًا بلا أية غيوم وقد بَهَتَ لونها قليلًا. وما زال الوقت مبكرًا على أن تتلون السحب، ولكن من خلال الضوء الداخلي، تشوبها ظلال خفيفة بلون المشمش.
إن منظر السماء يُعبِّر بصدق عن تصارع الصيف مع الخريف؛ وذلك لأنه تنتشر بعرض السماء العالية عند الأفق البحري غيوم شبيهة بأسراب سمك السردين. تصطف غيوم السردين فوق الوديان الكثيرة في كاماكورا، باسطة بقعًا من السحب اللدنة الدقيقة.
قال «أنري» بصوته الأجش العجوز: «أواه! السحب تبدو وكأنها قطعانٌ من الأغنام!»
ولكن الفتى الأصم الأبكم، جلس فوق صخرة بجواره، وظل ناظرًا لأعلى ناحيةَ وجهِ خادم المعبد، ليبدو الأمر، وكأن خادم المعبد يُحدِّث نفسه.
فالفتى لا يسمع شيئًا على الإطلاق ولا يعِي عقله أي شيء. ولكن بدت الحكمة في عينيه الصافيتين، مما جعل أنري يعتقد أنه قادر على نقل ما يريد قوله من خلال عينه إلى تلك العيون الصافية مباشرة، وليس عن طريق الكلمات.
ولهذا السبب تكلم أنري وكأنه يتوجه بحديثه إلى الفتى. الحديث لم يكن باللغة اليابانية التي يجيدها أنري ويتحدث بها في العادة بطلاقة، بل هو حديث باللغة الفرنسية المختلطة بلهجة أهل بلدته في جبال وسط فرنسا. ولو صادف وسمع باقي أطفال القرية تلك اللغة، لكان لها عندهم سمع لا يتناسب مع لغة «تنغو»، تلك اللغة الأم، ذات الحروف المتحركة الكثيرة، التي كأنها تخرج سلسة متدفقة من فمه.
مرة أخرى قال أنري وهو يخلط ذلك بالتنهدات: «يا للعجب، وكأنها قطعان من الأغنام! يا ترى كيف حال أولئك الأغنام الصغيرة الوديعة في سيڤين؟ لا بد أنها ولدت صغارًا، ثم صار لها أحفادٌ وأولادُ أحفاد، ثم في النهاية آل مصيرها إلى الموت.»
جلس أنري على إحدى الصخور، وقد جاءت جلسته بحيث لا تحجز أعشاب الصيف عنه منظر البحر البعيد.
حشرات الزيز تصيح بصخب، وكأنها كامنة في كل أرجاء الجبل.
وجَّه أنري حديثه إلى الفتى؛ إلى عينيه الصافيتين: «أنت لن تفهم ما سأقوله بالتأكيد. ولكن حتمًا أنت الوحيد من بين سُكَّان هذه القرية الذي سيصدق ما سأقول. حسنًا، سأبدأ الحديث. ربما تكون القصة غير قابلة للتصديق، حتى بالنسبة لك أنت، ولكن اسمع مني. فلا يوجد أحد غيرك من الممكن أن يأخذ كلامي هذا على محمل الجد.»
تحدث أنري بلجلجة في الكلام. وعندما تنحسر الكلمات في فمه، يقوم بهز جسده برعشة غير مألوفة عليه، ويبدو وكأنه يحاول إيقاظ الكلمات واستدعاءها بتلك الرعشة.
«في غابر الزمان، عندما كنت في مثل عمرك تقريبًا، لا بل كنت في عمر أصغر من عمرك بكثير، كنت راعيًا للغنم في سيڤين. سيڤين تلك هي منطقة جبلية رائعة الجمال في وسط فرنسا، تحت سفح جبال بيلا، وكانت الأراضي ملكًا للدوق تولوز. ربما لا تفهم ما أقول؛ فلا أحدَ هنا يعرف اسم موطني الأصلي.
كان الوقت هو عام ١٢١٢م عندما سُلبت منا الأراضي المقدسة للمرة الثانية، بعد أن كانت الحملة الصليبية الخامسة قد نجحت في استعادتها لمرة. وقتها سقط الفرنسيون صرعى للحزن والأسى، وارتدت النساء ملابس الحداد مرة أخرى.
كان وقت الغروب في أحد الأيام، عندما كنت ألاحق قطعان الأغنام لإعادتها من المرعى، وأنا على وشك الصعود إلى إحدى الهضاب. كانت السماء مصبوغة بلون عجيب. الكلب الذي كنت أصطحبه معي، نبَح بصوت خفيض، وقد أخفى ذيلَه، وهو يحاول الاختباء خلف ظلي.
لقد سمعته يقول ذلك بشكل مؤكد. ثم بعد ذلك فقدت الوعي، لعق الكلب وجهي بلسانه وأيقظني. وعندما انتبهت وجدتني في وقت الغسق، ورأيت الكلب يحملق في وجهي من قريب، وهو يبدو عليه القلق. كان جسدي كله مبللًا بالعرَق.
عندما عدت لم أخبر أحدًا بما حدث؛ لأنني توقعت ألا يصدقني أحد.
بعد أربعة أيام أو خمسة أمطرت السماء. كنت وحيدًا في كوخ الحراسة. كان الوقت هو وقت الغسق مثل ما كان من قبل، وعندها سمعت من يطرق على الباب، وعندما خرجت وجدت عابر سبيل غريبًا يطرق الباب. طلب مني خبزًا. تأملت وجه ذلك العجوز بتمعُّن، له أنف سامقة، وتقاطيع وجه مهيبة تحيط بها لحية بيضاء، وعيناه بصفة خاصة عميقتان وصافيتان لحد مرعب. طلبت منه الدخول قائلًا إن المطر شديد، لكنه لم يُجِب. وعندما نظرت إليه وجدت أن ملابسه ليس بها أي بلل، رغم أنه قد أتى سيرًا على الأقدام تحت المطر.
انتابني الرعب فظللت صامتًا. شكرني العجوز على الخبز، ثم همَّ بالرحيل. ولكنه عند رحيله اقترب مني، وبشكل مؤكد سمعته يقول في أذني ما يلي: «هل نسيت ما أُخْبرت به منذ فترة؟ لماذا أنت متردد؟ إن الرب قد اصطفاك أيها الفتى.»
حاولت اللحاق بالعجوز.
ولكن كان الظلام يسيطر على المكان، والمطر يهطل بشدة، وقد اختفى العجوز. وقتها سمعت وسط المطر ثغاء الخراف، وهي تلتصق ببعضها من القلق.
في تلك الليلة لم أستطِع النوم.
وفي اليوم التالي، عندما خرجت إلى الرعي، أخيرًا تحدثت إلى أقرب أصدقائي الرعاة من نفس عمري. ذلك الفتى عميق الإيمان، عندما سمع حكايتي، ارتجف جسده بشدة، وجثا بركبتيه على الأرض فوق زهرات النَّفَل وتضرع لي.
وفي أقل من عشرة أيام تجمَّع حولي رعاة الغنم من المناطق المحيطة. لم أكن أبدًا من الفتيان المتكبرين، ولكن جميعهم أصبحوا أتباعًا لي من تلقاء أنفسهم.
وخلال ذلك انتشرت شائعة في مكان ليس ببعيد عن قريتي عن ظهور نبي في الثامنة من عمره. وتقول: إن النبي الصغير يقوم بالوعظ وله معجزات. وشائعة تقول إنه أعاد الرؤية لفتاة صغيرة عمياء بعد أن لمس عينيها بيده.
توجهت أنا وأتباعي إلى ذلك المكان. كان ذلك النبي مختلطًا مع باقي الأطفال يلعبون مصدرين أصواتًا ضاحكة تعبر عن الدهشة والاستغراب. جثوتُ على ركبتي أمام ذلك الطفل، وحكيت له بالتفصيل محتوى الوحي.
كان الطفل في بياض الحليب، وشعره المجعد ذهبي اللون يتدلى على جبهته التي تشِف عن عروق الدم الزرقاء. عندما جثوت أمامه توقف عن الضحك، ورجفت أطراف شفتيه الصغيرتين مرتين أو ثلاثًا. ولكنه لم يكن ينظر إليَّ أنا، بل كان يرنو بنظره هائمًا إلى المراعي المتموِّجة في الأفق البعيد.
وعندها نظرت أنا أيضًا في نفس الاتجاه. هناك كانت أشجار الزيتون عالية الارتفاع تقف شامخة، أطرافها تصفِّي أشعة الشمس؛ فتبدو الأفرع والأوراق وكأنها مضاءة من الداخل. هبت رياح، فلمس الطفل كتفي بهيبة وجلال، وأشار إلى تلك الجهة. وعندها رأيت بوضوح حشدًا كبيرًا من الملائكة يحركون أجنحتهم ذات اللون الذهبي اللامع في أعالي الأشجار.
قال الطفل بصوت مهيب، وكأنه شخص آخر مختلف تمامًا عن الطفل السابق: «اذهب إلى الشرق، توجَّه نحو أقصى الشرق. ولفعل ذلك يفضل الذهاب إلى مارسيليا كما أنبأك الوحي.»
بهذا الشكل انتشرت الشائعة أكثر وأكثر. وتباعًا حدث نفس الأمر في كل أنحاء فرنسا. في أحد الأيام حمل أبناء فرسان الجيش الصليبي تركةَ آبائهم من سيوف ورماح، وغادروا منزلهم. وكذلك في مكان آخر طفل كان يلعب بجوار نافورة المياه في حديقة منزله. فجأة ترك ألعابه، وغادر لا يحمل شيئًا إلا قليلًا من الخبز أخذه من الخادمة. وعندما لحقت به الأم وعنَّفته، لم يسمع لها قائلًا: سأذهب إلى مارسيليا. وفي ساحة إحدى القرى، قبل انقضاء ظلام الليل، تجمع الأطفال الذين تركوا فراش النوم وخرجوا، وهم ينشدون الأناشيد المقدسة، وغادروا مسافرين لا يعلمون وجهتهم.
وعندما استيقظ الكبار، لم يجدوا في القرية أطفالًا يمكن أن يطلق عليهم أطفالًا، إلا الرُّضَّع الذين لم يتعلموا المشي بعدُ.
وأخيرًا تجمع لديَّ عدد كبير من الرفاق. وعندما بدأت الاستعداد لاصطحابهم في رحلة إلى مارسيليا، جاء أبواي ليأخذاني، وبكيا وأنباني لتهوري وطيشي. ولكن أتباعي كانوا كثيري العدد؛ فقاموا بطرد ذينك الأبوين ناقصي الإيمان وإبعادهما. كان عدد من رحل معي لا يقل بحال عن المائة. ولقد اشترك في حملتي الصليبية تلك عدةُ آلاف من الأطفال من أنحاء متفرقة في فرنسا وألمانيا.
لم تكن الرحلة هينة؛ فلم يكن مرَّ أقل من نصف يوم حتى سقط الأطفال الأصغر سنًّا والأضعف بنية تباعًا. قمنا بدفن جثثهم ونحن نبكي، ووضعنا فوقهم صلبانًا خشبية صغيرة.
ودخلت فرقة أخرى غيرنا، حوالي مائة طفل. منطقة ينتشر بها وباء الطاعون الأسود دون أن يعرفوا ذلك. وسمعت أنهم أُبيدوا عن آخرهم دون أن ينجو منهم أحد. حتى في فرقتنا ماتت فتاة بعد أن ألقت بنفسها من فوق منحدر جبلي؛ بسبب الاضطراب النفسي الذي أصابها من التعب والإرهاق.
ولكن الأمر العجيب أن كل من مات من الأطفال كان يموت، وهو يرى شبح الأرض المقدسة. ولكن على الأرجح ليست الأرض المقدسة القاحلة تلك الأيام، ولكن شبحها وهي مزارع خصبة وغنية يكثر فيها العسل، وتنتشر فيها زهور الزنبق المتفتحة. وكان السبب في أننا عرفنا ذلك، هو أن الموتى كانوا يحكون عند احتضارهم ما يرونه من أوهام. وحتى لو لم يحكوا، فقد بدت أعينهم في نشوة، وكأنها تواجه أنوارًا هائلةً ساطعةً.
حسنًا، لقد وصلنا إلى مارسيليا.
وهناك كان ينتظرنا بالفعل عشرات الفتيان والفتيات. وكانوا يؤمنون أنه بوصولنا سينشطر البحر إلى نصفين يمينًا ويسارًا. كان عددنا، نحن الذين وصلنا إلى مارسيليا، قد تقلص بالفعل إلى الثلث.
ذهبتُ إلى الميناء يحيط بي هؤلاء الأطفال بخدودهم المتألقة. وفي الميناء كانت تصطف الصواري العالية بعدد كبير، وكان البحَّارة ينظرون إلينا نظرتهم إلى شيء نادر الوجود. أديتُ صلاتي متوجهًا إلى ضفة الميناء. كان سطح البحر وهَّاجًا بسبب سقوط أشعة الغروب عليه. ظللتُ لفترة طويلة أُصلِّي. ولكن البحر ظل كما هو عليه من حال، تملؤه المياه، وأمواجه المتدفقة ترمي بنفسها إلى الشاطئ بلا أية مبالاة بنا.
ولكننا لم نيأس؛ فمن المؤكد أن «السيد المسيح» كان ينتظر وصول كل الجموع هنا.
الأطفال يصلون تباعًا. الجميع في إرهاق بالغ، بل إن البعض منهم أصابه المرض العُضال. انتظرنا عدة أيام بلا طائل، وفي النهاية لم ينشطر البحر.
عندها اقترب رجل يبدو عليه الإيمان الشديد، وعرض علينا الصدقات. وعلاوة على ذلك قال بشيء من الحياء إنه يريد أن ينال مجد اصطحابنا على سفينته الخاصة به، والذهاب بنا إلى أورشليم. نصفُنا تردَّد في ركوب السفينة، ولكن النصف الآخر، وأنا منهم، تشجَّع وركب السفينة.
لم تتجه السفينة إلى الأرض المقدسة، ولكنها اتجهت جنوبًا، ثم وصلت إلى الإسكندرية في مصر. وهناك تم بيعنا جميعًا في سوق العبيد.»
صمت أنري لفترة. كان وكأنه يستعيد ذكريات ذلك الأسى والخزي.
في السماء كان قد بدأ بالفعل الشفق الرائع في أواخر الصيف، سحب السردين تحولت تمامًا إلى اللون الأحمر، وكانت هناك سحب كأنها طائرات ورقية حمراء وصفراء طويلة قد امتدت بالعرض. أما البحر؛ فكان مثل الموقد الذي يزيد السماء اشتعالًا. بل وحتى الأشجار والأعشاب المحيطة بالمكان قد عكست لهيبَ السماء. صار لونها الأخضر أكثر بهرجةً وتألقًا.
كلمات أنري كانت موجهة بالفعل نحو شفق الغروب مباشرة، وكأنه يخاطب بحديثه الشفق. ويُرى في عينيه البحر المتوهج، ومعه مناظر من بلده ووجوه أهاليها. بل ويُرى كذلك منظره وهو فتًى صغير. ويُرى أصدقاؤه من رعاة الغنم. في يوم حار من أيام الصيف، قد خلعوا قمصانهم المتواضعة كاشفين عن أحد الأكتاف؛ فظهرت حلمات أثدائهم الوردية وسط صدورهم البيضاء اللون. وجوه فتيان الجيش الصليبي السري الذين ماتوا أو قُتلوا، برزت متجمعة على سطح البحر الذي يعكس شفق الغروب. نعم كانوا بدون خوذات حربية، ولكن شعورهم الذهبية والبُنية بدتْ مع انعكاس الشفق، وكأنها خوذات من لهب ارتدوها فوق رءُوسهم.
الفتيان الذين تبقَّوا على قيد الحياة تفرقوا في أنحاء الأرض الأربعة. وخلال مسيرته الطويلة في الرق، لم يلتقِ أنري ولو مرة بشخص يعرفه. وحتى أورشليم التي طالما اشتاق إليها، كان من المحال زيارتها.
أصبح أنري عبدًا لدى تاجر فارسي، ثم بِيع بعد ذلك وأُخذ إلى الهند، وهناك سمع عن شائعة غزو باتو خان حفيد جنكيز خان للغرب. وبكى أنري وهو يفكر في الخطر الذي فاجأ وطنه.
وقتها كان الراهب دايكاكو زينجي قد أتى الهند؛ لدراسة البوذية. ومن خلال صُدفة حسنة حصل أنري على حريته بواسطة نفوذ الراهب زينجي، وبعدها عقد عزمه على خدمة الراهب زينجي بقيةَ عمره ردًّا للجميل، وخدمه في موطنه الأصلي. فعندما عبر الراهب البحر إلى اليابان توسل إليه أنري أن يصحبه معه، وهكذا جاء مع الراهب زينجي إلى اليابان.
الآن يسكن قلب أنري السلام والهدوء. فمنذ زمن بعيد كان قد تخلى عن الرغبة العديمة الجدوى بالعودة إلى وطنه، وقد وطَّن قلبه على أن عظامه ستُدفن في تراب اليابان. وهو قد أنصت جيدًا إلى وعظ معلمه؛ فأصبح لا يُلح في طلب الآخرة بلا طائل، ولا ينجذب إلى بلدٍ لم يرَها بعدُ. ورغم ذلك، فعندما تصطبغ سماء الصيف بشفَق الغروب، ويتألق البحر بالحمرة، تتحرك قدماه تلقائيًّا، ولا يستطيع منع نفسه من تسلُّق قمة جبل «شوجوغاتاكه».
ينظر أنري إلى شفق السماء ثم ينظر إلى انعكاسه في البحر. وعندها لا يقدر أنري على كتمان ذكرى إحدى العجائب التي رآها بشكل مؤكد لمرة واحدة فقط في بداية عمره. تلك المعجزة، ذلك الشيء المجهول المؤدي إلى الأمنية الكبيرة، تلك القوة الخارقة التي قادتهم جميعًا إلى مارسيليا، غرابة ذلك الأمر، لا يستطيع إلَّا معاودة التأكد مرة أخرى. ثم في النهاية يفكر في البحر الذي لم ينشطر حتى النهاية، رغم صلاته عند ثغر مارسيليا محاطًا بعدد كبير من الأطفال، بل البحر يتلألأ بأشعة شمس الغروب في هدوء، ويرسل أمواجه المتتابعة.
لا يستطيع أنري تذكر متى فقد إيمانه؟ ولكن الأمر الذي يتذكره بغاية الوضوح الآن هو أعجوبة البحر العاكس لأشعة الغروب الذي مهما صلَّى ودعا لم ينشطِر إلى نصفين. تلك الحقيقة التي تفوق وَهْم المعجزة ذاتها في غرابتها. تلك الدهشة التي اعترت قلب الفتى الذي قابل شبح المسيح بلا اندهاش، عندما واجه وقت الشفق البحر الذي يرفض تمامًا أن ينشطر.
نظر أنري إلى أفق البحر عند رأس إيناموراغاساكي البعيد، أنري الذي فقد إيمانه، لا يصدق الآن أن هذا البحر يمكن أن ينشطر إلى نصفين أبدًا. ولكن تلك الروحانية التي لا يمكن فهمها حتى الآن، والفشل وقتها الذي لم يكن ليتخيله، إنها تُخفي سرًّا داخل البحر المتألق بصبغة شديدة الاحمرار، ذلك البحر الذي لم ينشطر في النهاية.
على الأرجح لو كان للبحر أن ينشطر إلى نصفين مرة واحدة في حياة أنري بأكملها، لكان يجب عليه ألا يفعلها في تلك اللحظة. حتى في مثل تلك اللحظة، حدثت تلك الأعجوبة عندما امتد البحر المتوهج في لهَب الغروب صامتًا.
ظل راهب المعبد العجوز صامتًا بلا حراك. انعكس وهَج الغروب على شعره الأبيض الأشعث، وتلألأت في مقلتيه الصافيتين نقطة حمراء.
بدأت شمس أواخر الصيف تغطس في ناحية رأس إيناموراغاساكي، وأصبح البحر وكأنه ينزف تيارًا من الدم.
يتذكر أنري الماضي، يتذكر مناظر وطنه وبني وطنه. ولكنه الآن لا توجد لديه رغبة بالعودة. والسبب أن كل تلك الأشياء؛ سيڤين والخرفان، ووطنه كلهم اختفوا داخل البحر المتوهج بلهب الغروب. لقد اختفى كل ذلك في ذات اللحظة التي لم ينشطر فيها البحر إلى نصفين.
ولكن أنري لا يبعد نظره عن منظر البحر في وقت الغروب، وهو يتحول مغيرًا لونه مع كل لحظة، ويكتمل احتراقه شيئًا فشيئًا حتى يصير في النهاية رمادًا.
أخيرًا اجتاحت الظلال أشجار وحشائش جبل شوجوغاتاكه، مما جعلها على العكس تظهر بجلاء ملامح الأشجار وعروق الأوراق الخارجية. وقد غرق العدد الأكبر من الأبراج في ظلام الغسق.
هجمت الظلال على قدمَيْ أنري، وفي لمح البصر فقدت السماء فوق رأسه لونَها، وصارت بلون أزرق غامق يغلب عليه اللون الرمادي. ما زال تألق السماء فوق البحر البعيد باقيًا، ولكنه ليس إلا انعكاسَ خطٍّ نحيل منكمش باللونين الذهبي والأحمر على سماء الغسق.
وعندها تردد من بين قدمي أنري القابع في مكانه صدَى ناقوس عميق. إنها الدقة الأولى لناقوس البرج في بطن الجبل معلنةً قدوم الليل.
أحدث صوت الناقوس موجات رقيقة، كأن تلك الموجات تجعل ظلام الغروب الصاعد من سفح الجبل يهتز وينتشر في الجهات الأربع. اهتزازات ذلك الصوت الفخيمة، لم تكن تُبلغ بالوقت فقط، بل كانت كأنها تقوم بإذابة الزمن في التوِّ والحال، ثم تحمله بعيدًا في غيابة الأبد.
أغمض أنرى عينيه ليستمع إلى ذلك الصوت. وعندما فتح عينيه، وجد نفسه قد غرق في ظلام ما بعد الغروب، ولم يعُد خط الأفق البحري البعيد يُرى بوضوح، وصار لونه رماديًّا باهتًا. لقد انتهى شفق الغروب تمامًا.
وعندما التفت أنري تجاه الفتى ليحثه على التحرك من أجل العودة إلى المعبد، كان الفتى قد شبك ذراعيه حول ركبتيه ووضع رأسه فوقهما، وراح في سبات عميق.