التاجر
إن من يزور الدير منطلقًا بالسيارة من مدينة «ﻫ»، ويصعد إلى قمة الهضبة التي تحيط بها أزهار الليلك في الربيع وأزهار الزنبق في الصيف، لا شك أنه سيجد متعة عندما يشاهد فجأة هذا المبنى المهيب الذي لا يمت لليابان بصلة إلى هذه الدرجة. ولأن أي شخص لديه علم مسبق، فهو على الأقل يعرف أن تلك الجنة المحرمة، المعزولة عن هذا العالم. ولأنه يأتي وهو يعي عدم قدرته على رؤية الدير من الداخل، ولكن عدم القدرة على الرؤية تلك تجعل خياله متنوعًا ويتزين بسحر غامض.
ورغم السير بالسيارة لمدة ثلاثين دقيقة لزيارة الدير، ومع عدم القدرة على الدخول إلا إلى جزء ضئيل من البوابة الخارجية، فإن هذا المنع على العكس يزيد من شعبية المكان، ولا ينقطع طابور الزائرين؛ ولذا فالدير لا تنقطع عنه التبرعات والنذور.
توجد مقالة لكاتبة شهيرة استطاعت في الماضي الوصول لداخل الدير بعد حصولها على وساطة خاصة. ومؤخرًا صدر كتاب يجمع صورًا التقطها مصور محترف سُمِح له بالتصوير بدعوة خاصة. من يريد مشاهدة ما بداخل الدير فعليه بتلك الكتب.
ولكن لا يُعتقد أن مثل هذه الكتب والصور التي تبدو واقعية بدرجة كبيرة، ترضي الزوار الذين يأتون إلى البوابة الخارجية للدير، وهم يعلمون تمام العلم عدم جدوى ذلك؛ ولذا فهم «مستمرون في المجيء» على أي حال.
كان شهر يونيو في تلك الأرض التي لا يوجد بها موسم أمطار، هو موسم تفتح زهور الزنبق، تحت سماء زرقاء مثيرة للقلق.
قرب الظهيرة، صعدت سيارة «ليموزين» فاخرة من ناحية مدينة «ﻫ» إلى هضبة الدير، يستقل السيارة رجل وجيه متوسط العمر يغرق في الملابس السوداء رغم الصيف، وشاب يضع على عينيه نظارة طبية، هو على ما يبدو دليله للمكان.
الرجل الوجيه لا تشوب منظره شائبة. فهو ذو بشرة سوداء، شحيم الجسد، وتبدو عليه الثقافة والعلم، ويظهر بوضوح أنه من الأغيار. يملك وجهًا معرفيًّا مختارًا، يُخفي في أعماقه همجية شرقية. جاء هذا الأستاذ الجامعي إلى هذه المنطقة من أجل إلقاء محاضرات سريعة، وقد اتخذ تلميذه القديم الذي يعمل حاليًّا محاضرًا في جامعة تلك المدينة، كدليل له في الزيارة، وهما الآن على وشك زيارة الدير.
زهور الزنبق الكثيفة التي تنعكس على نوافذ السيارة تميل مع الرياح، وتملأ السيارة من الداخل برائحة لا يمكن وصفها.
– «كح كح كح.»
أصدر الأستاذ الجامعي نحنحة من أنفه الشامخ: «كح كح كح.»
تبع التلميذ أستاذه بتأدب حقيقي.
قال الأستاذ: «بدأت رائحة الجنة تهل تدريجيًّا.»
رد التلميذ الذي هو من الأغيار: «بهذه الرائحة، يتم في البداية شل العقل عن التفكير.»
شرح الأستاذ قائلًا: «استثارة الحواس التي تذكرنا نحن البشر العاديين بالرغبة المكبوتة، لا بد وأنها تُوقِظ الآمال العظيمة لدى المؤمنين. انظر إلى هذا السور البالغ العلو.»
أشار الأستاذ إلى السور العالي المبني من الطوب، الذي له لون يقترب من الأبيض، والذي يحيط بكامل الهضبة. وكأن الأستاذ قد أصبح هو الذي يؤدي دور الدليل، فمن الأصل هذا الرجل لا يحتاج إلى دليل.
– «سور هائل. إنه سور ضخم للغاية لا يمكن رؤية مثله إلا في السجون، هل يعتقدون أنهم يقدرون على حجب هذه الدنيا عن الدير في عصر الطائرات والقنابل الذرية؟! إذا كان القصد أن يكون سياجًا فكريًّا أو رمزيًّا؛ فلا توجد حاجة لمثل هذا السور الحجري الحقيقي. ورغم ذلك هل فعلًا ما يوجد داخل هذا السور هو دير «تنشيئن» حقًّا؟ أم هي الجنة؟ أم على العكس هو مجرد عالم إنساني مختلف قليلًا؟»
تجمَّد تلميذه الشاب تمامًا أمام هذا السؤال البالغ العمق الرفيع الذوق في الوقت نفسه.
– «نعم؛ ففي أوروبا في العصور الوسطى، كانوا جميعًا يعيشون داخل مثل هذا السور، وإن كانت توجد اختلافات في الدرجة فقط.»
– «ولكن كانت هناك مذابح كذلك.»
– «وكانت هناك أمراض. وحتى في هذا الدير، فلا يوجد أي اهتمام بالتغذية الصحية؛ لذا يُقال إن هناك عددًا كبير يموت بالسل.»
قطَّب الأستاذ حاجبيه بشكل مُلفت.
– «أنت، هذا أمر لا يُغتفر، أمر لا يمكن السكوت عليه. من المفترض أن الكاثوليكية تُحرِّم الانتحار، ورَفْضُ نعمة الطب الحديث، هو انتحار بالمعنى الكامل. يجب على العلم أن يفعل المستحيل ويقتحم هذا السور بلا تردد ويقتحم هذا الدير. وهنا بالنسبة للعلم يتطابق تمامًا موقف الإنسان صاحب غزيرة الفضول الذي يريد أن يدخل الدير ليعرف، والإنسان الذي يريد إشفاء المرضى بدافع إنساني.»
أثناء ذلك الحديث، كانت السيارة قد توقفت بالفعل على جانب الطريق ذي الأشجار الكثيفة بجوار السور وقال السائق: «السيارة لا يمكنها الدخول لأبعد من ذلك؛ لذا سأنتظر هنا.»
مسح الاثنان عرَقهما أكثر من مرة، وهما يصعدان الدرج الحجري، وهما ينكسران مع ظلال الأشجار.
– «زيارة المعابد والأديرة شيء جيد، ولكني أعاني دائمًا من استمرار هذه الدرجات بلا نهاية.»
– «هذا الأمر لا يوجد فيه فارق كبير بين الشرق والغرب.»
– «هل يوجد مصلحة لهم بإجبارنا، نحن غير المؤمنين، على هذه المعاناة؟»
أخيرًا وصلا إلى البوابة التي عليها لوح برونزي منقوش فيه بالعرض كلمة «تنشيئن». دخلا من البوابة وقدم المحاضر الشاب طلبًا بالزيارة إلى غرفة الحراسة الواقعة بجوار البوابة مباشرة.
ظهرت مساعدة راهبة شابة ممتلئة الجسد، وهي تبتسم. لا تدل هذه الابتسامة على السرور بقدر ما هي علامة تقول: أنا لا أحمل تجاهك أية عواطف أو مشاعر.
تقدمت مساعدة الراهبة أمامهما لإرشادهما، فدخل الاثنان الحديقة الأمامية لدير «تنشيئن».
يوجد هناك درجات حجرية بيضاء في غاية الجمال، تلتفُّ حول نجيل أخضر وشُجيرات جانبية تم تقصيفها بعناية ونظافة، صاعدة ناحية قاعة الصلاة. لا توجد زهور، ولكن فقط يتردد طنين أجنحة النحل الثقيل هنا وهناك. بالإضافة إلى ذلك يرتفع سور الحديقة الداخلية عاليًا، وكذلك أسطح المباني المَهيبة لصالة القُدَّاس وأماكن مبيت الراهبات التي تعلوها الصلبان، ترتفع شامخة خلف السور حاجبة السماء الزرقاء البعيدة.
كان الهدوء شاملًا. ثَنَتْ مساعدة الراهبة ركبتَيْها قليلًا، أمام تمثال العذراء المقام في أحد أركان السور، ورسمت الصليب على صدرها.
بدأت درجة الحرارة في أيام الصيف تلك ترتفع بعض الشيء. تدخل أشعة الشمس حتى داخل الأشجار الطبيعية التي تزين جانبَي الدرج الحجري؛ لتجعل الظلال المتشابكة بحس مرهف مع الأوراق والفروع، تتراكم فوق بعضها في طبقات تحت انعكاس السطح المقصوص بأشكال مربعة.
توجد نسمات خفيفة لم تُلحظ من قبل، في وسط الهواء الرائق الصافي بشكل لا مثيل له، تضرب تلك النسمات الخفيفة أحيانًا الجبهة، وكأنها رفرفة جناح طائر. ومع كل ضربة باردة من تلك النسمات، كانت الروح كأنها تستقبل ضربة سوط رائعة منعشة.
لم تتكلم مساعدة الراهبة كثيرًا. فتحت بوابة ثقيلة منحوتة من الخشب، وقادتهما إلى غرفة واسعة موحشة مزينة بلوحات ملونة. كانت تلك هي الحدود التي تربط ما خارج دير «تنشيئن» بما داخله.
– «يمكن مشاهدة صالة القُدَّاس من هذا المكان.»
قالت ذلك، وهي تفتح مصراعي باب ناحية الحائط، فظهرت نافذة مثبت بها أسياخ حديدية طولًا وعرضًا. ومن خلالها شوهد ظلام يوجد فيه شيء ما يتلألأ.
ألقى البروفيسور نظرة بلا اهتمام ناحية المذبح المزيَّن بتمثال للعذراء داخل صالة القُدَّاس. عند النظر من النافذة ذات الأسياخ، وفي عمق الناحية اليمنى منها، يمكن رؤية ذلك المذبح ذي اللون الذهبي المتوهج الذي يعطي ظهره لكوة مزينة بالورد.
جذبت عيون البروفيسور الواسعة التي تبرز للخارج قليلًا، الجفون الضيقة بالقوة، وبدت وكأنها ترغب في الهروب خارج محجريهما.
دار البروفيسور ببصره، ناحية الجهة اليمنى من عمق النافذة ذات الأسياخ، ثم حملق ناحيتها طويلًا.
كان يتكوَّن على سطح الحائط هناك ظلٌّ مهيبٌ صارمٌ لأسياخ النافذة ومتعامدٌ عليها. كان الظلام عميقًا، ولا يُرى خلف الأسياخ إلا أن المقاعد الخشبية موزَّعة بانتظام في صفوف بشكل ضبابي فقط. وما هو أبعد من ذلك كان غارقًا في الظلام، ولا يُرى منه شيءٌ.
ولأن البروفيسور ظل وقتًا طويلًا ينتظر رؤية شيء ما، فقد ظن أنه رأى شخصًا بملابس بيضاء يمر بالعرض بخُطًى متسارعة، وقد أمال رأسه إلى أسفل. ولكنه لم يسمع صوت القبقاب، بلا شك هو من وهم خيال عينيه.
لم يبقَ بعد ذلك سوى حجرة فيها ما يشبه الهدايا والأشياء العادية من الأعمال اليدوية التي تصنعها راهبات الدير من قَش الشعير؛ مثل: العرائس وحامل كروت البريد. وبهذا كانت الزيارة تقريبًا قد انتهت.
كل ذلك لم يستغرق إلا نحو عشر دقائق. كان ذلك فقط هو ما يمكن للزوار رؤيته.
خرج الاثنان من بوابة دير «تنشيئن» بعد انحناءة في غاية الأدب، ثم هبطا الدرج الحجري. وفورًا بدأ التهامس بالشتائم. المحاضر الشاب كان قد اعتاد ذلك بسبب كثرة مجيئه دليلًا لمعارفه وأصدقائه، ولكن البروفيسور كان قد أحسَّ أنه قد خُدع بعد أن تم استدراجه بطُعم جيد الشكل.
فقام بضرب السور العالي المصنوع من الطوب المحاذي للدرج الحجري بقبضة يده معبرًا عن غضب عارم: «هل هذه هي الجنة الأرضية؟»
التلميذ الذي أُحسن تأديبه، أظهر أقصى ما يستطيع من ملامح الموافقة والتأييد: «الخلاصة هي: أن الأديان جميعها عبارة عن نوع من أنواع الخيال.»
عندما هَمَّا بركوب السيارة الفاخرة التي كانت قد غيرت اتجاهها، شاهد البروفيسور شيئًا غريبًا، فقام بطرق كتف تلميذه. نظر التلميذ في ذلك الاتجاه، فاستدارت عيونه من الدهشة.
دراجة عادية تصعد هضبة سوزوران، قادمة في اتجاههما. يقودها رجل قصير، ممتلئ الجسد قليلًا، يرتدي معطفًا. وقد أمسك تحت إبطه سُلَّما طويلًا بشكل أفقي. يجري السُّلَّم فوق حقول الزنبق، وهو يسقط أحيانًا بعنف كئُوس زهور الزنبق. ولأن ذلك السلم ظهر كأنه فقد التناسق مع الرجل القصير، فقد بدا المشهد وكأن السلم هو الذي يقود الدراجة بكل قواه ويصعد بها الهضبة.
ولما بدا أن الدراجة قادمةٌ في اتجاههما، فقد توقف الرجلان عن ركوب السيارة، وظلَّا يتأملانها في فضول كبير.
أخيرًا وصل السلم والدراجة والرجل القصير أمام الرجلين. لم يكن من الممكن معرفة عمر الرجل القصير بدقة. رأسه أصلع قليلًا من الأمام، وتدلَّت جوانب العيون، ولحم الخد مرتخٍ قليلًا، ولكن داخل الفم الذي يلهث، تصطف أسنانه الكبيرة القوية في تشوُّهٍ، وبشرته تلمع في صحة بدرجة كبيرة. قام الرجل القصير بمسح وجهه بمنديل، وبدا وكأنه يمسح مزهرية كبيرة دائرية بشكل مهمل وسريع.
نادى الرجل القصير: «أيها السيد!»
– «ماذا تريد؟»
هكذا أجاب البروفيسور بجدية، وقد جعل مقدمة عينيه تبرز من الجفون.
– «أنت شخص محظوظ يا سيدي؛ فأنت أول زبون لي بعد أن فكرت وقررت أن أمارس هذا العمل وأفتتحه اليوم.»
– «هل تنوي أن تبيع لي ذلك السلم؟»
– «كلا فأنا لا أبيع «عُدَّة الشغل»، ألا تريد يا سيدي أن ترى ما بداخل الدير؟ لقد درست وبحثت كثيرًا حتى وجدت أفضل مكان لوضع هذا السلم. أجرة الصعود على السلم مائة «ين» للفرد، ولكن مقابل ذلك واحتفالًا بافتتاح العمل؛ فإن المدة التي تقتصر على خمس دقائق سأمدها لعشر دقائق. وبعد ذلك …»
قال الرجل القصير ذلك، وهو يخرج منظارًا مكبرًا، شكله قديم للغاية من جيب المعطف المنتفخ، وقام بمسحه مسحة سريعة بالمنديل السابق الذكر الممتلئ بالعرق.
– «أجرة تأجير المنظار المكبر هذا مائة «ين» للفرد الواحد. ماذا ترى؟ بهذا الثمن البخس ستستطيع النظر إلى دير تنشيئن بأكمله.»
– «غالٍ!»
قال البروفيسور ذلك ساخطًا.
– «غالٍ!»
قال التلميذ ذلك بهدوء من وجهة نظر اقتصادية بحتة.
– «بل إنه رخيص. يا سيدي.»
أصر الرجل القصير على ذلك بوجهٍ منعش.
– «ضع يدك على صدرك وفكر قليلًا. ستجده ثمنًا رخيصًا؛ فستستطيع رؤية ما لا يستطيع جلالة الإمبراطور نفسه رؤيته.»
حاول الرجلان بأشكال متعددة تخفيض السعر، ولكن الرجل القصير تصلَّب في موقفه. أخيرًا أخرج البروفيسور أربع أوراق نقدية من فئة المائة «ين» من حافظة النقود، ودفعها إلى يد الرجل القصير، ثم حوَّل نظره إلى تلميذه قائلًا له بزهو ونشوة: «مقابل ذلك ستأتي أنت أيضًا. يجب أن تكون أنت كذلك شريكًا في الجريمة. في الأغلب الفضيحة إذا وجد لها شريك، يكون من الصعب إفشاؤها.»
حسنًا، سار الاثنان وراء الرجل القصير الذي حمل السلم، ونزل المنحدر دافعًا الدراجة. كانت الطريق تدور منحدرة بهبوط بمحاذاة السور وسط أشعة الشمس المتسللة من بين الأشجار، وتؤدي في النهاية إلى ركن موحش ومنعزل عن الناس. كان المكان مظلمًا قليلًا ومحاطًا بمنحدر مائل، وتتراكم فيه أوراق ساقطة من الأشجار في العام الماضي مملوءة بالرطوبة. ويبدو أن جزءًا من السور منهار، والأرض بها ارتفاع ضئيل، فكان السور مدفونًا حتى منتصفه في الأرض في ذلك المكان فقط.
أسند الرجل القصير السلم على السور، فوصل بالضبط إلى قمة السور، ثم أعطى البروفيسور المنظار المكبر، وفجأة انحنى ليحتضن أرجل السلم من أسفل. الجسم الصغير المكتنز بالشحوم أعطى السلم اتزانًا عجيبًا.
كذلك أمسك التلميذ السلم بيديه، وقام البروفيسور بثني طرف بنطلونه الأسود، وبدأ يتسلق السلم في بطريقة لا غبار عليها.
•••
أصبحت تجارة الرجل القصير بهذا الحال مبشرة بالنجاح؛ فالزبائن الذين يهبطون السلم وفي إحدى يديهم المنظار المكبر، يبدو عليهم جميعًا الرضا الكامل، عادة ما تتألق أعينهم، وكذلك كان البروفيسور. حتى على فرض أنهم لم يستطيعوا رؤية شيء ذي قيمة؛ فمجرد التلصص على مكان يخاف من فيه من التعرض للرؤية إلى تلك الدرجة، به من متعة الانتقام ما يجعل سعر خمس دقائق بمائة ين، ثمنًا رخيصًا.
في الأيام التالية كان الرجل القصير قد اتفق مع المرشد السياحي للمجموعات السياحية، ووعد المرشد أن يجعل له نسبة.
وبهذا الشكل، في أيام الصيف المشمسة، من الصباح وحتى وقت الغروب، يتسلق السلم في الجانب الخلفي من سور دير «تنشيئن»، عشرات الرجال في بعض الأحيان، ممسكين في إحدى يديهم بالمنظار المكبر، ويهبطون السلم وملامح وجوههم تمتلئ برضًا لا يمكن التعبير عنه.
لا يمكنك مطلقًا أن ترى على وجوه من يزور الدير من الأمام فقط تلك الملامح أثناء عودته.
واتفاق الرجل القصير مع المرشد السياحي، قد أبعد عنه التعرض لزبائن خطرين مثل: موظفي البلدية أو رجال الشرطة. خلال أسبوع كامل كان كل شيء في تجارة الرجل القصير يسير على ما يرام.
حتى جاء اليوم السابع.
رجل الشرطة الشاب الذي يقيم في بلدة «ي» القريبة. مر في طريق عودته من تحريات عن السجل المدني، على الجانب الخلفي من الدير، واكتشف سلمًا عجيبًا مستندًا على السور العالي وسط أشعة الشمس المتسللة من بين الأشجار.
بدا له السلم طبيعيًّا بين الأشجار المتناثرة، وكأنه الشيء الذي يجب أن يكون في المكان الذي يجب أن يكون فيه. استمر الشرطي في سيره دون أن يعيره باله، ولكنه عاد كرة أخرى لرؤيته بمجرد دافع من الفضول فقط. نظر شاردًا من خلال الفراغات في غابة الأشجار إلى هناك.
أسفل السلم كان الرجل القصير يجثو ليسند السلم بكل قواه. وفي أقصى الطرف العلوي للسلم رجلٌ يرتدي بذلة، يقلص كتفيه ويحرك المنظار هنا وهناك. ثم على جانبي السلم من اليمين رجل تتدلى كاميرا من كتفه، وعلى الجانب الآخر رجل يحمل حقيبة يدوية ينظران بحماس إلى الرجل أعلى السلم. وأحدهما يضع يده على جبهته؛ ليحمي عينه من أشعة شمس الغروب.
اعتقد الشرطي الشاب أن ما يراه لوحة عجيبة. وبعدها انتبه فجأة.
– «تلك بالتأكيد جريمة.»
ولكن الشرطي كانت لديه فطنة وفراسة لا تتناسب مع صغر سنه؛ ولذا ظل بعد ذلك يفكر في الأمر على مهل. ثم هبط الرجل من على السلم، وفي اللحظة ذاتها التي هم الرجل التالي على صعود السلم، أظهر الشرطي فجأة نفسه بملابسه الرسمية تلك.
الرجل الذي انتبه إلى ذلك جذب بقوة الرجل الذي على وشك الصعود على السلم من معطفه، وهرب الزبائن الثلاثة مسرعين.
قال الشرطي الشاب: «ماذا تفعل؟! يا له من عقل شرير جعلك تفكر في هذا العمل الخسيس! تعالَ معي لقسم الشرطة!»
سار الرجلان ببطء، وهما يدفعان دراجتيهما فوق هضبة سوزوران التي تغمرها أشعة شمس الغروب. الرجل القصير كان قد ألصق السلم في الدراجة؛ ولذا عندما يأتي منحنًى كان على دراجة الشرطي أن تفسح له الطريق بدرجة كبيرة.
لم يكن وجه الرجل القصير مألوفًا لذاكرة الشرطي الشاب. لم يحدث الرجل القصير ضجة بدرجة قوية، ولكنه فقط ظل يردد مقولة واحدة مرة بعد أخرى هي: «أنا لا ذنب لي.»
ازدادت رائحة زهور الزنبق قوة، فأحس الشرطي بِدُوار خفيف. وعلاوة على ذلك تطير حشرات الخنفساء والنحل بكميات كبيرة، ويستقبل دير تنشيئن شمس المغيب من الخلف، مما يجعل مبانيه تتألق في كل ركن من أركانها.
– «أنا لا ذنب لي.»
أصر الرجل القصير على قوله مرة ثانية برباطة جأشٍ، وهنا فقَدَ الشرطي أعصابه، وأصبح صارمًا في توجيه الأسئلة.
– «ما تقصد بقولك لا ذنب لك؟! وأنت تقوم بهذا العمل المخالف للقانون؟»
– «أجل، أنا الوحيد الذي بلا ذنب؛ فأنا لا أنظر».
ضحك الرجل الصغير قليلًا، وقد أبرز أسنانه الكبيرة القوية المشوَّهة.
– «لا تنظر إلى ماذا؟»
– «إلى ما داخل دير تنشيئن.»
– «لا تكذب. أليس أنت من أحضر السلم، وأتى ليبحث عن مكان مناسب يضع عليه السلم؟»
– «نعم هو كذلك، ولكن أنا لم يسبق لي الصعود فوق سلمي قط.»
– «أحقًّا ما تقول؟! هل حقًّا لا تنظر للداخل؟»
كان الشرطي صادقًا في نبرة صوته المخذولة.
– «لا، لا أنظر مطلقًا.»
– «لماذا لم تنظر؟ هل لاعتقادك أن ذلك جريمة؟»
– «لا.»
– «إذن، لماذا؟»
نظر الرجل الصغير إلى الشرطي بعينٍ شاردة قليلًا. ولكن تلك الإجابة الممتلئة بالثقة أدهشت الشرطي.
– «إنني لم أشعر أبدًا بأية رغبة في النظر.»