عمر التاسعة عشرة
دائمًا ما يتوقف «سيئتشي» لمدة قصيرة، أثناء ذهابه في الطريق لتوصيل الفحم للزبائن، بدراجته التي تجر عربة «كارو» أمام ذلك السياج. من محل فحم والده وحتى ذلك المكان، تلاحق أذنيه أصواتُ قطع الفحم التي تحتك مع بعضها البعض مع كل هزة لعربة «كارو»، وكأنها تتهامس بأسرار بسيطة.
توجد قاطرة لونها أسود شديد السواد متوقفة، تُخرج أبخرة دخان شفَّاف قليلًا، يجعل السماء الزرقاء خلفه منبعجة.
النظر إلى ذلك المشهد، جعل سيئتشي يتذكر حاله منذ عامين مضَيَا، وهو يهرب مقيَّد اليدين، متخطيًا تلك الخطوط المعقدة في يأس تام.
أدار سيئتشي بصره حول المكان. أشعة شمس الصباح في هذا الشتاء، تملأ بأريحية الساحة الأمامية للمحطة التي يتوجه إليها الموظفون المتجهون إلى أعمالهم زمرًا. هذا المكان هو موقع تجمُّع صغار رجال العصابات. في صيف العام الماضي شهد هذا المكان واقعة القبض على أكثر من ستين فردًا منهم.
يشاهد سيئتشي آثار ماضيه في أماكن عديدة. رغم أنه في سن التاسعة عشرة من العمر، فإنه بسبب ما رأى وجرَّب من تقلبات الحياة حتى الآن، يشعر وكأنه عجوز في سن صغير. يوجد على صدره شارة المواطن الصالح. إنها علامة انتمائه إلى إدارة الإطفاء التطوعية في شرطة البلدية.
في بعض الأحيان، يحس بمشاعر سعيدة محتواها: «أنا إنسان تائب.» ولكن اعتقاده هذا يجرح كبرياءه قليلًا.
يقول له الجميع إن حياته الحقيقية ستبدأ حقًّا من الآن فصاعدا. حياة البشر العاديين، ولكن هناك أوقاتًا يعتقد فيها سيئتشي أن حياته قد انتهت بالفعل. وعند ذهابه كل ليلة إلى الحمام العمومي، ويشاهد وجهَه الناضرَ المشرقَ ذا التسعة عشر ربيعًا، بعد أن يسقط مسحوق الفحم عنه، المنعكس في المرآة. يفكر ابن بائع الفحم هذا، فيما هي يا تُرى تلك الحياة التي بددها بنفسه. يفكر ما هو الشيء الذي مر عليه كالرياح دون أن يترك أي جرح، أو أية آثار لخدش؟!
يمارس سيئتشي رياضة «البيسبول»، في أيام الآحاد من كل أسبوع، وأحيانًا يذهب إلى السينما. وكان يحب مشاهدة أفلام الغرب الأمريكي، وإذا لم يجدها، فهو يعشق الأفلام التي تدور حول الأمومة. بعد أن ترك الدراسة في المدرسة الثانوية، ذات النظام الجديد، قبل أن يتخرج منها، أصبح غير مضطرٍّ إلى الذهاب إلى مدارس بعد ذلك. فقد كان والده على الأغلب مرتاحًا لرؤية ولده يجتهد في توصيل طلبات الفحم.
ولكن في الليل عندما ينام في سريره وحيدًا، يكون متوقد الذهن مثل الكلب، أحيانًا ما تشع عيناه، وتكون آذانه صاغية. يشعر كأن أصدقاء الليل ينادون عليه من قلب ظلام الليل. أصدقاؤه الأحياء والأموات.
من خلف سلك النافذة، ينادي عليه أحدهم، وهو يجري بشكل زائد عن الحد.
– «هيا نذهب يا صاحِ.»
بالتأكيد سينتفض قائمًا.
– «حسنًا. لنذهب!»
يذهب، ثم تكون هذه المرة التي لا يعود بعدها أبدًا.
حتى ذلك الحين، كان الفراش دافئًا وآمنًا. ولكن إذا جاء نداء عبر سلك النافذة في ليلة ما، سينتفض قائمًا، ويقوم بالجري لكي يصبح مرة أخرى إنسانًا لا يرغب فيه أحد.
•••
يوجد بجوار منزل سيئتشي منطقة عشوائية للفقراء في مواجهة نُهير صغير قذر. في أحد المرات عندما كان يمر بالحي، أعطى طفلة صغيرة، كانت دائمًا تبدو جائعة، خبزًا بطعم البطاطا. وعندما مر في اليوم التالي كانت الرغبة في الطعام تبدو على وجهها؛ فأصبحت عادته اليومية هي إعطاء تلك الطفلة بعض الخبز.
وفي يوم من الأيام، قالت الطفلة بعد أن أخذت خبز البطاطا: «المرة القادمة أريد خبزًا بطعم الشكولاتة.»
– «لا تتحدثي بهذا الترف.»
في نفس اللحظة، مر بالمكان رسام يرسم بالفحم، كان سيئتشي يقوم بتوصيل الفحم إليه كثيرًا. أراد ذلك الرسام أن يرسم حوار سيئتشي مع تلك الطفلة الصغيرة في لوحة.
– «أهلًا. أنت الذي تقوم بتوصيل الفحم لمنزلي، أليس كذلك؟ هل تقبل أن تظل ثابتًا على هذا الوضع قليلًا؟ سأقوم الآن برسم مخطط رسم لك على وجه السرعة.»
تتمايل الأعشاب الذابلة على ضِفَّتي النهر، وتتراكم النفايات مكوِّنة تلالًا، ولكن الجو مُشمِس ورائع حقًّا، وتلمع عبوات المعلبات الفارغة بأشعة الشمس الصافية، كأنها ترصع النفايات المتراكمة بالجواهر. كانت تلال النفايات تلك تنعكس في عيون الرسام في شكل جمالي. غطاء الصندوق المعدني الكبير المشوه يعكس السماء الزرقاء، وكان كأنه نافذة مفتوحة لكتل القمامة المتراكمة. وفي الجانب الآخر يوجد النهير. نهر صغير ضحل قذر قبيح المنظر، تعيق انسيابه كميات كبيرة من القاذورات. ورغم ذلك؛ فالنهر يعكس أشعة شمس الشتاء، والماء الذي ينحجز في أماكن متفرقة بواسطة النفايات، يلمع وكأنه أوتار آلة قانون أو شيء من هذا القبيل. سماء زرقاء تمامًا لا تشوبها شائبة. أشجار ذابلة تفرد فروعها الدقيقة المرنة بجوار تلال النفايات.
ثم أمام ذلك تقف عربة «الكارو» ممتلئة بالفحم. وذلك السواد ذو الحس الجسدي للفحم الذي يختلس النظر من حواف الأكياس.
وهناك شاب قوي البنية يرتدي كاب البيسبول بميل، وطفلة صغيرة نحيفة الجسم ذات شعر أشعث. الوجهان متَّسخان بشكل مُرْضٍ تمامًا. فم الطفلة، قد قضم بالفعل خبز البطاطا الساخن ذا اللون المحترق.
وجَّه الرسام لسيئتشي سؤالًا أثناء رسمه بالقلم الرصاص بيد سريعة: «هل تأتي إلى هنا كثيرًا؟»
– «أجل.»
– «إذا كان كذلك؛ هل تسمح لي أن أعاود رسم سكتش لك هنا مرة أخرى؟»
– «ولكن أنا ليس لديَّ الوقت لذلك.»
سيئتشي أثناء رسم المخطط له، لم يكن قادرًا على الثبات في وضع واحد وكانت حركاته لا تهدأ، فأحيانًا يأخذ وضع رامي الكرة في لعبة البيسبول، وعلى العكس كانت الطفلة الصغيرة تحملق مباشرة في الرسام بدون أن يطرف لها عين، تصدر بشكل منتظم، صوتًا وهي تسحب المخاط من أنفها، كما لو كانت تسحب شيئًا ثقيلًا.
في وقت الغروب من ذلك اليوم قام سيئتشي بتنفيذ إحدى مهامه اليومية بإخلاص. ألا وهي أنه بعد انتهائه من توصيل الطلبات، وفي الوقت القصير المتاح لديه فارغًا، يقوم بالتنزه في الاتجاه المعاكس للحي الفقير، حيث المنطقة السكنية التي يحيط بكل بيت فيها سور من الأشجار. وعندها يقابل حتمًا فوجيكو التي تخرج للتنزُّه مع كلب هجين غريب الأطوار، دميم الوجه.
تعلم فوجيكو أن سيئتشي قضى وقتًا في مؤسسة الأحداث، وتعلم أيضًا كل شيء عن ماضيه. ولكنها لا تهتم أبدًا بكل ذلك. عدم اهتمامها بذلك يمكن معرفته من ابتسامتها المُبهجة التي تقابل بها سيئتشي كل يوم عند هذا التقاطع.
تختلف فوجيكو عن كل الفتيات اللاتي عرفهن سيئتشي حتى الآن. شعرها مستقيم ينسدل على كتفيها. وفي ظله تبدو خدودها الحمراء التي بها شق بسيط كما لو كانت فاكهة. عيونها واسعة، ومقلتها السوداء تحتل أكثر من نصف مساحة العين. وعندما تضحك تظهر سريعًا على خديها غمَّازتان، وكأنها لا تستطيع التحكم بهما.
لا يتحدث الاثنان بشيء ما على وجه الخصوص، يتبادلان كلمتين أو ثلاث كلمات مثل: «الجو اليوم جميل» أو «هل تحسنت حالة بطن الكلب؟» أو «هل أنت مشغول بتوصيل الفحم؟» فقط أسئلة وإجابات من هذا القبيل.
يتحدثان بهذا فقط ثم يبتسمان ثانية في بهجة، فتذهب فوجيكو في خط سير نزهة الكلب، ويتجه سيئتشي إلى محل الفحم وبذلك يفترقان. ذلك فقط، ما يجعل سيئتشي يحس أنه سيستطيع النوم تلك الليلة مستريح البال.
•••
أصبح سيئتشي يزور مرسم ذلك الرسام كلما وجد متسعًا من الوقت لديه، حتى ينتهي الرسام من تلك اللوحة. ولا يزوره فارغ اليدين مطلقًا، يملأ جيوب سُترته بحبات الفول السوداني ذات القشر، ويعطي منها الرسام في صمت ثم يأكل هو أيضًا.
– «ما رأيك؟»
أحيانًا ما يسأل الرسام سيئتشي عن انطباعه، وهو يريه اللوحة غير المكتملة. يضحك سيئتشي ولا يجيب.
– «مثلي لا يفهمون في هذا.»
ثم يذهب راحلًا دون أن يقول كلمة أخرى أكثر من ذلك.
في أحد الأيام، عندما ذهب سيئتشي لزيارته، كانت اللوحة على غير المتوقع قد تسارع تقدمها وتقريبًا اكتملت. وكانت زوجته في ذلك الوقت غير موجودة بالمنزل، فدخل سيئتشي عندما دعاه الرسام لذلك. ثم أخرج من جيبه قبضة بيده من فول السوادني ذي القشر ووضعه في يد الرسام.
– «ما رأيك؟! لقد اكتملت تقريبًا.»
– «حقًّا؟!»
كان سيئتشي يقف قريبًا من حامل اللوحة ثم يقف بعيدًا، ويده لا تتوقف عن إصدار أصوات حيوية، من خلال تقشير الفول السوداني ثم وضعه في فمه. شعر الرسام أنه غير راضٍ عن اللوحة.
– «هذا ليس أنا.»
أخيرًا قال سيئتشي ذلك القول القاطع. سيئتشي الذي في اللوحة يحمل وجهًا مشرقًا بدون ظلال. كان ذلك الوجه لا يزيد عن كونه مجرد وجه لأحد الذكور في طور التحول من طفل إلى شاب يمكن أن يُشاهد في كل مكان. وبديلًا عن الظلال، كان الوجه به مسحوق الفحم هنا وهناك.
لو كانت مفردات سيئتشي اللغوية أكثر غنًى مما هي عليه، فلربما أعرب عن عدم رضاه بالقول: إن الوجه لا يبرز تفرُّد شخصيتي؛ فهو وجه ذائع للغاية لشاب يمكن وجوده في أي مكان، وجه ناضر الشباب بلا عيوب، يفيض صحة وحيوية. لا يوجد إلا الاعتقاد أن الرسام نفسه، الذي مضى أكثر من عشرين عامًا على مروره بتلك المرحلة العمرية، يحاول تجميلها.
قال الرسام: «ألا تحدثني عن السبب الذي يجعلك تعتقد أن هذه اللوحة لا تشبهك بأي حال؟»
– «الحديث سيطول، فأنا أيضًا رغم ذلك لي ماضٍ.»
– «أنت ليس لك أي ماضٍ.»
قال الرسام ذلك على الفور وهو يقشِّر الفول السوداني.
– «هذا لأنك لا تعلم يا أستاذ.»
– «أعلم أو لا أعلم، أنت ليس لديك ماضٍ. أنا أعرف ذلك بمجرد النظر إليك.»
برزت على ملامح سيئتشي ما يدل على أن كبرياءه قد جُرح بعمق، ولكن الغضب على العكس جعل وجهه يبدو على وشك البكاء. عقَدَ حاجبَيْه ثم وضع قدمه على حافة مدفئة الفحم. وتحت قدمه تلك، الفحم الذي قام هو بحمله وتوصيله إلى هنا، على وشك الاحتراق. وسط أشعة الظهيرة، الفحم الذي تحول إلى رماد أبيض يبدو واضحًا، أما لون اللهب الأحمر فلا يُرى.
– «إنني …»
بدأ سيئتشي في الحكي: «إنني قد بدأت في الانحراف بعد محاولة انتحار ثنائي وأنا في الصف الثاني الثانوي.»
– «أوه!»
– «ثنائي ذكر وأنثى؛ الأنثى هي توميئه، ابنة صاحب النُّزل، كانت علاقتنا جيدة بلا سبب محدد. كانت تهاديني، ودائمًا ما تكون الهدايا كراسات جامعية فاخرة، وتقول لي قم بالجد والاجتهاد في الدراسة، وقد استخدمت هذه الكراسات في رسم لوحات الكارتون حتى أنهيتها.
لقد كنتُ في فريق رياضة البيسبول في المدرسة. تمثلت العلاقة بيننا في انتظارها لي حتى نهاية تمريناتي، ثم نعود معًا، كل إلى منزله، ورغم ذلك وُجد من يشي بأشياء مكذوبة عنا. وفي أحد الأيام بعد انتهاء اليوم الدراسي، تم استدعاؤنا نحن الاثنين إلى غرفة المدرسين كل على حدة. كان استدعائي تاليًا لها. بعد أن تم توبيخي بشدة خرجتُ إلى فناء المدرسة الذي لم يكن به أحد، وعندما وصلت إلى البوابة، كانت هي التي قد سبق توبيخها قبلي، تنتظر هناك كما هو المعتاد.
بشكل ما لم أستطع النظر إلى وجهها مباشرة؛ نظرتُ إلى اتجاه ملعب البيسبول الذي يحجبه سقف مبنى المدرسة عن النظر. طارت كرة بيضاء بشكل جمالي ورائع، في سماء الغروب. وتردد صدى صوت المضرب. ولكني لم أشعر بالرغبة في حضور تدريبات ذلك اليوم.
قلت لها وقد بدأتُ السير: «شيء مقزز.»
قالت توميئه: «شيء مقزز فعلًا.»
ثم بعد ذلك واصلنا السير صامتين لفترة، وفجأة تم الاتفاق بيننا. لقد اتفقنا أن يأخذ كل منا أموالًا من منزله ونهرب سويًّا.
وفي تلك الليلة أحضرت أنا أربعة آلاف «ين»، وأحضرت هي ثلاثة آلاف، وركبنا قطار البخار. وعزمنا على السفر إلى مدينة سينداي التي كنا قد ذهبنا إليها مرة من قبل في رحلة مدرسية.
بعد وصولنا إلى سينداي أخذنا نمشي ونمشي حتى وجدنا بحيرة، وكانت توجد مركب للإيجار راسية على ضفة البحيرة. وفكرنا وقتها أن نأخذ تلك المركب ونجدف بها حتى منتصف البحيرة ثم ننتحر سويًّا. ولكن كانت المركب مربوطة بسلاسل وعليها قفل، وفي نهاية المطاف نعسنا في المركب الراسية على الشط وقضينا فيها الليلة حتى الصباح.»
– «حقًّا؟»
– «تريد أن تسأل ماذا حدث بعد ذلك، أليس كذلك؟ بعد أن عدنا، وجدنا المدرسين وناظر المدرسة ووالد توميئه الذين كانوا في انتظارنا سألونا جميعًا بصوت واحد وأفواه متعددة: «هل فعلتها؟» أنا لم أفعل شيئًا. لقد قبَّلتها مرة واحدة فقط. كان الصقيع عميقًا، وأحسست بطعم سُخام غريب.»
– «وبعد ذلك؟»
– «في الصباح التالي ذهبنا إلى معبد كامائيشي الشنتوي، تذكرت أننا كنا قد زرناه في أثناء الرحلة المدرسية، وأعطينا الحمام البري هناك بعض حبات البقول. وداخل المعبد أمسك بنا شرطي الدورية الذي شك في سلوكنا، ثم أعادنا إلى منازلنا بعد استجوابنا.
في اليوم التالي غابت الفتاة عن المدرسة. أنا كنت في غاية الخجل، ولكني ذهبت إلى المدرسة. ولم أقل شيئًا لأي شخص.
تلك الحادثة جعلتني أفقد تمامًا ثقة أهلي بي. بعدها اقترضت مبلغ أربعين ألف «ين» باسم أبي من أحد الجيران، وأنفقتها كلها في فترة عشرين يومًا في محلات الباتشينكو للقمار. بالطبع غضب أبي غضبًا شديدة لدرجة أن دماغه بدت على وشك الانفجار. ولأني كنت قد تعودت بالفعل على الهروب من البيت، ذهبت للمبيت عند صديق لي في مدينة أسَاكا بمحافظة سايتاما، وهناك قمت بالعمل قوَّادًا.
أنا بالطبع لا أستطيع التحدث باللغة الإنجليزية بتاتًا؛ ولذا كتب لي صديقي هذا على ورقة باللغة الإنجليزية ما يلي:
كنت أذهب إلى بار يتجمع فيه الجنود الأمريكان، أطلب زجاجة بيرة وأنتظر، وفي الوقت المناسب كان يكفي أن أُخرج تلك الورقة وأحركها يمينًا ويسارًا.
ولكن في إحدى الليالي دخل جندي أسود وهو ثمِل جدًّا، خطف مني تلك الورقة فجأة ورماها بعيدًا بعد أن عجنها بقبضة يده. أنا وكأني أقول «أنا مستعد» قفزت سريعًا، وتهيأت شاهرًا سكينًا. الجندي الأسود وقف هو الآخر. فطعنته طعنة واحدة مستقيمة من أذنه مرورًا برقبته.
الرجل الأسود، أليس هو أسود يا أستاذ؟ ولكن اللحم كان أبيضَ بلون وردي. كان الجرح واضحًا، ظهر لي في التو والحال. ظهر فمٌ أبيضُ فوق بشرة ناعمة لامعة شديدة السواد، وكأنه على وشك الغناء بأغنية. أغنية الدماء. … أما زلت ترى أنني ما زلت «بلا ماضٍ يا أستاذ؟»»
– «أجل أنت بلا ماضٍ.»
هكذا أجاب الرسام ببطء.
– «وذلك لأنه لا خلاف على أنك كنت رغم ذلك نقيًّا.»
– «نقيًّا؟»
قال سيئتشي ذلك وهو يصرُّ على أسنانه بشكل غاضب.
– «ثم بعد ذلك ذهبت مرة أخرى هاربًا إلى سينداي، وهناك تم إلقاء القبض عليَّ، وعُدت إلى أوميا مكبلًا بالقيد في يدي. عندما نزلت من القطار البخاري، جريت هاربًا، وتخطيت خطوط القطارات الكثيرة تلك، وجريت بكل طاقتي. وعندما اعتقدت أن الأمر أصبح على ما يرام، وجدت أمام عيني شرطيًّا متحفزًا لي.
تم وضعي بعد ذلك في مؤسسة مراقبة الأحداث في مدينة أوراوا، وبعد أسبوع نُقلت إلى مؤسسة أحداث مدينة هارونا. وقضيت هناك ستة أشهر. عند دخولي تم ضربي من الجميع بالأغطية، وكنت على وشك الموت. وبعد فترة كان عدد من الفتيان الأقدم يعدون خطة للهروب. ولقد ذهبت معهم حتى خارج السور، لكن كان الظلام دامسًا أمام عينيَّ تمامًا مما جعلني أتجمَّد، وأصبح جسمي مثل لوح من حديد، وأحسست بمن يدفعني للعودة. ساعتها عدت أنا وثلاثة من الرفاق. وبعدها أصبحت نموذجًا لنزيل إصلاحية مثالي.
ولكن بعد خروجي أيضًا، لم يأتِ أبي لاستقبالي، ولم يسمح لي بدخول المنزل. ما باليد حيلة اضطررت إلى الاعتماد على صديق لي في منطقة إيكيجامي، وهناك سكنت في «هنجر» واشتغلت كعاملٍ بنَّاء. ولكن حتى النهاية لم أتناول أية مخدرات أو منشطات، فعندما كنت أرى رفاقي من مدمني الحقن وقد انقطع عنهم المخدر، وهم يُحقنون ذلك بشكل يشبه الجنون ثم يغرزونها في أذرعتهم، قررت أن أبتعد تمامًا عن المخدرات بالذات.
عندما اشتدت الأمطار كنا ثلاثة أصدقاء، ذهبنا إلى حانة للشراب. وفقدتُ الوعي من السُّكر. وعندما أفقت كان الأصدقاء قد عادوا إلى منازلهم، فقامت السيدة مالكة تلك الحانة بالاعتناء بي. كانت السيدة في الخامسة أو السادسة والثلاثين من العمر، وكان زوجها يعمل بحارًا على سفينة ولا يعود إلى المنزل إلا مرة أو مرتين في الشهر. ولقد فقدتُ عُذريتي على يد تلك السيدة. وعندما عدت إلى المطعم سألني الشباب وهم يضحكون «لقد فُعل بك أليس كذلك؟» الشباب السائل كان قد فُعل بهم جميعهم على يد تلك السيدة مرة على الأقل.
عملت هناك لمدة حوالي ستة أشهر، ادخرت فيها أربعين ألف «ين»، ثم رجعت إلى أوميا. وعدت إلى المنزل بعد أن قام مدرسي في المدرسة بالتوسط لي والاعتذار لأبي، ووضعتُ ذلك المبلغ في المنزل. ومنذ ذلك الحين بدأت حياتي في الانتقال من امرأة إلى أخرى.»
استخدم سيئتشي كلمة «من امرأة إلى أخرى» بنبرة صوت متغيرة وكأنه قد حفظ ذلك من مكان ما.
– «كنت أتنزه ليلًا مع صديق في حدائق أوميا، في ليلة من ليالي أوائل الصيف، لمحنا فتًى وفتاة يقومان بحركات مريبة. وكان من السهل علينا أنا وصديقي أن نتقمَّص دور الشرطة؛ لأننا ورغم أننا كنا في الثامنة عشرة من العمر فإن مظهرنا بدا أكبر سنًّا من ذلك. سألناهما عن الاسم وعنوان الإقامة، وسحب صديقي الفتى وأخذ منه خمسةَ آلاف «ين». ولأن الفتاة التي كانت من نصيبي، لم تكن تحمل معها نقودًا بالفعل، فقد قررت أن أزورها في منزلها في اليوم التالي.
قمتُ في اليوم التالي بارتداء الزي الرسمي للمدرسة وحملتُ كتابًا جادًّا، وزرت منزل الفتاة. جاءت الفتاة إلى مدخل المنزل وقد ازرق وشحب وجهها. صنعتُ بأصابع إحدى يدي علامة تنبيه لها، ثم دفعتها إلى الداخل وأنا أقول: «لقد جئتُ إلى هنا، لكي تعلميني شيئًا في هذا الكتاب.»
بعد أن أخذت الفتاة الكثير من الوقت، عادت أخيرًا ومعها ورقة بألف ين، وقد وضعتها فوق ركبتها داخل الكيمونو، وقد طبقتها كثيرًا مثل فن طي الورق وأعطتها لي قائلة: «أنت بالتأكيد لا تعلم، ولكن أبي يعمل رجل شرطة.»
لقد اعتقدتُ أنها تكذب، ولكنها أرتني صورتها معه وهو بملابس الشرطة، وقد أصابني الدوار بسبب ذلك، وأسرعت بمغادرة المنزل. أن تكون بنت رجل الشرطة يا أستاذ، فذلك شيء له فائدة.»
ضحك الرسام بشدة لهذا القول ثم قال: «حسنًا، هل ما زال هناك بقية أخرى (لماضيك)؟»
– «أرأيت، ها قد بدأتَ تعترف بما لي من ماضٍ. هذه اللوحة كاذبة. هل أريك صورة أكثر واقعية من ذلك. عندما كنت أعمل قوادًا، قمت بطباعة كتاب جنسي خليع من خلال آلة نسخ الرسائل مع أحد معتادي الإجرام. الشباب لا يرغب في قراءته، ولكن يرغب في القراءة من هم في سن الثلاثين فما فوق. أنا في الواقع لا أريد أموالًا ولكني أقوم بتأجيره بمئة ين في الليلة الواحدة؛ لأنه إذا لم أفعل ذلك فلن أصبح مِثالًا يحتذى به.»
رفض الرسام ذلك بقوله: «لا أريد قراءته لأنني ما زلت شابًّا.» وقام خصيصًا بخلع «البيريه» الذي يضعه على رأسه حتى داخل المنزل، وأظهر شعراته القليلة التي ما زالت باقية في رأسه. ضحك سيئتشي كثيرًا لذلك، ودفع الكُتيب الذي كان على وشك إخراجه من جيبه الداخلي، وأعاده مرة أخرى مكانه.
– «حدثت أيضًا الحكاية التالية، فقد أظهرت موقفًا نبيلًا ورجوليًّا أمام المحطة، أنقذت فتاة حاوطها صغار المافيا، وأرجعتها إلى منزلها بعد أن أعطيتها مئتي ين أجرة التاكسي. بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام قابلت الفتاة نفسها، وصحبتها إلى فندق بجوار المحطة. ولكن عندما قيل لي بنبرة شاكية إنه لا توجد غرف خالية، كنت خجلًا من ذلك وأنا أقف عند المدخل بجوار الفتاة التي اصطحبتها.
بل وحتى الأمراض لي معها خبرة يا أستاذ. ولكني حتى لو تعرقلت؛ فلن أقوم أبدًا بلا مقابل. عندما نُقل لي المرض في بيت للدعارة ذهبت إلى صاحبة البيت شاكيًا، ولكن على العكس ضُربت بشدة من فتواتها. قلت: لو على القتل اقتلوني، ولكن قبل ذلك نادوا على المرأة ودعوها تواجهني، فجعلتهم يحضرون المرأة. واعترفت المرأة بكل شيء. وقبلتُ بالتراضي مقابل خمسة آلاف ين. ولكن لأنني كنت غاضبًا غضبًا شديدًا، ذهبت أثناء عودتي إلى بيت دعارة مجاور، ونقلت المرض لامرأة أخرى لا تعلم أي شيء. ولم أذُق قط مثل ذلك الألم الشديد الذي ذقته وقتها.»
كان الرسام يستمع في صمت. ويبدو أن عدم وجود رد فعل جعل سيئتشي يتردد قليلًا. فلقد كان يتوقع أن كبار السن يغضبون أو يبدءون في الوعظ.
ولكن الرسام وقف أمام حامل اللوحة، وبدأ يضع ريشته في جزء الخلفية منها.
انتهى سيئتشي من تناول آخر حبات الفول السوداني الذي جاء به، وهو يبدو غير راضٍ.
– «سأرحل.»
قال ذلك ثم قام، ولكنه وكأنه قد انتبه إلى أمر ما، نظر للخلف قائلًا: «آه، أجل ما زالت هناك حكاية.»
لقد تحدث بشكل يجعل السامع يندهش، ولكن لأنه لم يحصل على الثمار التي توقعها؛ ولذا فقد حدثت له بَلْبلة فكرية بسبب هذا التقييم لنفسه، فقد قام ببدء الحديث الأخير له عن أكثر الأمور بعدًا عن الفضيلة من الدرجة الأولى. ولكن أثناء حديثه أصبح فمه الذي كان حتى وقتها طلقًا بالكلام أصبح يتلجلج، ووجنته تتضرج بالحمرة.
قال فقط إنه إذا لم يلتقِ فوجيكو ويتحدث إليها كل ليلة فلا يستطيع النوم ليلًا.
كان الرسام يُولِيه ظهره. تغير الريشة لون أطراف الأشجار الذابلة التي تحيط بتلال النفايات إلى لون أزرق خفيف. وقال وهو بنفس وقفته: «حسنًا، هل أخبرتَ فوجيكو أنك تحبها؟»
– «وهل هذا أمر يقال؟»
أجاب سيئتشي بلهجة المنتصر.
– «لماذا؟»
– «لأني لو قلت لها أحبك ورفضتني؛ فلن تقبل أن تلقاني ثانية. إذا كان الأمر كذلك؛ فالأفضل عدم قول ذلك، وتستمر علاقتي معها كما هي.»
عندما انتهى الرسام من سماع ذلك، أدار جسده ونظر إلى سيئتشي، ثم ابتسم. كان سيئتشي على وشك الخروج من باب المرسم بظهره. ابتسامة الرسام أصابت سيئتشي مباشرة، فجعلته يبدو متلألئًا.
كان وجهه هو وجه من اكتشف أحد أسراره، وبان على ملامحه تعبير «اللعنة لقد كُشفت». وجه مشرق يدل على الصحة والحيوية، واليوم يلتصق به مسحوق الفحم تحت العينين. اختفى سيئتشي على الفور مثل حيوان صغير، وكان يُسمع صوت دراجته التي تجعل الجرس ذا الرنين حسن الصدى يتردد، ويجر العربة الفارغة بشكل مزعج في الشوارع الضيقة.
مرة أخرى ذهب الرسام للوقوف أمام لوحته التي انتهى الرسم فيها تقريبًا. وقد قرر الرسام أن يجعل عنوان اللوحة هو «عمر التاسعة عشر».