مقدمة الترجمة
تفتقر المكتبة العربية إلى المراجع الرصينة التي تتناول الأممَ المتحدة تناولًا شاملًا منذ نبتَت فكرةُ العمل الدولي المشترك في أذهان بعض المفكرين والساسة، حتى تبلورَت تلك الفكرة في إقامة «عصبة الأمم» بعد الحرب العالمية الأولى، ثم «منظمة الأمم المتحدة» بعد الحرب العالمية الثانية، وما أسفرَت عنه حركاتُ التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعملية تصفية الاستعمار التي تبنَّتها الأمم المتحدة، واتساع نطاق الآمال التي علَّقتها الشعوب عليها بقدر اتساع الفجوة بين تلك الآمال العريضة والإخفاقات التي مُنيَت بها المنظمة الدولية بسبب ما شاب نظامَها من سلبيات، وما ترتب على ذلك من إحباطات نجمَت عن خيبة آمال الشعوب فيها.
ورغم أن الوطن العربي والأمة العربية كانت أسبقَ الشعوب إلى تجربة الإحباط وخيبة الأمل في الأمم المتحدة من غيرها من الأمم، ويكفي ما كان من دورٍ لعبَته الأمم المتحدة في دعم الأطماع الصهيونية في فلسطين، والضرب عرض الحائط بقرارات الجمعية العامة المؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في وطنه المغتصَب، وإجهاض قرارات مجلس الأمن التي تصدر ضد الممارسات العنصرية الصهيونية بعشرات من الفيتو الأمريكي. رغم ذلك كلِّه لم نجد دراسة عربية للأمم المتحدة ونظامها وما فيه من إيجابيات وسلبيات، ودورها في حلِّ الأزمات الدولية أو تعقيدها، ومدى ملاءمة هذا الدور للواقع الدولي المتغير في القرن الحادي والعشرين. ربما نجد شيئًا مختصرًا من هذا وذلك في بعض الكتب الدراسية في القانون الدولي أو العلوم السياسية أو التاريخ، وربما نجد فصولًا متفرقة هنا وهناك في البحوث العربية التي تتناول ما يُسمَّى «بأزمة الشرق الأوسط» أو ببعض الأزمات الدولية الأخرى، أو تلك التي تُعالج قضايا التعاون الدولي، ودور المؤسسات الثانوية التابعة للأمم المتحدة فيها، ولكننا لا نجد — إلا فيما ندر — كتابًا عربيًّا يتناول الأمم المتحدة في ماضيها وحاضرها، ويستشرف مستقبلها على ضوء ما يشهده العالم من تغيرات سريعة الإيقاع.
لذلك عندما وقع في يدي كتاب بول كينيدي «برلمان الإنسان: الأمم المتحدة، ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها» عندما كنت في زيارة لكندا (نوفمبر ٢٠٠٦م)، وكان قد صدر حديثًا، تلقَّفَته يدي، وما كدتُ أفرغ من قراءته حتى عقدتُ العزم على نقله إلى اللغة العربية؛ لما له من أهمية لا تخفى على القارئ. فرغم أن مؤلِّفَه مؤرخٌ ذائع الصيت، إلا أن الكتاب جاء ثمرةَ جهدِ فريقٍ من الباحثين الذين شاركوا في مشروع أعدَّه قسم الأمم المتحدة بجامعة ييل الأمريكية بالتعاون مع مؤسسة فورد، استغرق إعدادُه عامين (١٩٩٣–١٩٩٥م)، كان من بين المشاركين في الفريق — بالإضافة إلى مؤلف هذا الكتاب — باحثون في القانون الدولي، والعلوم السياسية، والاقتصاد، والاجتماع، والتاريخ، ونشر التقرير الخاص بهذا المشروع عام ١٩٩٥م بعنوان «الأمم المتحدة في نصف القرن الثاني (من عمرها)»، ومن الواضح أن التقرير ركز على إصلاح الأمم المتحدة، وتفعيل دورها، وإقامة نوع من التوازن بين مهامِّها، وفوق ذلك كلِّه ضرورة إعادة النظر في ميثاقها بما يتوافق مع الظروف الدولية المتغيرة على مدى الفترة حتى عام ٢٠٤٥م.
وقد شُغل المؤلف بعد ذلك بالعمل على هذا الكتاب بمساعدةِ بعضِ مَن عملوا معه في إعداد التقرير – السالف الذكر — إلى جانب بعض خبراء الأمم المتحدة والباحثين من مختلف التخصصات، وهو نهج في البحث العلمي نفتقر إليه عندنا، فقد وجد المؤلف يدَ العون ممدودةً من المؤسسات بالمنح التي غطَّت تكلفةَ هذا الفريق الذي عَمِل بعضُ أفراده معه لمدة تزيد على الثلاث سنوات، قاموا خلالها بمسح كلِّ المصادر التي تتصل بالموضوع من قريب أو بعيد، واستمعوا إلى خبراء الأمم المتحدة العاملين في مختلف الميادين، ثم عكف كينيدي وحده على الكتابة عامًا كاملًا، وحرَص في نهاية الكتاب أن يسجِّل لكلِّ مَن تعاون معه نصيبَه من الجهد.
فنحن أمام كتاب يعالج موضوعًا هامًّا يحتاج العالم إليه، ويأتي القارئ العربي في مقدمة أكثر الناس حاجةً إليه. ويُعد نقله إلى اللغة العربية سدًّا لجانب كبير من الفراغ المعرفي في المكتبة العربية حول العمل الدولي عامة والأمم المتحدة خاصة.
وقد حرص المؤلف على أن يبدوَ محايدًا في تحليله للكثير من مهام الأمم المتحدة، فيما عدا ما اتصل منها بالشرق الأوسط. يفيض قلمُه في رصد عدوان المعتدين في مختلف أنحاء العالم، ثم يجفُّ مداده عندما تكون إسرائيل طرفًا فيما سُمِّيَ «الصراع العربي-الإسرائيلي»، حتى يكاد القارئ — الذي ليس لديه علمٌ بجذور المشكلة — أن يرى إسرائيل ضحيةَ عدوان العرب وعنادهم. ولذلك نجده يكيل المديح للسادات، ويعتبر إبرامَه السلام مع إسرائيل من الفتوحات الكبرى في أواخر القرن العشرين، ونجد المؤلف أيضًا شديدَ الحذر في انتقاد الهيمنة الأمريكية على المنظمة الدولية (وبالمناسبة لم يستخدم قط مصطلح «الهيمنة» بهذا الصدد) يضع نقدَه في عبارات تذوب رقة، فإذا أراد أن يسجِّل نقدًا صريحًا لأمريكا، وضعه في صورة تساؤل.
غير أن ذلك لا يقلِّل من قيمة الكتاب، أو من أهميته؛ فالموضوعية نسبيةٌ في العلوم الإنسانية على كل حال. كما أن الكتاب يُشخِّص أمراض الأمم المتحدة تشخيصًا دقيقًا، غير منفرد برأيٍ شخصيٍّ، ولكنه يستخلص التشخيصَ من مجمل آراء أهل الاختصاص. ويضع الكتابُ وصفةً للعلاج مستخلصة أيضًا من عشرات الأبحاث والتقارير الصادرة عن لجان متخصصة وعن خبراء الأمم المتحدة، فهو يقدِّم لنا في عملٍ واحدٍ خلاصةَ ما استُخدم في إعداد البحث من مصادر، يضعها بين يدَي القارئ، ويُرشده إلى مكانها، فيُتيح بذلك لأهل الاختصاص فرصةَ الرجوع إليها إذا ما رغبوا في تعرُّف المزيد.
وفي العام ١٩٩٣م، نشر كينيدي كتابًا آخر بعنوان: «التحضير للقرن الحادي والعشرين» قدَّم فيه تحليلًا للاتجاهات الأساسية في العالم التي سوف تحتل — في نظره — مركز الاهتمام، ومدى استعداد البلاد المختلفة للتعامل مع تلك الاتجاهات، بما في ذلك الولايات المتحدة التي نالَت جانبًا كبيرًا من الاهتمام في هذا الكتاب. وحث الدول النامية على التأهب لمواجهة تدهور أحوال البيئة، واقتصاد العولمة، والانفجار السكاني في أشد بلاد العالم فقرًا، والتطور التكنولوجي السريع في الدول الغنية. ويكشف هذا الكتاب — أيضًا — عن امتلاك المؤلف ناصيةَ المنهج الاستطلاعي في دراسة التاريخ، وقدرته على استخلاص النتائج التي بُنيت على الواقع الحاضر، في تقديم تصور للمستقبل. تمامًا كما فعل في هذا الكتاب الذي نقدِّمه اليوم للمكتبة العربية.