تقديم المؤلف

شهد القرن العشرون تطورًا فريدًا في تاريخ البشرية؛ فقد اتجهت الدول التي عرَّفت نفسها — منذ ثوكيديد حتى بسمارك — من خلال التمسك بالسيادة الوطنية والاستقلال، اتجهت إلى العمل معًا تدريجيًّا لإقامة منظمات دولية، لدعم السلام، وكَبْح جماح العدوان، وترتيب الأمور الدبلوماسية، وصياغة مجموعة من القوانين الدولية، وتشجيع التنمية الاجتماعية، وتعزيز الرفاهية. غير أن قيام هذه الشبكة من مختلف أشكال الحاكمية الدولية لم يحدث على نحو مطرد، بل شَهِد الكثيرَ من الإخفاقات، ولقيَ الكثيرَ من المقاومة من جانب أولئك الذين شعروا أن ذلك الاتجاه يهدِّد سلطتهم وينقص من امتيازاتهم؛ فإلى جانب كل صوت مؤيد للتعاون الدولي، كان هناك صوتٌ آخر يحذِّر من تداعي السيادة الوطنية. ولا يزال الجدل حول هذه القضية محتدمًا اليوم مثلما كانت الحال بين أجيالٍ مضَت. ولكن، لو افترضنا أن دبلوماسيًّا أو كاتبًا من العام ١٩٠٠م استطاع أن يرقب ما يجري في عالم اليوم، لأدهشه الدور الذي تلعبه الهيئات الدولية نيابة عن المجتمع الدولي.

وأكثر تلك الهيئات شهرة وطموحًا هي «منظمة الأمم المتحدة» التي تأسست عام ١٩٤٥م على أيدي الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. وقد ورثَت الأممُ المتحدة الكثيرَ من ملامح التجربة الأولى في ميدان التعاون الدولي التي تمثَّلَت في «عصبة الأمم». ولكنها أوسع نطاقًا في الاختصاص والصلاحيات سواء في مجالِ فضِّ المنازعات الدولية، أو حقوق الإنسان، أو الشئون الاقتصادية. غير أن هذا التوسع في الاختصاص والصلاحيات تُقيِّده الشروط والضوابط — دون ريب — لأن الأمم المتحدة لم تتخلص من التناقضات الأساسية التي تُعاني منها كلُّ الهيئات الدولية، والتناقض يتمثل في كون المنظمة الدولية قد أُنشئت على يد الدول التي انضمَّت إليها، والتي اعتبرت وضْعَها يماثل وضْعَ حملة الأسهم في الشركة؛ فالمنظمة تستطيع أن تؤديَ رسالتها بكفاءة عالية عندما تلقى تأييدًا من حكومات الدول، وخاصة حكومات الدول الكبرى. ولكن بعض الدول تجاهلَت المنظمة الدولية، على نحو ما فعل الاتحاد السوفييتي عام ١٩٥٠م، وما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠٠٣م (والكثير من الدول «الشريرة» في السنوات الأخيرة)، ولكن ذلك التجاهل لا يمرُّ عادة دون ثمن تتحمله المنظمة الدولية. كما أن المنظمة لا تستطيع أن تنفذ الإجراءات المقترحة لمواجهةِ قضيةٍ ما إذا اعترضَت عليها إحدى الدول الكبرى الخمس التي تملك حقَّ الاعتراض (الفيتو). هذا الاحتقان بين السيادة الوطنية والشرعية الدولية يمثِّل تراثًا راسخًا لا يمكن تحاشيه. وإذا لم يدرك القارئ أن هذا الاحتقان من مركبات نظام الأمم المتحدة منذ بدايتها فلن يستطيع أن يتتبَّع قصة الأمم المتحدة عبر ستة عقود منذ العام ١٩٤٥م.

وهذه الدراسة تتبع تطور الأمم المتحدة عبر تلك العقود الستة، وتُعنى بتقييم نجاحاتها وإخفاقاتها، وتستشرف مستقبلها في السنوات القادمة. وتقوم الدراسة على فرضية معقولة هي أنه سواء قبلنا بسجل أعمال المنظمة في الماضي أو لم نقبل به، فإن التغيرات التي يشهدها المجتمع الدولي سوف تجعلنا نلجأ إليها مرات ومرات. وإذا لم تكن لدينا الآن منظمات دولية لكان لزامًا علينا أن نُقيِّمها، وإن كان من المحتمل أن تتخذ على أيدينا شكلًا مختلفًا عما هي عليه الآن. ولكن تلك المنظمات موجودة بالفعل، ونحتاج إليها من حين لآخر. ولذلك لا بد أن نعرف كيف ولماذا أسست المنظمة الدولية، وما تستطيع عمله، وما يتجاوز حدود قدرتها، والاحتمالات الواردة لزيادة نفعها، وهو ما يجب أن يعرفَه كلُّ إنسان متعلم، رجلًا كان أم امرأة.

ومن الصعوبة بمكان وصْف الغرض من هذا الكتاب وإطاره في جملة واحدة، ويمكن وصف هذا العمل بأنه «تاريخ فكري» للأمم المتحدة، ولكنه ليس كذلك على وجه التحديد لأنه يعالج مجالات شتى من التاريخ والعلوم السياسية، فهو يهتم بالسياسة ومخرجاتها بقدر اهتمامه بالأفكار التي نبعت منها. هذا العمل دراسة للرؤى المتغيرة للهياكل الدولية، وكيفية استخدامها لتحقيق الأهداف المشتركة للبشرية في الميادين التي تعجز الدول عن العمل فيها منفردة بصورة مرضية. وهو أقل اهتمامًا بالمؤسسات الرسمية للأمم المتحدة ونظام العمل فيها بحد ذاته، ويهتم بقدر أكبر بالطريقة التي عملَت بها المنظمة، وكيف تغيَّرت لتمارس نشاطًا جديدًا، ولنرَ — على وجه الخصوص — لماذا تم النظر إلى النشاط الجديد على أنه امتداد للدور الأصيل الذي تلعبه المنظمة الدولية. إنها دراسة للتطور، والتحول، والتجربة بإخفاقاتها ونجاحاتها. ومن المؤكد أن هذا العمل ليس دليلًا أبجديًّا للمعلومات الأولية عن وظائف الأمم المتحدة، وليس تأريخًا بيروقراطيًّا يتناول الكيفية التي تمَّت بها هذه المنظمة ذات الرءوس المتعددة، على مر الزمن. وخلاصة القول، مادة موضوع الكتاب بالغة التعقيد والتركيب بدرجة يصعب معها تصنيفه بسهولة. دعنا نقول إنه قصة تجمع البشر معًا من أجل تحقيق هدف مشترك ومستقبل تتوفر فيه الكرامة والرفاهية والتسامح للجميع من خلال التحكم المشترك في الأدوات الدولية. وهو أيضًا يروي قصة الإخفاقات المضاعفة والآمال المبددة.

وبنية هذا الكتاب واضحة تمامًا. فبعد هذا التقديم، يروي القسم الأول قصة الخطوات الحذرة الأولى للبشرية — أو على وجه الدقة حكوماتهم — التي اتخذَتها في الطريق إلى الاتفاقات الدولية، والأطر الفكرية، والسلوك التعاوني. ويُلقي الضوء على المفكرين والمواطنين الذين أثاروا قضيةَ الحاجة إلى تعاون عالمي واسع النطاق، بما في ذلك الدعوة إلى حاكمية عالمية. وإذا كان المطلب الأخير قد بدَا مستهجنًا في عصور الاقتتال على نطاق واسع والغزوات وسباق التسلح، فقد بدأت الفكرة تشهد لحظة تاريخية في منتصف القرن التاسع عشر، وعادت تطفو على السطح مرة أخرى عندما تصاعدَت الصراعات بين الدول الكبرى إلى حدِّ إراقة الدماء والدمار الكارثي في الحرب العالمية الأولى.

ونتيجةً لذلك يتناول النصف الأول من الفصل الأول تكوينَ وتطور «عصبة الأمم»، تلك المؤسسة الهامة المتداعية التي سبقَت «الأمم المتحدة»، والتي استخلص منها مؤسسو المنظمة الحالية نتائج هامة. يمهد هذا الطريق إلى القسم الأكبر من الفصل نفسه الذي يُلقي نظرات على عمل صناع السياسة ومستشاريهم فيما بين ١٩٤١–١٩٤٥م في صياغة هياكل دولية أفضل لخدمة المجتمع الدولي، وخدمة مصالحهم الحيوية في الوقت نفسه. ولما كانت تلك الفترة بمثابة الأتون الذي شكلت فيه المكونات الأساسية لمنظمة الأمم المتحدة، فمن الأهمية بمكان أن نتعمق في فكر صناع الأمم المتحدة، ونقف على الأسباب التي جعلَتهم يشكلون مكونات المنظمة الدولية على هذا النحو (مجلس الأمن مثلًا)، فدون الوقوف على نوايا وأفكار صناع الأمم المتحدة يصبح معظم ما جاء في الفصول الأخرى من هذا الكتاب مستعصيًا على الفهم.

ويمثل القسم الثاني من هذا الكتاب محوره الأساسي؛ ولذلك يحتل جانبًا كبيرًا من نصِّه، ويضم ستة فصول متصلة ببعضها البعض تعالج المظاهر الرئيسية لرسالة المنظمة الدولية، وكيف تمَّت خدمةُ كلِّ هدف من أهداف المنظمة، ومستوى تلك الخدمة في العقود الواقعة بين عام ١٩٤٥م والوقت الراهن. والمنطق الذي اتبع لترتيب القسم المركزي للكتاب على صورة فصول متوازية لكلٍّ منها موضوعُه، منطق في غاية البساطة؛ فاتباع المعالجة الزمنية من ١٩٤٥م إلى ٢٠٠٥م يجعلنا نقدِّم رواية مسهبة مليئة بالتفاصيل؛ فتناولُ قضايا الأمن، وحفظ السلام، وحقوق الإنسان، والاتفاقات الخاصة بالبيئة، في كل فصل واحد في إطار زمني يجعل القارئ في مأزق يصعب معه تتبُّع كيف أثَّرت تلك الأمور على الأداء العام للمنظمة. والسبب الثاني للتناول الموضوعي، هو بيان الطرق المختلفة التي اتبعَتها الحكومات والشعوب تجاه الأمم المتحدة نفسها. وكل مَن شاهد العمل الميداني للأمم المتحدة في الجمعية العمومية مثلًا، سيجد نفسَه مضطرًّا لاستنتاج أنه حتى في المنظمة الدولية ذات التنظيم المؤسسي الكبير نجد أنفسنا أمام أمم متحدة عديدة. وعند بعض المراقبين نجدهم يعرفون جيدًا الأمم المتحدة من خلال حفظ السلام وقرارات مجلس الأمن، وعند غيرهم الأمم المتحدة تختص بالتنمية الاقتصادية، وعند آخرين الأمم المتحدة معنيَّة بتقديم حقوق الإنسان على مستوى العالم، وقد تعني عند البعض الآخر المنظمة المسئولة بالدرجة الأولى عن إعادة بناء النسيج الاجتماعي للمجتمعات الممزقة والمفككة، والتي تعمل على حماية البيئة، وتشجع على التفاهم الثقافي بين الشعوب. وكما يحدث للمكفوفين عند تعرفهم على الفيل، ترى الجماعات المختلفة اليوم الأمم المتحدة على صور مختلفة، تمامًا كما فعلوا في العام ١٩٤٥م.

وهكذا، يعالج الفصل الأول من هذه الفصول المتوازية (الفصل الثاني) قصةَ مجلس الأمن، وما فعله في السنوات الأولى، وكيف يستجيب للتغير بمرور الزمن، وكيف ظل محيرًا. وفي الفصل التالي (الثالث) نتناول «حفظ السلام وصناعة الحروب»، وهي أمور تتصل بمجلس الأمن، ولكنها تقتضي دراسة خاصة بسبب ما حدث في الميدان. وتم تناول الأجندات البالغة الأهمية والمتفاقمة الخاصة بالعلاقات الاقتصادية الدولية وخاصة في ميدان تطور العلاقة بين الشمال والجنوب في الفصل الذي يليه (الرابع) الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بميدان الدراسة في الفصل التالي (الخامس) الذي يقدِّم تحليلًا لجهود الأمم المتحدة في الضغط من أجل تحقيق التقدم في المجالَين الاجتماعي والبيئي. واستحقَّت قصةُ تطور الحقوق الدولية للإنسان أن نخصص لها الفصل السادس. والفصل الأخير من هذه الفصول المتوازية التي تتناول سُبُلَ تحقيق أهداف الأمم المتحدة تُعالج المسألة المبهمة التي تحتل قدرًا من الأهمية، وهي الخاصة بالتمثيل في هيئات المنظمات الدولية الحالية، وكذلك الدور الذي يلعبه مَن ليسوا من أعضاء المنظمة في الخطاب الدولي. ويتناول الفصل السابع الأفكار المختلفة حول كيفية إقامة أشكال أرقى من الحاكمية الدولية. وفي النهاية يجب ربط هذه القصص والأعمال ببعضها البعض للتوصل إلى فهمٍ كليٍّ للمنظمة الدولية، ولكن هذا الهدف لا يتحقق على الوجه الأكمل إلا بعد النظر إلى كل خيط على حدة قبل أن يتمَّ نسْجُها معًا.

ويمثل القسم الثالث من هذا الكتاب محاولةً لنسج هذه الخيوط في مقال مسهب حول الأمم المتحدة اليوم، وغدًا على وجه الخصوص.١

الفصل الثامن يهدف إلى حفز الفكر أكثر من الاهتمام بالوصف. وهو يفترض أنه ما دامت الأمم المتحدة هي المنظمة الدولية الوحيدة لدينا، فإن علينا أن نجعلها تعمل بطريقة أفضل، حتى نساعد البشرية على شقِّ طريقِها في القرن الحالي المضطرب.

والخلاصة، أعتقد أن السناتور الشاب القادم من ولاية ميسوري كان على حق. وسواء قَبِلنا ذلك الرأيَ أو رفضناه فلا شك أن البشرية في حاجة إلى شيء أرقى من مستوى الدولة القومية التي تتسم بالأنانية المطلقة.

وسوف نحتاج اليوم وغدًا إلى منظمة الأمم المتحدة في إطار معدل عن ذلك الذي كانت عليه عام ١٩٤٥م، ولكنها لا تزال مدينةً لمؤسِّسيها وللأهداف التي سعَوا لتحقيقها. والسؤال هو: هل نستطيع عملَ ذلك من الناحية العلمية؟ هل نستطيع أن نعدِّل من مخاوفنا وأنانيتنا لصالح المصلحة العامة ومن أجل منفعتنا على المدى البعيد؟ إن جانبًا كبيرًا من تاريخ القرن الحادي والعشرين قد يعتمد على استجابتنا الجماعية للتحدي.

١  ويتصل هذا بالتقرير المشترك لجامعة ييل ومؤسسة فورد، وعنوانه: «الأمم المتحدة في نصف القرن الثاني: تقرير مجموعة العمل المستقلة حول مستقبل الأمم المتحدة» (نيويورك ١٩٩٥م)، وهو الذي جاء نتاج عمل الزملاء بجامعة ييل ومجموعة العمل، والذي قمت بإعداده قبل عقدٍ من الزمان، وسوف نرجع إليه من حين لآخر في نص الكتاب، والهوامش التالية. ولكن صوت المؤلف الواحد يختلف عن صوت النص الذي جاء ثمرةَ عمل مجموعة، وإلى جانب ذلك حدث الكثيرُ من التطور خلال العقد المنصرم يبرِّر الحاجة إلى المزيد من إعادة النظر فيما توصل إليه التقرير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤