وبعد …
مرة أخرى، تنيسون وبرلمان الإنسان
وهكذا انتهى حلم «برلمان الإنسان»، كان اتحاد العالم مستحيلَ التحقيق على أرض الواقع. كان التقدم وهمًا، حلمًا طوباويًّا. يجعل الإنسان لا يفكر في قيام الأمم المتحدة في المستقبل.
ولكن جلادستون لم يكتفِ بذلك، بل راح يقدِّم المقترحات التي من شأنها تحسين أداء العصر الفيكتوري، فعاد ليذكِّرَ قُرَّاءَه بأن هناك بعضَ العيوب والنكسات. رغم كلِّ ما تمَّ إحرازُه من تقدُّمٍ. وأنهَى مقالَه باقتباس بيتَين من شعر تنيسون، زميله في الدراسة:
ألا يمكن قول ذلك على الأمم المتحدة بعد ستين عامًا من إنشائها؟ من السهل الإشارة — اليوم — إلى العديد من الإخفاقات التي وقعَت فيها المنظمة الدولية، وقد سبق لنا مناقشتُها في الفصول السابقة من الكتاب، وتستهدف الجماعاتُ التي يُخيفها تطورُ المجتمع العالمي نحو الليبرالية والكوكبة، هذه الإخفاقاتِ وتضخمها. كذلك هناك انتقادات من أقصى اليسار تنعَى على الأمم المتحدة خذلانها للجماهير.
لقد قدَّمنا خلاصةً بما أنجزَته الأمم المتحدة في نهايةِ كلٍّ من الفصول الستة المتعاقبة التي تكون محورَ هذا الكتاب، وجميعها يُشبه ما يَرِد بالتقارير المدرسية عن نشاط التلاميذ: «إنجاز كبير، ولكن يجب أن يكون أفضل من ذلك». ويمكن القول — عامة — إن أجندات حقوق الإنسان العالمية، ورعاية الطفولة، وحقوق المرأة، والتعاون المتواصل في قضايا البيئة، وتقوية المجتمع المدني، قد حققَت تقدُّمًا، كما أُصيبَت بنكسات، ولكن ما تحقَّق من تقدُّم فيها لم يكن على مستوى أحلام أصحاب تلك الأجندات. وأخيرًا، فإن تقييمَ مساهمة المنظمة في التقدم الاقتصادي العالمي، ومكافحة الفقر ليس سهلًا؛ لأن القصة شديدةُ التعقد، ويزيد من تعقدها تذبذب مستويات الإنتاجية والنمو على المستوى الإقليمي بسبب عوامل داخلية. ومن السهل رصدُ دور الأمم المتحدة في مكافحة شلل الأطفال على مستوى العالم، ولكن من الصعب أن نجدَ لها علاقة بالنمو الاقتصادي الذي حقَّقَته سنغافورة مثلًا.
ربما كان حال العالم اليوم على درجة أكبر من السوء، لو لم تكن هناك منظمة الأمم المتحدة. فقد أوجدت — على الأقل — رأيًا عامًّا دوليًّا يضغط من أجل استجابة جماعية للأزمات والمشاكل العالمية، ويعتقد في جدوى الأدوات الدولية لإرساء دعائم السلام هنا، أو التنسيق الدولي لمواجهة كارثة إنسانية هناك. فإذا لم تكن هناك منظمة دولية على هذا النحو، لسعينا إلى إقامتها، أو إقامة بعضِ مؤسساتها.
وإذا كان لنا أن نقدِّم تقييمًا منصفًا للأمم المتحدة، علينا الإجابة عن هذا السؤال الجاد: ما الذي لدينا الآن بفضل وجود المنظمة الدولية، وما الذي لم يكن لدينا خلال الحرب العالمية الثانية (١٩٤٢–١٩٤٣م مثلًا)؟ وفيما عدا الإجابة على هذا السؤال، يصبح كلُّ معيار للتقييم ثانويًّا. فالأمم المتحدة تجمع حكومات وشعوب العالم، وهي صنيعةُ البشرية وإرثٌ لها، جاء أداء بعض مؤسساتها بائسًا، بينما جاء أداء بعضها الآخر على درجة عالية من الجودة، وهذا شأن البشر جميعًا، وليس من العدل أن نبخسَ الأممَ المتحدة حقَّها، وإلا ارتكبنا حماقة لا تغتفر.
أما التساؤل حول مدى صلاحية الأمم المتحدة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، فالإجابة عنه بسيطة: لا بد من معالجة نقاط الضعف في المنظمة الدولية، ودفْع الحكومات المترددة على القبول بالتغيير، وفهْم ما حقق مهامه (من مؤسساتها) جيدًا، وما عانى الصعوبات منها فنعمل على علاجه. فالعالم بحاجة إلى إمعان النظر في الأفكار، وصياغة الرؤى، فإذا تحقق المزج بينهما (على نحو ما حدث فيما بين ١٩٤٢–١٩٤٥م)، فسوف نتغلب على الصعاب، ونحقق العجائب.
وهكذا تصلح مقولةُ جلادستون لزمانه وزماننا. فقصة السنوات الستين المنصرمة من عمر الأمم المتحدة لم تكن سجلًّا حافلًا بالإخفاقات، تعثَّرت أحيانًا، ولكنها تابعَت المسيرة. وإذا نظرنا إليها نظرةً شاملة، سوف نُدرك أنها أفادَت جيلنا، بفضل خدماتها المدنية، وكرم مَن استطاعوا المساهمة في دعم نشاطها، وأن منافعها سوف تمتد إلى أبنائنا وأحفادنا أيضًا. ولكن استمرارها في العمل بصورة أفضل يحتاج إلى بذل المزيد من الجهود.