وبعد …
مرة أخرى، تنيسون وبرلمان الإنسان

استُهلت هذه الدراسة باقتباس الأبيات الشهيرة من قصيدة Locksley للشاعر الإنجليزي تنيسون Tennyson عن مستقبل «برلمان الإنسان، اتحاد العالم … الذي يخضع لقانون عالمي». عجبًا لهذا التفاؤل الذي ملك مشاعر أحد شعراء مطلع العصر الفيكتوري، إن المرارة تختلط بالحلاوة عندما نقرأ هذه القصيدة وأمثالها. ألم يعرف تنيسون أن عاقبة التكنولوجيا الجديدة والحروب العالمية الفظيعة (بما في ذلك القصف بالطائرات)، إذا ما وقعَت قد لا تقود الشعوب إلى سلام عالمي، ولكنها تقودهم إلى نتائج عكسية: غياب الثقة، سباق التسلح، والتطهير العِرقي؟ أم إن أفكارَه التنويرية تجاهلَت حقيقةَ أن الكثير من البشر يتسمون بالعناد، ويكرهون الخضوع لنظام عالمي، ويفضِّلون عليها إحكامَ قبضتهم على السياسات الوطنية، حتى لو قادهم ذلك مرات ومرات إلى شنِّ الحروب وسفك الدماء وإشاعة الخراب؟ ألم يَدُر بخلده أنه كان مواطنًا يعيش رغدَ العيش في أمة كانت تحكم ربع بلاد العالم، ولم يعرف سكانُها عالَم هوبس الحافل بالغزو والصراع أكثر من معرفتهم لرؤية كانط للسلام الدائم؟ وأخيرًا، ألم يَدُر بخلده أن البشرية تقاوم ببساطة العقائد الليبرالية والشمولية، حتى لو كانت شواهدُ التقدم تبعث الأمل عنده وأمثاله من جيل مطلع العصر الفيكتوري؟
من الواضح أن تنيسون لم يُدرك ذلك كلَّه في ذلك الحين. كان شابًّا متفائلًا، ظنَّ أن العالم يخرج من عصر التوتر والجهل، إلى ساحة لا حدود لها من الضياء والآفاق. ولذلك من سخريات القدر أن نعلم أنه في عام ١٨٨٦م، بعد انقضاء نصف القرن على إبداعه تلك القصيدة المليئة بالأمل والتفاؤل، كتب قصيدة أخرى تنضح بالمرارة عنوانها: «ستون عامًا على لوكسلي هول Locksley Hall Sixty Years After».١ وهي قصيدة بليغة، حافلة بالصور الاستشرافية، ولكنها متشائمة هذه المرة. كان تنيسون في أواخر عقد السبعين من عمره، يعاني الضيقَ وفَقْدَ الثقة في اتجاهات الحياة الحديثة. وقد كتب القصيدة لحفيده (رغم أنها في الظاهر مهداةٌ لزوجته)، وهنا يرى الشاعر أن كلَّ شيء سار على الطريق الخطأ، فقد شنَّت أوروبا الحروب في القرم وإيطاليا وألمانيا وفي المستعمرات البائسة. وتحوَّل الرخاء الاقتصادي إلى كساد كبير (١٨٧٣–١٨٩٦م)، وتوفرت الأدلة على استشراء الفاقة بين القاعدة العريضة من الطبقة الدنيا. وبدأ العمال ينظمون أنفسهم ويطالبون بنظام اجتماعي-سياسي جديد. وقام الأيرلنديون بالثورة، وبدأ الإيمان بالدين يتآكل بسرعة، وغابت العقلانية عن المشهد، وأخذَت قشرةُ الحضارة الرقيقة تتصدع. لذلك كانت قصيدة تنيسون تفيض مرارة:
الفوضى، الفضاء! الفضاء، الفوضى!
مَن يستطيع أن يدلَّنا على طريقة لنهايةِ ذلك كلِّه؟
عندما كان العصر حافلًا بالأخطار؟
بالجنون؟ بالأكاذيب المكتوبة والمقولة؟

وهكذا انتهى حلم «برلمان الإنسان»، كان اتحاد العالم مستحيلَ التحقيق على أرض الواقع. كان التقدم وهمًا، حلمًا طوباويًّا. يجعل الإنسان لا يفكر في قيام الأمم المتحدة في المستقبل.

وانبرَى وليم إيوارت جلادستون William Ewart Gladstone أكبر ساسة بريطانيا في القرن التاسع عشر، ورئيس وزراء بريطانيا لأربع مرات — الذي كان قد تقاعد عندئذٍ — انبرى للردِّ على تنيسون. لم يكن جلادستون يشارك تنيسون الاكتئابَ والتشاؤم الذي عانَى منهما في شيخوخته؛ فقد كتب مقالًا في عدد يناير ١٨٨٧م من مجلة «القرن التاسع عشر»، ناقش فيه ما جاء بقصيدة تنيسون الناقدة مستعرضًا نصفَ قرن من حكم الملكة فيكتوريا، اعترف فيها بأن الكثير من أحلام الليبراليين القديمة لم تتحقق، ولكن التقدم المستمر تحقق على العديد من الجهات، وعاتب الشاعر على إنكاره ذلك، وتمنَّى عليه أن يذكر تلك المنجزات. وعدَّد جلادستون تلك «المنجزات»: فقد قفزَت أعدادُ التلاميذ في المدارس، واتسعَت حقوق المرأة، وحصل العمال على أجور عادلة مرتفعة، وتم إصلاح القوانين، وإلغاء القوانين المؤيدة لحرية التجارة، وتم إلغاء عقوبة الجلد في الجيش والبحرية، وزاد حجمُ التجارة خمسة أضعاف ما كانت عليه من قبل، وقلَّ حجم الجرائم.

ولكن جلادستون لم يكتفِ بذلك، بل راح يقدِّم المقترحات التي من شأنها تحسين أداء العصر الفيكتوري، فعاد ليذكِّرَ قُرَّاءَه بأن هناك بعضَ العيوب والنكسات. رغم كلِّ ما تمَّ إحرازُه من تقدُّمٍ. وأنهَى مقالَه باقتباس بيتَين من شعر تنيسون، زميله في الدراسة:

تقدم، أجل، ولكن تذكَّر كم يحتاج ذلك من الوقت،
تنحرف وتدور حول نفسها في خضمِّ الأمواج.
ورأى السياسي المحنك — جلادستون — أن مقابلَ كلِّ خطوتين إلى الأمام هناك دائمًا خطوة إلى الخلف، ولكن الحركة تستمر، والتقدم يتحقق، ويتخذ النهرُ مجراه إلى البحر.٢

ألا يمكن قول ذلك على الأمم المتحدة بعد ستين عامًا من إنشائها؟ من السهل الإشارة — اليوم — إلى العديد من الإخفاقات التي وقعَت فيها المنظمة الدولية، وقد سبق لنا مناقشتُها في الفصول السابقة من الكتاب، وتستهدف الجماعاتُ التي يُخيفها تطورُ المجتمع العالمي نحو الليبرالية والكوكبة، هذه الإخفاقاتِ وتضخمها. كذلك هناك انتقادات من أقصى اليسار تنعَى على الأمم المتحدة خذلانها للجماهير.

لقد قدَّمنا خلاصةً بما أنجزَته الأمم المتحدة في نهايةِ كلٍّ من الفصول الستة المتعاقبة التي تكون محورَ هذا الكتاب، وجميعها يُشبه ما يَرِد بالتقارير المدرسية عن نشاط التلاميذ: «إنجاز كبير، ولكن يجب أن يكون أفضل من ذلك». ويمكن القول — عامة — إن أجندات حقوق الإنسان العالمية، ورعاية الطفولة، وحقوق المرأة، والتعاون المتواصل في قضايا البيئة، وتقوية المجتمع المدني، قد حققَت تقدُّمًا، كما أُصيبَت بنكسات، ولكن ما تحقَّق من تقدُّم فيها لم يكن على مستوى أحلام أصحاب تلك الأجندات. وأخيرًا، فإن تقييمَ مساهمة المنظمة في التقدم الاقتصادي العالمي، ومكافحة الفقر ليس سهلًا؛ لأن القصة شديدةُ التعقد، ويزيد من تعقدها تذبذب مستويات الإنتاجية والنمو على المستوى الإقليمي بسبب عوامل داخلية. ومن السهل رصدُ دور الأمم المتحدة في مكافحة شلل الأطفال على مستوى العالم، ولكن من الصعب أن نجدَ لها علاقة بالنمو الاقتصادي الذي حقَّقَته سنغافورة مثلًا.

ربما كان حال العالم اليوم على درجة أكبر من السوء، لو لم تكن هناك منظمة الأمم المتحدة. فقد أوجدت — على الأقل — رأيًا عامًّا دوليًّا يضغط من أجل استجابة جماعية للأزمات والمشاكل العالمية، ويعتقد في جدوى الأدوات الدولية لإرساء دعائم السلام هنا، أو التنسيق الدولي لمواجهة كارثة إنسانية هناك. فإذا لم تكن هناك منظمة دولية على هذا النحو، لسعينا إلى إقامتها، أو إقامة بعضِ مؤسساتها.

وإذا كان لنا أن نقدِّم تقييمًا منصفًا للأمم المتحدة، علينا الإجابة عن هذا السؤال الجاد: ما الذي لدينا الآن بفضل وجود المنظمة الدولية، وما الذي لم يكن لدينا خلال الحرب العالمية الثانية (١٩٤٢–١٩٤٣م مثلًا)؟ وفيما عدا الإجابة على هذا السؤال، يصبح كلُّ معيار للتقييم ثانويًّا. فالأمم المتحدة تجمع حكومات وشعوب العالم، وهي صنيعةُ البشرية وإرثٌ لها، جاء أداء بعض مؤسساتها بائسًا، بينما جاء أداء بعضها الآخر على درجة عالية من الجودة، وهذا شأن البشر جميعًا، وليس من العدل أن نبخسَ الأممَ المتحدة حقَّها، وإلا ارتكبنا حماقة لا تغتفر.

أما التساؤل حول مدى صلاحية الأمم المتحدة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، فالإجابة عنه بسيطة: لا بد من معالجة نقاط الضعف في المنظمة الدولية، ودفْع الحكومات المترددة على القبول بالتغيير، وفهْم ما حقق مهامه (من مؤسساتها) جيدًا، وما عانى الصعوبات منها فنعمل على علاجه. فالعالم بحاجة إلى إمعان النظر في الأفكار، وصياغة الرؤى، فإذا تحقق المزج بينهما (على نحو ما حدث فيما بين ١٩٤٢–١٩٤٥م)، فسوف نتغلب على الصعاب، ونحقق العجائب.

وهكذا تصلح مقولةُ جلادستون لزمانه وزماننا. فقصة السنوات الستين المنصرمة من عمر الأمم المتحدة لم تكن سجلًّا حافلًا بالإخفاقات، تعثَّرت أحيانًا، ولكنها تابعَت المسيرة. وإذا نظرنا إليها نظرةً شاملة، سوف نُدرك أنها أفادَت جيلنا، بفضل خدماتها المدنية، وكرم مَن استطاعوا المساهمة في دعم نشاطها، وأن منافعها سوف تمتد إلى أبنائنا وأحفادنا أيضًا. ولكن استمرارها في العمل بصورة أفضل يحتاج إلى بذل المزيد من الجهود.

١  انظر القصيدة في: Adrian Day (ed.), Alfred, Lord Tennyson: Selected Poems (Penguin, 2003 rev, ed.) pp. 96–104. والقصيدة قدَّمت نقدًا لنصف قرن من حكم الملكة فيكتوريا والنزعة الليبرالية في ذلك العصر، مما جعل جلادستون يكتب مقالًا دفاعًا عنها في عدد يناير ١٨٨٧م من مجلة القرن التاسع عشر The Nineteenth Century.
٢  يمكن الاطلاع على مقتطفات من مقال جلادستون في Day (ed.), op. cit., p. 342.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤