الاتجاه المضطرب نحو نظام عالمي جديد ١٨١٥–١٩٤٥م
ولا غرابة في أن معظم تلك النصوص صِيغَت قرب نهاية حرب دموية كبيرة أو في أعقابها؛ فقد كانت الحاجة ماسة للفكاك من الفوضى الدولية، والتهرُّب من الصراعات المتكررة بين الدول والممالك، والعمل على إقامة سلام يعمر طويلًا. واتجهت جميعُ تلك الأفكار إلى البحث عن سبل لضبط أنانية الدول ذات السيادة، بإقامة شكلٍ من أشكال عصبة الأمم القادرة على اتخاذ إجراءات صارمة ضد الدولة التي تمثِّل تهديدًا للنظام القائم. لذلك كانت الآليات المقترحة حيوية، تفترض ميل البشرية إلى الصراع، ولكنها تثق بإمكانية التخلص من دوافعه بصورة نهائية، فهناك أدوات يمكن أن تقيِّد أنانية الدول، فيذهب سان بيير إلى أن تحقيق ذلك يتطلب جعْلَ كلِّ أعضاء المؤسسة المقترحة «في حالة اعتماد متبادل على بعضهم البعض». ومن هذه الرغبة السلبية، يمكن تحقيق منافع إيجابية، مثل: الانسجام الدولي، ورفع مستوى الرخاء، وترقية الفنون، وغيرها من المنافع.
ورغم هذه النزعة المحافظة، كان ثمة سعيٌ حثيث لمعالجة الأمور بقدر أكبر من اللبرالية، وخاصة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. وربما خابَت آمال دعاة السلم الدائم (فقد وقعت حروب صغيرة خارج أوروبا في العقود التي أعقبَت ١٨١٥م، كما وقعت حركات ثورية في القارة تم إخمادها بالعنف)، ولكن المصلحين امتدحوا أنباء تزايد التشريعات المحرمة للعبودية وتجارة العبيد، وتحرير الكاثوليك في بريطانيا واليهود في فرنسا وإمبراطورية الهابسبورج، والحد من أو إلغاء التعريفات الجمركية الحمائية مثل قوانين القمح، لا بسبب عدم وجود فرصة يتيمة لتحويلها، ولكن لأنها قيدت الحركة في الاتجاه نحو السلم العام، والمساواة، والاعتماد المتبادل. لم يكن تنيسون في تفاؤله حول قدرات الإنسان على تحقيق التقدم نسيجًا وحده، ولكنه عندما صاغ قصيدته «لوكسلي هول» سبقه وصاحبه وتَبِعه بعض الشخصيات البارزة في التراث الليبرالي الغربي، مثل سميث، وريكاردو، وبنتام، وكانط، وميل، وكذلك معاصرُه العظيم وزميله في الدراسة الذي أصبح رئيسًا لوزراء بريطانيا، وليم جلادستون الذي حاول أن يحوِّل الفكرة إلى واقع عملي، شأنه في ذلك شأن نظرائه من السياسيِّين.
غير أن ما لم يذكره العالم الاقتصادي الكبير أن ثمة عوامل محبطة في النظام الدولي، أولها أنه ظل متمركزًا في أوروبا، خماسيًّا في جوهره حتى نهاية التسعينيات من القرن التاسع عشر، وعندما انضمَّت إليه الولايات المتحدة واليابان في أواخر القرن أصبح سباعيًّا، قاصرًا على الدول الكبرى التي تمارس نشاطها الاقتصادي منفردةً أو بالاشتراك مع غيرها من الدول الكبرى. وجاءت معاهدة بورتسماوث عام ١٩٠٥م، التي لعب فيها تيدي روزفلت دورَ الوسيط لوضع نهاية للحرب الروسية-اليابانية، جاءت تأكيدًا للنظام القديم بدلًا من أن تكون فاتحة تعامل من نوع جديد مع مثل تلك القضايا، رغم حصول روزفلت على جائزة نوبل للسلام تقديرًا للدور الذي لعبه. والعامل الثاني يتمثل في أن التقدم الذي حققَته التوجهات العالمية التي تجاوزت التعصب القومي (الكوزموبوليتانية)، فإن ذلك لم يوقف الدول عن التكالب من أجل اقتناء المستعمرات في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا، والمحيط الهادي، فقد كانت الفترة ١٨٧٠–١٩١٤م عصر استحواذ «الشمال» على «الجنوب». وكان المجتمع المدني الدولي قاصرًا على الدول الغربية، والممتلكات البريطانية، واليابان، والدول المستقلة بأمريكا اللاتينية، وظل كذلك حتى الأربعينيات من القرن العشرين. أما الشعوب الخاضعة للاستعمار فظلت خارج نطاق المجتمع المدني الدولي.
كذلك لم يحل الاندماج العالمي المتزايد دون الحشد الكبير للسلاح بالصورة التي لم يشهدها العالم من قبل ذلك العصر، فقد أدى انتصار الجيش البروسي على إمبراطورية الهابسبورج عام ١٨٦٦م، إلى زيادة الاهتمام بإصلاح الجيوش جميعًا من حيث الكم والنوع، وأصبح تجنيد الملايين من الشباب زمن السلم أمرًا شائعًا فيما عدا بريطانيا وأمريكا. وبلغت ميزانيات الدفاع أرقامًا خيالية. وبعد الاتصالات السرية بين بسمارك والنمسا عام ١٨٧٩م، اتجهت الدول الكبرى إلى عقد محالفات مع بعضها البعض تعهَّدت في كلٍّ منها بأن تهبَّ لنجدة حليفتها في حالة تعرُّضها للعدوان. وإلى جانب إعداد الجيوش، كان هناك سباقٌ حامي الوطيس لبناء وتجهيز الأساطيل البحرية؛ فالبحرية الملكية البريطانية في مواجهة البحريَّتَين الروسية والفرنسية، وقامت الأساطيل الأمريكية واليابانية، وكذلك العداء البريطاني-الألماني عبر بحر الشمال. والحق أن الفترة من ١٨٧١ حتى ١٩١٤م كانت محيرة شديدة التعقيد، فكانت تشهد أدلةً متزايدة على الترابط الدولي في جانب، وفي الجانب الآخر كانت هناك الصراعات القومية والدعوة إلى الحروب، والأفكار الداروينية الاجتماعية التي تعقد للأقوى لواء النصر في الصراعات. وهي على هذا النحو شديدة الشبه بعالم اليوم؛ حيث تسود النظريات التي تُثير المخاوف من بروز القوى العظمى الآسيوية، وإدراك إمكانية تصاعد النشاط الإرهابي، جنبًا إلى جنب مع توفر الأدلة حول تعاظم العولمة، وتزايد الاعتماد المتبادل عند كل الشعوب.
ولكن هذه الحرب اختلفت عن حرب السبعين (١٨٧٠م)، وعن الصراع من أجل الهيمنة الذي عرفته أوروبا فيما بين ١٧٩٣–١٨١٥م؛ فقد جمعت الحرب العالمية بين الفوضى الدولية في يد، والتطور الصناعي الحديث الواسع النطاق في مجال السلاح في اليد الأخرى. واستعصَت تمامًا على الفهم الخسائر الهائلة في الأرواح على الجبهة الغربية وفي إيسونزو، والجبهة الشرقية، والبلقان والأطلنطي وبلاد الرافدين. وعلى سبيل المثال، عندما اضطر الجيش البريطاني إلى التوقف في نهاية اليوم الأول من معركة سوم في يوليو ١٩١٦م، كانت قد لحقَت به ستون ألف إصابة منها عشرون ألف إصابة بالغة الخطورة. (وحتى نُعطيَ تصورًا لأبعاد هذه الخسائر، بلغت خسائر الولايات المتحدة في فيتنام بعد أكثر من ٢٥ عامًا من القتال نحو ٥٨ ألف جندي). وهكذا قاد حرْصُ كلِّ طرف على إظهار قوته وإصراره وصلابته في المعارك، إلى نتائج خطيرة لم تدخل في حسبان صناع القرار عام ١٩١٤م الذين لم يستمعوا إلى تحذيرات الليبراليين — قبل الحرب — الذين تنبئوا بأن الصراع الصناعي الحديث سوف يهزُّ أعمدة الحياة الغربية ويزلزل المجتمع. لقد أدت الحرب إلى نقل موازين القوة الاقتصادية عبر الأطلنطي إلى الولايات المتحدة، وأثرت تأثيرًا سلبيًّا على الهيمنة الأوروبية. وأدَّت إلى سقوط حكم الأباطرة من أسرات هوهنزولرن وهابسبورج، ورومانوف، وقيام العديد من الدول على أنقاضها. لقد حولت الشرق الأوسط، ودعَّمت مطالب اليابان في المحيط الهادي والشرق الأقصى. وفتحَت الطريق أمام الثورة البلشفية، وأمام الاتجاهات الفاشية في أوروبا وغيرها.
وجاء إحياء فكرة تنيسون عن ضرورة اجتماع كلمة البشرية على جمع شمل الدول قبل أن تدمر العالم، جاء ذلك كردِّ فعلٍ للكارثة التي نجمَت عن الحرب. وبعد عام من اندلاع المعارك قام أناس من مختلف البلاد — اللورد روبرت سيسيل من بريطانيا، وليون بورجوا من فرنسا، والجنرال يان سمتس من جنوب أفريقيا، والرئيس وودرو ويلسون ومستشاره الكولونيل إدوارد هاوس من الولايات المتحدة — قاموا بوضع مشاريع مختلفة لتأسيس منظمة تجمع الدول بعد الحرب، تهدف إلى منع انفجار الصراعات مستقبلًا من خلال هيئات استشارية توفيقية. وجاء انتصار الحلفاء عام ١٩١٨م ليعطيَ هذه الأفكار الفرصة لكي تصبحَ موضوع مفاوضات سياسية في مؤتمر باريس للصلح (ولا مناص من الشك في أن انتصار ألمانيا كان من شأنه أن يقود إلى مثل هذه المحادثات التي أدَّت إلى إقامة منظمة دولية). وأسفرَت المفاوضات عن وضع ميثاق «عصبة الأمم»، وهو اتفاق أرسَت مواده القواعد والإجراءات التي يلتزم بها أعضاء العصبة لتسوية جميع النزاعات التي تنشأ مستقبلًا. وكان من حقِّ أيِّ دولة ذات سيادة صغرت أم كبرت أن تنضمَّ إلى عضوية العصبة، وتشارك في فعاليات وقرارات هذه المنظمة الجديدة (فيما عدا دول الوسط المهزومة التي كان عليها أن تنتظر إلى حين).
وهكذا كانت هناك «جمعية» تضم كلَّ دول العالم (غير المستعمرة) ولكن اجتماعاتها في جينيف المحايدة ليس لها مواعيدُ محددة، وكان الوزن الفعلي للعصبة يتمثل في «مجلس عصبة الأمم» الذي كان يتكون من تسعة أعضاء من بينهم الدول الخمس المنتصرة في الحرب، أما بقية المقاعد فيشغلها أربعة من الأعضاء بالتناوب عن طريق الانتخاب على أساس إقليمي. لقد حقق النظام الدولي تقدمًا — ما في ذلك شك — من مجرد الاقتصار على الدول الخمس الكبرى التي أدارت الأمور بعد ١٨١٤م، غير أن ترتيبات العصبة، شأنها في ذلك شأن تلك التي وضعها مؤتمر سان فرانسسكو عام ١٩٤٥م، جاءت في إطار التوفيق بين التطلع إلى المساواة عند الدول الصغيرة والمتوسطة، والامتيازات التي تتمتع بها الدول الكبرى القوية المحدودة العدد، والتي كانت لها اليد العليا في العصبة.
غير أن ذلك هو ما استطاع المجتمع الدولي تحقيقَه على طريق إقامة برلمان الإنسان، وأوجدَت ممارسات العصبة قدرًا من الإثارة والأمل فيما بين العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. بعد ذلك فقد تبلورت الفكرة القائلة بأن تجربة العصبة كانت عديمةَ الجدوى. وإن كان التفاؤل الذي صاحب قيامَها والمراحل الأولى من حياتها كان له ما يُبرره؛ فللمرة الأولى في تاريخ البشرية قامت منظمة دولية اتخذت من دولة محايدة مستقرة مقرًّا لها، أخذت على عاتقها حل المشكلات بالطرق السلمية، ومن ثَم تفادَت اللجوء إلى الحرب. وبهرت الكثير من دول العالم بالاجتماعات الدورية والاجتماعات الطارئة في جينيف، وشعر الكثيرون بالسعادة لما كانت تبشر به تلك الاجتماعات. وأحسَّت الدول الصغرى مثل بلجيكا، وتشيكوسلوفاكيا، وفنلندا، وكولومبيا بأنه قد جاء الوقت الذي احتلت فيه مقعدًا على المائدة العالية المقام.
وأحرز الاتجاه نحو التعاون الدولي تقدمًا على أربع جهات متوازية خلال العشرينيات من القرن العشرين. الجبهة الأولى، على ما يمكن أن نسميه المستوى الفني البحت، وإن كان معظم العمل على هذه الجبهة بعيدًا عن التجرد، وبدأت «منظمة العمل الدولية» نشاطها بتقديم عرض عام لمستويات العمل. كما كانت هناك لجنة للأفيون وأخرى لمقاومة بما سُمِّيَ «تجارة الرقيق الأبيض» (البغاء القسري على الصعيد الدولي). وكانت هناك اتفاقيات خاصة بالطيران المدني الذي شهد توسعًا سريعًا في العشرينيات. وازدهرت الاتحادات الدولية للبريد والبرق، وكذلك الاتفاقيات البحرية. وكانت معظم تلك الهيئات حكومية خالصة ولا تخضع مباشرة للعصبة. غير أنها كانت تمثِّل جانبًا من النظام الدولي المرتبط ارتباطًا وثيقًا بعصبة الأمم. حتى الأمريكان والسوفييت الذين كانوا يتوجسون من الروابط الخارجية، وجدوا في الهيئات الدولية شيئًا نافعًا. ومن الطريف أن نلاحظ أن هذه الهيئات الفنية كانت تحظى بالاحترام حتى إنها انضمَّت إلى منظمة الأمم المتحدة في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين.
وجديرٌ بنا أن نُشيرَ إلى الجهود السياسية الإيجابية الأخرى للعصبة. أولها الإصرار (خاصة من جانب البريطانيِّين والأمريكان في فرساي) على الاعتراف بحقوق الجماعات العِرْقية (الإثنية) وتوفير الحماية لها. وتم فرض ذلك على النظام البولندي الجديد عام ١٩١٩م (بما في ذلك الاعتراف بحقوق اليهود)، ثم امتدَّ إلى عدد من الدول الأخرى الجديدة في وسط وجنوبي أوروبا. وكانت هناك شكاوى من تلك المعايير المزدوجة التي ألزمت الدول الجديدة وحدها بالتزام العدل في تعاملاتها مع الأقليات، رغم وقوع العديد من حوادث اضطهاد اليهود التي وقعت فيما بعد في بعض الدول الحديثة النشأة مثل ألبانيا ولاتفيا وبولندا ويوغوسلافيا. فلم تكن هناك حاجة تلزم العصبة بأن تطلب من النرويج الحفاظ على حقوق الأقليات الإثنية. فلم تلتزم كل أو الكثير من الدول الثلاث عشرة التي اعترفَت بالأقليات «كهويات جماعية» بتنفيذ قرارات العصبة، ولكنهم أحسوا — على الأقل — أنهم موضع رقابة دولية.
ومما يدعو إلى السخرية، أن الدول الإمبريالية ذاتها خضعَت للرقابة، منذ أن وافقوا في فرساي على مبدأ التفتيش من جانب العصبة على البلاد التي انتُدبوا عليها وبحق العصبة في إعداد تقارير عن الأقاليم الخاضعة للانتداب والتي انتزعَت من ألمانيا والدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. وقد أذعنَت بريطانيا لذلك بشيء من البرود، بينما رفض الفرنسيون أن تراقب العصبة ما كانوا يفعلون في سوريا ولبنان، ورفض اليابانيون — ببساطة — أن يوافوا العصبة بتقارير حول إدارتهم لجزر المحيط الهادي الوسطى التي استولوا عليها من الألمان عام ١٩١٤م. وتحولت تقارير الانتداب — من الناحية العملية — إلى سابقة تم إقرارها بغضِّ النظر عن فاعليتها والتزام الدول الصاحبة الشأن بها. والمجال الثالث الذي أحرز تقدمًا في النظام الدولي يقع خارج نطاق العصبة ذاتها، ويتمثل في مجموعة من الاتفاقات المبرمة بين الدول الكبرى القريبة الشبه بالنظام البسماركي، غير أنها كانت ذات مغزى. ففي ١٩٢١–١٩٢٢م وقَّعت كلٌّ من الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وفرنسا وإيطاليا سلسلةً من الاتفاقات في واشنطون. وكانت تلك اتفاقات تفصيلية حول القوى البحرية، والقواعد المحصنة، واحترام استقلال الصين، مع بعض الدعوات إلى إقامة سلام دائم في الشرق الأوسط. والنقطة الحقيقية الجديرة بالملاحظة أنه بينما تضمَّنَت تلك الاتفاقات تحديدَ القوات البحرية (ولا يشمل ذلك أعدادَ السفن على اختلاف أنواعها، ولكن يشمل استخدامها وحجم مدافعها)، مما يجعل هذه الاتفاقات إنجازًا هامًّا على طريق المفاوضات الخاصة بالتسلح، كانت تلك الاتفاقات بمثابة «صفقات صبيانية» بين خمسٍ من الدول البحرية الكبرى.
وقد خفف من ذلك المجال الرابع الذي تمثَّل في تحقيق انتعاش اقتصادي (وإن غلبَت عليه الهشاشة) في تلك الحقبة. فقد تركَت الحربُ العالمية الأولى آثارًا سيئة على الاقتصاد الأوروبي، واستمر ذلك في السنوات التي أعقبَت الحرب، ولكن مشروعات الاستقرار الاقتصادي المتعلقة بديون الحرب والتعويضات (خطة داوز عام ١٩٢٤م ولجنة يانج عام ١٩٢٩م) إلى جانب تدفُّق الاستثمارات الأمريكية القصيرة الأجل على أوروبا في العشرينيات، كل ذلك خلق معجزةً صغيرة. فازدهرَت صناعات السيارات والطائرات والكيماويات، وتحسَّن قطاع الإسكان، وبدأت الطبقة الوسطى تعود إلى سوق السياحة، وبدأ نظام السلام الجديد يحقق النتائج.
ولكن النظام حقَّق إخفاقًا شديدًا في مجال الآمال التي عُلِّقَت على العصبة، والإنجازات التي تحققَت في مجال المجتمع المدني الدولي بعد عام ١٩١٩م؛ فقد فشل ذلك كله في مدى يقلُّ عن العقدَين من إنشاء العصبة. وربما يصعب على أيِّ منظمة دولية لحفظ السلام أن تعمر طويلًا في خضمِّ الصراع الأيديولوجي والمصاعب الاقتصادية، والأطماع التي صاحبَت التفاؤل باتفاقات لوكارنو. ولكن العصبة حاولت الصمود، وبانتهاء عقد العشرينيات وحلول الثلاثينيات ازداد ضعفُها وضوحًا.
فمنذ البداية، لم تكن العصبة منظمة دولية حقيقية؛ فقد كان نحو نصف بلاد العالم لا يزال خاضعًا للتبعية الاستعمارية وليس ممثلًا بالعصبة (وكانت هناك دولتان متقدمتان — على الأقل — هما اليابان وإيطاليا، تسعيان لزيادة مساحة مستعمراتهما)، ومزَّقت الحرب الأهلية أراضي روسيا الشاسعة، وتمخضَت عن إقامة الكيان الغامض والمعزول المسمَّى بالاتحاد السوفييتي الذي لم يكن له موقع في العصبة، رغم مشاركة موسكو في بعض الوكالات الفنية التابعة للعصبة، ولكن الاتحاد السوفييتي اعتبر العصبةَ شكلًا من أشكال المؤامرة الرأسمالية التي يجب مقاومتها (وقد ظل الاتحاد السوفييتي متمسكًا بهذا الموقف حتى منتصف الثلاثينيات عندما انضم إلى العصبة برشاقة بعدما خرجت منها ألمانيا). ولم تأخذ اليابان العصبة مأخذ الجد. أما ألمانيا المهزومة، فلم يُسمح لها بالانضمام إلى العصبة إلا عام ١٩٢٦م، وأخرجها هتلر منها عام ١٩٣٣م، فكانت عضويتها محدودة لم ينافسها من حيث القِصَر سوى عضوية الاتحاد السوفييتي الذي طُرد من العصبة عام ١٩٤٠م بعد غزوِه لفنلندا، وهي الدولة الوحيدة التي أسقطت عضويتها عن طريق التصويت بمجلس العصبة. وقد كان ويلسون قد أصر — في أوائل أيام العصبة — أن يقتصر عضويتها على الدول الملتزمة بالديمقراطية، وربما شعر بخيبة الأمل لو ألقى نظرة على قائمة العضوية في الثلاثينيات.
لقد كانت فرنسا تُصرُّ على أن تكون «العصبة ذات أنياب» — مدفوعة في ذلك بما عانَته من عدوان ألمانيا طوال نصف قرن من الزمان — فرأت أن تكون العصبة منظمة قادرة على اتخاذ قرارات جماعية وعملية لمنعِ أيِّ محاولة لتغيير الحدود التي أقرَّها مؤتمر الصلح، فهي تريد تجميد حركة ألمانيا. وشاركَت فرنسا هذا الموقف، الدول التي أنشأتها اتفاقيات الصلح في وسط وشرق أوروبا مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، وجميعها كان ينتابها القلق من الأقليات الإثنية التي قد تُثير موضوع تحديد الحدود التي رسمَتها اتفاقيات ١٩١٩–١٩٢٣م، وجميعها تخشى ألمانيا وتسعى إلى إيجاد نظام فعال لعقاب المعتدي. وعلى نقيض ذلك، كانت بريطانيا ترى في العصبة أداة للتهدئة ومعالجة الاحتقانات بالحكمة، ولا تعتبرها شرطًا دوليًّا صارمًا. ورأت الحكومات البريطانية المتعاقبة أن لديها ما يكفي مئونة التورط في مشكلات وسط أوروبا المعقدة. وكان المرشحون في الانتخابات البريطانية يُجمعون على رفض فكرة الالتزام ومساندة سياسة فرنسا الأوروبية، ويتجهون نحو التركيز على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا، ويفضِّلون ذلك على التوسع في الاتفاق العسكري وبناء المزيد من القوات المسلحة.
وكانت الممتلكات البريطانية تسعى بقوة تجاه الاستقلال التام، وشهدَت الهندُ ومصر والكثير من بلاد الشرق الأوسط موجاتٍ من الاضطرابات السياسية. كما كان الاقتصاد البريطاني — صنيعة القرن التاسع عشر — يسعى للتوافق مع القرن العشرين. وتم إنقاص القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية، رغم أنه كان عليها حفْظ الأمن في إمبراطورية تشكِّل نحو ربع مساحة العالم. لم يكن الوقت عندئذٍ يسمح بدعم مطالب فرنسا المتوترة دائمًا أو يسمح بتبنِّي بريطانيا قضايا بلاد بعيدة، لا تعلم عنها شيئًا (على حدِّ تعبير تشمبرلين بعد عودته من ميونخ عام ١٩٣٨م).
كانت هناك — بالطبع — مشكلة بنيوية كبيرة تتعلق بالمحافظة على السلام، مبعثها غياب التوازن بين أعضاء العصبة. كان من الميسور تمامًا على أعضاء الجمعية العامة للعصبة من أمثال فنلندا أو شيلي، أو حتى نيوزيلندا التي لم تكفَّ عن التحريض، الدعوة إلى فرض حصار بحري على الدول العدوانية في عقد الثلاثينيات، ولكن مَن كان باستطاعته — فعلًا — أن يقدم الأساطيل والجنود الذين يطبقون قرار الحصار؟ في ظل ما أبدَته اليابان من امتعاض، وحرص الولايات المتحدة على التمسك بعزلتها، يقع العبء على البحرية الملكية البريطانية، مع احتمال أن تجد عونًا من فرنسا (إذا كان الحصار موجَّهًا ضد ألمانيا). وقد اعترضت قيادة البحرية الملكية على القيام بهذه المسئولية. ولما كان ميثاق العصبة لا يُلزم الدول الأعضاء باتخاذ إجراءات اقتصادية أو عسكرية ضد العدوان، ولكنه يدعو إلى الاتفاق على اتخاذ موقف جماعي، قد يكون محلَّ اعتراضِ أيٍّ من الدول الأعضاء، جعل العصبة عاجزةً عن القيام بعملٍ فعَّال إلا في الحالات التي لا تمسُّ مصالحَ الدول الكبرى، وتتطلَّب إجبارَ إحدى الدول الصغرى «المارقة» على أن تثوب إلى رشدها.
وهكذا كان نظام الدول متأرجحًا؛ اثنتان من الدول السبع (بريطانيا وفرنسا) لعبتَا الدور القيادي في جينيف، رغم ما بينهما من خلافات شديدة. على حين قامت الدول الثلاث (ألمانيا، اليابان، إيطاليا) اللاتي لم يشعرنَ بالرضا، برعاية أهدافهن لمراجعة الميثاق، وتربصَت كلٌّ منهن انتظارًا لفرصة تحقيقها، وبذلك زادوا من حيرة الدول التي أيَّدَت الحفاظ على الوضع الراهن. ترى مَن كان مصدرًا للتهديد البالغ للسلم عام ١٩٣٥م، أهي ألمانيا في وسط أوروبا، أم إيطاليا في البحر المتوسط، أم اليابان في الشرق الأقصى؟ إذا تيسر الوقوف في وجه إحداهما لمدة أسبوعين، فلا بد من تحييد الآخرين أو العمل على عدم تداخل أعمالهم العدوانية. وأخيرًا، هناك القوتان الكبيرتان: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، تتمسك كلٌّ منهما بنظام التوازن القديم، لا ترغبان في مدِّ يدِ العون للعصبة، وتنتظران عند الجناحَين. فإذا نظرنا إلى العصبة من هذا المنطلق لاكتشفنا أنه لم تكن أمام عصبة الأمم فرصة لتحقيق أحلام ويلسون، وربما كان علينا أن نُحيِّيها على القليل الذي استطاعَت فعله. لقد شعر صناع السلام أنهم قد فعلوا ما استطاعوا فعله، ولكن مجرى الأحداث في الثلاثينيات كان موحيًا بمستقبل يختلف تمامًا عن ذلك الذي توقعه ويدرو ويلسون، أو جورج كليمنسو أو دافيد لويد جورج.
كان الخلل في توازن القوى يُنبئ بالمصير المحتوم، ولكن ظروف أوروبا المالية والتجارية البائسة بعد عام ١٩١٩م كانت بعيدة عن إمكانية التعاون ربما على نحو لم يشهده العالم منذ كارثة طاعون الموت الأسود. تم تجفيفُ الموارد المادية والعسكرية للمستعمرات نتيجة استنزافها، ودمرت الحرب الدول المهزومة. وفي روسيا التي عانَت من الحرب الأهلية تدهور الإنتاج الصناعي عام ١٩٢٠م ليصل إلى ١٣٪ فقط مما كان عليه عام ١٩١٣م. ولم تستطع بريطانيا صاحبة الإمبراطورية الكبرى أن تُعيدَ إنتاجها القومي إلى مستوى ما كان عليه عام ١٩١٣م قبل عام ١٩٢٩م، ولكن ما لبث أن داهمها الكسادُ الكبير، واستفادَت بعض الدول البعيدة عن ميدان الحرب اقتصاديًّا من تلك الحرب، مثل اليابان والولايات المتحدة والأرجنتين وبعض الممتلكات البريطانية مثل أستراليا. ولكن أوروبا — مركز الاقتصاد العالمي عندئذٍ — نزلَت بها خسائر فادحة. وكان ذلك سببًا في كساد التجارة الدولية وإعاقة تدفُّق رأس المال. وبدَت علامات استرداد الاقتصاد الأوروبي لبعض عافيته في منتصف العشرينيات نتيجة تدفُّق الأموال الأمريكية، ولكن عند وقوع الأزمة عام ١٩٢٩م حيث بدأ الكساد الكبير، تم سحب الاستثمارات الأمريكية من السوق الأوروبية. وتلقَّت عصبة الأمم ضربة موجعة؛ لأن اللاعبين الكبار فيها كانوا على علاقات سيئة ببعضهم البعض بسبب الأزمة الاقتصادية، وذلك رغم أن ميثاق العصبة لم يقحمها في الأمور المالية.
وحقيقة الأمر أن النظام الذي دعا إليه ويلسون بعد ١٩١٩م، لم يُسفر عن قيام آلية دولية تعمل على تخفيفِ وقْعِ الضربات التي تُوجَّه للنظام النقدي وأسواق الأوراق المالية المضطربة أو تعمل على احتواء تلك الضربات. وقبل العام ١٩١٤م، قام النظام النقدي لحاله، معتمدًا على غطاء الذهب، وعلى بنك إنجلترا ودوره كمصدر أخير للائتمان، قادر دائمًا على السداد. وبحلول عام ١٩١٩م ونتيجة تكلفة الحرب كانت بريطانيا أكبر مدين دولي، ولم تَعُد قادرةً على إقراض الغير، وانتقل مركز الثقل المالي من لومبارد ستريت (في لندن) إلى وول ستريت (في نيويورك). وهنا يكمن بيت القصيد؛ فقد ناضل البريطانيون نضالًا شديدًا بعد عام ١٩٢٠م لاسترداد مكانتهم البارزة في الاقتصاد العالمي التي كانت لهم قبل الحرب، ولكن لم تتوافر لديهم الإمكانيات التي تُعينهم على ذلك. وكان لدى الأمريكان من الموارد ما يُتيح لهم خلافة بريطانيا كمركز للاقتصاد الدولي، ولكنهم لم يرغبوا في ذلك؛ نتيجةً لذلك حدث تدفق هيكلي آخر كان من الممكن تصحيحه فقط في حالة توفر روح غير عادية وغير طبيعية من الأريحية الأمريكية، وهو ما حدث في عقد الأربعينيات، ولكن كان ذلك بعيدًا عن التحقيق، بل مستحيلًا في ظل العشرينيات التي تمثِّل ذروة عصر العزلة.
وكان للصعوبات المالية والتجارة نتائجها السياسية والاجتماعية، فأخذ النشاط الاقتصادي في التدهور بعد عام ١٩٢٩م، وتفاقمت الآثار المدمرة للأزمة الاقتصادية: فقد أصاب الانهيار المالي العديد من الدول، وتناقص الإنفاق نتيجة المعايير التي واجهت الميزانيات، وترتب على ذلك آثار سلبية على طلبات الشراء، والمبيعات، والمحال التجارية، وأدى ذلك إلى استغناء المشروعات الصناعية والتجارية عن خدمات الكثير من العمال، وأثر ذلك — بدوره — على القدرة الشرائية. مما ترتب عليه — أيضًا — المزيد من تناقص الإنتاج الاقتصادي. وما كان يحدث بصورة كارثية على مستوى الدول، كان وقْعُه خطيرًا على صعيد الأوضاع المالية والتجارية الدولية: سرح ملايين العمال في كل بلد، وراحَت كلُّ دولة تلوذ بجحر الانكماش الاقتصادي مودعة آمالها في الرخاء. وتهاوَت أحلام منتصف العصر الفيكتوري التي تنبَّأَت بالتجارة الحرة، والليبرالية العالمية، وحسن النوايا بين الدول، تهاوَت في عالم سادَه الخوفُ والشك. انهار المركز واتجهَت بعضُ الجماهير المحبطة في أوروبا واليابان صوب معسكر اليسار المتطرف، وهم على يقين أنهم لن يعدموا الطريق إلى نظام شجاع جديد يحقق العدل والمساواة. واتجه البعض الآخر إلى معسكر اليمين المتطرف، وهم يمنون النفس برؤية هزيمة قوى الشر التي خرجَت على تعاليم المسيحية، ومعهم عناصر السوء التي أضرت بالمجتمع.
كثيرًا ما يقال إنه لو كانت الدول الغربية — وخاصة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة — وقفَت وقفة حازمة في مواجهة الغزو الياباني لمنشوريا، لما أدَّت الأمور إلى قيام الحرب العالمية الثانية؛ فغزو منشوريا كان بمثابة قطعة الدومينو الأولى التي لو ظلت واقفة لما تداعَت باقي القطع. ربما كان من الممكن ردْع موسوليني نظرًا لمحدودية موارده، لو اتبعت معه سياسةَ العمل الحازم في مواجهة محاولته تغييرَ الحدود المتفق عليها، ولكننا نشك في إمكانية زحزحة أدولف هتلر عن خططه الجنونية للإطاحة بتسويات فرساي. على كلٍّ، وقع الضرر بالفعل، ولم يتمَّ ردع اليابان. قامت إحدى الدول الكبرى بتجاهل المبادئ التي وضعت عام ١٩١٩م، ولم تفعل الدول الكبرى الأخرى شيئًا سوى الكشف عن خلافاتها علنًا، وافتضاح عجزها. وأصبح ضعف عصبة الأمم واضحًا تمامًا.
ولكن، كان هناك المزيد. فقد انهارَت تمامًا المفاوضات الألمانية-البريطانية-الفرنسية التي دارَت في الفترة ١٩٣٢–١٩٣٤م حول نزع السلاح البري والجوي. طالبَت ألمانيا (بما في ذلك ألمانيا فيمار) بحقِّها في بناء قواتها المسلحة. وبذلك أسدلَت الستار على الحظر الذي فرضته عليها تسويات فرساي في امتلاك قوات جوية أو مدرعات أو أسطول حربي كبير. كانت فرنسا على استعداد للموافقة في حالة تعهُّد بريطانيا بالوقوف إلى جانبها عسكريًّا في حالة وقوع عدوان ألماني، وهذا أمرٌ كان موضع مراوغة بريطانيا عام ١٩١٩م، ولكنها أصبحت أقلَّ رغبة فيه بعد عقد من الزمان، نتيجة المتاعب الناجمة عن الأزمة الاقتصادية، والصعوبات المالية مع أمريكا، وتحركات اليابان في الشرق الأقصى، والتردد الشديد من جانب الممتلكات البريطانية (فيما عدا نيوزيلاندا) في الالتزام بشيء. وفي غضون فشل المفاوضات الخاصة بنزع السلاح مع ألمانيا، وصل الحزب النازي إلى السلطة، وانتهج هتلر سياسة إعادة التسلح على نطاق واسع. وبدأت فرنسا تفقد أعصابها نتيجة توالي الحكومات وعجزها عن مواجهة الأحوال الاقتصادية المتردية. وعكست مرآة مجلس الوزراء البريطاني حذرها؛ فرغم تردده اتخذ قرارًا بزيادة حجم القوات المسلحة، ولكن العمل جاء بطيئًا في هذا الاتجاه. وبدأت أشباح الحرب العالمية الأولى تلوح في الأفق، وأخذت سحب حرب كبرى جديدة تتجمع في الأفق.
كان موقف العصبة من غزو إثيوبيا محزنًا. لقد أكد المقولة التي يعشقها الواقعيون ويكرهها المبررون، والتي مفادها أن المنظمات الدولية تعمل بكفاءة فقط عندما تُقرر الدول الكبرى العمل دفاعًا عن مصالحها. لقد أصبح معروفًا الآن من الوثائق الأرشيفية أن الاقتصاد الإيطالي كان متهاويًا، وأن القوات المسلحة الإيطالية كانت منتشرة على مساحات واسعة ومرهقة، وأن أيَّ عملٍ جادٍّ حازمٍ من جانب الأسطولَين الفرنسي والبريطاني كان كفيلًا بإنهاء هذا العدوان على وجه السرعة. ومن شأنه أن يُعليَ من قدر عصبة الأمم، غير أن ذلك لم يحدث. فقد كانت بريطانيا مشغولة للغاية بمسائل أخرى داخلية وإمبراطورية. وفرنسا كانت مشلولة بسبب بروز قوة ألمانيا، والخشية من أن يؤديَ أيُّ عمل ضد إيطاليا إلى ارتمائها في أحضان ألمانيا (الذي ما لبث أن حدث للأسف). الولايات المتحدة لم تفعل شيئًا إلا الإعلان عن تمسُّكها بحقوقها التجارية في إثيوبيا، وبقيَ الاتحاد السوفييتي ملتزمًا الصمت، بينما كانت اليابان تعدُّ العدة لغزو الصين ذاتها. وقام وزيرَا خارجية بريطانيا وفرنسا بمحاولةٍ تعسةٍ (اتفاق هور-لافال ١٩٣٥م) فاز بموجبها موسوليني بنصيب الأسد من أراضي إثيوبيا، ولكن إعطاء بعض مناطق لصالح إيطاليا، أثار نقدًا شديدًا في بريطانيا؛ حيث كان الرأي العام سلبيًّا، يناصر فكرة تدخل العصبة (دون أن يترتب على ذلك الدعوة للحرب). كان الأمر كله مضطربًا، وفي الوقت نفسه — مارس ١٩٣٦م — احتلَّت قوات هتلر أراضي الراين لتتحول قضية مراجعة اتفاقيات ١٩١٩م إلى قلب أوروبا.
وكانت النتيجة، تلك القائمة الطويلة من الهجوم على النظام الدولي الذي أدى — في النهاية — إلى قيام الحرب العالمية الثانية. وفي صيف ١٩٣٧م غزت اليابان أراضي الصين ذاتها، صاحبَها الكثيرُ من الأعمال الفظيعة المثيرة للرعب (اغتصاب نانكنج مثلًا)، والهجوم المتعمد على السفن الغربية حتى يظلوا بعيدًا عن اليانجستي وموانئ المعاهدات عند نهاية العام. ولم تُجدِ الاحتجاجات الدبلوماسية نفعًا، واستمر الغزو في طريقه. وبعد ذلك ببضعة شهور — في مارس ١٩٣٨م — أمر هتلر قواتِه باجتياح النمسا؛ حيث استقبله أهلها (باعتباره واحدًا منهم) بفرح شديد، فيما عدا اليهود والاشتراكيِّين، والعمال النقابيِّين واللبراليِّين الكاثوليك. كان نموذجًا دقيقًا لقلب نظام الحكم صباح الأحد. وبينما كان الفرنسيون أسرى الأزمة السياسية، نَعِم أعضاءُ مجلس الوزراء البريطاني براحة يوم الأحد في ضِياعهم بالريف مستمتعين بجو مطلع الربيع، أما العصبة فلم تفعل شيئًا. وأنَّى لها ذلك، والدول الكبرى لا تُبدي اكتراثًا، والكثير من الرأي العام يعتقد أنه ما دام النمساويون يتحدثون الألمانية، وطالبوا عام ١٩١٩م بالانضمام إلى ألمانيا (ولكن طلبهم قوبل بالرفض) فكيف يُعدُّ اجتياح هتلر للنمسا عملًا عدوانيًّا؟
ثم جاءت أكبر أزمة واجهَت مبدأ سيادة القانون الدولي. ففي صيف/خريف ١٩٣٨م ثم في ربيع ١٩٣٩م تحرك هتلر ضد دولة مستقلة ذات سيادة هي دولة تشيكوسلوفاكيا التي صنعها مؤتمر فرساي، مما يُعدُّ عدوانًا كبيرًا ضد النظام الدولي تم بطريقة درامية بما كان له من جاذبية. فحتى أولئك الذين كانوا من مؤيدي الحرب لاستعادة الأقاليم التي تتحدث الألمانية في إطار الرايخ الألماني يؤيدون مبدأ ويلسون الخاص بحق الشعوب في تقرير المصير. وكان من الصعب تبرير تقسيم تشيكوسلوفاكيا حتى لو كانت من بين الأراضي التي ضمَّت إلى الرايخ أغلبية من الناطقين بالألمانية في بوهيميا (رغم أنها لم تكن تاريخيًّا جزءًا من ألمانيا). وكان من الصعب أيضًا تبرير اجتياح هتلر لبراغ وضمه التشيك الذين لا يتحدثون الألمانية. والنقطة التي نودُّ إبرازها هنا أن معظم القضايا الحرجة الخاصة بالحرب والسلام تمَّت تسويتها دون أن تلعب عصبة الأمم أيَّ دور فيها. لذلك يمثل مؤتمر ميونخ الذي عُقد في أوائل أكتوبر ١٩٣٨م جانبًا كبيرًا من قصة فشل الأحلام الأولى لإقامة نظام عالمي لفضِّ المنازعات دعمًا للسلام. فقد التقَت أربعُ دول كبرى معًا في الإطار التقليدي لمؤتمرات المدن الأوروبية (تذكرنا بمؤتمرات برلين، وباريس، وفيينا) ليضعوا تسويةً للنزاع الإقليمي، ويفرضوا على دولة صغيرة القبولَ بخسارة نصفها الغربي؛ حيث تنازل التشيك عن بوهيميا. (وغاب عن مؤتمر ميونخ اليابان والولايات المتحدة لانسحاب الأولى من العصبة وتمسُّك الثانية بالعزلة، واستبعد الاتحاد السوفييتي نزولًا على طلب هتلر). وبعد ستة شهور نقض هتلر وعودَه، وأهان بريطانيا وفرنسا، واجتاح باقي تشيكوسلوفاكيا تطبيقًا لسلطان القوة الغاشمة التي تفرض الأمر الواقع.
وبغزو بولندا في سبتمبر ١٩٣٩م، اكتملت قصة عقد الثلاثينيات الحافل بالخسة ونقض العهود. فقد تحطمَت آمال ويلسون وسيسل وسمتس والملايين من أمثالهما، وبدأ هتلر في سحْقِ جيرانه في الشرق بدءًا بقصف مدينة وارسو واضطرَّت حكومة تشمبرلين أن تُعلن الحرب بضغطٍ من الرأي العام الحانق والبرلمان الذي استردَّ وعْيَه، وانضمَّت بلاد الإمبراطورية إلى الحرب، وانضمت فرنسا إلى الحرب بعد تردد، وما لبث ستالين أن حصل على نصيبه من شرق بولندا ودول البلطيق. فيما عدا موسوليني الذي تأخر عن إعلان الحرب حتى سقوط فرنسا عام ١٩٤٠م، فانضم إلى ما ظنه الطرف المنتصر في الحرب. وسقطَت تحت نير المحور بولندا ثم الدانمارك، والنرويج، وبلجيكا، وهولندا، وفرنسا، ورومانيا وبلغاريا، ويوغوسلافيا واليونان. وبذلك مزقت تسويات ١٩١٩–١٩٢٣م.
ومع تراكم التراب في قاعات مقر العصبة، شغلت دراما الحرب العالمية الثانية كلَّ ما كان في نطاقها، الغزو الألماني لبولندا وغربي أوروبا، وسقوط فرنسا، ومعركة بريطانيا، ودخول إيطاليا الحرب وامتداد الصراع إلى حوض البحر المتوسط، واليونان، والشرق الأوسط، والهجوم النازي على الاتحاد السوفييتي، والمجازر اليابانية في الشرق الأقصى التي جذبَت الاهتمام الشعبي فيما بين ١٩٣٩ و١٩٤٢م. ولم تكن مثل هذه الظروف الصعبة تُتيح للقادة الذين تحملوا أكبر قدر من الضغوط مثل تشرشل أو ستالين وقتًا للتفكير في تحسين الهيئات الدولية.
وفي ميدان الأمن، هناك ثلاثة أسباب تبيِّن لماذا تصرَّفت الدول الكبرى على نحو ما فعلَت. أولها الأنانية الطبيعية فالحيوانات القوية لا تقبل الخضوع للأقل قوة والأضعف. والسبب الثاني يكمن في نتائج تفسيرات الدول الكبرى للتاريخ. والسبب الثالث يتعلق بمخاوفهم من المستقبل القريب. والسببان الأخيران نُسيا تمامًا، ونادرًا ما يَرِد ذكرُهما في المناقشات الخاصة بتغيير نظام العضوية في مجلس الأمن. وعلى كلٍّ ساهمت الدوافع الثلاثة في الأفكار التي صاغت بها حكومات الدول الفصول الحرجة من ميثاق الأمم المتحدة التي تناولَت قضايا الأمن.
وجاء التعبير عن الأنانية والقلق في مناقشات ١٩٤٤–١٩٤٥م مقرونًا — بالدرجة الأولى – ببروز القوَّتَين الأعظم؛ الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وهذا أمر مفهوم. وقد حُشرت فرنسا في زمرة الدول الكبرى بإلحاح من تشرشل، ولكن كيف أثَّرت فرنسا في الأفكار التي طُرحت في دمبارتون أوكس، ويالتا، وسان فرانسيسكو؟ وكانت الصين غارقة في الحرب الأهلية، ينظر إليها بقدر من الحيرة وانعدام التقدير من جانب موسكو ولندن. وقد يظن المرء أن الإمبراطورية البريطانية التي تئنُّ من الحرب قد تكون أشدَّ قلقًا من الضوابط التي قد تحدُّ من سيادتها، ومن المؤكد أنها عملَت على إبعاد التدخل في الشئون الداخلية لمستعمراتها، ولكن بحلول عام ١٩٤٥م أصبح صنَّاع سياستها أكثرَ اهتمامًا بالحاجة إلى تقييد الأمريكان والروس الجامحين بضوابط الالتزامات الدولية.
والسبب الثاني، هو أن صناع السياسة الأمريكان والبريطانيِّين والسوفييت الذين عكفوا على صياغة النظام الدولي قد مروا بالتجربة المفزعة لانهيار النظام الدولي خلال الخمسة عشر عامًا أو العقدَين السابقَين. ويساور البعضَ الشكُّ أنهم قد استنتجوا بحلول عام ١٩٣٩م ما يصلح وما لا يصلح من تحرك تجاه السلام، أو على الأقل تفادي وقوع كارثة. وأحداث الحرب العالمية الثانية بمقدورها أن تعمق هذه الاستنتاجات أو تعدل منها، وبمرور الزمن، يجب أن تقدم التقارير ومشاريع الميثاق محاولة ثانية لمنع الحروب، ولم يكن مزاجهم يسمح بالتصريحات البليغة المنمقة التي يرون أنها كانت مسئولة عن عجز عصبة الأمم، فلا بد أن تكون هناك أنيابٌ لنظام الأمن الجديد.
وقد عبر البعض صراحة عن الاتهامات الموجَّهة لعصبة الأمم والبعض الآخر عبر عنها ضمنًا. لقد كانت ببساطة مفرطة في ليبراليتها وديمقراطيتها، ذلك يعني أن دولًا صغرى مثل فنلندا ونيوزيلندا يمكن أن تقدِّم ما شاءت من اقتراحات وتعترض على الصفقات الضرورية، وبدَا ذلك بمثابةِ صبِّ الرمال على عجلات المفاوضات للدبلوماسية القديمة. ولكنْ هناك أمرٌ واحدٌ يعترف به القانون الدولي، هو أن جميع الدول ذات سيادة تستوي في ذلك الدانمرك والاتحاد السوفييتي، وكوستاريكا والولايات المتحدة، ولكن هذا الاتجاه الديمقراطي لم يردع المعتدين في الثلاثينيات. وعلى نقيض ذلك، شجع الدكتاتوريِّين الذين لاحظوا عجز عصبة الأمم فازدادوا جرأة وجسارة، وهو ما يجب العمل على عدم تكراره مرة أخرى.
ولذلك يجب الحرص على إبقاء الدول الكبرى الانعزالية — الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة — داخل معسكر المنظمة الدولية، حتى لا تنزعَا إلى عدم الثقة وإثارة العقبات. وكان موقف الحكومة البريطانية من ذلك واضحًا، فليس لديها الرغبة في أن تُوضع — مرة أخرى — في الموقف الذي وجدَت نفسها فيه بعد العام ١٩١٩م، عندما ترك اللاعبون الكبار المسرح خاليًا إلا منها واللاعبين الضعاف، ومن بينهم فرنسا (التي أصبحت الآن شديدة الضعف). فإذا كان بقاء الدولتين الكبيرتين في المنظمة الجديدة مرهون بالضمانات التي يطلبها مجلس الشيوخ الأمريكي المتصلة بالسيادة والامتيازات، فليكن الأمر كذلك، ويمكن أن تضمَّن في إجراءات التنسيق العسكري بعد الحرب، أو بعض الضوابط السلبية حول ما يجب أن تكون عليه الأمور، وذلك كله يتطلب ثمنًا. فقد يؤدي إلى إضعاف بعض المبادئ العالمية، وإلى توفيق الاستجابة الفعالة للتعديات المحتملة على القانون الدولي عندما يتعلق الأمر بدولة كبرى، ولكن ذلك أفضل من عدم وجود نظام أمني على الإطلاق، وهو ما يمكن تحقيقه لو أبدى كلُّ طرف موقفًا معقولًا.
ولعل أهم الدوافع التي وردَت في أذهان مخططي النظام الدولي الجديد، هو تقديرهم لمختلف الصلاحيات — من حيث النوع — التي تمارسها الدول الكبرى في مقابل الدول الصغرى. واعتقدوا — ببساطة — أن ما تعلَّموه من أحداث عقد الثلاثينيات أن الدول الضعيفة عسكريًّا مثل تشيكوسلوفاكيا، وبلجيكا، وإثيوبيا، ومنشوريا، هي المستهلك للأمن. فهي لا تستطيع الاعتماد على نفسها لافتقارها إلى الموارد البشرية والإقليمية والاقتصادية التي تمكِّنها من صد عدوان جاراتها الكبيرات، ولا يرجع ذلك لوجود قصور في هويتها الوطنية. وعلى النقيض من ذلك، لم تجد الدول الكبرى مفرًّا من أن تلعب دور توفير الأمن الدولي، وليس مرد ذلك إلى تمتعها بفضائل خاصة تميز شخصيتها عن غيرها بين الدول، ولكن لأنها كانت لديها القدرة على الوقوف في وجه ألمانيا وإيطاليا واليابان، وإلحاق الهزيمة بهم. لذلك يجب أن يتم التمييز — بوضوح هذه المرة — بين الدول التي تحتاج إلى عون خارجي للحفاظ على أمنها، والدول القادرة على حماية أمنها بنفسها. فمن العبث أن تجد الديمقراطيات نفسها في حالة ارتباك واضطراب إذا وقعت في المستقبل أزماتٌ كتلك التي شهدتها منشوريا أو النمسا.
حقًّا، كان لدى الحلفاء خططٌ للتحول إلى الديمقراطية في ألمانيا واليابان، غير أن تحطُّمَ الآمال الوردية لويلسون في إقرار السلم الدائم قبل ذلك بعقدين من الزمان، جعل الحلفاء المنتصرين يُدركون ضرورة التشدد هذه المرة عند صياغة المواد المتعلقة بالأمن في ميثاق المنظمة الدولية. ولذلك يجب أن تكفَّ الدول الصغرى عن القول بأن نظام الفيتو كان دليلًا على غياب العدل في الميثاق، بل يجب أن يُبدوا عرفانهم بالفضل للدول الكبرى التي سوف تأخذ مسئولياتها الدولية — هذه المرة — مأخذَ الجد. وأخيرًا، ما زال هناك أملٌ في أن يبقى التحالف الذي تم خلال الحرب قائمًا بعد تحوله إلى طريق تحقيق عصر جديد يسوده السلام، وذلك رغم تزايد الشكوك بين الشرق والغرب عند نهاية الحرب الثانية. وربما كان المؤرخون مندفعين بعض الشيء، عندما أولَوا اهتمامهم للمحادثات التي دارَت عام ١٩٤٥م في يالتا وبوتسدام بين «الثلاثة الكبار» التي شابها الخلاف بينهم، وأغفلوا الاجتماعات التي عقدها قادةُ الأركان والتي ناقشوا فيها معًا العمليات والخطط العسكرية، وبذلك حافظوا على مستوى من التعاون بين الحلفاء عند المستويات الأقل درجة وبمعدل بطيء.
وأخيرًا، هناك أمران بارزان: أولهما، أنه في عام ١٩٤٥م كانت كلٌّ من الدول الكبرى راغبة في إقامة نظام جديد للأمن الدولي تكون طرفًا فيه، وذلك عكس ما حدث عام ١٩١٩م. وثانيهما، أنه رغم كل الصياغات التي جاءت بميثاق الأمم المتحدة التي تُلزم الدول بالخضوع لقرارات مجلس الأمن، لم يكن هناك إلا القليل مما يمكن عمله في حالة انسحاب إحدى الدول الكبرى من الأمم المتحدة إلا إذا قررت الدول الكبرى الأخرى استخدامَ القوة العسكرية ضدها، مما يُنذر بقيام حرب عالمية ثالثة. ورغم ذلك لم تَرِد مثل هذه الحقيقة ضمن الأطروحات التي تم النقاش حولها علنًا. أما إذا قامت إحدى الدول الصغرى بخرق ميثاق العصبة والخروج على قرارات مجلس الأمن فيتم ردعُها، وتتخذ الدول الكبرى ضدها ما ترى اتخاذه من إجراءات. كان مخططو النظام الدولي الجديد على علم بالحقيقة السالفة الذكر، ولكنهم علَّقوا الآمال على أن العمل المنسق الذي تعود منفعتُه على الأطراف التي شاركَت في إقامة الأمم المتحدة وتحسين معايير التعاون، والدروس المستفادة من حربَين عالميَّتَين قد تَحُول دون تخطِّي الدولِ الحدودَ الفاصلة بين الحرب والسلام وقد تشعر الحكومات بالضغط الدولي من أجل تسوية النزاعات دون اللجوء إلى السلاح، وذلك لأسباب تتصل بالمؤسسة الدولية أو الالتزام الأخلاقي.
كانت تلك — إذن — الافتراضات المتعلقة بمستقبل الأمن الاقتصادي والعسكري التي حركت «الثلاثة الكبار» وصاغَت خططهم من أجل إقامة المنظمة الدولية الجديدة، عندما اجتمعوا على التوالي في موسكو، وبريتون وودز، ودمبارتون أوكس، ويالتا، وسان فرانسكو «عندئذٍ بدأت فرنسا والصين تلعبان دورهما». وعلى ضوء الوضع الذي احتلَّته الدول الكبرى في مشروع الأمن الدولي، توفرت لديهم الرغبة في أن يقيموا مؤسسة تمارس قدرًا أكبر من الديمقراطية في صناعة قراراتها، وأن تكون بقية مكونات الأمم المتحدة الأخرى ذات طابع برلماني. لم يكن هناك بأسٌ من إضافة بعض الأعضاء غير الدائمين إلى مجلس الأمن، طالما أن أحدًا منهم لا يملك حقَّ الاعتراض (الفيتو)، وأن تمثل جميع أعضاء الأمم المتحدة في الجمعية العامة، وفي اللجان والوكالات ذات العضوية الدورية التي يمكن تحديدها على أساس التمثيل الإقليمي، طالما التزم الجميع باحترام اختصاصات مجلس الأمن.
ولم تحظَ المسائل الخاصة بالثقافة والأيديولوجيا باهتمام على مستوًى عالٍ، ولم تكن الأمور الخاصة بحقوق الإنسان أحسن حظًّا. فقد جاء ذكرُها جميعًا على عجل عندما كان المفاوضون — عام ١٩٤٥م — يضعون الصياغات النهائية للميثاق، فجاء في سياق عام لا يرقى إلى مستوى الصياغات الدقيقة لصلاحيات مجلس الأمن، والطابع شبه البرلماني للجمعية العامة، والأمور المحددة الخاصة بالتعاون الاقتصادي. وحتى قبل تصديق مؤتمر سان فرانسيسكو على ميثاق الأمم المتحدة بصياغة رفيعة المستوى، وقبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كان الموظفون داخل المؤتمر، والكتاب خارجه، يصفون النظام الدولي الجديد بالمقعد ذي الثلاث أرجل: الرِّجل الأولى تختص بالإجراءات المتعلقة بالأمن الدولي، ومن ثَم أكدت التعاون الدبلوماسي والمنهج التوفيقي لفضِّ المنازعات؛ يدعمها قوةُ الردع العسكرية المشتركة فإذا لم يكن التوفيق حليفها، فلا مفر من هزيمة المعتدين.
والرِّجل الثانية، تستند إلى الاعتقاد بأن الأمن العسكري لا يعمر طويلًا دون تحسين الأحوال الاقتصادية. ولذلك يجب أن توجه الأدوات التي وضعتها الأمم المتحدة إعادة بناء الاقتصاد الدولي.
أما الرِّجل الثالثة، فكانت أكثرَها أهمية لأنها استندَت إلى التراث المثالي لكانط وويلسون وغيرهما. ومهما بلغَت قوةُ الرِّجلين الأوليَين، فإن النظام الدولي الجديد قد ينهار تمامًا إذا عجز عن النهوض بالتفاهم السياسي والثقافي بين الشعوب. ولما كانت الحرب تبدأ فكرة في الأذهان، فإن الحاجة ماسة إلى تحقيق تقدُّم كبير في المجال الثقافي.
والكرسي ذو الأرجل الثلاث قويٌّ متين ما دامت أرجلُه متساوية في الطول، متوازنة. ولكنه من صنع الإنسان؛ لذلك تعتمد صلابتُه على مدى إتقان صنعه، فإذا جاءت إحدى الأرجل أضعف من غيرها فقد توازنَه، أما بالنسبة إلى ميثاق الأمم المتحدة، فقد جاء متوازنًا، بفضل ما تم التوصل إليه من توفيق ناجح بين وجهات النظر، ودقة الصياغة التي خرج بها من مؤتمر سان فرانسيسكو. وللتاريخ، كانت الولايات المتحدة هي التي رعَت فكرة الجماعة الثقافية الأيديولوجية، أما السوفييت فكان الأمن عندهم يفوق في أهميته كلَّ ما عداه، (ترى، ما حاجة ستالين إلى البنك الدولي؟) وكان البريطانيون يتطلعون إلى صفقة تحقِّق لعالم ما بعد الحرب الاستقرار السياسي والاقتصادي، ويميلون إلى إعطاء الهيئات الدولية الجديدة سلطات أوسع مما كان لعصبة الأمم، ولكن دون التورط في الشئون الداخلية للأعضاء. وبدَت تلك الترتيبات مناسبة على أساس التزام «الثلاثة الكبار» باحترام ما تم الاتفاق عليه فيما بين ١٩٤٣ و١٩٤٥م.
والفصل الثاني مختصر، يحدد متطلبات عضوية الأمم المتحدة التي تُتاح لكل دولة محبة للسلام، وترتضي شروطَ القبول والطرد. وقد صيغت على نحوٍ شبيهٍ بشروط العضوية في نوادي النخبة في لندن أو نيويورك. والفصل الثالث أقصر طولًا، يحدِّد الهيئات الست الرئيسية للمنظمة الدولية: الجمعية العامة، ومجلس الأمن، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية، ومحكمة العدل الدولية، والأمانة العامة. وهذه الهيئات الست مختلفة في أوزانها — كما سنرى — ولكنها أصبحت الآن قائمة بموجب القانون الدولي. ونص الميثاق على إمكانية إقامة هيئات فرعية كلما دعت الحاجة إلى ذلك، فقد حرص الآباء المؤسسون للأمم المتحدة أن تكون أيديهم مطلقة من كل قيد.
وتأتي الأقسام الحرجة من الميثاق عند منتصفه: الفصل الرابع الخاص بالجمعية العامة، والفصل الخامس الذي يتعلق بالتكوين والدول الكبرى وإجراءات مجلس الأمن. والفصل السادس يتناول التسوية السلمية للمنازعات، ثم يأتي الفصل السابع المتفجر الذي يتناول الأعمال المهددة للسلام، وتهديد السلم، والأعمال العدوانية. وقد اعتبرَت الحكوماتُ والدبلوماسيون الممثلون لها هذه الفصول الأربعة هي الركائز الأساسية للنظام العالمي الجديد، وذلك عند صياغة الميثاق، وبعد إقراره. ولكن كيف كانوا يتوقعون أن يُصاغ هذا النص وسط أكثر الحروب دمارًا في التاريخ، ويتطلعون إلى الخروج بميثاق أفضل مما كان عليه ميثاق عصبة الأمم؟
ولكن نظرة فاحصة إلى الطريقة التي صيغ بها الميثاق، تجعلنا نُدرك أن الجمعية العامة ليس لها من الصلاحيات مثلما يتمتع به مجلس العموم البريطاني. ويلاحظ القارئ أن النصوص احتوَت على الكلمة الشرطية «يجوز» (بدلًا من «يجب») في كثير من النقاط الهامة. وهكذا، بينما نص على أن الجمعية العامة «يجوز لها تنبيه مجلس الأمن إلى الأوضاع المهددة للسلام»، نصَّت المادة ١٢ فقرة ١ أنه «لا يجب» أن تُصدر الجمعية أيَّ توصيات في وقت يكون فيه مجلس الأمن مشغولًا بحلِّ نزاع معين. ولعل أكبر ثغرة بين سلطات الجمعية العامة ومجلس الأمن، أن قرارات الجمعية العامة ليست ملزمة للأعضاء (رغم ما لها من وزن رمزي) على حين تُلزم قرارات مجلس الأمن جميع الأعضاء، والتعهد بذلك شرطٌ لتوقيع الأعضاء على ميثاق الأمم المتحدة. ونأمل أن تتذكر هذه الحقيقة جميع الحكومات.
ولا تقل نصوص الميثاق المتعلقة بمجلس الأمن مراوغة عن تلك الخاصة بالجمعية العامة (الفصول من الخامس إلى السابع، والفصل الثامن الخاص بالترتيبات الإقليمية). ويتجه معظم المعلقين إلى التركيز على الأقسام الخاصة بفض المنازعات سلميًّا بالطرق الديمقراطية (الفصل السابع). ولكن من الحكمة أن نُلقيَ نظرة على الفصل الخامس الذي يتناول تكوينَ مجلس الأمن، واختصاصاته وصلاحياته، ونظام التصويت فيه، وإجراءاته لأن ذلك استغرق القسط الأكبر من المفاوضات التي دارَت بين الدول الكبرى (١٩٤٣–١٩٤٥م). فقد تم الاتفاق على أن يتكوَّن المجلس من الدول الخمس الكبرى المنتصرة التي تتمتع وحدها بالعضوية الدائمة، وستة أعضاء غير دائمين يشغل كلٌّ منهم المقعد لمدة عامين. ولم يَزِد عددُ مقاعد غير الدائمين على مدى عقدين من الزمان عندما تقرَّر زيادةُ عدد المقاعد إلى عشرة. وجدير بالذكر أن الميثاق اشترط فيمن يشغل مقاعد العضوية غير الدائمة أن تكون للدولة المعنية مساهمة في الحفاظ على الأمن الدولي وفي خدمة الأهداف الأخرى للأمم المتحدة (مادة ٢٣ فقرة ١)، ويأتي التمثيل الجغرافي (الإقليمي) في المرتبة الثانية. وجدير بالملاحظة أن الشرط الأخير كان موضعًا لسوء استخدام على مدى ستة عقود، ومجالًا لعقد صفقات حول من «جاء دوره لتمثيل الإقليم، ويجب أن يحلَّ محلَّ هذا المعيار القدرةُ على أداء المهمة، فمن لا تتوفر لديه الكفاءة لا يجب أن يشغل المقعد.»
وقد أجمع أعضاء الأمم المتحدة على انفراد مجلس الأمن بمسئولية السلام والأمن الدولي، وجعلوا من المجلس وكيلًا عنهم في ذلك، وتعهدوا بقبول وتنفيذ جميع قراراته. وقد تم تشكيل المجلس (كما رأينا) بصورة تجعله قادرًا على العمل بشكل متواصل ليلًا ونهارًا. وله حقُّ عقدِ جلساته في غير المكان المخصص لذلك، وله أن يكوِّن لجانًا فرعية للقيام بمهام محددة، وأن يضع خططًا للرقابة على التسلح ويحدِّد إجراءاتها وقواعد عملها، وأن يدعوَ لاجتماعاته من يشاء من غير أعضاء المجلس (دون أن يكون لهم حقُّ التصويت).
وأخطر ما جاء بهذا الفصل حق الخمسة الكبار في الاعتراض (الفيتو)؛ فقد تمت صياغة ما اتصل بها بلغة مبهمة تحتاج من المرء أن يُعيدَ قراءتها مرات ومرات. فهي تنص على أن قرارات مجلس الأمن في الأمور الإجرائية تقرُّ بما لا يقل عن ٦٠٪ من أصوات الأعضاء (٧ من ١١ قديمًا، و٩ من ١٥ فيما بعد)، ويبدو ذلك معقولًا، ولكن تضيف المادة الخاصة بذلك القرارات الخاصة بالأمور الأخرى تتطلب الترجيح بأصوات سبعة أعضاء (تسعة فيما بعد) بما في ذلك أصوات الأعضاء الدائمين. وهنا يأتي مجال الفيتو. ويكفي أن يكون أحد الخمسة الكبار معارضًا للقرار. وعندما سأل أحد السفراء الممثلين لغير الدائمين عن كيفية التمييز بين القرار الإجرائي وغيره، بادره المندوب السوفييتي بقوله: «سوف نُخبرك بذلك في حينه»، ولا تزال هذه الظاهرة سارية حتى الآن.
وعلينا أن نتذكر أن صياغة المادة على هذا النحو قصد بها الحيلولة دون قيام الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بتقويض دعائم المجلس، ومع وجود هذه المادة، تصبح مواد الفصل السادس الخاصة بتسوية المنازعات سلميًّا ذات دلالة كبيرة. ويبدأ التحرك بإعلان أن أطراف النزاع (وهي دائمًا من الدول الأعضاء) تسعى للتوصُّل إلى حلٍّ «عن طريق التفاوض، أو التحقيق، أو الوساطة، أو التوفيق، أو التحكيم، أو التسوية القضائية، أو اللجوء للمنظمات الإقليمية أو الترتيبات الإقليمية، أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع اختيارها عليها» (مادة ٣٣). وتبدو صياغة المادة وكأنها نتاج عمل طبيب نفساني ومحامٍ مختص بعلاقات العمل، وتعكس بوضوح فكرة ويلسون المفعمة بالأمل التي ترى أن باستطاعة العقلاء الراشدين التوصل إلى حلول سلمية بأنفسهم أو بمساعدة من الآخرين.
ويتمسك الميثاق بحق مجلس الأمن في النظر في أي نزاع يهدد السلام العام، وأن من حقِّ أيِّ دولة عضو بالأمم المتحدة أن ترفع قضيتها إلى مجلس الأمن (ومن الطريف — أيضًا — أن هذا الحق يمتد إلى الجمعية العامة التي يمكنها أن تبلغ المجلس بوجهة نظرها في القضية دون أن تتجاوز ذلك الحد). ولمجلس الأمن الحق في أن يوصيَ باتخاذ إجراءات معينة أو يتخذ منهجًا معينًا للبتِّ في النزاع، على الرغم من أن الميثاق يدعو الدول الأطراف في نزاع قانوني إلى رفع قضاياهم أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. فإذا لم يوافق طرفَا النزاع على نهج التسوية الذي أوصى به المجلس، كان من حق مجلس الأمن اتخاذ ما يراه من إجراءات لتحقيق «تسوية سلمية للنزاع».
وهنا يأتي الفصل السابع الذي يتعلق بفرض السلام بالقوة في حالة عزوف المعتدي أو مَن يهدد السلام عن المضيِّ قُدُمًا في طريق التسوية السلمية. وقد أعطى الميثاق لمجلس الأمن سلطةً كاملة لتشخيص وضع الأزمة، والإجراءات اللازمة لحلها «عندما يصل إلى علمه عدم الالتزام بها» (مادة٤٠)، عندئذٍ يقرر الوسائل التي تُستخدم لفرض قراراته بالقوة. إنه نصٌّ يبعث على الخوف، وهو ما رمى إليه واضعوه. ومن الغريب أن مَن صاغوا الميثاق احتاجوا إلى ثلاث عشرة مادة لإيضاح طريقة عمل هذا النظام الأمني الجديد، فلم يكن من الحكمة — بعد ست سنوات من حرب ضروس — الاطمئنان الى إمكانية التوصل إلى حلول سلمية للنزاعات الدولية، رغم كلِّ ما جاء بمواد الفصل السادس.
أعطى مجلس الأمن سلطة اتخاذ القرارات المتعلقة بالإجراءات غير العسكرية التي تُتخذ ضد الدولة المعتدية مثل الحصار الاقتصادي، وقطع جميع الاتصالات الجوية والبرية والبحرية والبرقية. هنا يختلف الأمر عما كان عليه أيام عصبة الأمم، رغم يقين الأعضاء من فشل العقوبات الاقتصادية التي فُرضت في الماضي، مثل تلك التي فُرضت على إيطاليا عند غزوها إثيوبيا. وإذا تبيَّن لمجلس الأمن أن الإجراءات غير العسكرية لم تُجدِ نفعًا، فإن الميثاق يخوِّله حق القيام بعمليات عسكرية لحفظ السلام عند الضرورة مع استخدام كلِّ الميادين المتاحة للعمليات جوًّا، وبرًّا، وبحرًا ضد الدولة المعتدية. ولتحقيق ذلك، كان على جميع أعضاء الأمم المتحدة (وليس مجلس الأمن وحده) تقديم القوات العسكرية المتاحة والمساعدات والتسهيلات بما في ذلك حق المرور عندما يطلب منها ذلك. ويتم التفاوض حول هذه المساهمات «بموجب اتفاق خاص بذلك» (المادة ٤٣)، وليس من المتوقع أن تقدم الدول الصغرى الكثير من المساعدات فيما عدا حق المرور الذي يُعَد بالغ القيمة. ولكن الرسالة جاءت واضحة تمامًا، فعلى كلِّ دولة عضو بالأمم المتحدة أن تبذل أقصى جهدها. هذا ما تكشف عنه المادة ٤٥ بجلاء، عندما نصَّت على أنه يلزم لضمان سرعة عمليات مجلس الأمم أن «تضع الدول الأعضاء قواتها الجوية في خدمة العمليات الدولية المشتركة» (وهناك اهتمام بإبراز قيمة القوات الجوية، وتقديم القواعد الجوية في مشروع الميثاق، وظهرت أيضًا في نصوصه).
كان تأثير تجربة الحرب واضحًا على المسئولين الأمريكان والبريطانيين الذين تولَّوا صياغة هذا القسم من الميثاق: فلما كان النصر في المعارك الراهنة (عندئذ) مستحيل التحقيق دون التنسيق الدقيق والتام لخطط قيادة أركان الحلفاء، لا يمكن تحقيق السلام الدائم دون أن يلقى مجلس الأمن عونًا من الخبراء العسكريين. وهنا أيضًا، تتضح الطبيعة الطبقية (التراتبية) لنظام الأمم المتحدة، فقد «اقتصرت عضوية لجنة الأركان العسكرية على قادة الأركان في جيوش الدول الدائمة العضوية أو مَن ينوب عنهم». ويجوز للجنة أن تدعوَ مَن تشاء من قادة أركان الدول الأخرى ليلعبوا دور المساعدين «في حالة تزايد أعباء المهام التي تُلقى على عاتق اللجنة مما قد يتطلب إشراك عضو آخر في مهامها»، وتنفرد الدول الكبرى بتقرير المستوى الذي يصبح عنده طلب العون ممكنًا، كما تحدِّد درجة الكفاءة والقدرات التي يجب توفرها فيمن تدعوه اللجنة إلى معاونتها.
ويمضي الفصل السابع بنا حتى «المادة ٤٩» التي تُلزم كلَّ الأعضاء بتقديم المساعدات الكفيلة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن، وتُطمئن الدول أنه في حالة وقوع ضرر عليها نتيجة العمليات الخاصة بفرض قرارات مجلس الأمن بالقوة، كأن تواجه «مشكلات اقتصادية معينة» (مادة ٥٠)، فإن عليهم التشاور على وجه السرعة مع مجلس الأمن بهذا الخصوص. ويُفهم من ذلك ما قد تترتب على الحصار الاقتصادي وقطع المواصلات ووسائل الاتصال من آثار سلبية على بعض الدول غير المقصودة بذلك. وتتضمن المادتان رسالة واضحة لما يلزم أن يكون عليه نظام الأمن الجماعي، وهو أمر بالغ الصرامة، لا بد أن يكون مثار دهشة أصحاب النزعة الواقعية في السياسة الذين كانوا ينتمون إلى العصر الفيكتوري (النصف الثاني من القرن التاسع عشر).
وتتجه المادة الأخيرة في الفصل السابع إلى الانعطاف بصورة حادة. ولما كانت قد استعصت على الإعراب طوال ستة عقود من الزمان، أورد نصَّها كاملًا هنا ليقدِّر القارئ بنفسه لماذا كانت «المادة ٥١» مادة متميزة: «لا يقف أيٌّ مما جاء في هذا الميثاق حائلًا دون ممارسة الحق الأصيل (للدول الأعضاء) للدفاع عن النفس منفردة أو مجتمعة في حالة تعرُّض أيٍّ من أعضاء الأمم المتحدة للهجوم، إلى حين قيام مجلس الأمن باتخاذ الإجراءات الضرورية للمحافظة على السلام والأمن العالمي. وعلى الدول الأعضاء إبلاغ مجلس الأمن على الفور بالإجراءات التي اتخذتها (دفاعًا عن النفس)، ولا تؤثر هذه الإجراءات بأيِّ حال من الأحوال على السلطات والمسئوليات التي أناطها الميثاق بمجلس الأمن، وعلى حق المجلس في القيام بما يراه ضروريًّا للمحافظة على السلام والأمن الدولي وإعادتهما إلى نصابهما.»
ولا يستعصي الجزء الأول من المادة على الفهم؛ فالدول التي عانت من الهجوم الفاشي المفاجئ، أو الهجوم الغادر على بيرل هاربور لن تنتظر موافقةَ مجلس الأمن قبل أن تصدَّ العدوان عليها بالقوة المسلحة. ولكن ما معنى النص على الحفاظ على سلطات ومسئوليات مجلس الأمن، من الناحية العملية؟ وما مدى مرونة مصطلح «الدفاع عن النفس»؟ فالتصدِّي للطائرات المغيرة بالمدفعية المضادة أمرٌ مفهوم، ولكن هل تقف الدولة مكتوفة الأيدي إذا توفرت لديها معلومات استخبارية بوجود حشود كثيفة على بُعد مئات الأميال تتأهب للاتجاه نحوها، فهل تقف في انتظار العدوان قبل أن تتحرك «دفاعًا عن النفس»؟ وهل إذا بادرت تلك الدولة بالقيام بضربة استباقية تكون بذلك معتدية؟ هذه التساؤلات حيَّرَت الأمم المتحدة، وكانت مثارًا للجدل منذ البداية، ولعل هذا الجدل لم يبلغ من المرارة ما بلغه عند التجهيز لحرب العراق الثانية (٢٠٠٣م).
وأخيرًا، تنفرد الدول الكبرى باتخاذ ما تشاء من قرارات وفق منظورها لمصالحها الوطنية. ومن الواضح أن «المادة ٥١» حُشرت في الميثاق لتبدِّد شكوك أعضاء الكونجرس الأمريكان، وجوزيف ستالين من أن المنظمة الدولية الجديدة قد تجور على حقهم في الدفاع عن النفس. فقد صمم الأمريكان والسوفييت على وضع الضوابط التي تحول دون حرمانهما من هذا الحق، ومن المؤكد أن ذلك كان موقف تشرشل وديجول اللذَين كانا يعنيهما التخلص من حالة الفوضى الدولية التي عانت منها بريطانيا وفرنسا في الماضي، ودعم سلطة القانون الدولي حتى تحدَّ من الصراعات الكارثية في المستقبل. ويكمن غموض هذه المادة في قيام الدول بالتنازل للأمم المتحدة عن بعض سلطاتها، مع إصرارها على الاحتفاظ بحقها في حرية العمل في الحالات التي تراها ذات أهمية بالنسبة إلى مصالحها الوطنية. وذهب المتفائلون بالأمم المتحدة إلى أنه عندما يثبت الفصلان السادس والسابع من الميثاق نجاحهما فسوف تتبخر حالة انعدام الثقة، أما الواقعيون فقد ظلوا على موقفهم المرتاب.
وهكذا، عالجت الفصول الأساسية من الميثاق: الجمعية العامة ومجلس الأمن، ولكن يجب ألَّا نُهمل الأقسام الأخرى من الميثاق، مثل: الفصل الثامن الخاص بالترتيبات الإقليمية، والفصلين التاسع والعاشر اللذَين يعالجان ما اتصل بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي، والفصول من الحادي عشر إلى الثالث عشر بشأن مجلس الوصاية، والفصل الرابع عشر الذي خصص لمحكمة العدل الدولية، ثم الفصل الخامس عشر الخاص بالأمانة العامة، فيكون إهمالنا لها مبعثه التهوين من شأنها، فقد أولى صناع الميثاق الهيئات التي نظمت أمورها تلك الفصول أهمية كبيرة انعكست على المساحة التي شغلَتها من الميثاق، والتي تعادل ضعف ما خصص للجمعية العامة ومجلس الأمن. فإذا كانت أهمية تلك الهيئات قد قلَّت على مرِّ العقود، فإنها لم تكن كذلك في عام ١٩٤٤–١٩٤٥م، وما زالت نافعة حتى اليوم.
أما الحاجة الأخرى التي جاء هذا الفصل لتلبيتها، فقد تم التعبير عنها «في المادتين ٥٣، ٥٤»، وهي رغبة الاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا أن تتوفر لهم القدرة على العمل معًا على وجه السرعة «ضد تجدد السياسات العدوانية» من جانب «الدول المعادية» التي لم تذكر بالاسم، ولكن قصد بها ألمانيا واليابان. ويبدو ذلك من قبيل المفارقة التاريخية عندما ننظر إليه بعد ستين عامًا، وتحتاج صياغته إلى تعديل عندما يتم التفكير في مراجعة نصوص الميثاق. وفي عالمنا الحالي المضطرب لا يزال هذا التفويض من الأمم المتحدة بتكوين مجموعات أمنية إقليمية مستخدمًا بصورة متزايدة، حيث تلجأ الأمم المتحدة التي اتسع نطاق عملها إلى «مقاولين من الباطن» للتعامل مع الأزمات أو الحروب بإسناد هذه المهام إلى دول المجموعة الإقليمية، وغالبًا ما ينص على اشتراط احترام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وتتجلى المفارقة التاريخية في القسم الطويل (المواد ٧٣–٩١ من الفصول ١١–١٣) التي تتناول البلاد التي لا تحكم نفسها بنفسها، وتشكيل مجلس الوصاية كإحدى المؤسسات الرئيسية للأمم المتحدة. ولما كانت الأمم المتحدة سترث الإشراف على بلاد في أفريقيا والشرق الأوسط والمحيط الهادي، من بينها تلك التي وضعَتها عصبة الأمم تحت الانتداب في ١٩١٩م، كان الأمر يتطلب ذكر تلك المناطق هنا، والحق أن هذه الفصول الثلاثة صيغت بأسلوبٍ ضافٍ عن العمل على تقدم سكان تلك البلاد وحصولهم على حقوقهم التي غابت عن عيون الكثيرين حتى حظيَت باهتمام الدول الكبرى.
وهناك اليوم مَن يرون أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي أوشك على الاقتراب من النهاية نفسها. ولكن ذلك عارٍ من الصحة، وجديرٌ بنا أن نحلِّل تاريخه في الصفحات التالية. غير أنَّ مَن يقرأ القسم الخاص به في ميثاق الأمم المتحدة، الفصل التاسع الخاص بالتعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي، والفصل العاشر الخاص بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي، قد ينتهي من القراءة دون أن يجد ما يلفت النظر، ويدهش لجرأة مَن صاغوا هذا القسم من الميثاق، فهو نسخة طبق الأصل من مجلس الأمن في مجال السلام والأمن الدولي، وهي الصلاحيات نفسها التي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في ميادين الاقتصاد، والشئون الاجتماعية، والصحة، والبيئة، وحقوق الإنسان، والتقدم الثقافي.
وإذا أمعنَّا النظر في ذلك يتضح لنا أن تحديد صلاحيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي — على هذا النحو — كان مبنيًّا على طموح مفرط، كما سيَرِد في مناقشتنا له في الفصلين الرابع والخامس. كما يلاحظ أن الدول الكبرى لم تصرَّ على أن يكون لها مكان خاص فيه، بعد أن حققوا لأنفسهم مواقع متميزة في مجلس الأمن والمؤسسات التي صنعها مؤتمر بريتون وودز، اكتفوا بأن يضمَّ المجلس ثمانية عشر عضوًا بالتناوب، وأن يقدِّم تقاريره للجمعية العامة ويتلقَّى منها التعليمات، وأن يضعَ لنفسه قواعد العمل، ويتولَّى تشكيل اللجان الخاصة به، ويُعد الدراسات، ويُنظم المؤتمرات، ويتواصل مع الوكالات المتخصصة، ويتشاور مع المنظمات غير الحكومية، وغير ذلك مما يودُّ ممارسته من نشاط، وقد يبدو هذا بديعًا في نظر مَن يشدُّه الحماس إلى التعاون الدولي الاجتماعي والاقتصادي. أما مَن يتسم بالواقعية، فسوف يلاحظ أن التشاور مع المنظمات غير الحكومية لا يَرِد ضمن نظام العمل في مجلس الأمن.
ويعدُّ الفصلان: الرابع عشر الخاص بمحكمة العدل الدولية، والخامس عشر المتعلق بالأمانة العامة للأمم المتحدة أقل التباسًا من الفصول الأخرى، فهما يمثلان — بوضوح — الجانب الموروث من النظام الدولي السابق. والقسم الخاص بالمحكمة يتسم بالاختصار لأن «لائحة محكمة العدل الدولية» تلحق بالميثاق وتعدُّ جزءًا لا يتجزأ منه. ونصَّت اللائحة على تحديد العضوية، وانتخاب الأعضاء، وشروط الكفاءة التي يجب توفرها فيهم، والإجراءات التي تَتْبعها المحكمة في عملها. وتُعدُّ المحكمة — من مختلف الوجوه — خليفةً للمحكمة الدائمة للتحكيم التي أُنشئَت عام ١٩٠٧م بموجب ميثاق لاهاي، من حيث كونُها مؤسسة قضائية تقدِّم خدماتها للدول التي تقبل طرْحَ قضاياها أمامها طلبًا للتحكيم. ولا تستطيع أيُّ جهة أخرى (غير أحد الأطراف المعنية) اتخاذَ الخطوة الأولى طلبًا للتحكيم، كما أن الحكومات المعنية لم تكن ملزمة بتنفيذ قرار المحكمة إذا لم تقبل به طوعًا. ولكن من حق المحكمة أن ترفع الأمر إلى مجلس الأمن، أي إلى الدول الكبرى. وهكذا كانت محكمة العدل الدولية بمثابة «حاجز» يُبطئ من حاجة مجلس الأمن إلى اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها بالفصل السابع ضد دولة عضو بالأمم المتحدة. كما احتفظ مجلس الأمن بحقِّه في التدخل في حالة عدم انصياع إحدى الدول لقرار المحكمة، فجميع الطرق كانت تقود إلى مجلس الأمن فيما يتعلق بالسلطة الفعلية.
وكانت الأمانة العامة أيضًا بمثابة رجع الصدى للكيفية التي كانت تعمل بها عصبةُ الأمم، فهي من المؤسسات الرئيسية للأمم المتحدة، ولكنها تعمل في خدمة الجميع، ويقع على عاتقها — بقيادة الأمين العام — مهمة تشغيل جميع فعاليات المنظمة الدولية يوميًّا. وهناك ثلاثة أمور بارزة في الفصل الخامس عشر: فالأمين العام يعين بقرار من الجمعية العامة «بناء على توصية يُصدرها مجلس الأمن»، ومن ثَم احتفظت الدول الخمس الكبرى باليد العليا. والأمر الثاني، أن جميع العاملين بالأمانة العامة يتولَّون خدمة الجمعية العامة، ومجلس الأمن، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية وغيرها من الهيئات الثانوية التابعة للأمم المتحدة، ويعدون موظفين دوليِّين لا يتلقَّون أيَّ تعليمات من حكومات بلادهم، ويجب أن يتوفر فيهم «المستوى الرفيع من الكفاءة والمهارة والنزاهة» (المادة ١٠١). واقترن هذا الشرط الهام بالأمل في أن يتم اختيار العاملين بالمنظمة «على قاعدة جغرافية واسعة بقدر الإمكان»، ولا يدري أحد كيف يتم التوفيق بين شرط الكفاءة واتساع المجال الجغرافي (البلاد التي يأتي منها العاملون)، وهي مشكلة عويصة تواجه الأمم المتحدة حتى اليوم.
والأمر الثالث، أن من واجبات الأمين العام توجيه انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة قد تهدد الحفاظ على السلام والأمن الدولي (مادة ٩٩)، ويمثل ذلك نقطة حرجة لأن هذه المادة أوجدت جهة منفصلة عن كلٍّ من مجلس الأمن والجمعية العامة، باستطاعتها أن تُجريَ التحقيقات على الأقل فيما تراه يمثل تهديدًا أو تعديًا على السلام. وبذلك أصبح من حق الأمانة العامة أن تكون لها مصادرها الاستخبارية الخاصة بها، والخبراء الذين يتولَّون تقييم المعلومات التي يتم الحصول عليها، حتى لو بقيت (نظريًّا) في خدمة الجميع. كما أن الأمانة هي الجهة التي تلجأ إليها الدول الأعضاء والجمعية العامة نفسها للحصول على المعلومات، والتقارير، والمعلومات المتعلقة بالميزانية، وطالما كان من مهامها الأساسية إدارة أمور مجلس الأمن، فإن عليها أن تفكر بعمق في كيفية الحفاظ على السلام والأمن الدولي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومواجهة أي من بوادر الأزمات. ومثَّل ذلك كلُّه عبئًا ثقيلًا وقع على كاهل بيروقراطية وليدة.
أما المواد الأخيرة لميثاق الأمم المتحدة فكانت ذات طابع ختامي تقليدي، تتناول الإجراءات المتنوعة الخاصة بالترتيبات الانتقالية، والحصانة الدولية لموظفي الأمم المتحدة، والتصديق على الإجراءات، والتوقيعات. ولكنَّ هناك مادتَين جديرتَين بالذكر، هما: «المادة ١٠٣» التي تنصُّ على أن التزامات الدول الأعضاء تجاه الأمم المتحدة تتقدم على غيرها من الالتزامات الدولية، وكذلك النص المهم (المادة ١٠٩، فقرة ٢) الذي يقضي بأن أي تعديلات يتم إدخالها على ميثاق الأمم المتحدة (بعد تصديق برلمانات الدول عليها) يجب حصولها على أغلبية الثلثين من أصوات أعضاء الجمعية العامة «بما في ذلك جميع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن». وهكذا أُحكمت الضوابط بدقة تامة في الميثاق.
ولا جدال في أن مؤسسي الأمم المتحدة، قد استطاعوا — بطريقة ما — إقامة نظام دولي جديد. فقد اختلف هيكل السياسة الدولية بعد ١٩٤٥م عنه بعد ١٦٤٨ أو ١٨١٥م، بل اختلف أيضًا عن ذلك الذي شهده العالم ١٩١٩م، لأنه جمع الدول الكبرى جميعًا في إطار واحد (بما في ذلك الولايات المتحدة)، وأعطى المنظمة الدولية الجديدة صلاحيات أوسع لمعالجة المسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يعتقد أنها جرَّت الشعوب إلى حلبة الصراع. ولا شك أن ثمة تحديات لم يستطع صنَّاعُ الميثاق التنبؤَ بها، وربما كان من بين ذلك أن تهديدات السلام في عالم المستقبل كانت أقلَّ حدوثًا من الأعمال العدوانية الخارجية، وأكثر وقوعًا بسبب التفكك الداخلي والحروب الأهلية. ولكن هل نتوقع حقًّا مثل هذا التنبؤ من ذلك الجيل المنهك من الساسة والدبلوماسيِّين وخبراء القانون في عالم كانت لا تزال تدور فيه معاركُ طاحنةٌ في أوروبا والمحيط الهادي؟ لا أظن ذلك.
كانت الخُطَب التي ألقاها الساسة عاطفية، معبِّرة عن النصر، متفائلة بمستقبل أفضل للبشرية، سواء ألقيَت تلك الخطب في مؤتمر سان فرانسيسكو، أو في الاجتماع الأول للجمعية العامة ومجلس الأمن الذي افتتح في لندن في سبتمبر ١٩٤٦م. وأنهى ترومان خطابَه الذي ألقاه أمام المؤتمر الذي انعقد بعد شهرين من مؤتمر سان فرانسيسكو للتوقيع على الميثاق وتسجيل الأعضاء، بقوله: «هذا البناء الجديد للسلام يقوم على قواعد متينة. وعلينا ألَّا نخفقَ في انتهاز هذه الفرصة العظيمة لإقامة عالم يسوده العقل والحكمة، لإقامة سلام دائم بعون من الله.»
وكذلك: J. P. Baratta, The Politics of World Federation, 2 vols., (Wesport, Conn., 2004) vol. 1, pp. 27–48.