لغز مجلس الأمن
عرَف العالم الدول الكبرى طوال التاريخ. فقد حظيَت الإمبراطورية الرومانية بالقوة، ومارسَت الكثير من الامتيازات بما يفوق ما كان للغال أو البريطانيِّين القدماء، وقبائل إسبانيا، كما فاقَت إمبراطورية «شي إن» جميع منافساتها في آسيا. وبعد عام ١٥٠٠م كانت الدول الأوروبية الكبرى ترتبط مع جاراتها من الممالك المتوسطة والصغرى برابطة تمثِّل نوعًا مختلفًا من العصبة. وفي عام ١٨١٤–١٨١٥م قامت خماسية من الدول الأوروبية ضمَّت: النمسا، وبريطانيا، وفرنسا، وبروسيا، وروسيا، أنشأت وأدارت نظامَ السلام الذي أعقب الحروب الكبرى التي شهدها القرن الثامن عشر. وعندما سقط هذا التوافق الأوروبي — في نهاية الأمر — عام ١٩١٤م، دفع الصراع المدمر الذي ترتَّب عليه كبار المنتصرين إلى صياغة نظام يحقق نوعًا من الرابطة بينهم عام ١٩١٩م، وذلك رغم احتجاجات اللاعبين الصغار واعتراضاتهم، وعندما شارفت الحرب العالمية الثانية على نهايتها، التقَت مجموعة مختارة أخرى من الدول الكبرى معًا لتضع تصميمًا للنظام العالمي الجديد عام ١٩٤٥م. لماذا تُصيبنا الدهشة — إذن — عندما نجدهم يخصون أنفسهم بامتيازات معينة؟ لو لم يفعلوا ذلك لكان مثارًا لتعجُّب معاصريهم.
غير أن أيَّ إنسان عاقل اليوم لا بد أن يرى أنه من الظلم أن تخصَّ خمس دول من بين ١٩١ دولة هم أعضاء الأمم المتحدة، نفسها بسلطات وامتيازات خاصة. فالدول الخمس: بريطانيا وفرنسا والصين الشعبية، وروسيا، والولايات المتحدة الأمريكية تحتلُّ مقاعد دائمة في مجلس الأمن، الذي يحتل موقعَ القلب من نظام الأمن الدولي، على نحو ما رأينا في الفصل السابق. ويعتمد مصيرُ الجهود الرامية إلى تحقيق السلام من خلال المواثيق الدولية، على ما يعملون أو ما لا يعملون، وعلى موافقتهم أو إقدام أحدهم على استخدام الفيتو. فمن المدهش والمزعج أن تفرضَ ما قررَته حكومتُها على مجلس الأمن، فتغل يده عن القيام بعمل ما، دون أن تكون بذلك قد تجاوزت الحقوق التي كفلها لها ميثاق الأمم المتحدة، فبعض الدول أكثر تساويًا مع غيرها من الكثير من الدول.
وجدير بالملاحظة أن الولايات المتحدة لم تجد ما يدعوها إلى استخدام الفيتو خلال السنوات الخمس والعشرين الأولى من عمر المنظمة الدولية، ويعني ذلك أن أجندة الأمم المتحدة سارت في اتجاه أمريكا. وكان أول استخدام للفيتو في مارس عام ١٩٧٠م بالتوازي مع الصوت البريطاني ضد تدخل الجمعية العامة مسألة روديسيا الجنوبية. ولكن هذا الموقف الذي نسيَته كلٌّ من بريطانيا وأمريكا كان نتاجًا لتغيُّر الأحوال مع تغيُّر الزمان، عندما أصبحت الجمعية العامة واقعةً تحت تأثير الدول الأفريقية والآسيوية ودول أمريكا اللاتينية، وإلى أجندة تتجه إلى قضايا مثل تصفية الاستعمار، والعلاقات بين الشمال والجنوب، والحروب الأهلية في أفريقيا. وازداد استخدام الولايات المتحدة للفيتو لنقض القرارات المتعلقة بمناطق لها مصالح فيها تقتضي الحماية مثل قناة بنما، وعضوية كوريا الشمالية بالأمم المتحدة، وأنجولا، ونيكاراجوا. وإضافة إلى ذلك، وجدت الولايات المتحدة نفسها غارقة في مشكلات الشرق الأوسط، ومن ذلك الاعتراض على القرارات المعادية لإسرائيل. وبذلك أصبح سجل الروس والأمريكان في استخدام الفيتو معكوسًا. وعلى سبيل المثال، لم يستخدم السوفييت الفيتو فيما بين ١٩٨٥ و١٩٩٠م، على حين استخدمَته أمريكا سبعًا وعشرين مرة خلال تلك الفترة، غير أن قدرة الدول الخمس الدائمة العضوية على نقض القرارات وتعطيل الأعمال شكَّلت أداة ضغط. وقد يرى ذلك بعضُ مندوبي الدول الأعضاء بالأمم المتحدة. ولكن قيام الولايات المتحدة بممارسة حق الاعتراض أفضل كثيرًا من انسحابها من المنظمة الدولية نهائيًّا. وما يراه النقاد على أنه ضعف شديد في النظام، قد يرى فيه الواقعيون ضمانًا للمستقبل، فمن الأفضل أن تظلَّ الدول الكبرى داخل الأمم المتحدة بدلًا من أن تكون خارجها.
وبعد مرور عامين على مؤتمر سان فرانسيسكو، خابت الآمال الكبرى التي عُلِّقت على مجلس الأمن. فقد زعم المتفائلون عندئذٍ أن هذا المجلس سيمارس سلطات لا نظير لها في التاريخ. ولكن فاتهم أن يذكروا لقرَّائهم والمستمعين إليهم أن كلَّ شيء يتوقف على التوافق بين الدول صاحبة حق الفيتو. قامت الجمعية العامة من وقت إلى آخر بإصدار قرارات تدعو الخمسة الكبار إلى الإجماع على كلمة واحدة، وفي أواخر ١٩٤٧م شكَّلت الجمعية العامة لجنة مؤقتة للتعامل مع الأزمات الدولية المفاجئة إذا ظل مجلس الأمن على حاله من الانقسام. ولكن اللجنة افتقرت إلى سلطة الإلزام لقراراتها، وما لبثَت أن اختفَت. وفي أكتوبر ١٩٥٠م أصدرت الجمعية العامة قرارها الشهير الذي دعا إلى الاتحاد من أجل السلام، وذلك في مواجهة ميوعة الموقف الأمريكي، ومعوقات الفيتو السوفييتي. وبموجب ذلك القرار أعطَت الجمعية العامة لنفسها حقَّ الاجتماع ومناقشة الإجراءات التي يمكن اتخاذها في حالة تعطيل عضو لقرار مجلس الأمن باستخدام الفيتو، على حين صوتَت أغلبيةُ أعضاء المجلس لصالحه. وكانت تلك محاولة جسورة من الجمعية العامة لتحويل مركز السلطة داخل الأمم المتحدة، حظيَت بقبول غالبية الأعضاء، وعادَت للظهور في قرارات الجمعية العامة خلال أزمة السويس ١٩٥٦م. ولكن هذه المحاولة لم تجد سندًا دستوريًّا (من الميثاق) يدعمها، ولم يستطع الصمود في وجه أصحاب الفيتو من أعضاء مجلس الأمن كما سنرى.
وسِجل مجلس الأمن على مدى السنوات الأربعين الأولى يُعَد مقياسًا للتوترات بين الدول الكبرى في النصف الثاني من القرن العشرين حول: كوريا، السويس، برلين، الكونغو، الصراع العربي-الإسرائيلي، أمريكا الوسطى، أفريقيا. شغلَت جميعها مجلس الأمن، ولكن كيفية حلها لم تعتمد على طبيعة الأوضاع على الأرض فحسب، بل على مدى التوافق بين الخمسة الكبار.
وكان غزو كوريا الشمالية للجنوب في ١٩٥٠م أول علامة على الطريق. وتلك كانت حالة كلاسيكية للعدوان الدولي كما حدده ميثاق الأمم المتحدة. ولكن العلاقات المتوترة بين الشرق والغرب — في ذلك الوقت — وكثرة لجوء الاتحاد السوفييتي إلى استخدام الفيتو جعل الفرصة محدودة للقيام بعمل جماعي للأمم المتحدة. ولكن المقاطعة المؤقتة لمجلس الأمن من جانب الاتحاد السوفييتي (احتجاجًا على إقصاء جمهورية الصين الشعبية لصالح الصين الوطنية)، أتاحَت الفرصة لتحرُّكٍ تقوده الأمم المتحدة للقيام «بعمل بوليسي» ضد الطرف المعتدي. وكانت الحرب طويلة صعبة يسودها التوتر، مثلَت أكبر حملات فرض السلام التي قامت بها الأمم المتحدة. ومن الواضح أنه لم يكن هناك إجماع بين الدول الخمس دائمة العضوية. كان الاتحاد السوفييتي غاضبًا مما حدث، والخطأ الذي وقع في شرَكِه، واحتج بشدة على الدور الذي قامت به الأمم المتحدة، ولكن دون جدوى. ولم يَغِب السوفييت مرة أخرى عن مجلس الأمن، ومارسوا استخدام الفيتو من حين إلى آخر كوسيلة لردِّ الصاع صاعَين للغرب. وعندما احتلَّت الصين الشعبية مقعدَها كعضو دائم بدلًا من الصين الوطنية، قدَّمت شكوى مباشرة ضد الولايات المتحدة لا بسبب خسائرها في ميادين القتال، ولكن لأن الولايات المتحدة مثَّلَت النظامَ الرأسمالي الكريه. وبعد وفاة ستالين، أصبحت الصين بقيادة ماو لاعبًا حذرًا يصعب التنبؤ بحركته قياسًا بالاتحاد السوفييتي، داخل مجلس الأمن نفسه وعلى صعيد النظام الدولي كلِّه. وأخيرًا، قاومت الصين (ولا تزال حتى اليوم) أيَّ عمل يترتب عليه تسجيل سابقة للتدخل في الشئون الداخلية لأيِّ دولة عضو. لهذه الأسباب أصبح الحصولُ على إجماع الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن — الذي يتوقف عليه الكثير — بالغَ الصعوبة فيما عدا المسائل الصغيرة.
وهكذا أنتجت الحرب الكورية مزيجًا من الأنشطة التي حددها ميثاق الأمم المتحدة، وتلك التي لا صلةَ لها به. ومن الواضح أن عمليات الأمم المتحدة وقعت تحت المادة ٤٢ من الميثاق التي تسمح بالقيام بالأعمال التي من شأنها استعادة السلام والأمن الدولي. ولكن لم يكن هناك دورٌ لمجلس الأمن أو لجنة الأركان العسكرية التابعة له. تسترها بالكاد قرارات الأمم المتحدة، على خلاف حرب الخليج الأولى (١٩٩١م) من أوجه مختلفة، فيما عدا أن الحرب الأخيرة خلَت من غضب وإعاقة الاتحاد السوفييتي. وكان قائد القوات الأمريكية في كوريا يرجع إلى واشنطون وليس إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وكانت القوات التي استخدمت في الحرب إلى جانب القوات الكورية الجنوبية أمريكية خالصة (على الرغم من أن بعض الدول المشايعة للغرب شاركت في القتال). ولما كان غياب السوفييت عن مجلس الأمن أتاح الفرصة للتدخل في المحل الأول، فإن العمليات العسكرية قدمت دروسًا للاستفادة منها في الأعمال التي قد تقوم بتفويض من مجلس الأمن مستقبلًا.
والعلامة الثانية على الطريق، تمثلَت في أزمة السويس-المجر المزدوجة عام ١٩٥٦م التي كانت لها نتيجتان على الأقل بالنسبة إلى وضع وممارسات الأعضاء الخمسة الدائمين بمجلس الأمن. وقد رأى المراقبون المحايدون في العمل الذي قامت به بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر، وسحق السوفييت للثورة المجرية، هما من حيث المبدأ عملان متماثلان، عدوان من دول كبرى على دول صغرى. وقد ناضلَت الجمعية العامة التي اجتاحها الغضب لاتخاذ قرار، على الرغم من أنه كان محدودَ الأثر. واستخدمَت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا الفيتو من ناحية، كما استخدم الاتحاد السوفييتي الفيتو من ناحية أخرى عند تعامل مجلس الأمن مع الأزمة، وذلك خدمة لمصالحهم في مواجهة قرارات معادية لهم. ولكن الفرق الحقيقي تمثل في قيام الرئيس الأمريكي أيزنهاور — الذي بلغ الغضب عنده الذروة — بالضغط على بريطانيا وفرنسا (وخاصة الضغط المادي) فاضطرت الدولتان إلى التراجع، وخرجت بريطانيا من تلك الأزمة بنتيجة مؤداها أنها لا تستطيع أن تمارس سياسات مستقلة ضد إرادة الولايات المتحدة. وتعلَّمت فرنسا من الأزمة أن تكون أقل اعتمادًا على الهيمنة الأمريكية. وعلى النقيض من ذلك، لم تكن الاحتجاجات على ما قام به السوفييت في المجر ذات تأثير، فقد كانت المجر في دائرة النفوذ السوفييتي، وكان من الصعب إنقاذها دون التورط في حرب كبرى (قد تكون نووية). وهذا ما لم يكن باستطاعة أحد الإقدام عليه، بما في ذلك وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس صاحب سياسة طي السجادة الشيوعية. وهكذا، برزت بين الدول الخمس الدائمة العضوية فجوة عسكرية بين الضعاف والأقوياء، وهو ما انعكس على استخدام كل واحدة منهم لحق الفيتو، وامتيازات العضوية الدائمة بمجلس الأمن.
والنتيجة الهامة الثانية لأزمة السويس هو عملية حفظ السلام التي تمَّت في سيناء بعد انحسار العدوان، وسوف نتناول تفاصيلها في الفصل التالي، ولكن ما نودُّ الإشارة إليه هنا ما اعترى الصلات بين الخمسة الكبار والقوات التي كونت مساهمات الدول في حفظ السلام من ضعف؛ فقد قررَت الدول الكبرى أن تنأى بنفسها عنها. هنا تبدو الآثار السلبية للحرب الباردة وما صاحبَها من توترات، كما أنه يمثِّل خطوة بعيدة تمامًا عمَّا دار بخلد الأمم المتحدة. حقًّا شارك البريطانيون والفرنسيون في بعض المهام الخاصة بحفظ السلام في العقود التالية، ولكنَّ القوتَين العظميَين لم تُبديَا سوى اهتمام محدود، واقتصرَت مساهمتها على التسهيلات الإدارية (اللوجستية). وهكذا بدلًا من أن تكون الدول الكبرى الراعي الأساسي للأمن الدولي، تركت هذه المهمة للدول التي لا تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن، وخاصة الدول المحايدة، كالسويد والهند. فقد كانت كلٌّ من موسكو وواشنطون مشغولة في الصراع حول دول عدم الانحياز، وشكا كلُّ طرف من أطراف الحرب الباردة من استغلال الآخر الظروفَ لصالحه لو وجدت قواته في الميدان. وكان هذا هو السبيل الأول لإدارة عمليات حفظ السلام. ولكن كان من السخف أن تتحمل الدول المثقلة بالمشاكل المادية العبءَ الأكبر في عمليات حفظ السلام والأمن الدولي. وجعلَت من امتيازات الدول الدائمة العضوية تنطوي على مفارقة غريبة؛ فهم يمضون قُدُمًا في وضع القواعد والموافقة على العمليات المقترحة (أو على الأقل لا يستخدمون الفيتو ضدها)، ولكن أصحاب الخوذات الزرقاء في الميدان لا ينتمون إليهم.
وقد أدَّى مأزق مجلس الأمن إلى حدوث تطور إيجابي، يتمثل في زيادة نشاط الأمين العام واتساع مساحة دوره. لقد جعله الفصل الخامس عشر من الميثاق «كبير الموظفين الإداريين» للمنظمة الدولية، وسماه المعلقون في السنوات الأخيرة «الموظف المدني رقم واحد في العالم»، والوصف الأخير لا بأس به ما دام الأمين العام لا يلعب دور «الخادم» لمجلس الأمن وحده، بل لجميع مؤسسات الأمم المتحدة، وخاصةً الجمعية العامة. ولكن سلطاته الحقيقية ظلت ضعيفة، إلا فيما اتصل بصورته العامة وقدرته على توظيفها. ولكن تظل تسميات مثل «الأمن» و«الموظف المدني» تُضفي الغموض على منصب لا يُعَد إداريًّا محضًا مثل وظيفة كاتب الجلسة أو أمين مجلس الوزراء. وبينما يبدو الاختصاص المعلن للأمين العام إدارة أعمال المنظمة الدولية، يُعطيه الميثاق مسئوليات سياسية وخاصة من خلال عمله مع مجلس الأمن في المسائل التي تمثِّل تهديدًا للسلام العالمي (المادة ٩٩)، وفي التقرير الذي يرفعه إلى الجمعية حيث يقدم تصويرًا للظروف التي يتناول فيها المجلس العديد من الأمور في سنواتٍ سادتها الفوضى العامة (المادة ٩٨).
ويمضي المؤلفان بعد ذلك لوصف ما لا يقلُّ عن سبعة عشر من «المساعي الحميدة» التي بذلها الأمين العام في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، كان بعضها مخولًا من مجلس الأمن، وبعضها الآخر من الجمعية العامة، وبعضها تم بمبادرة من الأمين العام. ومن الواضح أن نهاية الحرب الباردة ساعدَت كثيرًا على تقليل الشكوك بين واشنطون وموسكو ضد أيِّ طرف ثالث يلعب دورًا في الشئون الدولية، وجعلَتهما تريان في الأمين العام أداةً نافعة لحلِّ المشكلات الصعبة. وكثيرًا ما يقوم الأمين العام باختيار مبعوث أو ممثل خاص يكلِّفه بالتنقل بين الأطراف المعنية، باذلًا «المساعي الحميدة» في الإقليم الذي يشهد توترًا أو في منطقة محايدة مثل جينيف. بعض هذه القضايا ذات طبيعة محدودة الحجم مثل النزاع الحدودي بين جويانا وفنزويلا أو بين نيوزيلندا وفرنسا حول التجارب الذرية في المحيط الهادي، ولكن بعضها الآخر على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة إلى الحفاظ على السلام والأمن الدولي مثل الإشراف على الانتخابات في كمبوديا والتوصل إلى اتفاقات السلام في أمريكا الوسطى. ولم تكن كلُّ هذه المهام ناجحة تمامًا، فلننظر — مثلًا — إلى الجهود التي بذلها فانس وأوين لحقن الدماء في البوسنة في ١٩٩٢–١٩٩٣م التي مُنيَت بالفشل، وما زالت المسئولية عن ذلك الصراع موضع الخلاف حتى اليوم. والحق أن الوساطة المحايدة تُمنَى بالفشل إذا فضَّل أحدُ أطراف النزاع الحربَ على التفاوض، أو إذا قامت إحدى الدول الكبرى بإعاقة جهود المساعي الحميدة.
وهكذا، رحَّبَت الدوائر التقدمية في كل مكان بالتحولات التي لحقَت بدور الأمانة العامة للأمم المتحدة في الشئون الدولية، ولكن هذا التوسع في نشاط الأمين العام يعتمد بالدرجة الأولى على قبول القوى العظمى. وقد أصبحَت مهام الأمم المتحدة متواترة الحدوث — منذ ١٩٨٧م — ثم أصبحت منتظمة بسبب الذوبان التدريجي لجليد الحرب الباردة، بعدما انتهج الزعيم السوفييتي الجديد ميخائيل جورباتشوف سياسات تحررية استجاب لها الغرب. واستفادَت من ذلك الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والأمانة العامة، منذ أعلن جورباتشوف أن بلاده تفضِّل التعاون مع الأمم المتحدة وتمكينها من أداء رسالتها، وذلك في إطار سياسته التوفيقية التي أراد بها دعمَ خطتِه الإصلاحية في بلاده.
ثم حدثَت مفاجأة أخرى لم تكن في الحسبان، وهي العدوان العراقي على الكويت في أغسطس ١٩٩٠م، وواضح أن صدام حسين قام بحسابات خاطئة جعلَته يشنُّ هجومه المباغت على الكويت، فقد أخطأ في تقدير الموقف الأمريكي، والتفوق الأمريكي في التكنولوجيا العسكرية، ومواقف الدول العربية، والرأي العام الدولي. ولعل أكبر ما ارتكب صدام حسين من أخطاء هو إعطائه الفرصة لمجلس الأمن للتعامل مع حالة تقليدية تستوجب اتخاذ قرار بالعمل العسكري تطبيقًا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. هنا نجد نموذجًا مثاليًّا لما توقَّعه صناع الميثاق في ١٩٤٤–١٩٤٥م، بصورة أدق من الأزمة الكورية، فلم يعتمد الأمر على غياب عضو دائم يمتلك حقَّ الفيتو، فلم يكن أي من الأعضاء الخمسة الدائمين له مصلحة في تعطيل قرار مجلس الأمن، فقد كان جورباتشوف مشغولًا بالإصلاحات التي استهدفَت تحوُّلَ الاتحاد السوفييتي، وفي حاجة إلى صداقة الغرب، ولم تكن الصين لتستخدم الفيتو في حالة عدوان عضو بالأمم المتحدة على عضو آخر، وكانت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا تؤيدان الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك، أن صدام حسين كسَب عداوةَ الكثيرين في الإقليم، ولديه سجلٌّ معروفٌ في انتهاك حقوق الإنسان. لدينا الآن نموذج جديد للحرب الحبشية أو أزمة أراضي الراين ولكن في غياب عصبة الأمم العاجزة. حتى أولئك الذين ذهبوا في نقدهم للولايات المتحدة إلى ادِّعاء أن تلك الحكومة كان لها أطماعها الخاصة ودوافعها الأنانية في القيام بعمل عسكري للسيطرة على مصادر البترول وتدعيم مصالحها في الشرق الأوسط، ولإثبات أن إنفاقها العسكري في الثمانينيات كان له ما يُبرره، حتى أولئك النقَّاد سلَّموا بأن الحرب ضد العراق لها ما يُبررها من وجهة نظر القانون الدولي.
ولكن من المدهش أن مجلس الأمن أدان الغزو العراقي بعد ظهر اليوم نفسه، وعلى مدى بضعة شهور، أصدر المجلس أحد عشر قرارًا بشأن فرض العقوبات الاقتصادية، ثم الحصار البحري، وأخيرًا استخدام القوة. ومن المؤكد أن تطبيق تلك القرارات لم يتبع نصَّ الميثاق، فلم يكن هناك دورٌ للجنة الأركان العسكرية، وأيَّدَت روسيا والصين العقوبات دون أن تلتزم بتنفيذها، كما أن الحملة على العراق كانت تحالفًا فعليًّا قادَته الولايات المتحدة التي مثلت قوة نيرانها الجانب الأكبر من قوة التحالف، كما لم يؤدِّ نجاح العمليات العسكرية إلى إقرار إجراءات أمنية دائمة مثل موافقة الحكومات على وضع قواتها العسكرية في حالة استعداد (نص المادة ٤٣) لتلبية مطالب الأمم المتحدة في المنطقة. ولذلك لم يكن هناك ما يضمن أن قيامَ أيِّ أزمة عراقية في المستقبل سوف يؤدي إلى استجابة مطابقة لتلك التي حدثَت في ١٩٩٠–١٩٩١م.
وهناك سابقة لمعالجة مثل هذه الأزمة الدولية في حرب فوكلاند عام ١٩٨٢م. فلم يكن لروسيا أو الصين مصلحة في ذلك الصراع، كما أن فرنسا الحائرة وأمريكا المتعاونة لم تحتجَّ على قيام بريطانيا بالردِّ على العدوان الأرجنتيني. وقد فضَّلت الدول الأعضاء ألَّا تُقيِّد نفسها بشيء — إذا كان بيدها الاختيار — وأن تعالجَ كلَّ أزمة في إطار ظروف قيامها، ومدى اهتمام الدول الدائمة العضوية بها.
على الرغم من أن السياسة البراجماتية تبدو ضعيفةَ الإرادة في نظر أصحاب النزعة الدولية، ربما كان اتباعها طريقًا إلى الحكمة. فقد كان التضامن بين الدول الخمس الدائمة العضوية هشًّا دائمًا حتى بعد انتهاء الحرب الباردة. فإذا وقعَت أزمة في المستقبل باستطاعة إحدى الدول الخمس استخدام الفيتو لتعطيل ما يتخذ بشأنها من قرارات، فإن مجلس الأمن لا يستطيع أن يعمل إلا قليلًا. فإذا كانت الأزمة عند مستوى منخفض من النزاع، استطاع المجلس أن يقرر كيفية مواجهتها. ويلعب الموقع الجغرافي لمكان الأزمة دورًا كبيرًا في تحريك القانون الدولي، ومدى قربها أو بُعدها عن نطاق الدول الكبرى. وقبل كل شيء، لا توجد دولة من الدول الدائمة العضوية، أو القوى الإقليمية الكبرى مثل الهند أو البرازيل اللتين تتطلَّعان إلى العضوية الدائمة بمجلس الأمن، تملك إمكانات نقل القوات إلى الطرف الآخر من العالم أو القدرة على إطفاء الحرائق هناك بنجاح؛ فالولايات المتحدة وحدها هي التي تملك القدرة على ذلك. ومن ثَم تجد الدول الدائمة العضوية أنه ليس من الحكمة الإصرار على اتباع سياسة طموحة واسعة النطاق لفرض السلام بالقوة، في حالة وقوع صراعات كبيرة في مناطق بعيدة. فإذا كان الصراع عبارة عن حرب أهلية صغيرة يمكن استخدام الأمم المتحدة دبلوماسيتها للتفاوض حول السلام، عندئذٍ يمكن لذوي الخوذات الزرقاء من قوات حفظ السلام أن تلعب دورًا، ولا داعي لتوريط الأمم المتحدة في أيِّ عمل مقدمًا.
وبغضِّ النظر عن هذه المحاذير، كانت العملية الموجَّهة ضد العراق — دون شك — انتصارًا حققه مجلس الأمن (وخاصة في عيون الأمريكان)، من أجل صورة مجلس الأمن ذاته، وانتصارًا لمن وضعوا ميثاق الأمم المتحدة، ولقواعد القانون الدولي، ولم يُقلل من ذلك استمرار صدام حسين في الحكم لعقد آخر من الزمان. فإذا كان هذا الانتصار نهاية لحفظ السلام وفرض السلام بالقوة في التسعينيات، ربما تطلَّع دبلوماسيو الأمم المتحدة ومؤيدوها إلى نهاية القرن بقدر كبير من الرضا. ولكن ما كادت هذه الحالة التقليدية المعبرة عن مجلس الأمن وطرق مواجهته للأمور تُشرف على الانتهاء، حتى برزَت تحديات مختلفة جديدة، أكثر صعوبة، هزَّت الأمم المتحدة حتى الجذور، وطرحَت تساؤلًا كبيرًا حول مدى قدرة المنظمة الدولية على تنفيذ الأهداف التي تضمنها الميثاق لصالح البشرية.
جاءت هذه التحديات في صورة انفجار الحروب الأهلية، والصراعات العِرقية والدينية والتجاوزات الواسعة لمبادئ حقوق الإنسان، وانهيار السلطة، والحالات الطارئة الإنسانية التي حدثَت في أوائل التسعينيات وسوف نناقش مطالب العمليات الخاصة بتلك الصراعات التي وقعَت على الأمم المتحدة وقدراتها على حفظ السلام بالتفصيل في الفصل التالي، وما يهمُّنا الآن ما كانت تعنيه هذه الصراعات بالنسبة إلى مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة. لقد شعر أعضاء مجلس الأمن أن أزمة العراق كانت في غاية البساطة مقارنةً بما سمعوه وعرفوه عن المآسي المستمرة في يوغوسلافيا، وهاييتي، والصومال، ووسط أفريقيا، والقوقاز، وعدة مواقع أخرى.
تُرى، لماذا كانت تلك الأزمات المتعددة في التسعينيات تشكِّل تهديدًا خطيرًا لنظام الأمم المتحدة؟ أولًا، لأن هذا النوع من الفوضى الداخلية وانهيار البنية الاجتماعية في مناطق مثل هاييتي والصومال لم يَرِد — ببساطة — في نصوص ميثاق الأمم المتحدة مطلقًا. لقد كانت هناك طبعًا أزمات سابقة مثل أزمات الكونغو في ١٩٦٠م ساعدَت الأمم المتحدة على أن تسترشد بها في العمل، ولكن لم يسهل الانتفاع بها لأنه لم تكن هناك حكومة على الإطلاق تستطيع وكالات الأمم المتحدة العمل معها.
ثانيًا، كانت هناك العديد من الطلبات والمناشدات التي تلقَّتها الأمم المتحدة لتقديم العون في وقت بالغ القصر. وكان من الصعب فهمُ كلِّ أزمة جيدًا وتقرير ما يمكن عمله جيدًا بشأنها، كما كان من المستحيل اتخاذ قرارات عاجلة ومجلس الأمن يواجه قضايا ملحَّة ضاغطة في كمبوديا، ورواندا، وموزمبيق، وهاييتي، وكوسوفو، الواحدة تلو الأخرى. غير أن الحاجة إلى الإقدام على عملٍ ما كان يزيد من حدَّتِها صرخاتُ آلاف البشر التي نقلَتها وسائل الإعلام الدولية يوميًّا بصورة مأساوية. وحتى لو استطاع أن يتعامل مجلس الأمن مع ربع تلك الحالات لكان منظمة بالغة الكفاءة، أما أن يتعامل معها جميعًا فهو ما لا قِبَل له به. ولكن ذلك ما كان يلزمه الميثاق بعمله، وهو ما توقعه منه البرلمانيون، والناخبون، والنشطاء في كل المجتمعات.
ثالثًا، كانت الموارد اللازمة لقيام مجلس الأمن بالتزاماته العديدة غير كافية. كان مجلس الأمن يعمل يوميًّا في إطار من التعاون التام بعدما اختفَت صدامات زمن الحرب الباردة. ولم يظهر احتمال استخدام الفيتو إلا لمامًا (مثل عدم ارتياح روسيا للتحركات المضادة للصرب في أوائل التسعينيات)، كما أن أحدًا من الدول الخمس الدائمة العضوية لم يكن له دوافع تجاه أفريقيا التي وقعَت فيها أكبرُ الكوارث. وكان التوصل إلى القيام بعملية جديدة للأمم المتحدة يتطلب وقتًا طويلًا، وغالبًا ما كانت تَصِل المعونات وقوات حفظ السلام بعد أن يحيقَ الدمارُ بالبلدِ المعنيِّ، ولكن معظم القرارات سبَّبَت القليل من التوتر بين الدول الكبرى. كان لا بد أن يبدأ كلُّ عمل من الصفر نظرًا لعدم وجود لجنة أركان عسكرية على درجة من الكفاءة، وعدم وجود قوات للدول الأعضاء في حالة استعداد دائم. كان من الميسور على مجلس الأمن أن يفوض الأمم المتحدة القيام بعملية جديدة في مكان معين من العالم، ولكن كان على الأمين العام السيِّئ الحظ أن يطوف بالدول الأعضاء حاملًا قبعتَه في يده، طالبًا منهم تقديم الجنود، وقوات الشرطة، والموظفين الإداريين، وتسهيلات النقل والإمدادات، والمواد الغذائية. كانت بعض الدول على استعداد لتقديم قوات تقوم بتوزيع المواد الغذائية في وسط أفريقيا، ولكنها لا تقبل إرسال قواتها للوقوف بين الصرب والكروات في البوسنة. بعض الدول قد تقبل المشاركة في قوات حفظ السلام، ولكنها لا تقبل الاشتراك في قوات فرض السلام بالقوة. كانت كلُّ مهمة تتطلَّب مشاركة مجموعة مختلفة من الدول، معظمها لا تتوفر لديه القدرة، ويحتاج إلى مساعدات مالية وعسكرية حتى يستطيع القيام بالعمل المطلوب. ولا شك أن هذه الفجوة الواسعة بين الوعود والتنفيذ أدَّت إلى الإضرار بسمعة مجلس الأمن، ودعمت حجج مَن ينتقدون التوسع في نشاط الأمم المتحدة.
وأخيرًا، كانت تلك الأنشطة باهظة التكلفة، وميزانية حفظ السلام كانت مستقلة عن ميزانية الأمم المتحدة، وكان من الصعب إلزامُ كلِّ الدول بتحمُّل تكاليف التشغيل العادية للمنظمة الدولية، ولذلك كان الحصول على الاعتمادات الضرورية للإنفاق على كل عملية جديدة للمحافظة على السلام يمثِّل تحديًا كبيرًا. وفي عام ١٩٩٣م بلغَت تكاليفُ حفظ السلام — لأول مرة — ضعفَ أو ثلاثةَ أمثال الميزانية السنوية للأمم المتحدة كلها. ووقعَت الأعباء المالية الإضافية على كاهل الدول الخمس الدائمة العضوية (تحمَّلَت فيه روسيا والصين النصيبَ الأقل) التي قدَّمت الجانب الأكبر مما قدمَته الدول الفقيرة التي لا تحظى بامتيازات العضوية الدائمة، وخاصة أن الدول الخمس هي التي تُقرر العمليات في المحل الأول. غير أن الأمور ما لبثَت أن تعقَّدَت، وترتَّب على صعود اليمين في الكونجرس الأمريكي عام ١٩٩٤م مطالبة الكونجرس بالتفاوض من جديد حول المساهمة الأمريكية في ميزانية حفظ السلام (وكانت عندئذٍ نحو ٢٨٪). ومهما كانت وجهات نظر المعاصرين حول هذه المطالبة، فإن المسألة كان لها منطقها المالي، ولكن السياسيين الذين طالبوا بذلك صبُّوا جامَ غضبِهم على المنظمة الدولية، وتركَت الأمانة العامة تُحاول معالجة الأوضاع المالية بصعوبة، وعبَّرَت الكثير من الدول الأعضاء عن ضيقها بهذا التصرف السيِّئ من جانب الكونجرس الأمريكي.
ومع اقتراب المنظمة الدولية من عيدها الخمسين، كانت هناك دعوات متزايدة للإصلاح والتغيير. ومن بين تلك المناقشات الحامية لم تنَل القضايا المثارة ما ناله موضوع المطالبة بإصلاح مجلس الأمن ذاته من حيث التكوين والصلاحيات ونظام العمل. وجاءت أكثر الخلافات حدة حول موضوعَي الفيتو والدول الخمس التي لها وحدها حقُّ استخدامه.
ولما كان قد انقضى نصف القرن على قيام المنظمة الدولية التي تغيَّرت كثيرًا على مرِّ السنين، فقد كانت إعادة النظر في هياكلها على درجة كبيرة من الأهمية، وخاصة أن الكثير من النقَّاد رأوا أن الزمن قد تجاوزها. فاليابان وألمانيا اللتان كانتا من ألد أعداء الحلفاء قبل نصف قرن (وأشار إليهما الميثاق باسم «الدول المعادية» في المادة ٥٣)، أصبحتا الآن تحتلَّان المركزَين الثاني والثالث في قائمة كبار المساهمين في ميزانية الأمم المتحدة، وتشعران أن من حقهما الحصول على مقعدَين دائمَين في مجلس الأمن. ولكن الشكاوى الرئيسية من الوضع الحالي للأمم المتحدة جاءت من الدول النامية، وخاصة الكبرى منها مثل الهند والبرازيل والمكسيك. فقد بدَا لهم استمرار الدول الخمس المنتصرة عام ١٩٤٥م في التمتع بامتيازات خاصة ضربًا من ضروب المفارقة التاريخية، إذا أخذنا في الاعتبار تدنِّي المكانة الدولية لكلٍّ من بريطانيا وفرنسا. وكان ذلك أقل إثارة للإزعاج عندما جمَّدَت الحربُ الباردة قدراتِ مجلس الأمن على أداء الكثير من الأعمال. ولكن بعد أن تحرَّكَت الأمم المتحدة إلى مرحلة ما بعد التسعينيات الحافلة بالنشاط، تُصبح البنية الحالية للمنظمة الدولية متخلفة بالقدر الذي لا يمكن السكوت عليه، وخاصة أن معظم قرارات مجلس الأمن بالتدخل (أو عدم التدخل) طالَت بلاد الجنوب، فيما عدا ما اتصل بالبلقان، والعمليات التي تمَّت في البلاد التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي. وكانت فكرة إضافة دول غنية إلى مجلس الأمن مثل اليابان وألمانيا، واستثناء العالم النامي، إهانة لا تُغتفر من وجهة نظر نيودلهي وبرازيليا. فإذا لم يتمَّ تغيير الأوضاع تغييرًا جذريًّا، فإن ذلك سوف يؤدي إلى إضعاف سلطة مجلس الأمن، ويُفقده احترام الكثير من دول العالم.
وباختصار، لم يكن الوقت مناسبًا لذلك، حتى المقترحات المتواضعة لزيادة مقاعد الدول غير الدائمة العضوية بمجلس الأمن لم تجد آذانًا صاغية، وكذلك الفكرة الداعية إلى إنعاش لجنة الأركان العسكرية، والفكرة الداعية على إقامة جيش دائم للأمم المتحدة، يتلقَّى تعليماته من مجلس الأمن. وحالَت معارضة الجمهوريين في الكونجرس الأمريكي دون إقرار ضريبة صغيرة على التحويلات المالية الدولية تستخدم لتمويل عمليات الأمم المتحدة، وهو اقتراح طُرح لحل المشكلة المالية للمنظمة الدولية في منتصف التسعينيات. وخلال بضع سنوات، أحبطَت الآمال والمشاريع التي طُرحت لتقوية الأمم المتحدة وجعلها أكثر اقترابًا من الأهداف الواردة بالميثاق. ولعل ذلك لم يكن على تلك الدرجة من الخطورة التي ظنَّها أصحاب النزعة الدولية عندئذٍ. فقد كان تغيير ميثاق الأمم المتحدة ونظامها تغييرًا جذريًّا يعرِّضها للتفكك والانهيار في ذلك الوقت الذي كانت فيه مشغولةً بمهام حفظ السلام وفرضه التي بلغ عددها ١٨ مهمة، تُعاني من أزمة مالية، ومن الخلافات التي نشبَت بين معظم القوى الكبرى. لقد كانت الأمم المتحدة في حاجة لفرصة التقاط الأنفاس، ولإجراءات تساعدها على احتواء الأزمة في ظل تلك الظروف.
وهكذا، دخل معظم أعضاء مجلس الأمن إلى القرن الحادي والعشرين بحالة مزاجية حذرة، فقدَت الأفكار الكبرى للتغيير جاذبيتَها، إذا افترضنا أن تلك الأفكار وجدَت صدى عند الدول الخمس الدائمة العضوية. كان الاهتمام منصبًّا على الناحية العملية — وليس النظرية — من جانب الحكومة الأمريكية لإقناع الكونجرس بإقرار سداد نصيبها كاملًا في ميزانية الأمم المتحدة. لقد اختلفت الآراء داخل مجلس الأمن حول معالجة قضايا مثل فلسطين أو العراق دون أن ينعكس ذلك سلبًا على أداء المجلس. وبينما تعاملَت الأمم المتحدة مع قائمة طويلة من الصراعات الإقليمية، كانت تلك الصراعات أقل عددًا وحدَّة من الأزمات التي شهدتها في منتصف التسعينيات. وقد نجح كوفي آنان في توجيه الانتباه نحو أفريقيا، وفي جعل الرأي العام العالمي يتجه إلى التسليم بأن الجهود التي تتبدل لمساعدة المجتمعات الأفريقية يجب ألَّا تقتصر على الموارد الحيوية، بل يجب أن تمتدَّ إلى التعاون بين مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، والكنائس، وقطاع الأعمال الدولي. وكان مجلسُ الأمن مجردَ واحد من بين اللاعبين في هذا الإطار الواسع الشامل، وإن كان دورُه حيويًّا لكل بلد تحتاج إلى الأمن، ولكن المجتمع الدولي كان ما زال بحاجة إلى الكثير لتوفير الأمن والرخاء.
وسط هذا الجو الهادئ نسبيًّا، وقع حادث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، وتحقَّق العالم على وجه السرعة من أنه يواجه نوعًا مختلفًا خطيرًا من التهديد لأمنه يفوق ما قامت به الدول العدوانية من قبل. ولما كانت الضربة التي تعرَّضَت لها مدينة نيويورك فظيعة تدل على أن أحدًا لن يسلم من حدوث شيء مماثل، فقد تم إخلاء مقر الأمم المتحدة ذاته تحسُّبًا لوقوع هجمات أخرى، عندئذٍ اتجه مجلس الأمن والجمعية العامة إلى تأكيد تضامنهما معًا في النضال ضد الإرهاب.
وشغلَت الأعمال التي تلَت هجوم «القاعدة» النظام الدولي بأبعاده المتعددة في بداية القرن الحادي والعشرين. ولم يكن الكثيرُ من تلك الأعمال من طرف المنظمة الدولية نفسها؛ فقد كان الأمر يتعلق بالمجتمع الدولي كله. فقد حدثَ تعاونٌ كبير بين المصارف المركزية، وهيئات الشرطة، وأجهزة المخابرات في مختلف أرجاء العالم استجابةً لطلبٍ مباشر من واشنطون لتجميد الأرصدة الخاصة بالمنظمات الإرهابية، والقبض على خلاياها المحلية. وأدركَت الدول التي تحارب الإرهاب في أراضيها، أو الحركات الثورية التي تتبع أساليب إرهابية، أن لديها همومًا مشتركة ولكن هذه الاستجابات لتحديات الإرهاب أنتجَت أيضًا المزيد من التساؤلات التي طُرحت على الأمم المتحدة، وتحديات فرضَت نفسها على تلك النظرة الكلية للمشكلات العالمية التي سبقَت الإشارةُ إليها. فإذا أعادَت المنظمة الدولية الآن تنظيم جهودها من أجل التركيز على الحرب ضد الإرهاب حيثما وُجد — ما يمثل إضافة إلى الصلاحيات التي نصَّ عليها الميثاق — فقد تُبرر كلُّ دولة من الدول الأعضاء سحْقَها لكل المعارضين في بلادها مثل الجماعات الإثنية ذات التوجهات الانفصالية، على أنه من قبيل الحرب على الإرهاب. فإذا نظرنا إلى أبعاده الظاهرة، فإن النظام الدولي لحقوق الإنسان سوف يجد صعوبة بالغة في التعامل مع التجاوزات والأعمال العدوانية التي تشكِّل انتهاكًا لحقوق الإنسان. كما انتاب القلق أنصار الأمم المتحدة حول الأعمال العسكرية التي وجهَت ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان التي وقعَت في الشهور التالية لهجمات سبتمبر. ورأى الجميع في تلك الحملة عملية عسكرية أمريكية خالصة — وهو ما حرص البيت الأبيض على تأكيده — لا تقل وضوحًا عن الحرب العالمية الأولى أو الحرب الكورية، ولم تستطع المساهمات البسيطة من جانب بعض الدول واستخدام أمريكا لمصطلح «التحالف الدولي ضد الإرهاب»، أن تُخفيَ حقيقة أن تلك الحملة كانت عملية أخرى يُديرها البنتاجون تنفيذًا لأوامر الرئيس الأمريكي. ومنذ عام ١٩٥٠م، كانت غالبية الأعمال العسكرية الأمريكية لا تتم بتفويض من مجلس الأمن على وجه الإطلاق (فيتنام، وأمريكا الوسطى)، أو عمليات عسكرية «بالوكالة» عندما يرى مجلس الأمن أنه ليس هناك ما يعوق القيام بها (كوريا، حرب الخليج الأولى، مقديشيو، أفغانستان). فالدول الكبرى عادة كائنات لها تطلعاتها ورغباتها، ولكن اللبراليين أصحاب النزعة الدولية لم يجدوا ما يبعث على السرور في فجر القرن الحادي والعشرين، أن تصبح الأمم المتحدة التي أُقيمت للحفاظ على الأمن والسلام الدولي، مجرد خاتم من المطاط يصدق على أعمال الدولة الأعظم في العالم، والأكثر استعراضًا لقوتها، وخاصة أن الولايات المتحدة أعدَّت قائمة طويلة ضمَّت الدول المارقة وأنظمة الشر بهدف التحرك المحتمل ضدها.
وتحققت تلك المخاوف التي ساورَت الليبراليين بعد عام واحد، عندما اتخذ البيت الأبيض قرارَ إسقاط صدام حسين، الذي كان من الصعب خلع صفة «الدفاع عن النفس» عليه، في محاولة لمط المادة ٥١ من الميثاق. وأبرزت المعارك التي شهدها مجلس الأمن حول الحرب على العراق (٢٠٠٢–٢٠٠٣م)، المشكلة التي واجهَت الولايات المتحدة حول كيفية التوافق مع النظام الدولي. فقد بدَا ذلك للذين عارضوا أمريكا في فرنسا وألمانيا ومختلف أنحاء العالم، مشكلة لا تقلُّ حجمًا عن الإرهاب ذاته. كيف يستطيع برلمان الإنسان أن يتصرف في مواجهة دولة بلغ إنفاقها العسكري عام ٢٠٠٣م ما يعادل ما تُنفقه دول العالم مجتمعة؟ ومن الغريب أن الجدل التقليدي حول امتيازات الدول الخمس الدائمة العضوية قد اختفى خلف ستار كثيف دار على الصعيد الدولي حول وضع أمريكا الفريد كقطب أوحد في النظام الدولي. هذا التحدي قديمٌ قِدَمَ العام ١٩٤٥م عندما استطاعَت الولايات المتحدة أن تُنتج نصف الإنتاج العالمي عندئذ، ولكن القيادة السياسية الأمريكية كانت راغبةً يومئذ في عدم الانفراد بالعمل، وعلَّقت آمالها على إصلاح النظام الدولي. وقد أثبت الجمود في أداء مجلس الأمن بعد قرن من الزمان أن تلك الرغبة في العمل في إطار تعددي، قد تلاشت في واشنطون وأمريكا كلها. كما بيَّن أن حكومة الولايات المتحدة تستطيع أن تفعل تمامًا ما تشاء إذا لقيَت تأييد الكونجرس.
ومن ناحية أخرى، كانت المنازعات الداخلية في مجلس الأمن حول غزو العراق لا تبدو غريبة عن صدامات الستينيات من القرن العشرين، ومن ثَم لم تكن مثارًا للدهشة. فقد تمسكَت فرنسا — مرة أخرى — بحقِّها في استخدام الفيتو ما لم تقبل أمريكا أن تكون الحملة المقترحة ضد العراق تحت الإشراف التام لمجلس الأمن. ولكن أمريكا لم تتذرع بالصبر، وخاصة أن صدام حسين أفلت من سبعة عشر قرارًا سابقة، وقررَت المضيَّ قُدُمًا في غزو العراق دون تفويض من المجلس. وكانت لهجة الاعتراضات في كلٍّ من باريس وواشنطون تدعو إلى الأسف، غلَب عليها الإسفاف. ولكن يمكن القول إن النظام أثبت فعاليته، طالما كانت الدول صاحبة حق الفيتو دائمة الاختلاف. وأعادت رحلات توني بلير — رئيس الوزراء البريطاني — عبر الأطلنطي جيئةً وذهابًا في محاولة للتوفيق بين الأطراف المتنازعة، إلى الأذهان السياسات البريطانية المماثلة في ١٩٤٣–١٩٤٥م، وخلال أزمة الصواريخ الكوبية، وحرب فيتنام، فقد حاول توني بلير أن يَحُول دون قيام الولايات المتحدة بتقويض دعائم النظام الدولي. وقد أخطأ من اعتقد عندئذٍ أن الأمم المتحدة قد فشلت، فما حدث كان أشبهَ ما يكون بحدوث ماس في إحدى «الوصلات» التي قام عليها نظام ١٩٤٥م. ولا يجب أن نقلل من شأن الغضب الذي أصاب الكثير من الأمريكان — عندئذٍ — عندما افترضوا أن العالمَ كلَّه سوف يتضامن معهم. كما لا يجب أن نتغاضى عن الوجوم الشديد الذي أصاب مؤيدي الأمم المتحدة والعديد من الحكومات الأخرى عندما شاهدوا الخلافات داخل مجلس الأمن تتفاقم، وعبَّروا عن خشيتهم مما قد يُسفر عنه ذلك من نتائج على المدى البعيد. وأخيرًا، يجب أن نتذكر أن الأمم المتحدة تعتمد على ثقة الشعوب والحكومات بها — الأمريكان وغيرهم — تشجع كل طرف على أن يحلَّ الأمور وحده.
كل ذلك جعل مجلس الأمن يجلس حائرًا في مفرق الطرق، يتعامل مع أجندة بالغة التعقيد. وكما سبق أن أشرنا، كان على المجلس أن يتعامل مع قضايا ومهام أمنية طويلة المدى في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، والبلقان. وأصبح طرفًا في مراقبة الانتخابات العامة وأعمال الاستطلاع في آسيا الوسطى، وعملية إعادة التعمير وإعادة بناء الدولة في أفغانستان. وإضافة إلى ذلك، حدثَت تحديات كثيرة في غرب ووسط أفريقيا، وامتدت إلى السودان. كانت تلك قائمة طويلة من المهام، غير أن العضو الأقوى في المجلس (أمريكا) أصرَّ على أن تكون الأولوية دائمًا للحرب ضد الإرهاب والحملة العسكرية على العراق، وإلا قصرت واشنطون تعاونَها مع الأمم المتحدة على أساس اختياري محض. لذلك أصاب الجمودُ الكثيرَ من مكونات القائمة، إلا ما استطاعت الدول الأعضاء بالمجلس أو الأمين العام أن تتعامل معه على ضوء الميثاق. وقد كادت بعض الدعوات إلى اتخاذ إجراءات أن تتسبَّب في صدام مع الآخرين سواء كان ذلك الصدام فعليًّا أو ناتجًا عن الصراع على الموارد، وجذب الأنظار مثل تزايد الاهتمام بالأعمال المنافية لحقوق الإنسان في السودان التي غطَّت على عملية اقتناص خلايا القاعدة. وأخيرًا جاء شبح العراق ليخيِّم على المنظمة الدولية ويُضعفها بطريقة أخرى، عندما تسرَّبت تفاصيلُ الفساد الذي صاحب صفقات «النفط مقابل الغذاء»، التي كانت تتم بقرار من مجلس الأمن.
لقد أصبح العالم عندئذٍ مختلفًا تمامًا عنه عندما عقد مجلس الأمن اجتماعَه الأول عام ١٩٤٦م. وفيما عدا زيادة عدد مقاعد الدول التي تتناوب عضوية المجلس في ١٩٦٦م، ما زال المجلس على حاله من حيث الشكل، ومن حيث امتيازات الأعضاء الدائمين. وما زالت المطالبة بضبط النسبة بين الدول الخمس الدائمة العضوية وباقي الأعضاء مسألة بالغة الحساسية، وكذلك مسألة زيادة عدد الدول المتمتعة بحق الفيتو في المفاوضات بين الحكومات وبعضها البعض التي جرَت خلال احتفالات العيد الستين للمنظمة الدولية (صيف وخريف ٢٠٠٥م) ولكنها ما لبثت أن أزيحت جانبًا. وقد أدرك الجميع أن مجلس الأمن قد غيَّر من الطرق التي اتبعها في عمله، وفي تناوله للقضايا التي ينظرها، بما يتجاوز بنيتَه الأساسية، وذلك بعد ستين عامًا من مواجهة التحديات التي تعرَّض لها السلام الدولي، وسجِل حافل بالنجاح والإخفاق. وما زال العالم بحاجة إلى مؤسسة مماثلة لمجلس الأمن في عالمٍ تسوده النزاعاتُ المنذرة بالحروب، وتُهدده الصراعات الداخلية التي قد تتحول إلى صدامات عنيفة، ومع وجود قوًى كبرى تتطلع إلى لعب أدوار على المسرح الدولي. ولكن هل يعدُّ مجلس الأمن المجمد زمنيًّا، والمنقسم دائمًا، أداةً صالحة لتحقيق السلام والأمن الدولي لجميع بلاد العالم؟ لا يرى ذلك إلا القليل ممن يرَون إمكانية ذلك أيضًا. وعلى كلٍّ، نعيش جميعًا مع هذا اللغز الكبير، سواء قبلنا ذلك أو لم نقبله، الجميع يسلِّمون بأن البنية الحالية لمجلس الأمن متداعية، ولكنهم لا يستطيعون الإجماع على الطريقة المثلى لترميمه.