الفصل الثالث
المحافظة على السلام وصناعة الحروب
تظل صورةُ الجنود ذوي الخوذات الزرقاء الذين ينتشرون في مناطق وقف إطلاق النار، ويوزِّعون
الغذاء على الفلاحين النازحين، ويحرسون مراكز الاقتراع، أبرزَ الصور والأفكار لدينا حول
الأمم المتحدة. وعندما تمارس تلك القوات عملَها جيدًا — وهناك أمثلة كثيرة لذلك — تمثِّل
أدقَّ
تعبير عن الإنسانية، وتقوم شاهدًا على التقدم الإنساني. فقد استطاعت البشرية أن تحقق
تقدمًا
رغم ما قامت به من أعمال كريهة على مر القرون. ومن الجدير بنا أن نتذكر — على سبيل المثال
—
أن الجنود السويديين والدنماركيين والإيطاليين والفرنسيين (وغيرهم) أمعنوا في سفك الدماء
وإضرام الحرائق في أوروبا منذ أربعة قرون، على حين نجدهم يُرسلون كتائب حفظ السلام إلى
كل
مكان من الكونغو إلى الشرق الأوسط طوال نصف القرن المنصرم. ومن المؤكد أنه ليس باستطاعة
كلِّ
مجتمع اليوم أن يقدِّم مثل هذه المساهمات أو القوات، ولكنْ هناك عددٌ كافٍ من الدول التي
تساهم
في عمليات حفظ السلام بانتظام، لتجعل من ذلك معلمًا للمشهد الدولي بعد ١٩٤٥م.
ولكن من الغريب أن ميثاق الأمم المتحدة لا يحتوي على أيِّ إشارة إلى حفظ السلام،
كما لا
يقدِّم أيَّ إشارة إلى هذا الشكل من أشكال العمل الجماعي. فنحن هنا أمام نموذج للمرونة
والتطور
في الكيفية التي فسرَت بها الحكومات والأفراد القواعدَ الأصلية التي كانت من إبداعها
على ضوء
أحداث ملحَّة لم تكن في الحسبان. إنها قصة متكررة الحدوث: الكوارث الكبرى، والحلول الفاشلة،
قصة العجز عن توقُّع الأمور والاستجابة المباشرة لها، قصة الأفكار المفرطة في الطموح،
والموارد الشحيحة التي تَحُول دون تحقيقها. ولكنها — في الوقت نفسه — قصة التوصل إلى
كيفية جعل
المؤسسة الدولية تعمل على قطع دابر الصراعات، فإذا لم يكن باستطاعتها ذلك، فلا أقل من
أن
تقف إلى جانب المجتمعات وقت الشدة.
١
وأسباب غياب حفظ السلام، أو الجهود التي نعرفها عن مهام حفظ السلام عن ميثاق الأمم
المتحدة، أصبحَت واضحة الآن. ففي عام ١٩٤٥م كان المصطلح تقصد به الإبقاء على السلام بين
الدول
وضبط التهديدات التي قد تقع بين دول الجوار أو في مناطق بعيدة. وكان المقصود به العمل
على
وقف الاعتداءات على الحدود. وبذلك لم تكن لهذا المفهوم صلة بما قد يحدث داخل الدولة ذاتها
كأن يسعى جزءٌ من الدولة للاستقلال، ربما بالاستعانة بقوة خارجية، أو الحروب الأهلية
التي
تقع لأسباب عِرقية أو طائفية (دينية)، فلم يكن مسموحًا للأمم المتحدة بالتدخل في الشئون
الداخلية للدول الأعضاء، كما لم يكن هناك ما يلزم الأعضاء بالخضوع لسلطة الأمم المتحدة
في
مثل هذه الحالات. وكان ذلك يوفر الحماية للدول التي تمارس أعمالًا للشر (في أراضيها).
ولعل
ذلك لعب دورًا في إنقاذ النظام الدولي من انسحاب دول كبرى بعينها من الأمم المتحدة إذا
وُجِّه
إليها النقد على ممارساتها المنافية لحقوق الإنسان في أراضيها. ولذلك لا يُدهشني استمرار
التوترات، فليس باستطاعة المنظمة الدولية أن توفر الأمن والسلام للجميع أو أن تتدخل في
أمور
تتمُّ داخل حدود الدول ذات السيادة.
ويجب أن نتذكر أنه في عام ١٩٤٥م لم تكن هناك سوى خمسين دولة وقَّعَت ميثاق الأمم المتحدة
ونالت عضويتها. أما بقية دول العالم فكانت من الدول المهزومة «الأعداء» والدول المشكوك
في
حيادها (إسبانيا، أيرلندا، وما شابههما)، والدول المحايدة (سويسرا)، وبلاد تعاني من الحرب
الأهلية (اليونان)، ثم المستعمرات الأوروبية في أفريقيا وآسيا والمحيط الهادي وحوض البحر
الكاريبي. وقد عولجت أوضاع البلاد المستعمرة في الفصول الخاصة بذلك من ميثاق الأمم المتحدة،
ودخلت تلك البلاد — فيما عدا شبه القارة الهندية — في عملية تصفية الاستعمار التي استغرقت
٢٥ عامًا. ورأَت بريطانيا أن المركز الاستراتيجي لمستعمراتها قد انتقل من الهند إلى الشرق
الأوسط وشمال شرق أفريقيا، وشغل الفرنسيون لتوطيد أركان حكمهم في المستعمرات، ودخلت
المستعمرات البرتغالية والإسبانية مرحلة الاحتضار. وظن بعضُ المعاصرين أن استقلال أفريقيا
لن
يتحقق قبل مرور قرن من الزمان.
وعلى عكس الهزات التي شهدها العالم ١٩١٨–١٩٢٣م التي تمت تهدئتها أو إخمادها، شهد العالم
تحولات بارزة نتيجة الحرب العالمية الثانية. فقد عانَت الدول الاستعمارية من الضعف وشغلت
شعوبها بالأمور المحلية وأثرت أفكار الحرية والديمقراطية تأثيرًا عميقًا في المستعمرات،
وخاصة بعد عودة الجنود الأفارقة والكاريبيِّين إلى بلادهم من ميادين القتال. ولكن رغم
احتواء
ميثاق الأمم المتحدة على نصوص تتعلق بإعداد البلاد «التي لا تحكم نفسها بنفسها» لمرحلة
الاستقلال مستقبلًا، ولم تفعل الأمم المتحدة في هذا الصدد إلا القليل، ويمكننا القول
إن
المبالغ التي رصدَت للتنمية الاقتصادية والتدريب السياسي كانت قاصرةً تمامًا عن تلبية
الحاجات
الحقيقة لشعوب المستعمرات، ويتصل بذلك حقيقةٌ لا يمكن إغفالها أن معظم حدود المستعمرات
كانت
حدودًا مصطنعة قسمَت الشعب الواحد بين بلدين، أو ضمَّت جماعات عِرقية أخرى إلى بلد لا
جذور لهم
فيه، لتنموَ بذور الاضطرابات والصراعات. ومن شأن تلك الحدود المصطنعة أن تشكِّل نقاط
احتكاك
وصراعات. وقد تتطلب عمليات تصفية الاستعمار نوعًا من حفظ السلام لم يدخل في تقدير صناع
الميثاق. ويستطيع المرء أن ينظر إلى المذابح التي صاحبَت تقسيم الهند وباكستان ١٩٤٧–١٩٤٨م،
أو الجموع الكثيفة من اللاجئين الفلسطينيِّين الذين خرجوا من البلاد عقب الحرب العربية
الإسرائيلية في تلك الفترة ذاتها، لتبدأ بذلك إحدى المشكلات المعقدة.
وجاء عدم تفعيل لجنة الأركان العسكرية وكذلك عدم تنفيذ اقتراح إقامة القواعد الخاصة
بالأمم المتحدة ليشكِّل انتكاسة، فلعل قيامها كان من شأنه أن يحدَّ من غلواء «العالم
الأول» أو
الاستعمار الجديد، وإن كان من المحتمل أن تنظر إليهما البلاد النامية نظرةَ الشك مع غياب
الثقة. ولكن عدم تفعيل لجنة الأركان العسكرية، وعدم إقامة القواعد ذات الحاميات الدائمة،
كان يعني أن مجلس الأمن والجمعية العامة ليس لديهما أدوات يمكن استخدامها عند وقوع أول
التحديات.
وهكذا كانت الجهود الأولى التي قامت بها المنظمة الدولية لحفظ السلام محدودة واستطلاعية،
ذات طبيعة مؤقتة نتيجة الظروف السالفة الذكر. فقد كانت بعض الإجراءات الأولى التي اتخذتها
الأمم المتحدة مجردَ مهام «مراقبة مؤقتة»، وذلك في أواخر الأربعينيات مثل تلك التي أقامتها
الجمعية العامة على حدود اليونان أثناء الحرب الأهلية (ولم تتمَّ إقامتها داخل اليونان
بسبب
استخدام السوفييت للفيتو في مجلس الأمن)، ومثل جماعة المراقبة التي رصدَت انسحاب الهولنديين
من إندونيسيا.
ومن أهم فِرَق المراقبة العسكرية الأولى التي أرسلَتها الأمم المتحدة تلك التي قامت
بمراقبة
تنفيذ اتفاقيات الهدنة التي أعقبَت الحرب العربية الإسرائيلية عام ١٩٤٨م (UNTSO)، وكذلك بعثة
تقصِّي الحقائق والمراقبة التي أرسلت إلى كشمير بعد وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان
(UNMOGIP). كانت تلك تحركات مشجعة نالَت تقدير مجلس الأمن والجمعية العامة، واعتبرت هذه
المهام نموذجًا يُحتذَى عندما تبذل الأمم المتحدة جهودًا للوساطة بين الأطراف المتنازعة،
وخاصة في حالات النزاع التي تستغرق وقتًا طويلًا. كما أن تلك المهام شكَّلَت سابقة تعيين
ممثل
خاص من ذوي الخبرة والمكانة في البعثات التي تُوفدها الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط.
فقد
كان «الوسيط» الدولي هو الدبلوماسي السويدي الكونت برنادوت، وبعد اغتياله خَلَفه في هذه
المهمة شيترن جانج، ثم رالف بانش نفسه. واستفادَت الدول التي قدمَت قواتها لهذه المهام
بنتائج
تجربتها الأولى، وأعدت الكوادر المدربة لمهام حفظ السلام التي ساهمت بها في الأزمات
التالية.
ولكن تلك البعثات الأولى للأمم المتحدة اتسمَت بالمحدودية الشديدة وكان ذلك واضحًا
للعيان
بصورة مؤلمة؛ فقد كانت الوحدات التابعة للأمم المتحدة عزلاء أو تحمل سلاحًا خفيفًا، ولم
يكن
مسموحًا لها باستخدام القوة إلا في حالة الدفاع عن النفس. وتعرَّضت مواقعُها للاعتداء
من حينٍ
لآخر، وترتَّب على ذلك — بالطبع — وقوع إصابات. ولم يكن باستطاعتهم — مثلًا — منع مجموعة
من
المقاومة الفلسطينية من الهجوم على المستوطنات الإسرائيلية أو منْع الهجمات الإسرائيلية
عبر
الحدود. وكثيرًا ما اتهموا من كل طرف بالانحياز للطرف الآخر، وتعرض لهذا الاتهام بعثات
المراقبة وقوات حفظ السلام على السواء. وكثيرًا ما كانت قوات الأمم المتحدة تعتمد على
الدولة المضيفة في النقل والإمدادات، والإسكان، مما جعلها في حالة تبعية. وكان عليهم
أن
يقفوا موقفَ المتفرج في حالة استئناف طرفَي النزاع للقتال، فلم يكن مسموحًا لهم بمنع
الاشتباكات. ولذلك لم يكن باستطاعة قوات الأمم المتحدة في تلك المواقع أن تلعب دور «الشرطة
الدولية» التي تحذِّر الأطراف المعتدية، وتُلقي القبض على مَن يخرق اتفاق وقف إطلاق النار.
واختلفت هذه المواقف اللينة عن المعاملة الصارمة التي قامَت بها القوات الضخمة التابعة
للأمم
المتحدة، التي قامت بأعمال حفظ السلام في شبه الجزيرة الكورية. وكان من الصعب تصديق أن
هذين
النوعَين المتناقضَين من العمليات جاءَا بتفويض من المنظمة الدولية ذاتها.
وكما لاحظنا في الفصل السابق، كان تدخُّل الأمم المتحدة في كوريا فريدًا في بابه،
ولم يحدث
ما يُناظره إلا في حرب الخليج عام ١٩٩١م. ولذلك علينا أن نركِّز على العمليات الصغرى
الأخرى
للوساطة أو مراقبة وَقْف إطلاق النار في مناطق النزاع، باعتباره النموذج الذي تطورَت
منه
عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام. وقد اتخذت تلك القوات طابعَها الحديث خلال عقد من
الزمان
في أزمتَين دوليتَين كبيرتَين هما السويس ١٩٥٦م وانفصال كاتنجا عن الكونغو من ١٩٦٠م حتى
١٩٦٤م.
كانت منظمة مراقبة الهدنة (UNTSO) قد حلَّت قبل أزمة السويس؛ فقد اشتبك المصريون
والإسرائيليون في قطاع غزة، كما هاجمت إسرائيل المواقع السورية على الحدود. ولكن الأحداث
التي وقعَت في العام التالي — تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس، والغزو الإسرائيلي،
والتدخل البريطاني-الفرنسي — رفع من درجة حرارة الأزمة، وعرَّض المنظمة الدولية لهزَّة
عنيفة
على أعلى المستويات، وبيَّنت الأزمة ما يمكن أن تفعله الأمم المتحدة وما لا تملك القدرة
على
عمله. فقد كانت اثنتان من الدول الدائمة العضوية متورطتَين في الأزمة، وتستعدَّان لاستخدام
الفيتو عند الضرورة، وأصاب الشلل مجلس الأمن. وكانت الجمعية العامة مستعدة للعب دور،
ولكنها
تعلم أن فرض قرار جماعي على الدول الخمس الدائمة العضوية من المحال.
ومن ثَم كان قرار الجمعية العامة رقم ٩٩٨ في ٤ نوفمبر ١٩٥٦م علامة على الطريق؛ فقد
أعطى
للأمين العام داج همرشولد مسئوليات واسعة، وكلَّفه بتكوين قوات طوارئ دولية لحفظ السلام
في
الإقليم، (UNEF) تخضع لأوامره، وخوَّله تعيين ضابط محايد قائدًا ميدانيًّا للقوات. وعلى نقيض
قوات المراقبة القديمة، كان على قوات الطوارئ الدولية حشدُ أعداد كبيرة من جنود حفظ السلام
للفصل بين الطرفين على طول الحدود المصرية الإسرائيلية، وحدود قطاع غزة، لتشكِّل حاجزًا
بشريًّا بين الطرفين. وبذلك بدأ عهدٌ جديد لمهام حفظ السلام، وكانت تلك — تحديدًا — هي
المرة
الأولى التي استخدمَت فيها قواتُ حفظ السلام الخوذاتِ الزرقاء الشهيرة.
ولكن هذا النظام الجديد لم يَسْلم من المشكلات، إذا كان لا بد من إتمام ترتيبات حفظ
السلام
من خلال التوافق والحياد. فلا تستطيع قوات حفظ السلام إقامة مواقعها إلا بعد موافقة الدولة
المضيفة، كما أن وجودها مرهون بموافقة الدولة المضيفة التي يحق لها أن تطلب خروجها، على
نحو
ما فعل جمال عبد الناصر قبل حرب ١٩٦٧م. وإذا وقع أيُّ حادث لا تستطيع قوات حفظ السلام
التدخل
حتى لو شاهدوا طرفًا يعتدي على الطرف الآخر، إلا في حالة حصولهم على تفويض مختلف من مجلس
الأمن، يخوِّل لهم ذلك. وقد أوقع ذلك الأمم المتحدة في مواقف محرجة بصورة متكررة في الصراعات
التالية، حين كان على القوات أن تقف على الحياد حتى لو وقعَت الفظائع أمام أعينهم. ولا
نظن
أنهم استطاعوا عمل الكثير في صراعات الشرق الأوسط؛ فقد كانت مواقعهم مبعثرة، وكان تسليحهم
خفيفًا، وكان عليهم العمل وسط جيوش فائقة القوة، تستخدم أحدث الطائرات المقاتلة في العالم.
وهو نفس المصير الذي لاقَته قوات حفظ السلام في أزمات أخرى وقعَت فيما بعد.
ولا شك أنه كان مما يُثير القلق ألَّا تستطيع الأمم المتحدة سوى لعب هذا الدور البسيط
نسبيًّا، بعد أحد عشر عامًا من اتفاقية سان فرانسيسكو، وهو الدور الذي يفترض أن يلعبه
مجلس
الأمن الذي كان يتمتع وحده بسلطة فرض قراراته بالقوة، والذي يضم الدول الخمس الدائمة
العضوية
التي كانت لديها جيوش جرارة على درجة عالية من القوة. ولكنَّ الحربَ الباردة وأجواءَها
المسممة
جعلَت المجلس لا يستطيع أن يعمل إلا القليل، وكان القرار ٩٩٨ هو أقصى ما أمكن عمله، ويعود
الفضل فيه إلى الأمين العام همرشولد وقدرته على المبادرة وثقته بذاته، وجاء تطبيق همرشولد
ومعاونيه للقرار مثيرًا للإعجاب. ولكن من الصواب القول بأن ذلك تم بموافقة الدول الكبرى
وليس بقيادتها، وهي علامة مقلقة على ما قد يأتي به المستقبل.
ونتيجةً لذلك، لم تأتِ قوات الطوارئ الدولية (UNEF) من الدول الخمس الدائمة العضوية، بل جاءت
من الدول المحايدة، أو على الأقل من الدول التي كانت تقف موقفًا محايدًا من الصراع العربي-الإسرائيلي،
طالما كان باستطاعة الدول المضيفة أن تعترض على الجنود الذين يأتون من دول
معينة، وخاصة أن القوات تعمل على خطوط وقف إطلاق النار. ومن حسن الحظ، كانت هناك العديد
من
الدول الراغبة في المشاركة سواء في تلك المهمة أو غيرها من المهام التي أوفدت خلال تلك
السنوات. وكانت البلاد التي تقبل وضع قواتها تحت قيادة دولية هي الدول الاسكندنافية وغيرها
من الدول الأوروبية مثل أيرلندا وبولندا، وهولندا وكذلك إيطاليا (أحيانًا). أما فرنسا،
فقد
فضلت بمشاركة قواتها في حفظ السلام بلبنان ومناطق الأزمات الأفريقية، وأبدَت بريطانيا
استعدادَها للمشاركة في حفظ السلام بقبرص. وكانت بعضُ دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل
وكولومبيا من بين أبرز المشاركين. وجاءت القوات المشاركة — أيضًا — من دول الكومنولث
البريطاني فقد تكرَّرت مشاركة كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، والهند، وفيجي، وجامايكا،
وغانا،
وباكستان، ونيجيريا. ويبدو أن اشتراك جنوب تلك البلاد في الحرب العالمية الثانية في صفوف
الحلفاء جعلَتها مهيأة بنيويًّا ونفسيًّا للتوافق مع أعمال حفظ السلام الدولية. وهكذا
أصبحت
صورة أصحاب الخوذات الزرقاء من القوات الخفيفة التسليح التي تقف في مواقع المراقبة أو
تقوم
بدوريات على الحدود صورة مألوفة، وبذلك استوفَت عمليات حفظ السلام طابعها المميز.
وكانت «القوات الخفيفة» هي قوات حفظ السلام (UNEF) في معظم الأحوال في السنوات التالية.
وكانت أزمة الكونغو عام ١٩٦٠م تمثِّل استثناءً في هذا الصدد، غير أن طول مداها، وما صاحبَها
من
مآسٍ — على نحو ما سنُشير فيما بعد — دعمَت الاقتناع بالأشكال الممكنة للتدخل. فقد جاء
تفكك
دولة الكونغو بمثابةِ تحدٍّ للافتراضات حول كيفية تحقيق الأمن الدولي. فقد كانت تلك حرب
أهلية دموية، ولم تكن صراعًا بين دولتين. كما أنها تمَّت في بلد أفريقي — لأول مرة —
بعد أن
وضعَت أفريقيا «خارج الخارطة» على يد البلاد المستعمرة، وعندما حدث الاندفاع نحو الاستقلال
في الخمسينيات والستينيات، جاءت الدول المستقلة مثقلة بالسلبيات. كانت الكونغو — على
وجه
الخصوص — نموذجًا للإهمال الذي واجهَته على يد الاستعمار البلجيكي، ثم الانسحاب السريع
للقوات الاستعمارية، فالعودة عندما تمرَّد الجيش الكونغولي ووقعَت البلاد في الفوضى.
عندئذٍ
أعلن إقليم كاتنجا — الذي كان أكثر أقاليم البلاد ثراءً — الاستقلال بتشجيع مستتر من
روديسيا البيضاء وجنوب أفريقيا.
ما كاد جنود المظلات البلجيكيون يعودون إلى الكونغو حتى أعلن الإقليم الكبير (كاتنجا)
انفصالَه عن الدولة، وكان باتريس لومومبا — رئيس الوزراء الوحدوي — على حقٍّ عندما لجأ
إلى
الأمم المتحدة طالبًا التدخل لوقف الاعتداء على دولة عضو ذات سيادة. ولم يكن خروج
البلجيكيين صعبًا بمجرد وصول قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. ولكن كان ثمة تحديان
كبيران: أولهما تلكُّؤ مجلس الأمن في التدخل في مسألة اعتبرت من الشئون الداخلية في بلد
تَصِل
مساحته إلى ما يعادل مساحة غرب أوروبا. وكانت الحقيقة الأخيرة تعني أن تكون مهمة حفظ
السلام
في الكونغو (ONUC) هائلة الحجم قياسًا بمستويات المهام الأخرى في ذلك الحين — ففي البداية
تم نشرُ عشرين ألفًا من جنود حفظ السلام — ولكن العدد لم يكن كافيًا لوقف المذابح التي
تعرَّض
لها الكثير من المدنيِّين. ولعله كان من الأفضل — بالنسبة للأمم المتحدة — لو كان هذا
النموذج
لحالة «انهيار الدولة» قد وقع في دولة صغيرة المساحة، ولكنها لم تكن تحظَى بترف
الاختيار.
كان التطور التالي هو استخدام الأمم المتحدة قواتها — في أول حالة لفرض قرار بالقوة
— ضد
عصابات إجرامية محلية أسرفَت في قتل المدنيين الأبرياء على اختلاف أعراقهم، وهاجمت قوات
حفظ
السلام ذاتها بضراوة، ولم تستخدم قوات الأمم المتحدة ضد عدوان معلن مثل ذلك الذي حدث
في
كوريا الشمالية أو العراق. وفي إحدى الحالات البشعة التي وقعت في أبريل ١٩٦١م، تم ذبح
٤٤
جنديًّا غانيًّا من جنود حفظ السلام، وبعد ستة شهور وقعَت حوادث أقل حجمًا ذبح فيها ثلاثة
عشر من الإيطاليين العاملين بالخدمة الجوية. وقامت قواتُ حكومة الكونغو، وقوات كاتنجا،
والمرتزقة الأجانب (في المراحل الأخيرة) بارتكابِ أعمالٍ شديدة البشاعة، لم تَدُر بخَلَد
صناع
ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو. ولكن مجلس الأمن اضطرَّ للتخلِّي عن موقفه المتميع
بسبب
تلك الأحداث، ومناشدات همرشولد، ثم مصرعه المأساوي أثناء عمله هناك. وجاء تصرُّف مجلس
الأمن
حازمًا ومبتكرًا، وبدلًا من قراراته الأولى التي طالب فيها الأطراف المعنية بوقف القتال،
أصدر المجلس تعليماتِه إلى قوات حفظ السلام بالكونغو (ONUC) بإلقاء القبض على المرتزقة
الأجانب، واستخدام القوة لوقف أعمال العنف بمختلف أشكاله، وإنهاء محاولة الكاتانجيين
الاستقلال. ولنا أن نتخيل مدى ارتياح الجنود الهنود المنضبطين عندما علموا أن باستطاعتهم
أن
يقوموا بعمل عسكري حقيقي، وكانت النتيجة إيجابية، فتمَّت استعادة وحدة الكونغو، وانسحبَت
آخرُ
مجموعة من قوات حفظ السلام في يونيو ١٩٦٤م.
غير أن هذه العملية الصعبة أثارَت الكثير من الجدل حول ما تعنيه بالنسبة لمستقبل المنظمة
الدولية. فمن الناحية الإيجابية، استجابَت الأمم المتحدة لطلب إحدى الدول الأعضاء المساعدة،
وأعادت لتلك الدولة وحدتَها، وأثبتت قدرتَها على فرض السلام وليس مجرد مراقبته. وكانت
الأزمة
موضوعَ اهتمام الجمعية العامة بصورة لا مثيل لها من قبل. كما زودَت جهاز الأمم المتحدة
والدول
المشاركة في حفظ السلام بخبرة واسعة، وأصبح دورُ الأمانة العامة المركزي في إدارة عمليات
حفظ
السلام، وفرض السلام، أمرًا مسلَّمًا به.
ولكن هذه المهمة — أيضًا — أثارَت الشعور بأن المنظمة الدولية قد تمادَت في موقفها
وزادَت من
تورطها عندما شعرَت بأنها مضطرة لمساندة حكومة الكونغو ضد القوات الانفصالية، وبذلك فقدَت
حيادَها ودورها التوفيقي، وهي حقيقةٌ أفزعَت بعض الدول الأعضاء في أوروبا وأمريكا اللاتينية
الذين كانوا يفضلون أن يقتصرَ دورُ المنظمة الدولية على التهدئة. وتساءلوا عن المثل الذي
تُقدِّمه تلك الحالة عندما تُواجه الأممُ المتحدة تحدياتٍ مماثلة. حقًّا تمكنَت قوات
حفظ السلام من
طرد المرتزقة الأجانب وسحْق محاولة انفصال كاتانجا، ولكن إذا وضعنا في الاعتبار المذابح
البشعة التي وقعت في كل مكان، لا نستطيع القول أن تلك كانت من المهام العظيمة لحفظ
السلام.
زِد على ذلك أن هذا السجلَّ المضطرب كانت له امتداداته التي استمرَّت على مدى عقدَي
الستينيات
والسبعينيات من القرن العشرين.
٢ ترى، كيف يمكن أداء مهام حفظ السلام بطريقة أخرى إذا كانت الظروف في كلِّ أزمة
جديدة تختلف عنها في سابقتها؟ لقد وقعَت صراعات أكثر دموية وعنفًا في هذين العقدين لم
يكن
لها نظيرٌ من قبل، ولم تتدخل فيها الأمم المتحدة، وكان القاسم المشترك بين تلك الصراعات
تورُّطَ
أحد الأعضاء الدائمين فيها بصورة مباشرة، ولا يسمح بتوجيه انتقاد له أو اتخاذ قرار ضده
في
مجلس الأمن. وقد أثار ذلك غضبَ وضيق الدول النامية من الأعضاء في الجمعية العمومية التي
ليس
لقراراتها فاعلية ذات بال. فلم تتدخل الأمم المتحدة في الجزائر — على سبيل المثال — لأن
فرنسا كانت طرفًا، كما لم تلعب الأمم المتحدة دورًا في حرب فيتنام الطويلة المدى بسبب
حساسية الولايات المتحدة تجاه مثل هذه القضية، كما لم تتدخل في كمبوديا بسبب الصين. وفي
السبعينيات انضمَّت أكثرُ من مائة دولة جديدة إلى عضوية الأمم المتحدة بعد تخلُّصِها
من
الاستعمار، وبذلك أصبح «المجتمع الدولي» — إذا جاز لنا استخدام هذا المصطلح — أفريقيًّا،
وآسيويًّا، وأمريكيًّا لاتينيًّا من حيث جملة تعداد السكان، وعدد الأصوات في الجمعية
العامة، ورغم ذلك تستطيع أيٌّ من الدول الخمس الدائمة العضوية أن تقف حائلًا دون التدخل
فيما
شاءت من الأزمات.
ولكن، لعل في عدم قدرة الأمم المتحدة على التدخل في تلك الصراعات خيرًا مستترًا؛ فقد
كانت
الحربان الجزائرية والفيتنامية على درجة كبيرة من العنف والتعقيد والكلفة المادية. وحتى
لو
لم يكن هناك عائقٌ للفيتو، فإن فكرة قيام مجلس الأمن بإرسال قوات حفظ السلام إلى أيٍّ
من
الحربَين — كما حدث في الكونغو — بعيدة عن الخيال؛ لأن مثل هذه القوات لا بد أن يكون
الدمار
مصيرها في خضمِّ ذلك الصراع الرهيب. وكل ما كانت الأمم المتحدة تستطيع عمله هو بذل «المساعي
الحميدة» على نحو ما فعلت عدة مرات طوال هاتين الحربَين، ولكنها لم تستطع القيام بعمل
إيجابي
إذا لم تستجب الأطراف المتحاربة لوساطتها.
ونستطيع أن نستنتج مدى محدودية دور الأمم المتحدة في الحربَين الجزائرية والفيتنامية
لو
اتجهَت النيةُ إلى ذلك، إذا نظرنا إلى النجاح المختلط لسياسات مجلس الأمن تجاه الصراعات
الدموية الأخرى التي وقعَت في تلك الحقبة، مثل الحروب العربية-الإسرائيلية. هنا — أيضًا
–
كانت الظروف تتعلق بالإحَن العميقة الأيديولوجية والإثنية والدينية التي لا تسمح بقبول
الحلول التوفيقية، وحيث كان هناك تاريخٌ طويل من الخذلان والخديعة قضى على أيِّ رغبة
في الثقة
بالطرف الآخر، وحيث أصبحت العسكرية المنفلتة يستحيل الاعتمادُ عليها. وكان من الحماقة
بمكان
إرسال قوات خفيفة التسليح من جنود حفظ السلام البرازيليِّين والنرويجيِّين بتفويض من
الأمم
المتحدة وسط هذا الجو المضطرب.
ومع ذلك، قامَت عملياتُ حفظ السلام على حدود إسرائيل (UNEF II) لتثبيتِ وقفِ إطلاق النار بين
مصر وإسرائيل (١٩٧٣م)، وكذلك قوات مراقبة وقف إطلاق النار في مرتفعات الجولان (UNIFIL) التي
أقيمَت عام ١٩٧٨م، والقوات غير التابعة للأمم المتحدة المعروفة بالقوات متعددة الجنسيات
(MNF)
التي قامَت بهذا العمل الميئوس فيه في أماكن معينة (١٩٨٢م). وقد أدَّت هذه المهام المتعددة
إلى
نتائج مختلفة تُعطينا فكرة عن الأحوال التي تنجح فيها جهودُ الوساطة وحفظ السلام في أداء
مهمتها، وتلك التي يكون الفشلُ فيها مؤكدًا.
وتقدِّم لنا مهمة قوات (
UNEF II) خيرَ دليل إيجابي؛ فقد أدَّت الهجماتُ المصرية على إسرائيل في
أكتوبر ١٩٧٣م إلى تدمير الحدود غير الشرعية التي وُضعَت قبل سنوات، ووضعَت مستقبل الشرق
الأوسط
كله موضع التساؤل. وأدَّى هذا العمل الطائش
٣ وما تَبِعه من ردٍّ من جانب إسرائيل التي أُخذَت على حين غرَّة ثم استفاقت، إلى إثارة
غضب طرفَي الحرب الباردة حيث كانت كلٌّ منهما تدعم أحدَ أطراف الصراع، حتى اتفقَت جميعُ
الأطراف —
المصريون الذين نجحوا في البداية ثم انتكسوا، والإسرائيليون الذين فوجئوا ثم أخذوا بثأرهم،
والقوى الداعمة لكلٍّ منهما — اتفقوا على قبول قرار مجلس الأمن بوقفِ القتال وفضِّ الاشتباك.
وأقامَت قواتُ الأمم المتحدة خطًّا مؤقتًا لوقف إطلاق النار بين القوات الإسرائيلية والمصرية،
ثم أنشأت بعد ذلك منطقة حاجزة لتهدئة الأمور. وكانت الدول التقليدية في مجال حفظ السلام
في
مقدمة هذه العملية؛ فقدمت كندا وبولندا أكبرَ عدد من قوات (
UNEF II) وبذلك مثلَت هذه القوات
الناتو وحلف وارسو بصورة ما، ثم انضمَّ إليهم قواتٌ أخرى من فنلندا، وغانا، والنمسا،
وأيرلندا
والسويد وغيرهم.
وقد بدَت عملية حفظ السلام تلك تقليدية، ومن ثَم لا تبعث على الأمل. ولكن التحول
الحقيقي
جاء على المستوى السياسي من خلال القرار الجريء للرئيس المصري أنور السادات الذهاب إلى
إسرائيل وتوقيع اتفاقية السلام في ١٩٧٧م. وكان هذا العمل تاريخيًّا لأسباب متعددة، ويعدُّ
من
المواقف الشخصية العظيمة الشجاعة في أواخر القرن العشرين، ولعله يناظر إقدام دي كلارك
F. W.
de Klerk على إنهاء التفرقة العنصرية (الأبارتيد) في جنوب أفريقيا وقيام جورباتشيف بتفكيك
الاتحاد السوفييتي. وكان المغزى الرئيسي لاتفاق كامب ديفيد في الإقليم أن باستطاعة إسرائيل
والدول العربية تحقيق السلام لو توفرت لديهم الإرادة السياسية. كذلك كان ثمة مغزى عام
من
منظور حفظ السلام الدولي وإقرار السلام. فمن السهل رسم خط على الرمال والموافقة على قيام
قوات الأمم المتحدة بدوريات في المنطقة المنزوعة السلاح، فقد حدث هذا في أماكن أخرى كثيرة
وفي
ظروف أقل عداءً، ولكن هناك القليل من الترتيبات التي اتخذت بقرار سياسي من أطراف النزاع،
وذلك حتى التسعينيات على أقل تقدير. وقد كان بالإمكان سحب القوات الدولية (UNEF II) في ١٩٧٩م
وحلَّت محلَّها القواتُ المتعددة الجنسيات والمراقبون الدوليون (MFO) الأقل من حيث المستوى، التي
جاءَت معظمها من الولايات المتحدة التي رعَت جميعَ الاتفاقات المصرية-الإسرائيلية. لقد
كانت
تلك حالة خاصة — دون شك — دفعَت إليها رغبةُ الولايات المتحدة لمساعدة إسرائيل، وكسب
مصر إلى
جانب الغرب. ولكن تظل الرسالة الأكبر والأهم واضحة، فلا تكفي الموافقة على وقف إطلاق
النار،
وقيام مهمة حفظ السلام، لتحقيق السلام الفعلي إذا لم يتبعه عملٌ سياسي ورغبة مشتركة من
الأطراف المعنيَّة لتحقيق التسوية.
ولا يناقض ذلك تناقضًا شديدًا سوى الجهود غير الموفقة لصنع السلام على حدود إسرائيل
الشمالية مع لبنان وسوريا. لقد بذلَت القوات المؤقتة التابعة للأم المتحدة (
UNIFIL) في
لبنان، جهودًا مخلصة دون أن تحقق شيئًا بسبب رفض المقاتلين الفلسطينيِّين التوقفَ عن
القتال
والتفجيرات الإرهابية، وكانت الهجمات الإسرائيلية المضادة عنيفة ولكنها غير مؤثرة، وكانت
الطوائف الإثنية والدينية في لبنان تقضي على بعضها البعض. وتعرَّضَت القوات الدولية الضعيفة
للإهانة، والإهمال والاختطاف والرصاص من جميع الأطراف ولحقَت بها العديدُ من الإصابات،
دون أن
تتوفر لها قوة نيران فعالة أو صلاحيات — على نحو ما كانت الحال في بداية أزمة الكونغو
— حتى
تستطيعَ الرد على العدوان وإخضاع المعتدين. ولم يكن هناك ما يمكن الاسترشاد به في الميثاق
أو
التجارب السابقة، كما كان مجلس الأمن لا يُولي المسائل اهتمامًا، وكذلك فعل رجال الأمم
المتحدة. وتحتوي مذكرات براين أورقهارت عن محاولات التعامل مع أطراف الصراع المختلفة
المنفلتة، على عبارات تُشير إلى الوضع المأساوي والظروف الصعبة التي أحاطَت بتلك الجهود،
ولعل
هذه العبارات الكاشفة كانت أخفَّ تصويرًا لحقيقة الأمور.
٤
ولم تكن الأوضاع أحسن حالًا عندما حاولَت الدول الغربية منعَ قيام حرب عربية-إسرائيلية
أخرى عام ١٩٨٢م بإرسال قوة متعددة الجنسيات إلى بيروت وجنوب لبنان ضمَّت جنودًا من الولايات
المتحدة وفرنسا وإيطاليا، لتلعب دورًا مركزيًّا وتُشرف على انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية
من غرب بيروت. وبدَت تلك القوات أنسبَ لهذه المهمة من إرسال قوة تقليدية من أصحاب الخوذات
الزرقاء الذين ينتسبون لدول صغيرة ومحايدة. ولكن بمجرد انسحاب القوة المتعددة الجنسيات
(MNF)
بعد إنجاز مهمتها، انفجر الوضعُ من جديد باغتيال الرئيس اللبناني أمين الجميل، وزحف الجيش
الإسرائيلي غير القانوني عبر الحدود الشمالية، والمذابح التي قامَت بها الميليشيات المسيحية
ضد معسكرات اللاجئين الفلسطينيين. وأدى ذلك إلى عودة القوات المتعددة الجنسيات مرة أخرى
مع
انضمام بريطانيا إليهم، ليجدوا أنفسَهم في وضع الدفاع عن النفس، وتم نسفُ مبنى قيادة
الأمريكان والفرنسيين بعمل إرهابي استخدمَت فيه سيارة نقل مفخخة جعلَت من ذلك اليوم —
عند
الغرب — يومًا مشهودًا. وقامَت إدارة ريجان بعمل رسمي عندما أمرَت البارجة نيو جيرسي
بقصف
المنطقة الجبلية وراء بيروت، وكأن أيام دبلوماسية القوارب الحربية عادَت من جديد. ولكن
الغرب
لم يَعُد إلى المزاج الإمبريالي الخاص بالقرن التاسع عشر، فعادَت البارجة الأمريكية أدراجَها،
وعادَت معها القوات الأجنبية تاركة اللبنانيِّين والسوريِّين والإسرائيليِّين غرقَى وسط
الركام،
يرقب كلٌّ منهم الآخرَ عبر مرتفعات الجولان، بينما شغلت قوات الأمم المتحدة بالمراقبة،
ثم
المراقبة، سنة بعد أخرى.
تقوم قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بعملها بشكل أفضل عندما تكون هناك منطقة
حاجزة بين الأطراف التي وافقَت على وقفِ إطلاق النار. ومن الحالات القديمة التي ينطبق
عليها
ذلك حالة قبرص. ولكن مثل هذه الحالة لم يأتِ نصٌّ بشأنها في الميثاق. فقد استقلَّت قبرص
عن
بريطانيا عام ١٩٦٠م وأغلبية سكانها من اليونان القبارصة والأقلية من الأتراك القبارصة،
كلٌّ
منهم يخشى الآخر ويتربص به، ولكلٍّ منهم ظهيرٌ خارجي له تطلعاته. وأمام احتدام الصراع
الطائفي
اضطر مجلس الأمن إلى إصدار قرار بتشكيل قوة حفظ السلام الدولية (
UNFICYP) عام ١٩٦٤م، ضمَّت
قوات عسكرية وقوات شرطة مدنية من أستراليا، والنمسا، وبريطانيا، وكندا، والدانمارك،
وفنلندا، والسويد لتأمين حرية الانتقال ومراقبة وقف إطلاق النار بعد قتال وقع من حين
لآخر.
ولكن الانقلاب العسكري الذي وقع ضد الحكومة القبرصية عام ١٩٧٤م الذي أدى إلى قيام تركيا
بغزو
شمال قبرص بقوات كثيفة، غيَّر المشهد تمامًا. ترى، ما الذي تستطيع قوات الأمم المتحدة
الخفيفة
التسليح أن تفعل في مواجهة القوات التركية التي اندفعَت على السواحل الشمالية للجزيرة؟
صوَّر
لنا براين أورقهارت — الأيرلندي الصارم — الحقائقَ المتصلة بهذا المأزق بقوله: «كان وصول
قوات عسكرية كبيرة — غير مجهزة جيدًا أو مفوضة بالقتال — إلى هذه المنطقة يخلق وضعًا
بالغ
الصعوبة لقوات حفظ السلام.»
٥
أصرَّ مجلس الأمن — من حسن الحظ — على وقفِ إطلاق النار قبل أن تتطور الأمور إلى
صدام مسلح
بين تركيا واليونان، وتراجع كلُّ طرف عن مواقعه، ولكن أصبح الأتراك يسيطرون على ٣٥٪ من
قبرص
دون أن يستطيع القبارصة اليونانيون المختلفون فيما بينهم أن يفعلوا شيئًا. وأسفرَت المفاوضات
عن إقامة منطقة عازلة عرضها بضعة أميال على طول الخط الذي يفصل بين الجانبَين بطول ١٨٠
كيلومترًا، وكانت قوات الأمم المتحدة التي عملَت بالمنطقة العازلة تتكون من الأستراليين
والبريطانيين والدانماركيين.
٦
ورغم الإشارات الأخيرة المبشرة بإمكانية التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، ما زالت قوات
الأمم المتحدة (UNFICYP) تعمل هناك قرابة الأربعين عامًا، مما يعزِّز الانفصال بين الطرفين،
ويُوحي بعدم إمكانية التوصل إلى حلٍّ سياسي في المنظور القريب، فإذا تعذر وصول الطرفين
إلى
اتفاق فمن الأفضل أن تظلَّ المنطقة العازلة فاصلًا بينهما بدلًا من تركهما يتبادلان إطلاق
النار علنًا، كما يحدث في كشمير.
وبحلول الثمانينيات، ظهر في الأفق طيفٌ كامل من الإمكانيات التي تتصل بقدرة الأمم
المتحدة
على حفظ السلام وصناعة الحروب، دون أن تُقدِّم أيُّ واحدة من العمليات نموذجًا يُحتذَى
في غيرها من
العمليات وجاء صراع القوتين الأعظم، أو الصراع بين الشرق والغرب مع التهديد باستخدام
السلاح
النووي، على رأس ذلك الطيف. هنا لا تُجدي سلطات الأمم المتحدة نفعًا طالما كان الطرفان
يتمتعان بحقِّ الفيتو وبالقدرة على إشعال نار حرب عالمية، ولا تبقى سوى «المساعي الحميدة»
التي يبذلها الأمين العام، إذا رغب الطرفان في ذلك.
والفئة التالية لذلك من الصراعات هي تلك ذات الحجم المتوسط. مثل تلك التي بين الهند
وباكستان، أو تلك التي في الشرق الأوسط. هنا باستطاعة مجلس الأمن أن يقوم بعمل ما، ولكنه
لا
يستطيع ذلك إلا إذا أجمعت الدول الخمس الدائمة العضوية على ذلك العمل. وخلال الحرب الباردة
كانت تلك الدول تقف إلى جانب طرف أو آخر، لحماية توابعهم من الوقوع تحت طائلة قرارات
المجلس. وعلى كل حال، لم تكن الدول الكبرى راغبة في التورط بقدر أكبر في كشمير أو
فلسطين.
ثم هناك الخروقات المحتملة من جانب الدول الباغية (كوريا الشمالية) أو المحاولات
غير
الشرعية لتغيير الحدود بالقوة (كاتانجا)، التي يلزم مواجهتها بالقوة المسلحة لو كان
باستطاعة مجلس الأمن التوصل إلى قرار بهذا الشأن، أو أن تقوم إحدى الدول الكبرى بعمل
منفرد
إزاءها (كما فعلت الولايات المتحدة في جرينادا Grenada عام ١٩٨٣م، والاتحاد السوفييتي في
أفغانستان عام ١٩٧٩م)، إذا رأت في ذلك ما يُهدِّد مصالحهما. ولكن خشية الدول الخمس الكبرى
من
الدمار المتبادل، جعلَتها تلتزم الحذر عامة، وتُبدي حرصها على حفظ السلام.
وأخيرًا، يأتي ما تحت هذا المستوى من الصراعات — إذا كنَّا نستطيع استخدام كلمة «تحت»
—
الصراعات التي نشبَت نتيجة انهيار الأوضاع الداخلية في إحدى الدول الأعضاء، وخاصة في
أفريقيا
جنوب الصحراء الكبرى، تلك الصراعات التي تتخذ شكلَ الحروب الأهلية، وحالات الفوضى، وخاصة
عندما ترفض الجماعات المتمردة قرارات حفظ السلام. في مثل تلك الحالات، لم تجد نفعًا جهود
الوساطة الدبلوماسية، أو العقوبات الاقتصادية، أو قوات حفظ السلام ذاتها، ويتطلب الأمر
فرض
السلام بالقوة قبل البدء بإعادة بناء تلك المجتمعات الممزقة.
وهكذا، على ضوء المنطق الذي صِيغَت به وثيقة «أجندة السلام» التي وضعها الأمين العام
عام
١٩٩٢م، قد يتبادر إلى الذهن أنه قد يكون من الأيسر على مَن يُديرون دفة العمل بالمنظمة
الدولية
تحديد نوعية الصراع الذي قد يترتب على حدث جديد، وكيفية مواجهته استفادة بالخبرات السابقة.
لقد أصبحت الأمور أكثرَ تعقيدًا خلال العقد الخامس من عمر الأمم المتحدة. ومن الغريب،
أن
المنظمة الدولية لم تكَد تفرغ من الاحتفال بنَيلها جائزة نوبل للسلام عام ١٩٨٨م، وما
كادت
الحرب الباردة تخمد، حتى تعرَّض الاستقرار الدولي المنشود لهزَّات جديدة.
جاءت المؤشرات الأولى للاضطرابات الكبرى التي لاحَت في الأفق من عدة أزمات وقعَت
خلال مدى
زمني قصير، اقترنَت برغبة مجلس الأمن — فيما بعد الحرب الباردة — تفويض الأمم المتحدة
بالتدخل. ففي خلال الأربعين عامًا التالية للعام ١٩٤٨م (قرار إنشاء UNSTO)، نفذت ١٣ عملية
لحفظ السلام، ثم الانتهاء من ثمانٍ منها. وفيما بين ١٩٨٨–١٩٨٩م تقرر القيام بخمس عمليات
جديدة لمواجهة التحديات الأفغانية-الباكستانية، ومراقبة وقف إطلاق النار بين العراق
وإيران، وفي أنجولا، والسلفادور، والصحراء الغربية، وكمبوديا، والبوسنة/الهرسك، والصرب
والجبل الأسود، وكرواتيا، ومقدونيا، والصومال، وموزمبيق، ورواندا، وهاييتي، وجورجيا.
وكان
من رابع المستحيلات أن يستطيع أيُّ فرد متابعةَ كلِّ هذه الصراعات، بما في ذلك موظفو
الشئون
المالية بإدارة حفظ السلام، أو الجهات الأكاديمية المعنية.
وأثناء هذا الزخم الجديد من مبادرات حفظ السلام، وقع حادثٌ تقليديُّ الطراز من نموذج
عدوان
دولة على أخرى. عندما قامت العراق باجتياح الكويت عام ١٩٩٠م. ولم تأتِ استجابةُ المجتمع
الدولي
لهذا التحدِّي على شكل عملية من عمليات أصحاب الخوذات الزرقاء؛ فقد فوَّض مجلس الأمن
الدول
الأعضاء التعاون مع الكويت «باستخدام الوسائل الضرورية»، فكان ذلك ضوءًا أخضر لعملِ كلِّ
ما
يدخل في نطاق الفصلَين السادس والسابع من الميثاق، وأعطى ذلك لعملية الهجوم المضاد التي
قادَتها الولايات المتحدة موافقة دولية. ولكن القوات العسكرية التي حُشدَت للقيام بتلك
العملية
لم تكن من صنع المنظمة الدولية، بل شكَّلَتها وقادَتها القيادة المركزية للولايات المتحدة
الأمريكية، ومن ثَم حملت الكثير من ملامح عمليات الحرب الكورية، دون أن تحمل علَمَ الأمم
المتحدة. وعلى النقيض من عمليات حفظ السلام التقليدية محدودة السلاح وقوة النيران، الملزمة
بالوقوف على الحياد، شملَت عمليات الخليج انتشارًا لقوات هائلة جوية وبرية عملت ضد عدو
محدد.
والتزم أعضاء الكونجرس الأمريكي الصمتَ إزاء الكلفة الباهظة للعمليات، رغم حرصهم الدائم
على
إبداءِ عدمِ الارتياح إزاء نفقات عمليات حفظ السلام. ولم يكن ذلك لصالح المنظمة الدولية،
فرغم
الترحيب بالهزيمة السريعة التي وقعَت لقوات صدام حسين، أدَّت هذه العملية إلى انتشار
الاعتقاد
بأن عمليات الأمم المتحدة كانت هزيلة، تفتقر إلى الفاعلية، بينما كانت الأعمال العسكرية
الأمريكية حاسمة.
ولولا الكوارث التي حاقَت بثلاث من عمليات حفظ السلام البالغة الأهمية في مطلع التسعينيات
في
الصومال ويوغوسلافيا ورواندا، لما كانت المقارنة بين عمليات حفظ السلام وعملية الخليج
التي
قادَتها الولايات المتحدة، قد اتخذَت هذا البُعد. وقبل محاولةِ فهمِ الأسباب التي أدَّت
إلى فشل
تلك المهام، يجب أن نذكر القائمة الطويلة من جهود الوساطة التي كانت ناجحة في ذلك العقد
من
الزمان، سواء كان ذلك النجاح كاملًا أو جزئيًّا. فقد كان اتفاق أمريكا الوسطى، وإنقاذ
السلفادور من الفوضى والصراع الداخلي من الإنجازات الهامة للأمم المتحدة. ونجحَت مجموعة
مراقبة دولية (UNIMOG) في طيِّ صفحة الاشتباكات العراقية-الإيرانية، كما نجحت مجموعة مراقبة
أخرى (UNGOMAP) في مراقبة انسحاب أكثر من مائة ألف من الجنود السوفييت من أفغانستان، وعالجَت
كلَّ الشكاوى المتعلقة بالانتقال. كذلك لعبَت الأمم المتحدة دورًا متميزًا في جنوب أفريقيا،
فأنهت الأبارتيد، وأقامت الانتخابات الديمقراطية عام ١٩٩٤م التي تمت تحت إشراف موظفي
الأمم
المتحدة، وأعادت جنوب أفريقيا إلى مقعدها في الجمعية العامة، فحققت بذلك تقدمًا حقيقيًّا
في
مهامها. وكان إدخال الديمقراطية في ذلك البلد المحوري الذي يؤثر على الإقليم كله، عملًا
هامًّا له وزنه. وأشرفَت مجموعة المساعدة على الانتقال (UNTAGE) على انتقال ناميبيا إلى
الاستقلال بنجاح. وبعد تحقيق السلام الداخلي في موزمبيق، شكَّل مجلس الأمن مجموعةَ مراقبة
لعملية الانتخابات التي بدأت هناك (ONUMOZE).
وقد حملت الأمم المتحدة على عاتقها مهمة جديدة لمعاونة الدول في مراحل الانتقال —
دون أن
تُعلن ذلك صراحة — وذلك في مراقبة عمليات الانتخاب. فقيام المراقبين العسكرية التابعين
للأمم
المتحدة بالتأكد من انسحاب القوات المتحاربة من الأراضي المتنازع عليها شيء، وإيفاد الأمم
المتحدة لموظفيها وقوات الشرطة التابعة لها للتأكد من أن الانتخابات الأولى التي تجري
بالبلدِ المعنيِّ قد تمت في جو من الحرية والنزاهة شيء آخر، يُعدُّ عملًا إيجابيًّا هامًّا.
ولا
شك أن الكثيرين رأوا أن قيام الأمم المتحدة بهذا العمل يتعارض مع نصِّ بنودِ الميثاق
التي تحظر
التدخل في الشئون الداخلية للدول. ولكن أول بعثة لمراقبة الانتخابات من جانب الأمم المتحدة،
أرسلت إلى نيكاراجوا (ONUVEN)، شكلها الأمين العام بتأييد تام من جانب الجمعية العامة، مع
الاكتفاء بإحاطة مجلس الأمن علمًا بها، كانت خطوة ناجحة على طريق العملية الديمقراطية،
جعلَت
الشكوك حول محاذير التدخل في الشئون الداخلية للدول تتبخر تمامًا. فإذا كانت الأطراف
المعنيَّة بالصراع الداخلي قد قبلت أن تتولى الأمم المتحدة مراقبة وقف إطلاق النار، ثم
طلبت
منها مراقبة الانتخابات، ألَا يعني ذلك دعم سيادة الدولة أكثر من كونه إضعافًا لها؟ لقد
كان
ذلك تقدمًا حظيَ بالقبول.
كان هناك جوٌّ سادَه التفاؤل حول المجتمع الدولي في السنوات الأولى التي أعقبَت الحرب
الباردة، مبعثه عمليات الانتقال إلى الديمقراطية التي تمت في شرقي أوروبا، وآسيا الوسطى،
وبعض جهات جنوب شرق آسيا، وأمريكا الوسطى. وكانت أولى الخطوات المبشرة التي اتخذت في
عملية
السلام الأنجولية، والانتخابات التي أُجريَت في السنة التالية، مبعثها رفض حزب يونيتا
UNITA
قبول نتائج التصويت التي اعتبرها المندوب الخاص للأمم المتحدة سليمة ونزيهة. وترتب على
تجدد
الحرب الأهلية في ١٩٩٢ و١٩٩٥م تكليف البلاد خسارة في الأرواح بلغت ٢٠٠ ألف قتيل، قبل
أن يتمَّ
التوصل إلى تسوية بعد جهد جهيد. هنا نجد أنفسنا أمام حالة من الحالات التي عبرت عن الشكوك
الأيديولوجية، فقد كانت الولايات المتحدة تبغض الحكومة الأنجولية الموالية لكاسترو، وتفضِّل
عليها حركة يونيتا. أَضِف إلى ذلك أن بعثات الأمم المتحدة في أنجولا كانت تعاني من نقص
في
الموارد المالية، وضعف ومحدودية الصلاحيات المعطاة لها، مما جعلها عاجزة عن تفكيك جبهة
الثوار. كما أن ذلك البلد البائس لم يجذب الاهتمام الدولي على نحو ما فعلت الصومال
والبوسنة.
وحتى عندما استطاعَت الأمم المتحدة أن تلتزم بتقديم موارد كبيرة لبعثة من تلك البعثات،
فإن
ذلك لا يشكِّل ضمانًا لنجاحها، أو حدوث انتقال مضطرب إلى مرحلة السلام والديمقراطية،
على نحو
ما أظهرَته العملية الكمبودية (
UNTAC). كانت الأهداف طموحة ترمي إلى جلاء القوات الفيتنامية
عن كمبوديا، وتأمين عملية الانتخابات، وإقامة حكومة ائتلافية جديدة، وأنفقَت المنظمة
الدولية
الكثيرَ من الاعتمادات لتحقيق تلك الأهداف. فأوفدَت الأممُ المتحدة قواتٍ قوامها خمسة
عشر ألفًا
من الجنود، وسبعة آلاف من المدنيين، وبلغَت التكلفة الإجمالية للعملية ثلاثة بلايين دولار
أمريكي، وأعدت للانتخابات التي أجريَت في مايو ١٩٩٣م وقامت بإدارتها، التي كانت نتائجها
مدهشة، وبدَت نزيهة في عيون الكثير من المراقبين. ولكن لم يكن هناك تفويض من مجلس الأمن
للقيام بأعمال عسكرية كتلك التي تتطلبها عملية فرض السلام ضد الفصيلَين اللذَين ألحقَا
الضرر
بالانتخابات: الخمير الحمر (حلفاء الصين، رغم سجلهم المريع في التطهير العِرقي)، وحزب
الشعب
الكمبودي (المؤيد من روسيا)، ومن ثَم ظل الأعداء القدامى على حالهم عندما انتهَت مهمة
بعثة
(
UNTAC)، وتبادلَ أعضاؤها التهنئةَ بما حققوه في الانتخابات. كانت البعثة قد نجحت — من
الناحية الفنية — في أداء مهمتها، ولكن السلام الكمبودي كان محفوفًا بالمخاطر، والحكومة
الكمبودية كانت أبعدَ ما تكون عن الديمقراطية.
٧
ولم تبلغ هذه التجربة الأليمة من الإخفاق الدرجةَ التي بلغَتها الكوارث الثلاث التي
ابتُليَ
بها النظام الدولي فيما بين ١٩٩٣–١٩٩٥م في الصومال، ويوغوسلافيا السابقة، ورواندا. كان
إخفاق عمليات الأمم المتحدة في أي واحدة منها يكفيها عناء تحمُّل كل تلك المآسي في مدى
زمني
قصير، كاد يجعل المنظمة الدولية تجثو على ركبتَيها. كانت الفجوة واسعة بين المثل العليا
للمنظمة الدولية، والنوايا الطيبة لصناع سياستها من ناحية، والمؤشرات البائسة في
الميدان.
كانت النوايا الطيبة تحتل مكان الصدارة من مهام الأمم المتحدة في الصومال، تلك البلاد
التي عانَت الكثيرَ تحت الحكم الاستعماري، بقدر ما عانَت من الصراعات والتدخلات الخارجية
وصفقات السلاح من موسكو وواشنطون خلال الحرب الباردة، كما عانَت من الفصائل المتحاربة.
وعندما أدَّى تفكك الصومال في ١٩٩١–١٩٩٢م إلى نزوح الملايين من مواطنهم وتعرضهم للمجاعة،
أصابَت المجتمع الدولي صدمة شديدة. كما أصابَته بالغضب الشديد عندما قامت الجماعات المتحاربة
بمنع عمال الإغاثة وفِرَق حفظ السلام العسكرية (UNOSOM I) ذات التسليح الخفيف، من توزيع
المساعدات الإنسانية بحرية. فتحولت حكومة الولايات المتحدة عن موقفها الداعم لتفويض الأمم
المتحدة العمل في مواجهة الأزمة، ومعارضتها إعاقة مجلس الأمن لتلك الجهود من خلال إشرافه
عليها، تحولت عن ذلك الموقف فطلبت من المجلس الموافقة على القيام بعملية لفرض السلام
تقودها
الولايات المتحدة تضم قوات قوامها ثلاثون ألف جندي (UNITAF) في إطار الفصل السابع من ميثاق
الأمم المتحدة، الذي رأى بعض الخبراء الآن ضرورة اللجوء إليه في الحالات الخاصة بالعنف
الداخلي والفوضى. وكان ذلك يعني — لسوء الحظ — أن التفويض للقيام بعمل عسكري حازم يجبُّ
التفويضَ الذي أصدره مجلس الأمن من قبلُ بشأن عمليات الإغاثة الإنسانية، مع احتمال أن
تُعطِّل كلٌّ
من العمليتين العملية الأخرى.
هذا الاضطراب كان يمثِّل جوهر المشكلة: هل كانت عملية الإغاثة الإنسانية في ظل القواعد
القديمة قائمة، أم أنها العملية التي تقودها الولايات المتحدة ضد عدو بعينه، أم هما معًا؟
وربما كان باستطاعة مجلس الأمن أن يوضح ذلك لو جلس أعضاؤه معًا (وخاصة الدول الخمس الدائمة
العضوية) إلى الأمانة العامة بغرض إمعان النظر في الميثاق بإخلاص، ليقيسوا حدودَ قدرتهم
ومواردهم بمقياس أحكامه. ولكن ذلك لم يحدث على الإطلاق، واستمر مجلس الأمن والأقوياء
من
أعضائه في طريقهم لا يلوون على شيء. ورغم نجاح عملية قوات (UNITAF) في إنقاذ أرواح الكثير
من الصوماليين، أصبحت — في ربيع ١٩٩٣م — تفتقر إلى تأييد الساسة الأمريكان، وقررت إدارة
كلينتون تسليمَ إدارة العملية للأمم المتحدة، رغم اختلاط عملية حفظ السلام بعملية فرض
السلام
بالقوة بطريقة مفزعة، فقد كانت القوات البرية المختلفة (التابعة لكل عملية) تسعى لخدمة
أهداف مختلفة، كما تشابكت خطوطُ القيادة في العمليتين. وأصبحت نذر وقوع كارثة للعملية
التي
أصبحت تسمى (UNOSOM II) تتجمع في الأفق.
وحلَّت الكارثة مساء الثالث من أكتوبر ١٩٩٣م، عندما قامت قوات أمريكية خاصة تابعة
للقيادة
المركزية (ومقرُّها الرئيسي في فلوريدا) بمحاولة القيام بغارة سرية على الجنرال محمد
فرح
عيديد أحد قادة الحرب الصوماليِّين، ولكن الغارة مُنيَت بالفشل. وبلغَت خسائر الأمريكيين
١٨
فردًا في تلك العملية، وهو رقم لا يُعدُّ كبيرًا (مقارنة بأعداد الصوماليين الذين يموتون
جوعًا
يوميًّا) ولكن تكرار عرض عملية سحل جثث الجنود الأمريكان في شوارع مقديشيو، المدينة التي
لا
يحكمها نظامٌ أو قانون، على شاشات التليفزيون من حين إلى آخر، جعل الرأي العام الغاضب
في
الولايات المتحدة يضغط على إدارة كلينتون لسحب قواتها خلال بضعة شهور، وتم إنهاء عملية
UNOSOM II ذاتها في مارس ١٩٩٥م بعدما حققت فشلًا ذريعًا. فلم يحرم الشعب الصومالي من التقدم
صوبَ الديمقراطية والعدل والسلام، نتيجة الفشل في تحقيق ذلك فحسب، بل تلقَّت المنظمة
الدولية
ضربة قوية أصابَت سُمْعتَها. وخيمَت سُحُبُ الشكِّ على عمليات حفظ السلام في كل مكان
بسبب النتائج
المدمرة التي شهدَتها رواندا في العام التالي كما سنرى. وتدهورَت العلاقة بين الأمم المتحدة
والعضو الأكبر فيها «الولايات المتحدة» إلى المستويات الدنيا، فصرح قادة الكونجرس الغاضبون
بأن «الأولاد الأمريكان» لا يجب أن يوضعوا تحت قيادة الأمم المتحدة مرة أخرى، وعملوا
على
إحراج حكومتهم بتعطيل الموافقة على المخصصات المتعلقة بمساهمة الولايات المتحدة في ميزانية
المنظمة الدولية. وفقدَت واشنطون ثقتَها بالأمين العام بطرس غالي بصفة نهائية.
كانت أحوال الصومال سيئة، ولكن المهمة الخاصة بها كانت بسيطة في محتواها. فقد كانت
عمليتَا
UNITAF و UNOSOM ترميان إلى معالجةِ ظاهرةِ انهيار الدولة، وهي ظاهرة مألوفة لكن يصعب التعامل
معها، وقد اختلطَت عملية حفظ السلام بعملية فرض السلام بالقوة بسبب عدم وضوح الصلاحيات
المفوضة لكلٍّ (من مجلس الأمن)، لذلك حدثَت تعقيداتٌ كثيرة في العديد من العمليات والأهداف
المرتبطة بدور الولايات المتحدة في يوغوسلافيا السابقة. ويساورنا الشكُّ — فعلًا — فيما
إذا
كانت ألغاز التاريخ الدبلوماسي والعسكري الكبرى الموروثة (حرب الوراثة الإسبانية، قضية
شلز
فيج-هولشتاين، اللعبة الكبرى في آسيا) قد اقتربَت في درجة التعقيد من صراعات البلقان
في
التسعينيات من القرن العشرين. واللغز الوحيد من خمسة قرون من التاريخ الدولي هو صراعات
البلقان المعروفة باسم «المسألة الشرقية» في العقود السابقة على الحرب العالمية الأولى.
وكثيرًا ما كان بسمارك يصبُّ اللعنات على «لصوص الغنم في البلقان» (والتعبير من عنده)
الذين
يهددون السلام الأوروبي. وربما لا يدهشه ما حدث بعد تفكك يوغوسلافيا في ١٩٩١م. ولكن كل
مَن
تابع الأحداث الأخيرة أصابَته الدهشة أو أحس بالاشمئزاز من تتابُع الأحداث المريعة.
وتعود الصراعات الإثنية والدينية في تلك البلاد إلى مطلع العصور الوسطى حيث كان يقع
الخط
الفاصل بين الغرب الكاثوليكي، والعالم السلافي الأرثوذكسي، والتخوم الشمالية الغربية
للإمبراطورية الإسلامية. وتمَّ طيُّ مشاعر العداء بتأسيس «دولة السلاف الجنوبيين» يوغوسلافيا
عام ١٩١٩م، وتم إخفاؤها مرة أخرى عندما أقام جوزيف تيتو النظام الفيدرالي الشيوعي بعد
١٩٤٥م.
ولكن خلال الحرب العالمية الثانية انفجرَت تلك العداوات القديمة على صورة فظائع فاجأت
حتى
الغزاة النازيين أنفسهم. وإذا كانت لا تزال هناك بقعة في أوروبا يمكن أن يرتكب فيها التطهير
العِرقي عند نهاية القرن العشرين، فمكانها المحتمل هنا، في البلقان. فقد أدى سقوط الاتحاد
السوفييتي، والتغيرات الإقليمية الدرامية في كل مكان، إلى إثارة الحركات القومية في
يوغوسلافيا، ومارسَت ضغطًا شديدًا على الاتحاد الفيدرالي، وزاد من تلك الضغوط تسرُّع
ألمانيا
في الاعتراف باستقلال سلوفينيا وكرواتيا. ومع سقوط الاتحاد الذي يهيمن عليه الصرب، حملت
الأقليات والأغلبيات السلاح، وراحَت تحاول إقامة الحدود الفاصلة بين كل عنصر وآخر.
(المسلمين، الكروات، الصرب)، وقاموا بطرد العنصر الآخر، إذا لم يكونوا قد طردوا هم من
ديارهم.
ويخرج عن نطاق هذا الفصل التناول التفصيلي لكل ما حدث من أخطاء في السنوات التالية
للعام
١٩٩٢م التي دفعَت إلى إرسال ما لا يقلُّ عن ثماني عمليات لحفظ السلام (إذا أضفنا عمليةَ
كوسوفو
الأخيرة إليهم). وقد مهدَت الطريق إلى هذا الجحيم بالنوايا الحسنة، وبالجهود التي بذلها
الكثيرُ من الأفراد الأذكياء الشجعان لاحتواء الحرب وإقرار السلام، ولكن كان على الهيئات
المعنيَّة التي سعَت للعب دور (الأمم المتحدة، وحلْف شمال الأطلنطي NATO، والاتحاد الأوروبي،
ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي OSCE) أن تُدرك صعوبة ذلك، وأن عليها أن تتوقف وتُسلِّم
باستحالة حفظ السلام في حالة وجود قوات قوية غاضبة، تفضِّل القتال على التوصل إلى
اتفاق.
وهناك أربعة مظاهر لهذه القصة الحزينة تستحق اهتمامًا خاصًّا هي: غياب الوحدة بين
القوى
الكبرى، والارتباك حول الصلاحيات، والفجوة بين أهداف عملية حفظ السلام والموارد المتاحة
لها، والدور المتقطع والقوي للرأي العام والسياسات المحلية. رأَت الدول الأوروبية — وخاصة
بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا — أن هذه المسألة أكثرُ قربًا لبلادها من أيِّ
أزمة أخرى
في أفريقيا الوسطى، وأن هذا القرب الشديد يُهددها بامتداد أعمال العنف وتدفق المهاجرين
عبر
الأدرياتيك إلى وسط أوروبا. كما أن المذابح المختلفة بين العِرقيات المختلفة تناقضَت
تمامًا
مع آمالهم في تحقيق وحدة أوروبا المتناغمة. ولذلك كانت أوروبا في مقدمةِ أيِّ عمليات
لحفظ
السلام أو للقيام بعمل أكثر من ذلك. ووافقَت على هذا إدارة بوش التي انتهَت ولايتها،
وإدارة
كلينتون الرئيس التالي، وكانت الأخيرة لديها ما يكفيها من مشكلات في أماكن أخرى من العالم،
كما كانت تُعاني من تبعات الأحداث في الصومال.
ولكن كانت هناك مشكلة عدم توفر الاستعدادات اللوجستية والعسكرية لدى الجيوش الأوروبية
—
بما في ذلك بريطانيا وفرنسا — اللازمة لتنفيذ مهمة حفظ السلام (UNPROFOR) في مواجهة العنف
المحلي المتأجج. وبحلول عام ١٩٩٤م، كانت الولايات المتحدة تضغط من أجل توجيه ضربات جوية
عنيفة لردع الصرب، ولكنَّ الأوروبيِّين عارضوا بشدة هذه الفكرة لأن قوات حفظ السلام التابعة
لهم
والمسلَّحة تسليحًا خفيفًا كانت هناك على الأرض، محاطة بعصابات القتلة المسلحة تسليحًا
ثقيلًا، بينما كان الأمريكان لا يريدون توريطَ قواتهم البرية. وأخيرًا، واجهَت القرارات
الحازمة التي تضمنَت أعمالًا قاسية ضد الصرب الفيتو الروسي الذي أوقفها. كانت روسيا —
عندئذٍ
— تُواجه المشكلات المحلية التي ترتبَت على سقوط الاتحاد السوفييتي، ولكنها أحسَّت بالتزامها
بدورها التقليدي كحامية لمصالح السلاف في البلقان. ونادرًا ما كان الأعضاء الدائمون على
اتفاق حول هذا الموضوع في اجتماعات مجلس الأمن. وكما حدث في عمليات الكونغو والصومال،
كان
التمييز الجوهري بين حفْظ السلام وفرض السلام تائهًا وسط الضباب الكثيف، ربما يرجع ذلك
إلى
رقَّة الخط الفاصل بينهما وسهولة اجتيازه، كما أن الخيارَين جاءَا في إطار الفصل السابع
من
الميثاق. ولكن — في هذه الحالة — بلغ الاضطرابُ في التمييز بينهما مداه. كان من الصعب
أحيانًا الالتزام بحياد «ورقة» التصرف الذي لازم قوات حفظ السلام عندما يصبح ضروريًّا
الحفاظ على طرق الإمدادات مفتوحة، أو عندما يتطلب الأمر حماية النازحين، وممارسة كلِّ
مهامِّ
حفظ السلام باستخدام القوة عندما تتعرض قوات حفظ السلام لهجوم خطير. ولذلك، صِيغَت قرارات
مجلس الأمن بعبارات قوية وأصبحَت الفظائع المتوالية دافعًا للإشارة الصريحة إلى الفصل
السابع، وفرض القرارات بالقوة. ولكن لم يصحب تلك القرارات زيادة في قوة وفعالية القوات
العسكرية، فقد انقسمَت الدول على نفسها حول خيارَي القوة واللين. كما أن الولايات المتحدة
الأمريكية — اللاعب الهام على مسرح الأمم المتحدة والتي عانَت الكثيرَ في الصومال — تردَّدَت
في
التورط في البلقان، رغم الضغوط المحلية التي كانت تدفعها لذلك؛ لأنها كانت لا تريد أن
تضعَ
القوات الأمريكية تحت أيِّ قيادة دولية، ولذلك أصرَّت عام ١٩٩٨م على أن العمليات التي
تتم ضد
الصرب بمشاركة القوات الأمريكية لا بد أن توضع تحت قيادة الناتو التي كانت لها فيها اليد
العليا. غير أن العمليات التي شملت ضربات «ضد المواقع الصربية» كانت تتطلب ما سُمي «المفتاح
المزدوج» أي موافقة الممثل الشخصي للأمين العام وقادة حلف الأطلنطي، ويعني ذلك أن إسناد
الأمر جزئيًّا إلى منظمة إقليمية لا يخلُّ بالميثاق (بنص الفصل الثامن)، ولكنه يدل دلالة
واضحة
على الضعف العسكري للمنظمة الدولية.
وجاء أداء التفويض المؤقت جيدًا أحيانًا. وأسند إلى قوات UNPROFOR تنظيم أعمال الدوريات
على الحدود المقدونية مع الصرب لمنع الهجمات من هذا الجانب، وكانت هذه أول مهمة تقوم
بها
قواتُ حفظِ السلام كقوة تُمارس مهامَّ الردع ومنع العدوان، وهو ما اقترحه بطرس غالي في
مذكراته
«أجندة السلام». ومن الطريف أنها ضمَّت قوات أمريكية، وربما أدَّى ذلك إلى بقاء الأمور
مستقرة؛
لأن تعرُّضَ أيٍّ من الجنود الأمريكان للقتل على حدود مقدونيا قد يتسبَّب في ضربات جوية
عنيفة كتلك
التي حدثَت قرب سراييفو. وبعد ذلك بسنوات (في ١٩٩٩م)، أصدر مجلس الأمن قرارًا يضع بموجبه
جنوب
الصرب (ما عدا كوسوفو التي تسكنها أغلبية ألبانية) تحت إدارة الأمم المتحدة لإقرار السلام
بالقوة، وإعادة بناء البلاد. ولكن مهمة قوات (UNMIK) شاركت معها قوات (OSCE) وقوات الناتو
(KFOR) بما فيها القوات الروسية للقيام بهذا العمل. وبذلك عاد تحالف الإرادات للعمل على
المسرح من جديد، ولم يشكَّ أحد من ذلك، فما تثبت جدواه يبقى على الساحة.
ولكن الدروس المستفادة كانت قاسية، عالية الكلفة. كانت الفجوة واسعة بين الصيغة الحازمة
لقرارات الأمم المتحدة والضعف الحقيقي لقوات حفظ السلام، وهو ما عرفه صربُ البوسنة، وعرفَته
بدرجة أقل قواتُ الكروات والمسلمين. وكانت معظم القرارات الأولى التي أصدرها مجلس الأمن
تدعو
الأطراف المعنيَّة إلى وقف القتال والعمل معًا. وعندما لم تُحقق تلك القرارات النتائجَ
المرجوة،
صدرَت قراراتٌ أخرى تزيد من دور الأمم المتحدة على الأرض بحذرٍ شديد؛ فالقوات التي تُرسلها
قليلة العدد، خفيفة التسليح، ليس لها أن تستخدم السلاح إلا في حالة الدفاع عن النفس،
فلا
عجب أن تخشى البلاد التي تساهم بقواتها في حفظ السلام من أن يقع جنودُها رهائنَ لا يتم
تحريرهم إلا بعد دفع مبالغ كبيرة. وكثيرًا ما كان الأمين العام يحذِّر من إصدار قرارات
أكثر
تشددًا، ليس لأنها لا تلائم الظروف، ولكن لخشيته من عدم استجابة الدول لتوفير الأعداد
اللازمة من القوات المطلوبة. وأفدح مثال لهذا الرفض لمواجهة الحقائق عندما أصدر مجلس
الأمن
القرار ٨٣٦ الذي قضى بفرض إقامة «المناطق الآمنة» التي تمَّت إقامتُها من قبلُ في البوسنة،
ولكنها كانت عرضةً للهجوم من جانب جميع الأطراف. فحتى يتم تأمين تلك المناطق يتطلب الأمر
زيادة عدد قوات الأمم المتحدة بمقدار ٣٤ ألف جندي، على نحو ما جاء بتقرير الأمانة العامة.
والأسوأ من ذلك أن أيًّا من الدول التي أصدرَت القرار ٨٣٦ لم تُبدِ استعدادًا للمساهمة
في هذه
القوات الإضافية المطلوبة. ولتيسير الأمور، ذكر الأمين العام أنه هناك «بديل أخف» هو
تقديم
٧٦٠٠ جندي الذي رأى فيه رقمًا قد يكون مقبولًا من جانب الدول المترددة.
وعلى كلٍّ، ليس من المنطقي افتراض أن إضافة وحدات قليلة مسلَّحة تسليحًا خفيفًا قد
يردع صرب
البوسنة الحانقين، ويمنعهم من ارتكاب جرائم التطهير العِرقي. وعندما قاموا بعد ذلك بقصف
المنطقة المحيطة بسراييفو بالمدفعية في مايو ١٩٩٤م، ودعَت قوات (UNPROFOR) حلف الناتو لشنِّ
غارات جوية عليهم، كان ردُّ فعل صرب البوسنة عنيفًا ومهينًا للأمم المتحدة، فقد أخذوا
رجال
قوات حفظ السلام رهائن وقيدوهم، واتخذوا منهم دروعًا بشرية بالقرب من الأماكن المتوقع
تعرُّضها للغارات الجوية. وبعد ذلك بشهرين اجتاح صرب البوسنة سربرنشا «الآمنة» وقتلوا
آلاف
المسلمين دون أن تستطيع قوات حفظ السلام أن تُحرك ساكنًا. ثم تحرَّكَت قوات الردع أخيرًا،
فجاءت
قوات التحرك السريع (RRF) من بريطانيا وفرنسا، وهولندا المسلحة بالأسلحة الثقيلة، وبطاريات
المدفعية المتحركة، واحتلَّت المنطقة. وتضاعفَت الغارات الجوية التي قام بها الناتو لإبعاد
صرب
البوسنة عن المناطق الآمنة وإرغامهم على قبول اتفاقية دايتون Dayton للسلام. وعندما قامت
كرواتيا بنفس أعمال التطهير العِرقي ضد الصرب في «المناطق الآمنة»، اتخذ مجلس الأمن موقفًا
حازمًا، وأرسل وحدات فرض السلام بالقوة (UNCRO) المكونة من خمسة آلاف جندي على درجة عالية
من التسليح والكفاءة. وأخيرًا، أدَّت فضيحة مذبحة سربرنشا إلى أن يستبدل بقوات حفظ السلام
(UNPROFOR) السيئة الحظ، قوات كبيرة في مهمة فرض السلام التي قادها الناتو وضمَّت خمسين ألف
جندي بمشاركة كبيرة من القوات الأمريكية والوحدات الروسية المتميزة. ولم يجد صرب البوسنة
مفرًّا من الإذعان لقوات إقرار السلام (IFOR)، وبما خصص لهم من الأرض التي تم تقسيمها بحزم
وشدة على أُسُس إثنية، نالَت بعضَ القبول في نهاية الأمر.
والعنصر الأخير في هذه القصة المحزنة هو الرأي العام الذي عصفَت رياحُه وتياراتُه
بسفينة
الأمم المتحدة من كل حدب وصوب. كانت المطامع والمخاوف هائلة في معظم أرجاء يوغوسلافيا
السابقة، واعتبر القادة المحليون الذين دُعوا إلى التراضي والتعاون مع الأمم المتحدة
خونة،
واكتشف مبعوثو الأمين العام أن كل الاتفاقات التي توصلوا إليها قد خرقَت خلال أسابيع،
وأصبحت
كأن لم تكن؛ إذ كانت تُوحي بالاستسلام. وكان الرأي العام الأوروبي حائرًا بين خشية تورط
قواته وسط حمامات الدماء والإحساس بالعار لوقوع تلك الفظائع في قارتهم، وكانت الكثير
من
الدول ترى في نهاية الحرب الباردة فرصة لخفض الإنفاق العسكري، والاكتفاء ببعض القوات
المدربة جيدًا، دون حاجة إلى الاحتفاظ بقوات كبيرة بما تتطلبه من إمدادات متصلة. وجعلَت
الأصوات المناصرة للصرب في روسيا والتي كان لها تأثيرها في الجيش الروسي، تعاونُ موسكو
مع
الغرب في مسألة البوسنة أمرٌ بالغ الصعوبة. وكان الرأي العام الأمريكي أعلى الأصوات نبرة
على الإطلاق في المطالبة بعدم توريط الحكومة الأمريكية في التدخل على ضوء الضعف الأوروبي،
وسوء معالجة الأوروبيِّين للأمور عام ١٩٩٣م، والخسائر التي لحقَت بالقوات الأمريكية في
الصومال
(ولعل ذكريات فيتنام كانت ماثلةً للعيان أيضًا). لم تكن تلك الأزمة حدثًا سعيدًا في حياةِ
أيٍّ
من اللاعبين الذين شاركوا فيها.
وكان لأزمة رواندا (١٩٩٢–١٩٩٥م) جذورٌ تاريخية من أزمة البلقان، ولكن الخسائر في
الأرواح
فيها بلغَت ما بين ١٥–٢٠ ضعفًا مما نتج عن مذابح البلقان، وتجاوزَت أعمال التطهير العِرقي
فيها الحدود التي عرفَتها كمبوديا من قبل. وكانت دوافع الصراع الداخلي في رواندا مألوفة،
مردُّها إلى السياسة التي اتبعها الاستعمار البلجيكي الذي احتضن الأقلية من قبائل التوتسي،
واستخدمهم ضد الأغلبية (٨٥٪) من الهوتو. وقلب ظهرَ المجنِّ عقب الاستقلال الذي لم يحسب
حسابه،
ولم تعد العدة له عام ١٩٦١م، وما تلاه من طغيان الهوتو على التوتسي الذين هرب الكثيرُ
منهم
إلى أوغندا — البلد المجاور — ومن ثم شنُّوا حربَ عصابات ضد رواندا تسبب المزيد من أعمال
التفرقة العنصرية ضد مَن بقيَ منهم في رواندا. أضِف إلى ذلك الدمار الاقتصادي الذي عانَته
البلاد الذي كان مصحوبًا بأعلى نسبة تزايد السكان في العالم، مع وجود مئات الآلاف من
العاطلين، مما أدى إلى تجمُّع الرجال العاطلين في عصابات إثنية. كانت الأسلحة الصغيرة
منتشرة،
فإذا غابت البنادق حلَّت محلَّها المناجل والأسلحة البيضاء. وفي أغسطس ١٩٩٣م، قامت الدول
الغربية
الكبرى الثلاث ومنظمة الوحدة الأفريقية بالضغط على الطرفين لإبرام اتفاق أروشي Arushi الذي
دعا إلى المشاركة في السلطة، وإجراء انتخابات حرة، ودمج قوات الطرفين في جيش وطني واحد،
ويتم ذلك كلُّه بإشراف بعثة مساعدة خاصة من الأمم المتحدة (UNAMIR). ولم تكن تلك سياسة سلبية
لحفظ السلام، ولكن عملية إقامة دعائم الدولة الوطنية على أسس إيجابية، تقدمية، ديمقراطية،
رغم أن الخطة الأصلية تضمنَت بعضَ عناصر الفصل السابع من حيث وجود قوة لتحييد العصابات
المسلحة وحماية المدنيين.
ثم انهار المشروع بصورة درامية لا في كيجالي عاصمة رواندا ولكن في مقديشيو على بُعد
١١٠٠
ميل إلى الشمال الشرقي. طرح قرار الأمم المتحدة لتفويض بعثة (UNAMIR) على أجندة مجلس الأمن
في الخامس من أكتوبر — حسبما كان مقررًا من قبل — وذلك بعد يومين من الغارة الأمريكية
على
عيديد بما ترتب عليها من نتائج سلبية. اعترضَت الولايات المتحدة على أن يكون التفويض
الخاص
برواندا قويًّا، وسعت لتخفيض حجم القوات إلى الحد الأدنى، وفي إحدى المراحل اقترحت الخارجية
الأمريكية ألَّا يزيد عدد جنود الأمم المتحدة على مائة جندي، بينما كان رجال الأمم المتحدة
في
الميدان يرجون أن يصلَ العدد إلى ثمانية آلاف جندي. وعندما وافق المجلس على ٢٥٠٠ جندي
كحلٍّ
وسطٍ، كان من الصعب تغطية هذا العدد بمساهمات من الدول الأعضاء الذين كان معظمهم لا يعرف
الفرق بين التوتسي والهوتو، ويهربون — على أي حال — من متاعب التورط في المساهمة في عمليات
أخرى، بعدما ساهموا في عمليات الصومال وكمبوديا، ويوغوسلافيا السابقة. ولذلك كانت القوات
الدولية التي أرسلَت إلى رواندا تُعاني من النقص في التسليح والعتاد والاعتمادات المالية،
وليس لها سوى القيام بمهمة قوات المراقبة. ويمكن فهمُ الإصرار على التزام الحياد — وخاصة
في
المراحل الأولى لهذه الكارثة المتفاقمة — على ضوء المناقشات حامية الوطيس التي دارت في
نيويورك وواشنطون وجينيف حول ما إذا كان فشل الأمم المتحدة في الصومال يعود إلى إفراطها
في
التدخل. ولكن غياب الرغبة في الإقدام على عمل فعَّال تأثَّر بالسياسة المحلية، وكانت
نتيجة ذلك
اتخاذ ذلك القرار الذي كان أسوأَ قرار اتخذَته الأمم المتحدة على الإطلاق.
ويصعب الكتابة عن المذابح التي وقعَت بعد ذلك دون التخلص من الشعور بالحزن والغضب
والعار،
فقد أطلق حادث سقوط طائرة الرئيسَين الرواندي والبوروندي في ٤ أبريل ١٩٩٤م حملة تصفوية
لمدة
مائة يوم قام بها الهوتو ذبح فيها ٨٠٠ ألف من التوتسي، أُلقيَت جثثهم في النهر فكسَت
مجراه،
وانحدرَت عبر المجرى في كُتَل متشابكة مثل الأشجار التي يحملها النهر إلى حيث تقطع وتجهز
أخشابها. وهاجمت ميليشيات الهوتو أيضًا وحدة عسكرية بلجيكية من وحدات (UNAMIR) فاضطرت إلى
مغادرة البلاد على وجه السرعة. ثم اتجهَت الميليشيات بعد ذلك إلى المقار الخاصة بالأمم
المتحدة — بعد ما شجعَتها أنباءُ انسحاب القوات الأمريكية من الصومال الذي اعتبروه دليلًا
على
عدم استعداد الغرب تحمُّل قواته لخسائر في الأرواح — وذلك للقضاء على التوتسي الذين لجئوا
إلى
مقار الأمم المتحدة طلبًا للسلامة. لقد كان دور الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن، في
هذه
الأزمة بائسًا مكللًا بالعار. وأصابت صدمة مشاهد المذابح قوات المراقبة الدولية التي
كانت
تحت قيادة الجنرال الكندي روميو دالير Romeo Dallaire الذي حذر من المذابح قبل وقوعها،
وطالب — دون جدوى — بتزويده بالقوات وتفويضه سلطة التدخل لمنع وقوع المذابح التي سبَّبت
مشاهدها المريعة لرجال القوات الدولية معاناة الكوابيس إلى اليوم، بعد ما يقرب من عقد
ونصف
العقد من الزمان على تلك المذابح. ولكن معاناتهم نفسية فقط، بينما خسائر الروانديِّين
كانت
فادحة.
استمر الاضطراب وغياب القدرة على تحديد الأهداف. ومع تصاعد شكاوى الدول الأفريقية
الأعضاء
من أن مجلس الأمن يُخصص كلَّ الموارد للأزمات التي تقع في الشمال مثل أزمة يوغوسلافيا
السابقة،
ويتهرب من التعامل الجدِّي مع أزمات الجنوب التي فاقَت حدودَ الكوارث، وإلحاح الأمانة
العامة
للأمم المتحدة على ضرورة تغيير السياسة، وافق مجلس الأمن — بعد تلكُّؤ من جانبه، وتردُّد
من
جانب الولايات المتحدة — على تشكيل قوات دولية أكبر حجمًا (UNAMTR II)، ولكن القوات الجديدة
لم تتحرك للعمل قبل منتصف يوليو، بعد ما انتهَت المذابح الكبرى. وذلك قبل وقت قصير من
حصول
فرنسا على الموافقة على إرسال قواتها لإقامة «منطقة حماية إنسانية»، خدمة — بالطبع –
لمصالحها في تلك البلاد الأفريقية ذات الأهمية الخاصة لديها. ولكن، أعادَت قوات التوتسي
— في
ذلك الوقت — تنظيم صفوفها، وخاصة أنها كانت لا تثق في دوافع فرنسا للقيام بهذا العمل،
واتجهوا للثأر من الهوتو فيما سُمي بمنطقة الحماية. وعندما هرب ما يزيد على المليون من
الهوتو إلى زائير، انتقلت الحرب الأهلية إليها وهزَّت استقرارها فأدَّت إلى سقوط حكومة
موبوتو
وانفجار أزمة هجرة جديدة. وزاد من وقع الكارثة سوء التغذية، وندرة المياه النقية، وانتشار
الأوبئة. ورغم أن قوات (UNAMIR II) غادرت رواندا في نهاية ١٩٩٥م مع عودة التوتسي إلى السلطة
وزعمهم بأنهم يمثِّلون الحكومة الشرعية، لم تمضِ سوى بضع سنوات حتى وجد مجلس الأمن نفسَه
مضطرًّا للقيام بعملية حفظ سلام جديدة في الكونغو نفسها.
كانت فاجعة رواندا تمثِّل أدنى نقطة في تاريخ الأمم المتحدة يشار إليها بالبنان من
ناحية،
وإلى الحاجة إلى الإصلاح الفعلي من ناحية أخرى، وتصاعد الدعوات إلى ضرورة هزِّ المنظمة
الدولية. وتلك أزمة لم تكن ذات مستوى واحد، ولكنها طالَت كلَّ المستويات في الوقت نفسه،
وكان
السبب واضحًا، فهناك الكثير من الفوضى في العالم، ومطلوب من الأمم المتحدة أن تفعل الكثير.
وكما لاحظ تقرير مؤسسة ييل فورد Yale-Ford Foundation الصادر عام ١٩٩٥م عن المنظمة الدولية:
«شهد العالم ما يقرب من المائة صراع منذ العام ١٩٨٩م كانت كلها داخلية فيما عدا خمسة
منها».
ويخالجنا الشك في أن التحالف الكبير الذي أقامه تشرشل وروزفلت وستالين كان باستطاعته
مواجهة
هذه الظروف حتى لو قَبِل بها أولئك القادة. ولكن رجال الكونجرس الغاضبين صدموا منظمات
حقوق
الإنسان، وجعلوا الحكومات الأفريقية تشعر بالاشمئزاز لعدم استعدادهم تقبُّل مثل هذه المقارنات
والمبررات. ولم تُثِر أيُّ إشارة إلى نجاح الأمم المتحدة في حفظ السلام في مناطق أخرى،
روحَ
الانتقاد عندهم. ولم يكن ثمة شكٌّ في أن ذلك قد ألقى بظلاله على اجتماع سان فرانسيسكو
في
يونيو ١٩٩٥م احتفالًا بالعيد الخمسين للمنظمة الدولية.
كيف يمكن وضع تصنيف لتلك القائمة من مظاهر الضعف الواضح على المنظمة الدولية؟ وبداية
ذي
بدء، كانت الأمم المتحدة قد أصبحت مفلسة ماليًّا، محصورة بين ضغوط تصاعد تكاليف التشغيل
وعدم قدرة أو رغبة دول أساسية مثل اليابان وروسيا والولايات المتحدة على سداد ما عليها
للمنظمة في المواعيد المقررة. وكانت الدول النامية تشكو من عدم توفر الاستثمارات اللازمة
للإنفاق على التعليم والبنية الأساسية في البلاد الشديدة الفقر البعيدة عن الصرعات؛ لأن
المنظمة تُنفق معظم الأموال على جهود وقف الصراعات والإغاثة الإنسانية. بينما طالب أصحاب
الاتجاهات اليمينية بتحجيم نشاط الأمم المتحدة وإنقاص عدد موظفيها، وضغط نفقاتها، وخفض
حجم
عمليات حفظ السلام. ما جدوى إلحاح الأمانة العامة على القيام بعمليات كبيرة حاسمة، واستجابة
مجلس الأمن لذلك، إذا كان كلاهما يعلم أن الدول الأعضاء لن تدفع شيئًا؟
كان التوسعُ في عمليات حفظ السلام وفرض السلام المحركَ الأساسي للأزمة المالية التي
عانَت
منها الأمم المتحدة؛ فقد تضاعفَت أعدادها ثلاث مرات خلال بضع سنوات، وبدلًا من قوات المراقبة
الدولية التي ضمَّت ما بين الألف والخمسة آلاف جندي، وصلت بعض العمليات الجديدة إلى ما
بين
٢٠–٥٠ ألفًا. زِد على ذلك، أن نوعية قوات حفظ السلام تتناقص من حيث الدرجة كلما زاد
حجم نشر
القوات، واضطرت الدول الحديثة النشأة أن تُساهم فيها، فليس من المحتمل توقُّع الكثير
من الوحدات
السيئة العتاد والتدريب والفقيرة الإمدادات، تنقل من دول حديثة التكوين إلى مناطق بعيدة
كثيرًا
عن أوطانها، وخاصة أن بعض تلك البلاد، ساهمَت بجنودها في قوات الأمم المتحدة من أجل الحصول
على النقد الأجنبي (لأن كل حكومة من تلك الحكومات، تعوض عن جنودها بمبالغ تعادل التكلفة
المرتفعة للجنود الذين تقدمهم الدول الغربية، وذلك بالسعر اليومي للصرف) ولذلك ضعفت قدرة
قوات الأمم المتحدة على أداء مهامها كما يجب بسبب قلة الخبرة، وضعف التنسيق، وكذلك ضعف
الكفاءة القتالية. وغالبًا ما يحدث أن تتطلب الحاجة نقل القوات جوًّا إلى مكان العمليات،
فلا يتوفر ذلك إلا للولايات المتحدة التي تقوم طائراتُها بهذا العمل على مضض، وكثيرًا
ما
طالبَت الأمم المتحدة بعدم الإسراف في الاعتماد على قواتها الجوية أو سداد تكلفة ما تقوم
به
من أعمال النقل. وكثيرًا ما كانت القوات تَصِل إلى ميدان عملها بعد فوات الأوان، كما
حدث في
حالة رواندا حيث وصلت القوات بعد انتهاء المذابح. ويؤدي الفشل الميداني إلى زيادة توتُّر
كوادر إدارة عمليات حفظ السلام المثقلين فعلًا بالعمل.
كما أن التفويض الذي منحه مجلس الأمن افتقر إلى الوضوح في العديد من المهام والعمليات،
وهو خطأ تكرَّر وقوعُ المجلس فيه. فقد غلب الغموض على الكثير من قرارات وتفويضات المجلس
على
نحو ما رأينا في الفصل السابق، كما غلب على البعض طابع الاندفاع أو المحدودية. ولكن يجب
أن
نفهم هذا الإخفاق في إطار الظروف الضاغطة والمضطربة في تلك الأيام. كانت التقارير الميدانية
التي يتلقَّاها المجلس تفتقر إلى الوضوح، ويغلب عليها التناقض. وقد يتلقى أعضاءُ المجلس
—
الذين يضغطون من أجل إصدار قرار حازم — تحذيرًا خاصًّا من الآخرين من أن الاقتراح قد
لا يحظى
بأغلبية الأصوات أو يتعرض للفيتو، فيتم سحب الاقتراح. وانعكسَت الأحداث الناتجة عن عملية
سابقة على تلك التي تليها، كما حدث عندما أثرت أحداث الصومال المأساوية على أزمة
رواندا.
وهكذا، كان من المدهش والمخيف تعرُّض الأمانة العامة للهجوم من كل حدب وصوب. البعض
اتهم
الأمين العام بالضعف وعدم القدرة على الوقوف في وجه الدول الخمس الدائمة العضوية على
نحو ما
كان يفعل همرشولد. وذهبت الدول النامية إلى أن الأمانة العامة أولَت كلَّ اهتمامها إلى
عمليات
حفظ السلام وأهملَت المهام الأخرى العديدة التي يجب أن تقوم بها الأمم المتحدة في المجالات
الاجتماعية والاقتصادية. واتهم المحافظون في الولايات المتحدة المنظمة الدولية بأنها
تستحوذ
لنفسها على سلطات واسعة تهدِّد السيادة الوطنية للدول الأعضاء. واعتبر اقتراح أورقهارت
إقامة
جيش خاص بالأمم المتحدة، مدرَّب تدريبًا جيدًا، تتولى أموره قيادة تحسن التنسيق، ويتمركز
في
قواعد خاصة مختارة، ويقوم بتنفيذ المهام التي يكلفه بها مجلس الأمن، اعتبر هذا الاقتراح
دليلًا آخر على الجهود المتصلة للأمم المتحدة لتتحول إلى دولة عالمية ذات سيادة. ومن
الواضح
أن تلك الانتقادات كانت تجهل أصول الأفكار الخاصة بقواعد الأمم المتحدة، ولكن الجهل كان
سائدًا في ذلك الوقت؛ ونتيجةً لذلك أصبحت الأمانة العامة ذاتها أكثرَ تشاؤمًا، وأقل قدرة
على
اقتراح خطة للإصلاح الشامل، وذهب نقَّادُها إلى أن عملها اقتصر على التضييق على رجالها
الذين
فتر حماسهم، فلم يَعُد باستطاعتهم ابتداع مهام جديدة أو الدفع بخطط جديدة. ولكن كيف كان
بمقدور تلك النصيحة السلبية (التي قدَّمها أورقهارت) أن تقدِّم العون إلى الأوضاع المتردية
في
شرقي الكونغو أو سيراليون؟
٨
لم تكن تلك نهاية العالم، ولكنه كان جوًّا مشحونًا بالتوتر بالنسبة لبطرس بطرس غالي
الذي
يغادر الأمانة العامة، ولكوفي آنان الذي تولَّاها حديثًا، وكان من الصعب البحث عن طريق
تمضي
فيها الأمم المتحدة قُدُمًا إلى الأمام لمساعدة الدول التي تُعاني الشدة، مع الاستجابة
— في
الوقت نفسه — إلى تناقص إيمان الدول المانحة بأهمية ذلك العمل وكذلك تناقص رغبتها في
القيام
به. وتشابك ذلك مع حالة التوتر الشديد التي شهدتها ساحة السياسة الأمريكية المحلية في
السنوات الأخيرة من إدارة كلينتون. كل ذلك جعل المنظمة الدولية في حاجة إلى «متنفس».
كانت
بعض عمليات حفظ السلام الكبيرة وعمليات فرض السلام بالقوة تُوشك على الانتهاء بعد تحقيقها
نتائج طبيعية، أو في طور الانتهاء لأسباب سياسية. وعند نهاية القرن العشرين لم تَعُد
للأمم
المتحدة مهامُّ في الصومال وكمبوديا ورواندا، ونقص — تبعًا لذلك — حجم القوات الدولية
وعوَّضت
الإصلاحات الداخلية التي قام بها الأمين العام النقصَ في الموارد المالية نتيجة حجب الكونجرس
الأمريكي لمساهمة الولايات المتحدة (وشملت تلك الإصلاحات تحسين النظام المحاسبي، وإنقاص
عدد
العاملين بالمنظمة الدولية، والحد من تداخل الاختصاصات، وقبول تخفيض نسبة حصة الولايات
المتحدة). واستمرت الأزمة اليوغوسلافية في إثارة القلق المستمر، واستنزاف الجهود، ولكن
التوسع الكبير في عمليات حفظ السلام في منتصف التسعينيات، انحسر مدُّه إلى حدٍّ كبيرٍ.
يضاف إلى ذلك حدوث تحسُّن ملحوظ على المستوى العملي. فلم يحل النفور من فكرة إقامة
جيش
للأمم المتحدة على أساس سياسي، دون قيام قيادات الأركان في الكثير من الدول الراغبة في
المساهمة بتدريب العناصر المتخصصة في حفظ السلام، وإقرار السلام، تحسبًا لدعوتها مستقبلًا
للمساهمة في تلك الأعمال، وتلقَّت إدارة عمليات حفظ السلام بالأمم المتحدة موارد مالية
أكثر
من ذي قبل، وزاد عددُ أفرادها، كما اكتسبت المزيد من الاحترام. وقامت الإدارة بتحليل
عمليات
حفظ السلام السابقة للوقوف على أسباب الفشل أو النجاح، وخرجت من الدروس المستفادة منها
بوضع
قواعد جديدة يتم العمل بها على الأرض، كما وضعَت مواصفات للموارد العسكرية، والمعدات،
والمواصلات والاتصالات، واللغة المستخدمة، وهيكل القيادة، حققت تقدمًا إلى الأمام.
وحدثَت — أيضًا — زيادة فيما يمكن أن نُطلق عليه «مستويات التقدير» المتعلقة بالطلبات
الجديدة التي تنشد تدخُّلًا دوليًّا، ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن القرارات المتسرعة
المدفوعة بالهلع أدَّت إلى كارثة رواندا، وأن التفويض المفرط في الخسارة كان بالغَ الخطورة
(مقديشو). والبحث عن الوسيلة الذهبية للعمل تتطلب أن يظلَّ الكلام أكثر سهولة من العمل.
ولكن
في ذلك الوقت تم تكرار العديد من الخبرات والاستفادة بالكثير من الدروس الصعبة، التي
جاءت
في موعدها تمامًا، لأنه عند أواخر التسعينيات بدأت بعض الأزمات ذات البواعث الداخلية
تتجمع
على طاولة مجلس الأمن (تيمور الشرقية، الكونغو، سيراليون، النزاع الإثيوبي/الأريتيري،
كوسوفو مرة أخرى) عادت لتحتلَّ رأس جدول أعمال المجلس. ولم تكن تلك الأزمات من النوع
الذي فكَّر
فيه صانعو الميثاق في ١٩٤٤–١٩٤٥م، بدَت مثل اللقطاء الذين تم إلقاؤهم على باب الأمم المتحدة
عند منتصف الليل. ولكن الاستجابة لتلك الأزمات جاءت — هذه المرة — أكثرَ مقدرة وأكثر
بعثًا
للأمل، مدى خطورة واحتمال تفاقُم الأزمة. وهو ما اعتاد عليه ملجأ اللقطاء.
ولنضع في اعتبارنا — على سبيل المثال — المهمة التي تجمع بين «صرامة» ملامح وجه الفصل
السابع الذي يجعل منها عمليةً لفرض السلام، و«رقة» عناصر الوساطة وإعادة بناء الدولة
التي قد
نجدها في بعض نصوص الفصول السادس والتاسع والعاشر والحادي عشر من الميثاق. وأبرز مثَل
لذلك
ما حدث في تيمور الشرقية وسيراليون؛ فقد كانتا تحملان سماتِ الكوارث في المحل الأول كما
الكونغو، فهناك أعداد هائلة من الأبرياء الذين فقدوا أرواحهم، بينما تراخى المجتمع الدولي
في نجدتهم. ولكنَّ البلدَين حصلَا على إمدادات عسكرية ومدنية ساعدَتهما على إقرار النظام
والحفاظ
على وقف إطلاق النار، وترميم الصدع الذي أصاب المجتمع، متمشيًا في ذلك مع تقرير الإبراهيمي
عام ٢٠٠٠م الذي طالب بالقيام بأعمالِ ردعٍ في حالة قيام أحد أطراف النزاع بأعمال سيئة.
وسبقت
الإجراءات الأمنية العمل على تحسين الأحوال المدنية (كما حدث بعد ذلك في العراق
وأفغانستان). ولا تستطيع الجهود المبذولة لإيجاد أو إعادة بناء حياة طبيعية تفتح الطريق
إلى
إقامة الديمقراطية إلا بعد وقفِ أعمال العصابات والميليشيات، والتطهير العِرقي. وهو ما
يصعب
تحقيقه ما في ذلك شك. ولكن تنامِي الرغبة في القبول بمختلف السبل التي تؤدي إلى تحقيق
الأهداف الكبرى كان مختلفًا في هذه الحالة وأفضلَ نوعًا.
وهكذا، قامت قوات الكوماندوز التابعة للبحرية الملكية التي أرسلَتها الحكومة البريطانية
إلى سيراليون، بوقف أعمال التمرد والقضاء على مثيري الفوضى من المجرمين وطردهم تمامًا.
وفي
تيمور الشرقية قامت القوات الأسترالية بفرض السلام وتوفير الحماية للانتخابات التي تمت
في
أعقاب ذلك. ونجحت الحملة الحازمة للقضاء على أعمال العنف طالما توفرت الرغبة لدى الأعضاء
القادرين على ذلك للقيام بهذا العمل، وهي مسألة تستحق الأمم المتحدة أن تُهنَّأَ عليها
بالكاد.
فقد أثبتَت مواقف الأمم المتحدة السابقة أنها تتباطأ في استجابتها لحالات التعدي على
حقوق
الإنسان الواسعة النطاق وتميل إلى التوصل إلى حلول سلمية توفيقية مع قادة الأطراف المتنازعة.
من ذلك إغفال المؤسسة الدولية للأعمال العنيفة التي قامت بها إندونيسيا في تيمور الشرقية،
والتلكؤ في مواجهة عصابات فوداي سانكو في سيراليون، وشارل تايلور في ليبريا. فقد تعمَّد
أولياء أمر نظام الأمن الدولي في الأمم المتحدة إبقاءَه ضعيفًا؛ ولذلك كان متواضع الكفاءة
في
مواجهة أعمال الاعتداء على حقوق الإنسان التي اتسع نطاقها مقارنةً بالقليل من الدول الأعضاء
ذات الصول والقوة.
ورأى بعض النقاد في وضع القوات البريطانية في سيراليون والقوات الأسترالية في تيمور
الشرقية لونًا جديدًا من عمليات الاستعمار الجديد، ولكن حقيقة الأمر أن أحدًا لم يكن
باستطاعته أن يقدِّم قواتٍ أخرى. فقد كانت قوات غرب أفريقيا التي أُسندَت إليها مهمة
حفظ السلام
في ليبريا (ECOMOG) يحصل أفرادها على أجور هزيلة، وتغذية سيئة، ولا ترغب في الاشتباك مع
الثوار الدمويِّين، وتعرَّضت الوحدات الأفريقية التي أرسلَت إلى سيراليون عام ١٩٩٩م (UNAMSIL) إلى
الإهانات، والاختطاف كرهائن حتى وصول القوات البحرية البريطانية. كما أن قيام دولة واحدة
بقيادة العملية العسكرية كما فعلَت أستراليا في تيمور الشرقية، يساعد على مساهمتها في
عمليات
التعمير وإعادة البناء التالية لإقرار السلام، وتنظيم الانتخابات وتبديد مخاوف السكان
الذين
استنزفَتهم الحرب، حتى تبين لشعبها وللعالم أن العمليات العسكرية لم تذهب عبثًا.
أضف إلى ذلك، أن ثمة عددًا متزايدًا من الدول الصغيرة المتواضعة في قواتها العسكرية
وقدراتها المادية، أبدَت استعدادها لتقديم حاميات عسكرية صغيرة، ووحدات من الشرطة، وفِرَق
لإدارة الانتخابات، واقتربَت من حيث الأداء من المستوى الدولي. ولذلك بلغ عددُ الدول
المشتركة
في خمس عشرة من عمليات حفظ السلام في ديسمبر ٢٠٠١م ثمان وثمانين دولة. بينما بلغ عدد
الأفراد الذين قاموا بتلك المهام ٤٧ ألفًا من الجنود والشرطة المدنية. وكان الكثير من
تلك
الوحدات صغيرًا جدًّا من حيث العدد، ولا تستطيع — وحدها — الاضطلاع بمهام حفظ السلام
وإقراره. ولكن إذا نظرنا إلى ما كانت عليه الحال قبل ربع القرن أو نصف القرن من الزمان
حيث
كان عدد الدول الراغبة والقادرة على المشاركة محدودًا، يُعَد ذلك تغيرًا ملموسًا.
ولكن الأمم المتحدة وصلَت إلى القرن الحادي والعشرين دون أن يستطيع أشدُّ مؤيديها
الادعاءَ
بأن أداءَها في مجال حفظ السلام وإقراره منذ عام ١٩٤٥م كان نجاحًا منقطع النظير. فلم
تصاحب
حالات الفشل الذريع النجاحات التي تحققَت فحسب، بل ألقَت بظلالها عليها. وسوف تحتاج المنظمة
الدولية إلى الكثير من الوقت والنجاح في حفظ وإقرار السلام مستقبلًا قبل أن تُوضع كوارث
البوسنة ورواندا في منظور إعادة تنظيم عمل وآفاق دور الأمم المتحدة، وكذلك حدود ذلك الدور.
ولعل هذا الاعتراف في الطريق؛ فقد أصدر مركز الأمن الإنساني الكائن بكندا تقريرًا زعم
فيه
أن عدد الصراعات المسلحة في العالم آخذٌ في التناقص، كما قلَّت أعمال التطهير العِرقي
والتعديات
على حقوق الإنسان، كما تناقصَت تناقصًا كبيرًا حوادث القتل في المعارك، ويرجع ذلك كله
إلى
جهود الأمم المتحدة — في السنوات الأخيرة — في منع الصراعات، وجهودها لإقرار السلام.
٩ ومن الجميل أن تكون هذه الادعاءات صحيحة، وأن تمتدَّ تلك الجهود يومًا لتجلب
السلام والاستقرار إلى أفريقيا والشرق الأوسط. ولكن المؤلف يرى في سجلِّ الأمم المتحدة
في
مجال حفظ السلام في ستين عامًا نتائجَ مسكوتًا عنها هي: أنه بينما كانت هناك حالات من
النجاح
المحدود، فإن عمليات حفظ السلام الدولية ناءَت بما حملَت من أعباء، كما أن ما جرت عليه
العادة
من قيام مجلس الأمن بإصدار قرارات بمهام جديدة لحفظ السلام، دون التأكد من توفر القوات
اللازمة لذلك، قد أثبت أنه كان بمثابة وصفة للامتهان والكوارث. فإذا استوعبَت الدول الكبرى
هذا الدرس جيدًا، يمكن أن تتحقق إنجازات كبيرة.
غير أننا نخرج من تلك القصة بذلك النطاق المترامي الأطراف من السبل التي اتبعت في
حل
الصراعات. أحيانًا كانت الدبلوماسية هي الوسيلة التي اتبعت كما في عملية السلام بأمريكا
الوسطى، والاتفاق حول ناميبيا في أوائل التسعينيات. وأحيانًا تطلب الأمر عملية تدخل طويلة
المدى تقوم بها الأمم المتحدة دون أن تتمَّ تسوية النزاع كما في قبرص. وأحيانًا تطلب
نشر قوات
كثيفة العدد بقرار من مجلس الأمن كما في حالة الكونغو. وأحيانًا تم توكيل منظمة أخرى
بالقيام بعمليات فرض السلام بالقوة كما في حالة قوات
IFOR في البلقان والناتو في أفغانستان.
ولا يناسب أي من تلك السبل التي اتبعت في حالة ما غيرها من الحالات. لذلك نرى أنه كان
يجب
على مجلس الأمن إدراك هذه الحقيقة في وقت مبكر عندما يصدر القرارات بتفويض المهام الكثيرة
الشديدة التباين.
١٠
ويعني ذلك أن افتراضات الأمم المتحدة ضرورة حشد أكبر عدد من المشاركين اتسمَت بالضعف
في
تقدير المستوى الذي يجب أن تكون عليه قوات حفظ وإقرار السلام الدولية. وجاء إسناد المهمة
في
أفغانستان إلى الناتو دليلًا على تداعي سلطة المنظمة الدولية (مهما بلغَت درجة حساسية
المهمة
بالمعايير العسكرية). فقد أدى قيام بريطانيا منفردة بمواجهة عصابات المتمردين في سيراليون،
والسماح لفرنسا بعمل الشيء نفسه في ساحل العاج، إلى إزاحة الأمم المتحدة جانبًا. كان
إنهاء
المذابح في سيراليون أمرًا مطلوبًا بلا شك، ولكنه تم على حساب تدهور مكانة الأمم المتحدة،
وزيادة في حجم صورة ضعفها في هذا الميدان.
ويمكن أن نصل إلى الاستنتاج نفسه حول افتقار المنظمة الدولية إلى الكفاءة والمقدرة،
إذا
نظرنا إلى قرار الحكومة الأمريكية بغزو العراق في ٢٠٠٢–٢٠٠٣، ورفضها الرجوع إلى مجلس
الأمن للموافقة على التدخل العسكري. وسوف يظل الجدل قائمًا بين الساسة والمؤرخين وعلماء
القانون حول مدى أحقية الولايات المتحدة في الإقدام على شن هذه الحرب. فبينما يرى البعض
أن
ما قام به الرئيس جورج بوش لا يستند إلى أي شرعية قانونية، يرى غيرهم ضرورة عدم إغفال
قيام
النظام الاستبدادي لصدام حسين بعدم الاستجابة إلى سبعة عشر قرارًا أصدرها مجلس الأمن
على
التوالي، باعتباره مبررًا كافيًا للتدخل العسكري. ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها، أن
دولة
كبرى — هي أقوى دول العالم على الإطلاق — لم يكن باستطاعة الأمم المتحدة والرأي العام
الدولي
منعها من القيام بعمل منفرد، ومن ثَم استطاعت أن تقوم بما لا تجرؤ الدول الأقل قوة على
القيام به، وفي هذا دليلٌ كافٍ على غياب المساواة بين الدول الأعضاء على نحو غير مسبوق.
فلن
تستطيع الأمم المتحدة أن تقطع الطريق أمام قيام دولة كبرى بشنِّ الحرب دون أن يؤديَ ذلك
إلى
قيام حرب عظمى جديدة.
وما نستخلصه من ذلك كله أن أشكال حل النزاع وتأمين السلام التي تتوفر للمجتمع الدولي
لم
ولن تتخذ إطارًا نموذجيًّا متسقًا، رغم اتسام الكثير منها بالمرونة، ولا يحتاج الأمر
إلى
فطنة لإدراك أن الضغوط السكانية والاجتماعية والاقتصادية والدينية على الاستقرار الداخلي
والدولي تتزايد عبر أفريقيا، والشرق الأوسط، وآسيا الوسطى، والشرق الأقصى. والحالات التالية
التي على مجلس الأمن النظر فيها تقف في صفِّ الانتظار. ولكن، كيف تستجيب الأمم المتحدة
للدعوات القادمة إلى حفظ وإقرار السلام؟ يتوقف ذلك على الظروف السياسية والجغرافية لكل
أزمة
بعينها، وعلى مدى استعداد الدول لتحمُّل الأعباء والخسارة التي تترتب على أعمال حفظ السلام،
وخاصة على مدى استعداد الدول الكبرى للموافقة على القيام بعملية ما، وعلى مساهمتهم فيها
بأنفسهم.