الفصل الرابع
الأجندات الاقتصادية — الشمال والجنوب
جاء في مقدمة المادة (٥٥) من ميثاق الأمم المتحدة: «سوف تعمل الأمم المتحدة على النهوض
بمستوى معيشة الشعوب، وتحقيق العمالة الكاملة، وتحسين أحوال التقدم الاقتصادي والاجتماعي
والتنمية، سعيًا لتحقيق هدف التقدم الاجتماعي والوصول إلى مستويات أفضل للعيش في ظل الحرية
الواسعة النطاق باستخدام الآليات الدولية …»
وما زالت البشرية — بعد ستة عقود من الزمان — أبعد ما تكون عن تحقيق تلك الأهداف،
ويتفق
الجميع في غالبيتهم: الشمال والجنوب، واليمين واليسار على أن سجل الأمم المتحدة في هذا
الموضوع الشديد التواضع. وقد يستخدم الكثيرون مصطلحات أكثر حدة، فيرى المحافظون أن هذه
المنظمة الدولية مبنية على الخداع والوهم، بينما يرى الليبراليون أنه لم تتوفر لها أسباب
القوة والموارد الكافية، كما لم يكن لها نصيب من الالتزام السياسي الذي يجعلها قادرة
على
الانطلاق. لذلك كانت الإخفاقات في المجال الاقتصادي بارزة، رغم ما حققه الاقتصاد العالمي
من
نمو متواصل منذ العام ١٩٤٥م، ولا يستطيع أكبرُ المتحمسين للأمم المتحدة أن يدَّعيَ أن
ذلك
الانتشار (غير العادل) للرخاء يعود إلى أعمال المنظمة الدولية أو أنه جاء نتاجًا لخططها.
ومع الإقرار بذلك كلِّه، قد نقع في خطأ لا يقل وزنًا إذا قررنا أن السياسات الاقتصادية
للمنظمة الدولية كانت جميعًا سياسات فاشلة، ولعل ذلك يجرُّنا على الوقوع في خطأ أكبر
إذا
تجاهلنا فرصة الوقوف أمام تلك السياسات، وتبيَّن ما كان منها نافعًا، وما كان غير ذلك.
والأجندات الاقتصادية التي جعلنا منها عنوانًا لهذا الفصل يجب النظر إليها على أنها
منفصلة عن العنصرَين الكبيرَين اللذَين حظيَا بالقسط الأكبر من اهتمام ميثاق الأمم المتحدة،
ونعني بذلك الأمنَ الدولي، ومهامَّ حفظ وإقرار السلام التي تحدَّثنا عنها من قبل والأجندات
الاجتماعية والثقافية التي سنعالجها في الفصول التالية.
وكان من السهل على مخططي الأمم المتحدة إدراك العلاقة الوثيقة بين الأزمة الاقتصادية
والعنف السياسي. وبينما كان للفاشية والشيوعية بريقٌ سيكولوجي قوي، فقد ازدهرت كلُّ واحدة
منهما في تربة الكساد الاقتصادي، والبطالة، وسوء التغذية، والفقر، وتدهور الصحة، والتناقضات
الاجتماعية الحادة. وأبناء الجيل الحالي الذين ينظرون إلى الأمم المتحدة باعتبارها مختصة
«بالأمن» وحده، في حاجة إلى مَن يذكركم أن استخدام القوة — عند صناع الأمم المتحدة —
كان
يقتصر على حالات التصدي للعدوان، وأنهم — على النقيض من ذلك — رأوا أنه كلما كانت هناك
خطوات
تعاونية أكثر نجاحًا من أجل تحقيق الرخاء في العالم، كلما قلَّت حاجة المجتمع الدولي
إلى الجنوح
إلى القوة العسكرية. ولذلك لم يكن النصُّ على تحقيق مستويات أعلى للمعيشة والعمالة الكاملة
مجردَ صياغة لفظية بحتة.
ونعترف أن من الصعب الاعتقاد أن ستالين ومولوتوف قد استهوتهما تلك الأهداف، وكان
من بين
أصحاب التفكير العملي بوزارة الخزانة البريطانية مَن يرون أن تحقيق العمالة الكاملة سيؤدي
إلى حدوث تضخم كبير. غير أن هذه الصياغة — على نحو ما رأينا في الفصل الأول — كتبها أناسٌ
ارتبطوا بالسياسة الجديدة New Deal التي طبَّقَتها إدارة روزفلت بالولايات المتحدة، كما ارتبط
البريطانيون منهم بمشروع تحقيق الرخاء في حقبة ما بعد الحرب الثانية. فكيف تكون الأمور
متجاوزة للحدود الطبيعية إذا اتجه هؤلاء إلى تطبيق أفكارهم المتعلقة بالشأن المحلي (في
بلادهم) على الساحة الدولية؟ كان طبيعيًّا أن ينظر جميعُ مَن يعتقدون أن المؤسسات تستطيع
أن
تلعب دورًا أساسيًّا في النهوض بالمجتمع عندهم، أن ينظروا بعين الاعتبار إلى المنظمة
الدولية، بينما اتجه مَن لا يؤمنون «بالحكومة المركزية» إلى النظر بعين الشك إلى الأمم
المتحدة.
ودون أن نرتاب في نوايا الدول الكبرى، لم تنظر حكوماتنا — فعلًا — إلى المجلس الاقتصادي
والاجتماعي على أنه مؤسسة مناظرة لمجلس الأمن من حيث الوزن والأهمية. كانوا جميعًا مشغولين
بقضايا الأمن الدولي، ولا أدل على ذلك من احتلالهم موقع القلب من النظام الدولي الجديد
من
خلال العضوية الدائمة وحق الفيتو.
وعلى نقيض مجلس الأمن، كانت قرارات المجلس الاقتصادي والاجتماعي تُتَّخذ بالأغلبية
المطلقة،
حيث لا تتمتع أيُّ دولة من الأعضاء بمكانة خاصة أو امتياز خاص، فإذا رأت الدول الكبرى
أن
المجلس يعنيها في شيء لحرصَت على أن يكون لها حقُّ الاعتراض (الفيتو) على قراراته. بل
كانت
اللغة التي صِيغَت بها مواد الميثاق الخاصة بالتنمية تتسم بالهشاشة والغموض (على نحو
ما لاحظه
الاقتصادي كينيث دادزي
Kenneth Dadzie)، مقارنة باللغة المحددة المباشرة التي صِيغَت بها
المواد المتعلقة بالأمن والسلام. وألزم الميثاق الدول الأعضاء بالعمل من أجل تحقيق الأمن
الدولي، ولكنه اكتفى بالنص على «تشجيعهم على التعاون» في تحقيق الرخاء العالمي.
١
وكانت هناك مسألة تنظيمية تتعلق بالتداخل والاضطراب في اختصاص الكثير من مؤسسات الأمم
المتحدة التي تتناول الشئون الاقتصادية والاجتماعية، أو أُقيمَت خصيصًا لذلك الغرض. وقد
يقع
القراء الذين يقرءون عن الموضوع للمرة الأولى، قد يقعون أسرى تحذيرات بعض المؤلفين الذين
يذكرون أن «الأمم المتحدة شديدة التعقيد من الناحية التنظيمية؛ ففي نظامها لجان، ووكالات،
وصناديق، ومراكز، واتحادات، ومؤتمرات، ومجالس، ومعاهد، ومكاتب، وأقسام، وبرامج، ومجالس
إدارة وغيرها، أُقيمَت كلها وفق لوائح تنظيمية في إطار هيكلي دقيق مركزه الجمعية العامة.»
٢ وللأسف، سوف يسهل علينا العودة مرة ومرات إلى هذه المشكلة الرئيسية في الفصول
التالية.
ومن الأمثلة الأساسية على تداخل الاختصاصات واختلاطها، قصة إبعاد مؤسسات بريتون وودز
Bretton Woods القوية عن هيكل الأمم المتحدة. ورغم ميوعة صياغة المواد الخاصة بالمجلس
الاقتصادي والاجتماعي في الميثاق، لم يكن من الصعب إيجاد وسيلة ما للربط بين المجلس وبعض
الوكالات المتخصصة؛ مثل «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي»، و«منظمة العمل الدولية»
قديمة
العهد، وكذلك «اتحاد البريد الدولي»، وغيرها من المؤسسات التي تمارس نشاطًا يدخل في دائرة
اختصاص المجلس. فقد نص الميثاق على إمكانية «إقامة نوع من العلاقة» بين المجلسِ وأيٍّ
من تلك
المؤسسات من خلال «التفاوض» مع الأمم المتحدة، وأن المنظمة الدولية تتولى إصدار التوصيات
الخاصة «بالتنسيق بين سياسات وأنشطة الوكالات المتخصصة» وتتخذ الخطوات اللازمة للحصول
من
تلك الوكالات على تقارير بصفة منتظمة (المواد ٥٧، ٥٨، ٦٣، ٦٤)، ولكن نستنتج من ذلك أن
هذه
الصياغة تفتقر إلى الدقة في التحديد، وتتسم بالإبهام في الصياغة. ترى، كيف نستطيع تحديد
العلاقة بين «منظمة الملاحة البحرية الدولية» والمجلس الاقتصادي والاجتماعي؟ فالمنظمة
ستستمر في القيام بعملها في تحديد الخطوط البحرية ونظم وإجراءات السلامة في البحار، على
كل
حال.
وهكذا، كان من المعروف أن هذه الوكالات الفنية قد أُقيمَت بناء على اتفاقات حكومية
بينية،
حددت صلاحيتها، ومن ثَم حرصَت كلٌّ منها على أن يكون لها كيان مستقل. وهذا يفسر العبارات
المطاطة التي جاءت بمواد الميثاق بشأنها؛ مثل: «يجوز»، «سوف»، «كلما كان ذلك ممكنًا».
ومن
ناحية أخرى، لم يكن من المجدي أن يتضمن الميثاق نصوصًا عن الأهداف الاقتصادية التي تحل
عن
طريقها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في العالم على يد الأمم المتحدة دون أن يتضمن
ذلك
إقامة تنسيق دوري دائم بين المؤسسات المعنية لتحقيق تلك الأهداف، وإلا فلا نفعَ من وراء
رفع
تلك المؤسسات تقاريرها إلى الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لها.
وأدَّى هذا إلى خلق حالة توتر واضحة بين أعضاء الجمعية العامة والمؤسسات التي صنعَتها
اتفاقية بريتون وودز، وبدرجة أقل بين الوكالات الفنية وبعضها البعض. فلم يكن «صندوق النقد
الدولي» و«البنك الدولي» يعتمدان الديمقراطية أسلوبًا لصنع القرار؛ وذلك لقربهما من النسيج
الذي صنع منه مجلس الأمن. فالتصويت في صندوق النقد الدولي يرتبط بحصة الدولة العضو في
الصندوق، ووضعها في مجلس إدارته الذي يقرر كل ما يقوم به من نشاط، كما يقرر سياسته، ويضم
مجلس الإدارة ممثلين للدول الكبرى اقتصاديًّا. وكذلك الحال بالنسبة إلى أعضاء مجلس إدارة
البنك الدولي الأربعة والعشرين، خمسة منهم يمثلون الدول الدائنة الكبرى، بينما يُنتخب
الباقون كل عامين من بقية دول العالم.
٣ وقد صِيغ هذا النظام بقصد تمكُّن الدول الأكبر اقتصاديًّا من التحكم في تحديد
القروض وشروط تقديمها، والموارد التي تخصص لخدمتها في الدول المدينة، وهي الدول الفقيرة
التي تمثِّل غالبية دول العالم. وليس من المعقول أن نتخيل أن يقوم الكونجرس الأمريكي
أو غيره
من برلمانات الدول الغنية بالموافقة على التنازل عن صلاحياته المتعلقة بالموازنة العامة
لبلاده. يعني ذلك أن العمل الرئيسي للأمم المتحدة — في هذا المجال — هو محاولة التوفيق
بين
ميل الدول الغنية إلى إحكام سيطرتها الاقتصادية، والطموح الدولي الواسع النطاق الذي نص
عليه
ميثاق الأمم المتحدة. ومن هنا تأتي أهمية إقامة المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يمارس
اختصاصات تنسيقية في المحل الأول.
ولكن المادة الرابعة من القسم العاشر من لائحة البنك الدولي، تحظر التدخل في الشئون
السياسية للدول الأعضاء، مما يعني أن مجلس إدارة البنك يستطيع — إذا شاء ذلك — تقديم
المساعدات المالية للدول دون أن يضع في الاعتبار خرقَ تلك الدول لقرارات الأمم المتحدة
ومبادئها، على نحو ما حدث في الكثير من الحالات على مر العقود. يضاف إلى ذلك أن البنك
الدولي أجرى مفاوضات الأمم المتحدة عام ١٩٤٧م، أُبرم بموجبها اتفاقًا مع الأمم المتحدة
احتفظ
فيه البنك لنفسه بحق الحفاظ على سرية المعلومات التي قد تتعلق «بنظام عمله» في الحالات
المتصلة بنشاطه. وقد صرح المستشار العام للبنك — غير مرة — أن «المقصود بالبنك أن يكون
وكالة مالية واقتصادية وليس وكالة سياسية». وبذلك يصبح من واجب الوكالات المتخصصة أن
تقف
بعيدًا عن الأجندات السياسية، ورغبات الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي.
فالتشاور والتعاون الحذر مع باقي المنظمات الدولية شيء، و«التنسيق» أو «الدخول في علاقات»
غير مستحبة، شيء آخر. هنا نجد خلافًا ضخمًا داخل نظام الأمم المتحدة، قد تزايد بمرور
الزمن،
وظل قائمًا حتى يومنا هذا.
على كلٍّ، بدا ذلك محدود الأهمية في مطلع سنوات ما بعد الحرب، نتيجة ضغوط الأحوال
السياسية
والاقتصادية. كان ثلث العالم أو يزيد قد دخل تحت جناح الشيوعية (وخاصة بعد تغيُّر نظام
الصين
عام ١٩٤٩م)؛ ولذلك كانت علاقاته طفيفة بعملية صناعة القرار الاقتصادي في الأمم المتحدة،
ومن
المؤكد لم تكن له علاقة بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذَين يمثلان النظام الرأسمالي
الذي يتطلع الشيوعيون إلى سقوطه. وجاء رفض ستالين السماح لدول شرق ووسط أوروبا بالتقدم
بطلبات الاستفادة من معونات مشروع مارشال (١٩٤٨م) مؤشرًا على اتجاه المجتمعات الشيوعية
إلى
اتباع النهج الاقتصادي الخاص بها. وهناك ربع العالم الذي كان لا يزال تحت نير الاستعمار
الأوروبي، ورغم اتخاذ الخطوات الأولى على طريق التنمية في البلاد الخاضعة لبريطانيا،
لم
تهتمَّ فرنسا وإسبانيا والبرتغال بذلك في مستعمراتها إلا نادرًا. فقد ظلت المستعمرات
مقيدة
بالنظام الجمركي الذي يربط المستعمرة بالبلد المستعمر بما يحقق استغلال موارده الطبيعية
من
المواد الخام، ويتعمد إهمال التنمية بحجة أنه ليس من الحكمة أو من العدل إدخال تغييرات
سريعة على تلك المجتمعات التقليدية.
وبذلك كانت أكثر الأقاليم ارتباطًا بالنظام الدولي الجديد الذي وضع في بريتون وودز
هي
الولايات المتحدة وكندا، والدول الأوروبية التي لم تخضع للشيوعية، وأستراليا، واليابان،
وأمريكا اللاتينية، تضاف إليها (بعد ١٩٤٧م) شبه القارة الهندية. ورغم اتساع مساحة الإقليمين
الأخيرين وكبر حجم سكانهما، كان التركيز على إعادة بناء مجتمعات الشمال التي مزقتها الحرب
العالمية الثانية، ويرجع ذلك إلى مخاوف الأمريكان من أن تتحول الشعوب البائسة في أوروبا
والشرق الأقصى إلى الشيوعية. ولكن الأرقام الخاصة بمعونات إعادة الإعمار والقروض تكشف
عن
نفسها بوضوح تام. «فبحلول عام ١٩٥٣م كان البنك «الدولي» قد أقرض ما جملته ١٫٧٥ بليون
دولار
أمريكي (من بينها ٤٩٧ مليونًا لإعادة الإعمار)، بينما قام مشروع مارشال بتحويل ٤١٫٣ بليون
دولار». ولذلك حتى في الشمال، كانت الأمم المتحدة لاعبًا متواضعًا بعدما أصبحت الحرب
الباردة هي التي تُقرر الأجندة العالمية. وكان دور مؤسسات الأمم المتحدة في الجنوب شديد
التواضع، فلم يضع صندوق النقد الدولي الدول النامية في اعتباره إلا في أواخر عقد الستينيات
من القرن العشرين بينما قدم البنك الدولي مائة مليون دولار أمريكي إلى الدول الفقيرة
عام
١٩٥٠م رغم شكواه من قلة المشروعات المقترح تمويلها.
٤
وعلى كلٍّ، اتجهت الكثير من البرلمانات والحكومات في أوروبا والشرق الأقصى، إلى العمل
على
تحقيق استعادة اقتصاداتها الوطنية لعافيتها عن طريق تبنِّي خطط إصلاحية هيكلية (مثل:
تأميم
بعض الصناعات، وإقامة البنوك المركزية، وإقامة بنية أساسية جديدة، واتباع سياسات اجتماعية
جديدة)، ولذلك لم يحظَ التعاون الاقتصادي الدولي بين الدول المتقدمة الغنية والدول النامية
الفقيرة بقدرٍ كافٍ من الاهتمام. ورغم الصياغات البرَّاقة التي جاءَت بميثاق الأمم المتحدة،
لم
تُركز الدول على النمو المتوازن للشمال والجنوب، بقدر ما ركزت على خياراتها الثنائية.
وشغلهم
التفكير فيما إذا كان من الأصوب أن تكون اقتصاداتهم على نسق السوق الحرة الأمريكية، أو
أن
يجربوا نموذج «السوق الاجتماعية» الملفت للنظر في ألمانيا الغربية، أو يطبقوا النظام
الاقتصادي الاشتراكي، فأي من تلك الخيارات يقود إلى تحقيق التقدم المادي. وكانت الولايات
المتحدة في ظل إدارة ترومان وروزفلت تتمتع بنمو متواصل في ظل الاتجاه الاستهلاكي. وما
لبثَت
كلٌّ من ألمانيا واليابان أن تخلصتا من آثار الحرب واسترد اقتصادُهما عافيتَه، واتجهت
كلٌّ منهما
إلى قيادة إقليمها في الاتجاه نفسه. ورغم أن مستوى المعيشة بالدول الشيوعية كان أقلَّ
تقدمًا،
فقد حققت نموًّا ملحوظًا. ولعل طيَّ صفحة الحرب الشاملة المنهكة، كان يعني الانطلاقَ
على طريق
النقاهة من آثارها بصورة أو بأخرى. ولكن الأمم المتحدة لم تلعب إلا دورًا شديدَ التواضع
في
النواحي الاقتصادية بكل ما يعنيه مصطلح الاقتصاد الدولي.
ومما يُثير الدهشة، أنه عندما اتجهَت أنظار العاملين بتلك المؤسسات الدولية لأول
مرة (نحو
العام ١٩٥٠م) إلى سياسات التنمية في المستعمرات (أي البلاد التي نالت الاستقلال بعد ذلك)،
كان التركيز على تحسين البنَى الداخلية لتلك المستعمرات، أو ما أطلق عليه — عندئذ —
«الإجراءات التي تتطلَّب أعمالًا محلية».
٥ كانت المناطق الغنية من العالم على خير ما يرام، ولكن كل البلاد التي استقلت
حديثًا في آسيا وأفريقيا كان عليها أن تنضمَّ للمنظمة الدولية، وتلتزم بقواعدها: تبيع
وتشتري
في السوق العالمية، وتتحاشى الشيوعية، وتُقيم بنيتها الأساسية، وتهتم بالتعليم والمجتمع.
الفول السوداني الذي تُنتجه غانا يمكن أن يسدد قيمة ما تشتريه من سيارات النقل، والأخشاب
التي تنتجها إندونيسيا يمكن أن تسدد قيمة ما تشتريه من أواني الطبخ الأمريكية، وبذلك
تجري
الأمور مجراها دون مشاكل. ومن الطبيعي أن ترى البلاد الشيوعية والاشتراكية الأمورَ بمنظار
آخر، غير أنهم اتبعوا قواعد للتعامل من صنعهم، ولم يكن فكر التنمية الراديكالي قد ظهر
بعد.
ولم تكن تلك الفترة خالية تمامًا من التقدم نحو التعاون الاقتصادي الدولي. وقد يصاب
المراقب للأمور بالدهشة عندما يرى القدر الكبير من النشاط، والعدد الكبير من الهيئات
العاملة في الميدان. استمرت منظمة العمل الدولية في ممارسة المهام التي كانت تقوم بها
قبل
الحرب بروح جديدة. وهناك هيئات أخرى مثل منظمة الأغذية والزراعة الدولية (FAO) الجديدة عَمِلت
بجدٍّ لمعالجة آثار الخراب الذي خلفَته الحرب، ولعبَت اللجان الاقتصادية الإقليمية الجديدة
— في
أوروبا (ECE)، وآسيا والشرق الأقصى (ECAFE)، وأمريكا
اللاتينية (ECLA)، ثم أفريقيا (ECA)
بعد ذلك — دورًا عمليًّا ناجحًا في تشجيع الحكومات على توسيع مجال النظر للاقتصاد، وعدم
الاكتفاء بالنظرة المحلية للأمور. ويعود ذلك إلى ما كان لتلك اللجان من اهتمام بالتركيز
على
التحديات الإقليمية، وهو ما افتقده المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي كانت تلك اللجان
تابعة
له، وكانت أكثر اهتمامًا للحاجات الضرورية، (مثل: تحسين البنية الأساسية للسكك الحديدية)،
التي تجعل دول الإقليم كتلة واحدة.
وإذا نظرنا إلى الأمور نظرة فاحصة، فسوف نكتشف أن الأوضاع لم تكن مرضية من نواحٍ
أخرى وخاصة
من حيث طبيعة النظام الدولي الذي تمت إقامته، التي اتسمَت بالتشتيت والتداخل. كانت الوكالات
المتخصصة شبه المستقلة أسهل فهمًا وأقل إثارة للجدل والتأثر بالسياسة، بحكم كونها تمارس
اختصاصًا فنيًّا محضًا. فليس هناك اعتراض على استمرار الحاجة إلى اتحاد البريد الدولي
—
مثلًا — أو يُبدي البعض امتعاضًا من الهيكل البسيط لذلك الاتحاد. ثم هناك صندوق النقد
الدولي،
والبنك الدولي، تجمعهما رابطة من صنعهما، والانتقادات التي قد تُوجه لهما لا تؤثر على
وجودهما في عالم خاص بهما. وأخيرًا، هناك ذلك العدد الهائل من الوكالات التي ترفع تقاريرها
إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتخضع لإشرافه، وهي تجمع بين اللجان الرئيسية المنبثقة
عن
المجلس التي يقع على عاتقها عبء التنسيق بين مختلف أنشطة المجلس، ثم اللجان المتخصصة
(النقل
والمواصلات، أوضاع المرأة، مكافحة المخدرات)، وكذلك اللجان الاقتصادية الإقليمية، والمنظمات
العامة مثل منظمة رعاية الطفولة (UNICEF)، ومكتب المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون
اللاجئين (UNHCR). وهي منظمات تختص بتقديم العون للمحتاجين في مجال اختصاصها المحدود.
وأدمنَت الجمعية العامة إقامةَ هيئات تتبعها مباشرة، حتى لو ترتب على ذلك زيادة التداخل
في
الاختصاص وزيادة الأعباء البيروقراطية. أضف إلى ذلك أن اثنتين من لجان الجمعية العامة:
اللجنة الثانية (الاقتصادية والمالية)، واللجنة الثالثة (الاجتماعية) لا يستطيعان مقاومة
إغراء الجمع بين مهمة التخطيط في مجالاتهما وبعض الأعباء التنفيذية عن طريق تقديم توصيات
بهذا الشأن، وبذلك تقف موازية للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، تمارس اختصاصه نفسه. كل ذلك
يمثِّل تهديدًا للنظام ذاته.
وعلى النقيض تمامًا من افتراضات المثاليين من الساسة الذين وضعوا ميثاق الأمم المتحدة
زمن
الحرب، فضَّلت الأمم المتحدة السياسات الاقتصادية التي تقوم على افتراضات حرية العمل
laissez
faire، فقد قام كلٌّ من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي «بمد يد العون» إلى بلاد معينة
لمساعدتها على استعادة اقتصادها لحيويته، بشروط تم الاتفاق عليها. وحددت الاتفاقية العامة
للجمارك والتجارة (
GATT) — التي وُضعت عام ١٩٤٧م — الإطار العام للتجارة الدولية، على الأقل في
مجال السلع الصناعية، ولكن هدفها الرئيسي وهو تحرير التجارة عن طريق تخفيف العوائد الجمركية
ورفع الحواجز التي قد تعوق حركة التجارة، كان هدفًا سلبيًّا، لأنه يقوم على فكرة السوق
الحرة التي تفترض قبول جميع الدول بها في إطار نظام تجاري دولي حميد، لا تُقيد طاقاتِه
قيودٌ
مصطنعة. وأن العالم لا يحتاج إلى المزيد من سياسات التدخل والأجهزة الرقابية التي لم
تَعد
هناك ضرورة لها، كما لا مجال للجدل حول الهياكل السياسية للسلطة والثروة على الصعيد المحلي
أو الدولي. وعندما نشر آرثر لويس
W. Arthur Lewis (داعية المساواة الإنسانية الذي حاز على
جائزة نوبل في الاقتصاد فيما بعد) كتابه: «نظرية النمو الاقتصادي» عام ١٩٤٥م، أكَّد أنه
«يجب
أن نلاحظ أولًا أن موضوعنا الأساسي هنا هو النمو الاقتصادي، وليس التوزيع»
٦ والتقدم الذي تم تحقيقه في مجال التنمية — في الجنوب — اتخذ صورة المساعدات
الفنية في مجالات الزراعة، والطب، والتعليم والتدريب، والاستشارات المصرفية، وكذلك السياسات
الاقتصادية العامة. ذلك النوع من المساعدات الذي اقتصر على تزويد الدولة المعنية بالخبراء
الاستشاريين، ولم تشمل إلا القليل جدًّا من المصادر الرأسمالية. ويلاحظ — أيضًا — أن
عددًا
كبيرًا من الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة قامت بجمع وتحليل ومقارنة الإحصاءات
الاقتصادية والاجتماعية التي كانت حجرَ الزاوية في السياسات المستقبلية والقرارات الإدارية.
ولكن كانت هناك فترات من الركود النسبي في هذا النشاط.
وتحديد الظرف الذي شَهِد نقطة التحول في الفكر والسياسة ثم المؤسسات عندما ظهر ما
سُمي
بالعالم الثالث بعد نحو عقد من الزمان، من الصعوبة بمكان. لقد جاء ذلك في إطار تغيُّر
واسع
النطاق في المواقف والممارسات، على نحو ما حدث في مهام حفظ السلام في الستينيات من القرن
العشرين، التي لم يُطلقها حدثٌ محدد، فقد جاءت نتيجة انهيار النظام الاستعماري التقليدي
وسقوط
الإمبراطوريات الأوروبية، وظهور نحو المائة من الدول المستقلة حديثًا التي انضمت إلى
عضوية
الأمم المتحدة. ففي الستينيات وحدها انضمَّت أربعون دولة من المستعمرات السابقة إلى الجمعية
العامة. ولم يَعُد نظام الأمم المتحدة القديم (الذي لم يمضِ عليه آنذاك سوى ١٥–٢٠ عامًا)
بأغلبية من دول الشمال، على نحو ما كان عليه من قبل مرة أخرى.
وكما رأينا، كانت نبوءة تجمع البشرية معًا في برلمان الإنسان على مدى قرون مضَت، نابعة
من
فكر الأوروبيِّين والأمريكان (سميث، وكانط، جلاد ستون، وويلسون، المبادئ الأربعة عشر،
ميثاق
الأطلنطي، ثم ميثاق الأمم المتحدة ذاته). والآن، مع قدوم ممثلي الدول الحديثة العهد
بالاستقلال يتدفق الكثير من الناس على نيويورك لاحتلال مقاعدهم في الجمعية العامة والمنظمات
والوكالات الأخرى، تبدو النبوءة قد تحققت، وأن التحقق جاء تقريبيًّا وليس كاملًا. وأصبحت
الجمعية العامة أكثر لفتًا للأنظار عن ذي قبل، كما أصبحت مصدرًا للإثارة، ويعود ذلك إلى
الجمود النسبي لمجلس الأمن في زمن الحرب الباردة، كما يعود إلى ميل الأعضاء الجدد إلى
إعطاء
الأولية في المسائل التي يتم طرحها على الجمعية العامة للأمور الاقتصادية، بينما احتلت
مسائل الأمن الدولي — عندهم — المرتبة الثانية.
وإلى جانب التطلع إلى التغيير، كان هناك تراكم للغضب والضيق الشديد من النظام الحالي،
وخاصة توازن القوى القائم، وكانت تلك المشاعر طبيعية في أغلبها. كان معظم قادة الدول
الحديثة
العهد بالاستقلال قد غيبوا في السجون سنوات وسنوات، وخرجوا من أوطانهم هربًا من الاعتقال
ليعيشوا في المنافي، كانوا جميعًا شهودًا على مظالم الحكم الاستعماري الذي نادرًا ما
كان
يتعفف عن استغلال الشعوب. وقد يرحب الغرب بتلك الدول الحديثة العهد بالاستقلال في رحاب
المنظمة الدولية، ولكن هذا الترحيب امتزج — أحيانًا — بالمواساة، والنسيان السريع لكل
ما سبب
الغرب من دمار لتلك البلاد. وأهم من ذلك أن الدول الغنية من أعضاء الأمم المتحدة لم تعدم
السبل للحفاظ على أوضاعها المميزة في مجلس الأمن، وفي البنك الدولي، وفي صندوق النقد
الدولي
(وهذه الدول الغنية كانت — تقليديًّا — أوروبية وأمريكية)، وكذلك في الهيمنة الفنية على
الوكالات المتخصصة. ولا عجب أن نجد مجموعة السبع والسبعين دولة نامية حديثة، تحتل مكانًا
هامًّا في الجمعية العامة، ولجانها الرئيسية، وفي المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومنظمة
التربية والعلوم والثقافة UNESCO، وليس مردُّ ذلك إلى تمتع دول المجموعة بأصوات متساوية مع
الدول الغنية وحسب، بل لأن لديها أجندات خاصة بالتنمية، والتغيرات الهيكلية، والشئون
الثقافية، تحتاج إلى الدفع بها.
وعلى كلٍّ، يعود سخط الجنوب إلى زيادة الأدلة على اتساع الفجوات بين البلاد الغنية
والبلاد
الفقيرة بصورة مطردة يصعب مد الجسور بينها (إلا في حالات معدودة من اقتصادات بلاد شرق
آسيا
الصغيرة). وخاصة أن الفجوات تزداد اتساعًا على مر العقود من السنين: ففي عام ١٩٤٧م كان
نصيب
الفرد من الدخل القومي ١٣٠٠ دولار في الولايات المتحدة، وما يتراوح بين ٥٠٠–٧٥٠ دولارًا
في
غربي أوروبا، وحوالي مائة دولار في الدول النامية. وبذلك كانت الفجوة في معدل نصيب الفرد
من
الدخل القومي في العالم تمثِّل ١–١٣ وهو ما يحدِّد البعد بين القاعدة والقمة. وبعد مرور
أربعين عامًا على ذلك التاريخ، سجل البنك الدولي في تقرير التنمية عام ١٩٩١م أن الفجوة
أصبحت
تمثِّل ١–٦٠ بين القاعدة والقمة حيث حققت الدول الغنية معدلًا لنصيب الفرد من الدخل القومي
بلغ عشرين ألف دولار، بينما كافحت الدول الفقيرة كفاحًا مريرًا حتى يصل نصيب الفرد من
الدخل
القومي السنوي فيها إلى ثلاثمائة دولار،
٧ وهو اتجاه ظل واضحًا منذ الستينيات والسبعينيات وتسبَّب في إثارة سخط الدول
النامية. ويقدِّم الاقتصاديون المتخصصون في التنمية العديدَ من التفسيرات الفنية لهذه
القصة
المحزنة: فالدول الحديثة العهد بالاستقلال تُنتج المواد الخام بصفة رئيسية، وكذلك المحاصيل
الغذائية التي غلب الانخفاض على أسعارها، ولكنها احتاجَت إلى استيراد الكثير من المنتجات
الصناعية والخدمات مرتفعة القيمة، بينما تمتعَت اقتصاديات دول الشمال بموارد هائلة في
مجالات
التعليم، والمؤسسات، والبنية الأساسية، والتمويل، ساعدَتها على الانطلاق على طريق النمو،
وهو
ما لم يتوفر لدول الجنوب. وغلب على استثمارات الأمم المتحدة في البلاد النامية سوءُ اختيار
المشروعات مما يُدرج ضمن السلبيات.
كان ذلك يُعدُّ نوعًا من التضليل والمغالطة، من وجهة نظر البلاد النامية، فهم يرَون
أن تأخر
انضمامهم إلى المجتمع الدولي، جعلهم يجدون «الملعب» الذي يفترض فيه تمتع اللاعبين بفرص
متساوية، يجدونه قد خطط بطريقة مسيئة تضرُّ بمصالحهم. فلم يكفِهم التعرض للنهب الاستعماري
لعشرات السنين حتى يعجزوا عن الدخول في خضمِّ المنافسة الاقتصادية في العالم الحديث،
وجاءت
الهياكل الدولية الاقتصادية لتمنعَهم من المضيِّ قُدُمًا على طريق التنمية، ولتُبقيَهم
على حالهم.
وأصبحت مصطلحات التجارة بالمواد الخام مقابل المنتجات الصناعية والخدمات ممجوجة لديهم،
فالتمويل مكلف، والقروض جاءت مصحوبة بشروط بالغة الصعوبة تفرض على الدول التي تتلقاها
الإذعان لشروط اقتصادية واجتماعية معينة، وتُلزمها بأجندات معينة (في مجال حقوق الإنسان
مثلًا) مما تعدُّه الكثيرُ من الدول النامية شروطًا مهينة تمسُّ حقوق السيادة الوطنية.
وسواء
حرصت الدولة على ذلك الحق (السيادة) أو فرَّطت فيه، فإن المصالح الزراعية في الدول الغنية
تحرص على زيادة الضرائب الجمركية على السلع الغذائية. وهكذا وجدت الدول المستقلة حديثًا
نفسَها في وضع التبعية، وهو ما أسماه الزعيم الغاني كوامي نيكروما «الاستعمار الجديد».
وكان
مما زاد الطين بلة، أن الجانب الأكبر والأهم من الشركات العاملة في مجال الصادرات بعد
تصفية
الاستعمار كانت شركات أجنبية تُصدر أرباحها إلى الخارج، سيطرت على المناجم، ومزارع المحاصيل
الزيتية، وصناعة المطاط، ومزارع الفاكهة، واستخراج النفط والغاز، والمصارف، وخدمات النقل
البحري. ويبدو واضحًا من هذا المشهد أن الشركات الاحتكارية الكبرى المتعددة الجنسيات
التابعة للشمال، ليست سوى الأدوات التي تستخدمها الرأسمالية العالمية للإبقاء على العالم
الثالث (الجنوب) في وضع التبعية.
وقد تردَّدَت أصداء هذه الشكاوى واتَّسع نطاقُها بأصواتٍ جاءَت من ميدانَين آخرَين:
العالم الشيوعي،
والراديكاليين الغربيين. وعند حلول الستينيات، تلاشى تأثير ستالين المتقوقع عن العالم،
ليحلَّ
محلَّه نيكيتا خروشوف المتدفق حماسًا، ولم يكتفِ الاتحاد السوفييتي بلعب دور أكبر في
الجمعية
العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي بمساندة دول حلف وارسو، بل اتبعت موسكو استراتيجية
دولية — للمرة الأولى — بدرجة عالية من التفاؤل، اتخذَت شكلَ صفقات السلاح للبلاد النامية،
وإعارة المستشارين العسكريين للبلاد ذات النظم الميالة إلى الشيوعية، واتخذَت المبادلات
التجارية المشتركة والترتيبات الخاصة بها أبعادًا واسعة (فلم يكن لدى الاتحاد السوفييتي
أو
الدول النامية أرصدة من العملات الأجنبية التي يعول عليها). وكان الهدفُ من تلك السياسة
جرَّ
أكبر عدد ممكن من هذه الدول إلى المعسكر الاشتراكي من الأقاليم ذات الأهمية الاستراتيجية،
مثل: أمريكا الوسطى، وجنوب أفريقيا، ومصر، وجنوب شرقي آسيا؛ لأن النضال الأيديولوجي الداخلي
قد يستغرق عقودًا من الزمان، وقد يقود إلى تغيُّر النظم والحروب الأهلية. وصَحِب تلك
السياسةَ شنُّ
الهجوم على الغرب باعتباره مسئولًا عن تخلُّف الجنوب. وكان لهذه الدعاية جانبها المؤثر
في
السبعينيات، عندما افترقَت جمهورية الصين الشعبية عن موسكو، ودخلت لعبة مساعدة الدول
النامية، متهمة الغرب والسوفييت معًا باتباع سياسات مغرضة تجاه المستعمرات السابقة.
وقد شارك الراديكاليون واليسار الليبرالي في الغرب في هذا النقد الذي وُجِّه إلى النظام
العالمي الذي أُقيم في ١٩٤٥م، وإلى السياسات الاقتصادية والمؤسسات التي دعَّمَته. فإذا
نظرنا إلى
الستينيات والسبعينيات لن نجدَ فكرة واحدة، أو عملًا، أو مؤسسة لصناعة القرار، أو عادة
ثقافية، قد نجَت من الهجوم عليها باعتبارها لا تُلائم التقدُّمَ، أو تقف حجرَ عثرة في
طريقه، كانت
تلك حركة سريعة للبندول السياسي قد لا تدوم، ولكن — في ذلك الوقت — بدَا الأمرُ وكأن
غالبية
العالم النامي يتجه نحو اليسار، مطالبًا بتغيير الأوضاع الراهنة محليًّا وإقليميًّا
ودوليًّا. وزاد الاهتمامُ بالعالم النامي في الجامعات ومراكز البحوث والإعلام، وفي أوساط
الحكومات الاشتراكية والعمالية في أوروبا. وأخيرًا، كان لهذه الثورة الثقافية ما يُناظرها
في
المستعمرات السابقة ذاتها التي تلقَّى الكثيرُ من قادتها تعليمَهم في الغرب (جامعة السوربون،
ومدرسة لندن للاقتصاديات) التي كانت تهتمُّ بنقد الرأسمالية ومبدأ حرية العمل، وتُروج
للأسلوب
الفابي في التخطيط الاقتصادي.
ولم تكن الأمم المتحدة ورجالها على أهبة الاستعداد لمواجهة ذلك كله. فالدول الخمس
الدائمة
العضوية بما لها من امتيازات، أعطَت الأولوية لقضايا الأمن (حتى عندما كانت مجمدة)،
والاختصاصات المستقلة للوكالات المتخصصة التابعة للمنظمة الدولية، وحُدِّدت الأهداف الطبيعية
لدعاة إقامة نظام اقتصادي دولي في إطار الافتراضات العامة حول ضرورة الالتزام بقواعد
محددة،
وبالقوى المحركة للسوق، متغاضية عما اتسمت به من تمييز. ونال البنك الدولي النصيب الأوفر
من
النقد؛ فمنذ الفراغ من خطة إعمار أوروبا واليابان، ركز البنك اهتمامه وموارده على الدول
المستقلة حديثًا، وهو أمرٌ له مغزاه الهامُّ، طالما كان دور البنك مختلفًا عن مهمة صندوق
النقد
الدولي الذي يختص بمساعدة الدول التي تُعاني خللًا اقتصاديًّا. وقد اتبع البنك استراتيجية
معقولة أعطى بموجبها الأولوية للمشروعات التي لا تقبل عليها رءوس الأموال الخاصة في إطار
الشركات المساهمة، مثل: مشروعات البنية الأساسية وبرامج التدريب. كان البنك الدولي هو
الوجه
الساطع للشمال في الجنوب. ولكن التنفيذ الفعلي لهذه الاستراتيجية كان موضوعًا للنقد الشديد
في السنوات التالية — كما سنرى — لتفضيله المشروعات الكبيرة على المشروعات الصغيرة
الإصلاحية، وعجزه عن فَهْم حقيقة أن التغير يتطلَّب وقتًا طويلًا ويتحقق ببطء ويأخذ في
اعتباره
المدخلات المحلية والأحوال المحلية، وسذاجة البنك في الاعتقاد بأن ما ثبت نفعه في بلد
ما
يمكن تكراره في بلد آخر، وعدم التزام الدقة في الإنفاق (على تكلفة المشروعات).
ولكن تلك الإخفاقات كانت تتعلق بالتنفيذ والنظام الحسابي، يمكن إصلاحها بالنهج المتبع
في
إدارة الأعمال، واتباع الشفافية، ومراعاة الحاجات الحقيقية المحلية والإقليمية. وكان
مؤيدو
النظام الاقتصادي الدولي الجديد يوجهون الانتقادات إلى النظام الاقتصادي الدولي على وجه
الإجمال؛ فهو لا يُبقي عناصره الإدارية في موقعها بالقدر الكافي لمصلحة العمل، كما أنه
يغيِّر
من عملياته اليومية بصورة غير ملائمة، وأن اهتمامه بالفقراء (دول الجنوب) شجع الكتلة
الاشتراكية والدول التي كانت سببًا في الحرب العالمية الأولى على تحدِّي الدول الغنية
(الشمال
ومؤسساته) للعمل على الإخلال بالتوازن بين القوى الاقتصادية. كان التوزيع وليس التنمية
هو
ما تُخفيه أجندة البنك الدولي، وهنا سارَت الأجندات المحلية والدولية على إيقاع طبول
واحدة:
فإذا كنت تبغي تغييرَ النظام الاقتصادي والاجتماعي غير السوي في ألمانيا الغربية أو
كاليفورنيا أو البرازيل مثلًا، فمعنى ذلك أنك تبغي تغييرَ النظام الاقتصادي والاجتماعي
الدولي الذي وُضع عام ١٩٤٥م.
ترى، ماذا يعني هذا الطوفان من التغيير في الأفكار بالنسبة إلى نظام الأمم المتحدة
المتعدد الأبعاد والقوى في تحديد الحركة على المسرح الاقتصادي؟ من الحماقة أن ندَّعيَ
أن كلَّ
شيء قد قُلب رأسًا على عقب. فالمؤسسات التي أقامَتها اتفاقيةُ بريتون وودز لا تستطيع
العملَ إلا
في الحدود التي رسمها صنَّاعُها، وأرادوا لها أن تتحرك في إطارها، فقد استمرت الوكالات
الفنية
المتخصصة التابعة للأمم المتحدة في ممارسة مهامها على نحو ما كانت تفعل من قبل. وكذلك
كانت
الحال بالنسبة إلى بعض المشاريع الخاصة التي كانت لها الاعتمادات المالية الخاصة بها،
مثل:
برامج التدريب وإقامة مراكز البحوث الزراعية، ومشروعات مكافحة أمراض المناطق الحارة،
وغيرها
من الأنشطة الهامة. وقد لقي القليل من هذه المشروعات اهتمام وسائل الإعلام مثل مشروع
القضاء
على مرض شلل الأطفال، ولم تَعُد اليوم تحظى بالاهتمام. ولذلك يجب أن نرصد التحول الأساسي
في
المستويات العليا للمنظمة الدولية على المستوى السياسي، الذي ينعكس في الهيمنة العددية
لمجموعة الدول النامية السبع والسبعين (G77) في الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي
والاجتماعي.
ولعل أهم تجديد حَظيَ بالموافقة التامة هو إنشاء برنامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP) عام
١٩٥٦م، من خلال دمج مشروعَين كانا قائمَين معًا، هما: برنامج المساعدة الفنية، وما سُمي
بالصندوق الخاص للأمم المتحدة. وهذا الإدماج جاء تعبيرًا عن عدة أمور، هي: ضرورة النظرة
الشاملة إلى التنمية، وخاصة أن برنامج الأمم المتحدة للتنمية يأخذ في اعتباره ما تحتاج
إليه
الدولة المتلقية للعون، ولا ينظر في مشروع بعينه، كما أصبح هناك جهاز يتبع الجمعية العامة
لا يعدُّ منافسًا للبنك الدولي، ولكنه قد يأخذ على عاتقه مشاريع لا يقبل عليها البنك
لأسباب
تجارية. ولتحقيق هذه الغاية يجب زيادة موارد برنامج التنمية (من المساهمات التي تُقدمها
الدول الغنية من الأعضاء) لأنها لا تقدِّم تغطية كافية للبرنامج. وللأسف الشديد عانَت
الكثيرُ
من مشروعات برنامج الأمم المتحدة للتنمية من المشاكل نفسها التي عانَتها مشروعات البنك
الدولي: القصور المحاسبي، مشكلات الجودة وغيرها. ولكن وجود البرنامج كان خطوة إلى الأمام،
لا باعتباره رمزيًّا أو مصدرًا آخر للتمويل، ولكن باعتباره تحديًا للنظرة التقليدية تجاه
النمو الاقتصادي والتنمية.
وكان من الأهمية بمكان من وجهة نظر الدول النامية ومستشاريها الاقتصاديين، عقد المؤتمر
الأول للأمم المتحدة للتجارة والتنمية (
UNCTAD) عام ١٩٦٤م، الذي تَبِعه العديد من المؤتمرات
المماثلة، وأصبح أحد مؤسسات الجمعية العامة. ورغم أن عمل المؤتمر فنيٌّ محض، فإن الأفكار
التي
واجهَته لم تكن كذلك. فقد جاءت تلك الأفكار من رحم المعاناة السياسية، وخاصة بين حكومات
أمريكا اللاتينية، ومن اللجنة الثقافية والاقتصادية لأمريكا اللاتينية حول ظروف التبعية
التي عانوا منها في إطار هيكل القوة الدولي. وقد قدَّمت الأيديولوجية الجديدة ما يناقض
الفكرة
القائلة بأن الاقتصاد الدولي سوف يتعافى إذا تمَّت تقوية أجزائه الضعيفة، «فقد تم النظر
إلى
الفوارق بين الشمال والجنوب على أنها نظام طبيعي، فإذا تم تصحيح تلك الاتجاهات، يمكن
اتخاذ
خطوات سياسية مناسبة، وبذلك تقع مسئولية المفاوضات السياسية الدولية على عاتق الأمم وحدها.»
٨ ونتج عن ذلك إبرام سيل من الاتفاقات الدولية، وصياغة مجموعة من القوانين
الدولية التي تتناول أمورًا تتراوح بين ضوابط ممارسة الأعمال، وجدولة الديون، والترتيبات
الخاصة بالسلع (الكاكاو، والأخشاب مثلًا).
وما لبث تنظيم مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الخاصة بالسلع، وعقد دوراته
المتكررة، أن فقد مغزاه بسبب طابعه البيروقراطي وتركيزه على النواحي الفنية، وما شابه
من
خلط شديد. ولا يكاد أيُّ متحمس للعدل الدولي أن يتأثر عندما يقرأ أن مجلس المؤتمر المنعقد
في
مارس ١٩٩٥م «تبنَّى أجندة وبرنامج العمل الخاص بالاجتماع رفيع المستوى بين الحكومات في
منتصف
الزمن المحدد لمراجعة تطبيق برنامج العمل بالنسبة للدول الأقل نموًّا في التسعينيات.»
٩ ولكن المغزى الحقيقي لذلك اختفى وراء هذا العنوان الذي يتسم بالغموض. كان هناك
اهتمام كبير بالدول الأقل نموًّا، وتعبير عن غياب الثقة — في السنوات الأولى لمؤتمر الأمم
المتحدة للتجارة والتنمية (
UNCTAD) — من إمكانية مساعدة اقتصاديات السوق الحرة لتلك الدول
التي تُعاني الفقر المدقع على الوقوف على أقدامها والبدء بالسير على طريق التنمية. وعلى
عكس
ذلك، شاع الاعتقاد بأن قوى السوق الاقتصادية الحرة سوف تؤدي إلى تجميد أوضاع اقتصاديات
تلك
الدول الفقيرة على ما هي عليه، وأن على الدول القومية (وخاصة في الشمال) الموافقة على
وضع
سياسات اقتصادية لمعاونة العالم الثالث.
وصاحب هذا الهجوم الأيديولوجي على النظام الدولي الذي وُضع في ١٩٤٥م، وزاد من حدته
قيام
المؤسسات الجديدة التابعة للأمم المتحدة في المجالات الاجتماعية، وقضية النوع، والميادين
البيئية التي سنقوم برصدها في الفصول التالية. وحدث تواتر لعقد المؤتمرات الدولية في
مختلف
المجالات، وتحسَّنت الممارسات في مجال الأعمال، وزاد عددُ الاتفاقيات التي تهدف إلى إتاحة
قدر
أكبر من العدالة في مجال التجارة وفي المجال القانوني. وحدث توسعٌ في تمويل التنمية،
وفي
تنوع المشاركين وتعددهم، من البنك الدولي إلى بنوك التنمية الإقليمية، إلى الاعتمادات
المالية التي تدفَّقت من خلال البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) وغيره من وكالات المجلس
الاقتصادي والاجتماعي، إلى الهيئات الكنسية، إلى المؤسسات الكبرى، مثل: فورد وروكفلر
وكارنيجي، إلى المعونات المشتركة من الشرق والغرب، بما فيها الكم الهائل الذي قدَّمته
إدارة
كيندي (رغم أنها خدمَت أجندتها السياسية الخاصة وما لبثت أن تبخرت). وإذا كان الغضب عارمًا
من هياكل القوة الراهنة، ومن استمرارية الاستعمار والأبارتيد (التفرقة العنصرية)، فهناك
المزيد من الثقة في إمكانية إزاحة تلك الهياكل أو إصلاحها — على أحسن الفروض — إصلاحًا
جذريًّا. وهناك — أيضًا — فيتنام التي أدَّت مأساتها إلى دعم النزعة الراديكالية؛ فمشاهدة
كسر
الفلاحين الفيتناميين لقوة إرادة أكبر دولة في العالم، كانت بمثابة دعوة عالمية لحشد
القوى
الراديكالية، وتأكيدًا لتحلل النظام القديم وتعفنه. ولذلك عندما أصدرت الجمعية العامة
إعلانها الشهير لإقامة نظام عالمي جديد في الأول من مايو ١٩٧٤م (عيد العمال العالمي)،
بدا
ذلك الإعلان بمثابة عبور لعائق مائي تاريخي؛ فالعدالة والمساواة بين الدول يمكن تحقيقهما
(مما يعني انهيار النظام العالمي المرتكز على هيمنة الشمال). وصدق الكثيرون ذلك!
لم يكن ذلك الإعلان مجردَ تعبير احتجاجي من الفقراء موجَّه ضد الأغنياء، فقبل ذلك
بعام واحد،
في غضون الحرب العربية-الإسرائيلية عام ١٩٧٣م، قامت منظمة الدول المنتجة والمصدرة للبترول
(OPEC) باستغلالِ وضْعِها شبهِ الاحتكاري لمضاعفة أسعار النفط الخام أربعة أضعاف ما كان عليه
من
قبل، دفعة واحدة. وكانت نتيجة ذلك تأكيد اعتماد دول العالم — شماله وجنوبه — على سلعة
واحدة،
وترتب على ذلك تداعيات سياسية واقتصادية متشابكة، واسعة الأبعاد. فبضربة واحدة انتقلَت
موارد
مالية ضخمة إلى الدول المنتجة والمصدِّرة للنفط في العالم العربي، إضافة إلى غيرهم من
أعضاء
(OPEC) مثل فنزويلا ونيجيريا. وحدث لغطٌ بين صفوف مجموعة اﻟ ٧٧ في الجمعية العامة حول ما
يمكن أن يُحدثَه قرارٌ واحد من تضخم في الثروات، فإذا كان ذلك حدث في سلعة واحدة هي النفط،
فماذا لو حدث في أسواق السلع الدولية الأخرى كالنحاس أو البُن مثلًا؟ لو حدث ذلك لاستطاعت
الدول المنتجة للمواد الخام أن تجد لنفسها مكانًا تحت الشمس.
ولكن الشمس ظلت محجوبة — لسوء الحظ — عن الدول المنتجة للمواد الخام، فلم تكن هناك
سلعة
مناظرة للنفط من حيث الأهمية الاستراتيجية، بحيث تعكس أوضاعَ علاقة التبعية بين الشمال
والجنوب. فغياب النفط يُصيب الحياة الحديثة بالشلل التام، ولكن غياب الفاكهة أو الكاكاو
أو
حتى البوكسيت لا يرقى إلى هذا المستوى الخطير. أضف إلى ذلك أنه لم تُتَح للبلاد المنتجة
للمواد الخام فرصة إقامة كارتل مُناظر للأوبك (
OPEC)، فكلما زاد عددُ الدول الحديثة العهد
بالاستقلال التي تنضم إلى المجتمع الدولي، سارعَت كلٌّ منها إلى إنتاج المزيد من البن
والمحاصيل الزيتية والمنسوجات، فيؤدي ذلك إلى تدهور أسعار تلك السلع، وتصبح القيمة المضافة
منها ضئيلة، في مقابل أسعار الآلات والأسلحة التي يتمُّ استيرادها من الشمال. ولعل من
أبرز
نتائج ارتفاع أسعار النفط الذي تُنتجه دول منظمة (
OPEC)، انقسام العالم النامي إلى أقلية
تمتلك النفط الذي أطلق في منتصف عصر الحرب الباردة على الدول غير المنحازة — مصطلحًا
ملائمًا، فما الذي يجمع بين بلدٍ غنيٍّ كالكويت، وبلدٍ أضناه الفقرُ مثل موزمبيق من وشائج
مشتركة؟ وما الفائدة التي تعود على الإمارات العربية المتحدة من برنامج الإقراض للبنك
الدولي في وقت يشكِّل فيه استثمار عائداتها النفطية الشغلَ الشاغل لها؟ وفي حقيقة الأمر،
اتجهت
الوكالات المالية الدولية نحو البلاد العربية (المنتجة للنفط)، طالبة منها تقديم «تسهيلات
نفطية» للرفاق الأقل حظًّا من بلاد العالم الثالث.
١٠
وبانتهاء عقد السبعينيات، لم تتحسن الأمور، بل ازدادت سوءًا. فقد اتسعَت دائرة استهلاك
النفط حتى في الدول الأقل نموًّا نتيجة اعتمادها على النقل بالسيارات، فزادَت وارداتها
من
النفط، وعندما قفزَت أسعاره إلى أربعة أضعاف ما كان عليه من قبل، عجزَت تلك الدول عن
سداد
قيمة وارداتها منه. ومع تدهور ميزان المدفوعات في تلك البلاد، لم تَعُد قادرة على سداد
فوائد
ديونها للبنوك التجارية والوكالات الدولية التي كان على رأسها البنك الدولي. وقد تنبأ
بتلك
الأزمة السيناتور الأمريكي روبرت تافت Robert Taft قبل ربع القرن من الزمان عندما تشكَّك في
فاعلية النظام الذي أقامَته اتفاقيات بريتون وودز. فإذا عجز المدينون عن السداد — حتى
بعد مد
آجال السداد — وإذا عجزوا تمامًا عن السداد، هل يمكن أن يُطلق عليه اسم «البنك»، أم يتحول
إلى
آلة لتحويل أموال لا تردُّ أبدًا؟ وإذا اعترف بذلك، فهل باستطاعة البنك الدولي أن يقترضَ
مرة
أخرى من الأسواق المالية؟ ترى، هل كانت إقامة البنك غلطة فادحة؟
كان الوضع بائسًا — بالنسبة للكثير من دول الجنوب — في السبعينيات من القرن العشرين.
كان
الكثير من تلك البلاد في أمريكا اللاتينية وأفريقيا يعيش تحت حكم نظم سلطوية أو دكتاتورية؛
حيث كانت ثروات البلاد تضخُّ في حسابات مصرفية خاصة في الشمال، وما يبقى منها في البلاد
استحوذت عليه البيروقراطية الفاسدة التي أقامتها الحركات الثورية الوطنية. وفي البلاد
الأخرى كانت هناك دكتاتوريات الأحزاب اليسارية التي تفتقر إلى العدل وحسن معاملة الشعوب،
وهناك القليل من الديمقراطيات في الجنوب، مثل الهند أو كوستاريكا أو معظم دول جزر البحر
الكاريبي. وقد عانوا جميعًا من سوء الشروط التجارية، بغضِّ النظر عن التوجهات السياسية.
وبدلًا من أن تشهد تحسنًا في هياكلها الاجتماعية، عانَت ركودًا، بل تدهورًا في الكثير
من
الحالات. ولما كانت معظم البلاد النامية تعاني من الزيادة الكبيرة في أعداد السكان، فقد
وقعت في فخِّ الركود الاقتصادي والانفجار السكاني معًا. ورأى المثقفون الراديكاليون والساسة
أن ذلك لا يتطلب حوارًا مع النظام الاقتصادي القادم، بل يحتاج إلى مواجهة.
واتخذت المواجهةُ شكلَ الحروب الأهلية التي اندلعَت نيرانُها في أمريكا اللاتينية
وأفريقيا
وآسيا، إلى جانب المواجهة السياسية في حوارات الشمال والجنوب، غير أن النظام الاقتصادي
الدولي ظل متماسكًا. وعلى سبيل المثال، لم تكُفَّ المؤتمرات التي عقدها «مؤتمر الأمم
المتحدة
للتجارة والتنمية (UNCTAD)» عن المطالبة بالتوافق التقني، أو عن الضغط الشديد من أجل تحقيق
شروط متكافئة في التجارة الدولية. ولكن عالم التجارة نفسه لم يكن متماسكًا حتى في الدول
الغنية ذاتها؛ فقد أدَّت صدمة النفط عام ١٩٧٣م إلى إبطاء إيقاع النمو الاقتصادي في كل
مكان،
وتباطأ نموُّ الإنتاجية في الولايات المتحدة إلى الحدود الدنيا بعد العام ١٩٧٣م — سواء
كان ذلك
بسبب صدمة النفط أو لغيرها من الأسباب — ولم يستردَّ عافيته ويمضي على طريق الانطلاق
إلا في
التسعينيات، كما أن الاقتصاد الأوروبي كان أقلَّ حيوية مما كانت عليه الحال في الخمسينيات
والستينيات، ولم تكن الصورة الاقتصادية متألقة إلا في بعض بلاد الشرق الأقصى، ولكن ذلك
كان
استثناءً إقليميًّا وليس اتجاهًا عامًّا.
لذلك، لم تجد الدول الرأسمالية الكبرى نفسَها قادرة على متابعة سياسة تقديم المعونات
للعالم النامي بالدرجة نفسها من الكرم بسبب ضعف معدلات النمو الاقتصادي عندها، ولارتباطها
ببرامج محلية أخرى. ولم يكن ممكنًا الحفاظ على مستويات المعونات الدولية عند مستوى الوعود
التي بذلَتها «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)» مع ركود الدخول وارتفاع معدلات
البطالة في الدول المنضوية تحت لوائها. وفي عام ١٩٧٧م، التزمت الدول الغنية بتخصيص ٧٪
من
مجمل إنتاجها القومي للمعونات، وهو هدف لا يستعصي على التحقيق، ولكن من الناحية السياسية
كان الأمر أكثر صعوبة بسبب العجز الذي عانَته بلاد «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»
في
ميزانياتها السنوية ولم تنجح في سدِّه إلا القليل من الدول الاسكندنافية وهولندا. وعلى
العكس،
كان هناك شعورٌ معادٍ محافظٌ يتزايد في الولايات المتحدة وبريطانيا — على وجه الخصوص
— ينتقد
الخضوع لابتزاز اليسار والعالم الثالث، بينما تحتاج البلاد لإنفاق ما يخصص للمعونة الخارجية
على الأغراض الاجتماعية الخيرية فيها. وأصبحت لهذه البلاد (الرأسمالية الكبرى) أجندات
جديدة
للإنفاق مع تصاعد الحرب الباردة وسباق التسلح بين حلفَي شمال الأطلنطي ووارسو، كما كانت
تلك
البلاد تنعى على الدول المتلقية للمعونات نكرانها الجميل، وتأخذ على الأمم المتحدة سوء
إدارة مساعدات التنمية التي تُقدِّمها لتلك الدول، وقيام نُظُم الحكم الفاسدة وأجهزتها
البيروقراطية «في الدول النامية» بسرقة تلك المساعدات. واتفقت الدول المانحة على أن تكون
المعونات الخارجية ذات أهداف استراتيجية في المستقبل، تتجه نحو البلاد الصديقة للغرب،
وأن
تخضع لقواعد الشفافية، وتحقيق النفع العام.
ترى، أين كان «صندوق النقد الدولي»، وتوءمه «البنك الدولي» خلال هذه الحقبة التي
عبَّر فيها
عن إرادته، ثم أصابه ما أصابه من ضعف؟ كان «صندوق النقد الدولي» منذ قيامه معنيًّا بالمهمة
التي حددها كينز Keynes وهي: دعم النظام المالي وأسعار صرف العملات، وإنهاء السياسات
الحمائية التي عرفَتها الثلاثينيات من قبل، وتقديم القروض لإنقاذ الاقتصاديات الوطنية
من
كبواتها على اختلاف مداها (قصيرة، أو متوسطة، أو طويلة الأجل). وتتركز مصالح الصندوق
في
الشمال (التحويلات، وتخفيض قيمة العملات، والاحتياطات، وقاعدة الذهب)، والعمل على حسن
سير
آليات الرأسمالية. وكان الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته الخمسينيات عونًا للصندوق، عندما
تم
تثبيت سعر الصرف، وتثبيت سعر الذهب عند ٣٥ دولارًا للأوقية. ولكن الصندوق ما لبث أن واجه
تحديًا من جانب الأزمات الاقتصادية البريطانية المتعاقبة، وانهيار الإسترليني كعملة
للاحتياطيات. كما واجه تحديًا قاسيًا من جانب أزمة الدولار بعد العام ١٩٧١م، التي دفعت
الولايات المتحدة إلى التخلي عن قاعدة الذهب، وعن التمسك بتثبيت سعر الصرف للعملة. لذلك
قد
يظن البعض أن صندوق النقد الدولي كان شديدَ الانشغال بوضع حدٍّ للاضطراب الاقتصادي الذي
عانى
منه العالم الأول، والحق أن العقود الثلاثة الأولى من عُمْر الصندوق تكاد تخلو من ذكر
العالم
النامي. ولكن عندما حدثَت أزمات النفط، لم يَعُد كافيًا العمل على تجنيب اقتصاديات الدول
المتقدمة عناء المتاعب.
وكان العامل المحفِّز هنا هو تفاقم مشكلة المديونية عند دول الجنوب التي لا تدخل
ضمن الدول
المنتجة للبترول، التي عانَت من انخفاض الطلب في الشمال على منتجاتها (للأسباب السالفة
الذكر)،
والانفجار المفاجئ في أسعار النفط، وسهولة الاقتراض ممن توفرت لهم فوائض النقد، وما ترتب
عليه من الزيادة الهائلة في معدلات الفائدة على القروض، والركود الفظيع للاقتصاد العالمي
١٩٨١–١٩٨٢م. وقفز إجمالي مديونية الدول النامية من ١٠٠ بليون دولار عام ١٩٧٢م إلى ٢٥٠
بليون
دولار في ١٩٧٧م، إلى تريليون دولار واحد عام ١٩٨٥م. وإذا كان قد تم سداد الديون للبنوك
والدول
المصدِّرة للبترول، والمؤسسات الدولية لبلغ ذلك ١٣٠ بليون دولار في تلك السنة وحدها،
وهو
«تدفق للاحتياطي» كان عديمَ الجدوى على صعيد تعاون الشمال والجنوب، وبذلك أشرف النظامُ
على
الانهيار. وفي أغسطس ١٩٨٢م، أعلنت المكسيك عن عجزها عن سداد ما عليها من ديون، مما شكَّل
صدمة
للهيئات الدولية، وخاصة صندوق النقد الدولي الذي افترض أن المكسيك أقلُّ تعرُّضًا للمخاطر
التي
عانَت منها البلاد النامية الأخرى، بحكم كونها منتجةً للبترول، وكون اقتصادها ذا طبيعة
ليبرالية نسبيًّا.
١١
ووجد صندوق النقد الدولي نفسَه مضطرًّا إلى القيام بعملية إنقاذ لاقتصاد المكسيك،
بدأ
تنظيمها بنك التسويات الدولية، ثم تولَّى صندوق النقد الدولي إدارتَها بسبب الأبعاد السياسية
للنظام المالي العالمي. وقد عملت هذه الهيئات بالتعاون مع الخزانة الأمريكية في إطار
خطة
بيكر
Baker Plan، وتفاوضت حول إعادة الجدولة مع البنوك. وأُجبر صندوق النقد الدولي على أن
يفعل الشيء نفسه مع البرازيل عام ١٩٨٣م. وعند نهاية العام ١٩٨٤م، قدَّر الصندوق مجمل
ما منحه من
قروض بما يوازي ٢٢ بليون دولار لإصلاح البرامج الاقتصادية في ٦٦ دولة. وكان من الضروري
أن
يتحول الصندوق إلى جهة إصدار شهادة «حسن إدارة الاقتصاد» للدول النامية، واستمر كذلك
طوال
فترة الكساد الاقتصادي، حتى عاود رأس المال التجاري حركته التي اتسعت — مرة أخرى — في
منتصف
الثمانينيات. وبعد بضع سنوات امتد النطاق الجغرافي لعمل صندوق النقد الدولي شرقًا، عندما
قدَّم حقوق السحب الخاصة لبعض دول حلف وارسو السابقة مثل بولندا والمجر. وفي العام ١٩٩٢م،
تعاون صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وبعض الحكومات الغربية، والبنوك التجارية في
تدبير اعتماد إجمالي قدره ٢٤ بليون دولار لمساعدة دول الاتحاد السوفييتي السابق على إعادة
هيكلة اقتصادياتها. وقد جاءت تلك الدول بمشاكلها في وقت واحد، لتُثيرَ جدلًا احتدم في
ذلك
الوقت (أدَّى إلى حجب مشكلات أفريقيا، والأقاليم الفقيرة الأخرى عن دائرة الاهتمام)،
غير أن
صناع القرار لم يجدوا مفرًّا من تفادي وقوع انهيار اقتصادي كذلك الذي حدث في الثلاثينيات،
يعصف بالنظام الدولي النقدي والمالي الذي يُعدُّ سبَّة كبرى بعد أربعين أو خمسين عامًا
من إقامة
مؤسسات اتفاقية بريتون وودز.
١٢
وكان من بين الإصابات الناجمة عن صدمات النفط، وما أصاب الاقتصاد العالمي من هبوط
في معدل
النمو، إصرار دول الجنوب على المطالبة بنظام اقتصادي عالمي جديد. فقد كانت الحاجات الأساسية
في حجم ما كانت عليه قبل خمسة عشر عامًا، وأكَّدت الاضطرابات صحةَ المقولة القديمة التي
تذهب
إلى أن الدول الفقيرة هي الأكثر تضررًا من الركود الاقتصادي. ولكن الجو العام تغيَّر؛
فبينما
عالج الشمال مشكلاته الاقتصادية باتباع سياسات نقدية ومالية انكماشية صارمة، لم يكن هناك
استعدادٌ للتساهل في تقديم المعونات إلى الجنوب. فقد رأت حكومتَا مارجريت تاتشر، ورونالد
ريجان، عدمَ تقديم أي قروض جديدة لدول الجنوب إلا بشروط صارمة تتعلق بحسن إدارة الاقتصاد
في
البلاد المتلقية للقروض، وهو ما كانت تطالب به البنوك التجارية وصندوق النقد الدولي.
أضف
إلى ذلك أن الاقتصاديين — في الثمانينيات — عادوا إلى الاعتقاد بأهمية إطلاق العنان لقوى
السوق، والتخلي عن البعد الاجتماعي للتنمية محليًّا وخارجيًّا. وتم دعم هذه الاتجاهات
بإلغاء الضوابط النقدية والمالية في البلاد الأنجلو-سكسونية، وتبعَتها — بعد تردد — دول
منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وفاق التدفق في رأس المال العالمي الناجم عن تلك
السياسات للأموال التي دبَّرتها المؤسسات التابعة للأمم المتحدة. وأصبح اجتذاب الأموال
إلى
الأسواق المحلية، واتخاذ الإجراءات الودية للحيلولة دون هروب الأموال المحلية إلى الأسواق
الخارجية، من أهم ما اتبعته الدول الفقيرة والغنية على السواء من سياسات. وليس من الغريب
أن تتجه الأموال إلى بلاد مثل سنغافورة أو الصين، أكثر من اتجاهها إلى داهومي أو
اليمن.
وأخيرًا، وجَّه النجاح المدهش للنمور الآسيوية في شرقي آسيا رسالةً إلى الجدل الدائر
حول
التنمية. وتبع النجاح الاقتصادي لليابان ما حققته الاقتصادات الأصغر في الإقليم، في كوريا
الجنوبية، وتايوان وهونج كونج، وسنغافورة، ثم الدول الأكبر مثل ماليزيا وتايلاند
وإندونيسيا، وما حققته الصين بعد إصلاحات دنج هسياوبنج من معدلاتِ نموٍّ مدهشة وازدهارٍ
متنامٍ.
وقد كشفَت قصص النجاح الذي حققته بلاد الشرق عن انقسام ما سُمي «الجنوب» إلى ثلاثة معسكرات:
الدول المنتجة للنفط (وهي عربية أساسًا)، وبلاد «المعجزة» الآسيوية، ثم البلاد التي تعاني
الفقر المدقع في جنوبَي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولا يزال التنسيق بينهم جميعًا
قائمًا في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والجمعية العامة والتصريحات الصادرة عنها، ولكن
على
المستوى التقني في «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» (UNCTAD) ولجانه المختلفة، نجدهم
ينظرون إلى الاقتصاد الدولي بصورة أخرى. فقد جعلَت التنمية الذاتية في شرق آسيا من مصطلح
«التنمية» كلمة عفا عليها الزمن، وانتشلَت الملايين من البشر من وهدة الفقر، أكثر مما
فعلت
برامج البنك الدولي في تشاد.
ولا يعني ذلك أن التحول إلى فلسفات اقتصادية وسياسية أشد محافظة لم تواجهه تحديات،
فقد
لقيَ مقاومة مريرة من جانب حكومات الدول النامية ذاتها، كما لقيَ معارضة الأصوات المناهضة
للحرية الاقتصادية في الشمال. وتسببت سياسة الرئيس الفرنسي فرنسوا متيران القائمة على
تدخل
الدولة والبعد الاجتماعي للسياسة الاقتصادية، في إثارة الشكوك حول الاتجاهات الجديدة،
وهددت
سياسات الإنفاق الدولي التي أخذت بها تلك الاتجاهات، وأساليب الحياة التقليدية لمؤيديهم.
كانت المخاوف من الكوكبة globalization آخذة في التصاعد عامًا بعد آخر بين كلِّ مَن أحسوا
بالتهديد من جانب الاتجاهات الاقتصادية الجديدة، وازداد توجسهم خيفة عدم القدرة على
المنافسة. غير أن عدم الرضا بالتوجهات الجديدة لم يَدُم بالنسبة إلى حكومات الدول النامية،
التي وجدت نفسها مضطرة للجوء لجهات خارجية لمعالجة مشاكلها الاقتصادية الجادة، وقبلت
«برامج
الإصلاح» التي اشتملَت على قدر كبير من التنظيم المالي والتحكم في الإنفاق الحكومي الذي
يُعَد
نقطة مركزية في خطة بيكر التي أنقذَت اقتصاد المكسيك. وفي عام ١٩٩٢م، عقد مؤتمر الأمم
المتحدة
للتجارة والتنمية (UNCTAD) اجتماعَه الثامن في كارتاجينا بكولومبيا، وهي الدورة الهامة التي
تم الاتفاق فيها على أن الإدارة الجيدة للاقتصاد الوطني لها مردودها الإيجابي، وأن المواجهة
بين الشمال والجنوب تؤدي إلى الدمار، وأن تقسيم العالم إلى كُتَل تجارية متصارعة يمثِّل
خطأً
جسيمًا.
ونتيجةً لذلك، عندما يستخدم مصطلح «الإصلاح الهيكلي»، فإن ذلك يعني إصلاح الهياكل
المالية
والاقتصادية المحلية في البلد الذي ينشد العون، ولا يعني أيَّ تغيير في نظام القوى العالمي.
والمصطلح المصاحب له: «تسوية أرض الملعب Level Playing Field» يعني هزيمة المقولة القديمة
التي تذهب إلى أن الدول النامية تحتاج إلى اعتبارات خاصة، ولا يجب ربطها بقوانين السوق.
وبعبارة أخرى، شهدَت التسعينيات نوعًا من التوافق المؤسسي في الحوار بين الشمال والجنوب،
ويرجع ذلك إلى اضطرار الجنوب الضعيف إلى تقديم التنازلات. ويبدو هذا واضحًا في التقرير
الذي
أعدَّه السكرتير العام بطرس بطرس غالي عام ١٩٩٤م بعنوان «أجندة للتنمية»، وقد اعتبرتها
الجمعية
العامة وثيقة مساوية لوثيقة «أجندة للسلام» (عام ١٩٩٢م)، بقصد توجيه أنظار القوى الكبرى
إلى
أن الأمن ليس الهدف الوحيد أو الرئيس للمنظمة الدولية. ولكن بعد مرور الوثيقة بإعادة
الصياغة لأربعين مرة بحثًا عن «الصياغة السليمة» لتشجيع المشروعات الحرة، ومعاونة الحكومة
في إدارة الاقتصاد، وقعَت الوثيقة الجديدة في مأزق التيه، فبينما حافظت على الشكل اللفظي
للنظام الاقتصادي العالمي الجديد، كشفَت «أجندة للتنمية» عن نجاح الضغوط المتغيرة «ونظام
قوى
السوق» في إزاحة اليسار تمامًا.
هذه التغيرات المزاجية لم تُيسِّر الأمور لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فقد
تعاظمَت
شكوك الساسة المحافظين المتطرفين في المؤسستَين وطالبوا بإلغائهما. وعندما تفشل إحدى
عمليات
الإنقاذ الرئيسية التي يقوم بها صندوق النقد الدولي، أو عندما تجد إحدى الدول المتلقية
لمعونات كبيرة نفسَها غارقة في المصاعب (حالات المكسيك وروسيا والبرازيل، أبرز أمثلة
لذلك)،
يتعرض صندوق النقد الدولي لهجوم عنيف يتهم فيه بسوء تقديره للموقف، والإهمال في إقراض
حكومات ينخر فيها الفساد وتُعاني من سوء الإدارة، وبذلك يبدد أموال الآخرين. ولكن الصندوق
تعرَّض لانتقادات أكثر حدة من جانب اليسار الذي يكره دائمًا مبدأ «الاشتراط» ويتهم صندوق
النقد الدولي بإجبار الحكومات على تنفيذ برامج تلحق الضرر بالفقراء. ولا شك أن فرض شروط
معينة يمثِّل جوهر عمل البنوك في كل مكان، فلا يقدم البنك — أي بنك — قرضًا إلا إذا طالب
بضمانات معينة. والسؤال الحقيقي هو: أي أنواع الشروط يجب أن تُفرض؟ في التسعينيات توافقت
الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة على مجموعة جديدة من الشروط المتعلقة بالشئون الداخلية
للدول المتلقية للمعونات أو القروض، منها إنهاء التعديات على حقوق الإنسان، والتزام
الشفافية في المعاملات الحكومية، والالتزام بالأسس الديمقراطية في الانتخابات، وتحسين
وضع
المرأة، وهي شروط يفضلها الليبراليون في الغرب، حتى لو كانت معظم الدول النامية تُعلن
احتجاجها عليها، ولكن دون جدوى.
وتعرَّض البنك الدولي لهذا النقد المزدوج الاتجاه بقدرٍ يفوق ما تعرَّض له صندوق
النقد
الدولي. ولعل ذلك يرجع إلى أن صندوق النقد الدولي لا يظهر بشكل سافر أمام الشعوب، ولكنه
يمارس مهامَّه في اجتماعات سرية مع ممثلي الحكومات المتلقية، التي عليها أن تقوم ببرامج
الإصلاح المطلوبة بنفسها، بينما يمارس البنك الدولي عمله على الأرض، فيقوم بتمويل المشروعات
والإشراف عليها، وهي تتم جميعًا على الملأ، والتي قد تبدو مظاهر فشلها للعيان في حالة
الإخفاق. وللبنك الدولي سجل حافل من الهجوم؛ فقد استنكر الليبراليون استمرارَ البنك في
إقراض
جنوب أفريقيا حتى بعد رفض العالم المتحضر لسياسة التفرقة العنصرية التي اتبعها النظام
الحاكم هناك. واستنكر المحافظون قيامَ البنك بإقراض الأموال لمشروعات الرفاه الاجتماعي،
وخاصة عندما تعجز البلاد المتلقية عن السداد. ولكن إخفاق البنك في بعض المشروعات وذيوع
الأنباء عن الآثار التي لا يمكن توقعها ولكن نتائجها الجانبية تُلحق الضرر بالمجتمعات
المحلية والبيئة، في مثل هذه الحالات يتعرض البنك الدولي لمشاكل حقيقية.
١٣
ويجب الإشارة إلى أن الكثير من تلك الكوارث لم تكن نتاج المؤسسات التي صنعَتها اتفاقية
بريتون وودز، وعلى أقل تقدير لم تأتِ نتاجًا مباشرًا لها. فالتفاوض حول القروض يتم مع
الحكومات ذاتها احترامًا لحق السيادة، ولكن ماذا يحدث إذا عجزت تلك الحكومات على الوفاء
بالتزاماتها، أو غيرت من سياساتها، أو حتى اختفت من الوجود (كما حدث لبعض الدول الأفريقية
في السبعينيات)؟ فقد تُسيء الوكالات والإدارة الفاسدة استخدام القروض، أو تنفذ المشروعات
بصورة خاطئة، أو تتجاهل المسائل المتعلقة بالبيئة. فالأموال التي دفعتها بعض وكالات الأمم
المتحدة الأخرى لتنظيف البحر المتوسط مثلًا كانت تبدو مشاريعها براقة على الورق، ولكن
التنفيذ جاء فاشلًا، لأن مصادر التلوث لم تنقطع. والسياسات التي اتبعتها السلطات المحلية
لم
تكن مناسبة لنجاح تلك المشاريع. وهناك مشاريع أخرى كانت عديمة الجدوى منذ البداية. فالاتجاه
الأول نحو تفضيل محطات توليد الطاقة الكهربية الكبيرة، ومشروعات البنية الأساسية الكبيرة،
أدى إلى وضع أموال طائلة في أيدٍ غير أمينة، أنفقتها في غير موضعها. وتعارضَت بعض المشروعات
التي موَّلها البنك مع مشروعات أخرى. وجاءت المساهمة المحلية محدودة — في الغالب — ولم
يحدث
النقل المفترض للتكنولوجيا، والاعتقاد الخاطئ بأن أسلوب الإدارة الذي اتبع في مشروع معين
ببلد ما، يمكن تطبيقه بحذافيره في بلد آخر. كما كان هناك جهلٌ تام بالنتائج البيئية السلبية
التي ترتبت على بعض مشاريع البنك الدولي. وتحقق الكثير من خبراء البنك والوكالات الأخرى
التابعة للأمم المتحدة من فشل بعض المشروعات في وقت مبكر، ولكن لم يكن من السهل إبلاغ
ذلك
إلى واشنطون أو نيويورك أو جنيف.
كانت الدعاية السلبية المضادة للبنك الدولي عنيفة، شديدة التأثير، شارك فيها النشطاء
المحليون، وبعض الأنثروبولوجيين من الغرب، والمنظمات غير الحكومية، والجماعات الكنسية.
ولفتَت وسائل الإعلام الأنظار إلى الطرق التي اخترقت الغابات الاستوائية، والجماعات المحلية
التي أخرجَتها مشروعات البنك من ديارها، وما لحق بالبيئة والأنهار من أضرار، والقلة من
الأفراد المعدومين الذين أثروا من وراء تلك المشروعات، وينطبق ذلك كله على العديد من
مشروعات
السدود. ولا شك أن النوايا — في تلك المشروعات — كانت طيبةً تهدف إلى تحسين المواصلات،
وتوفير
الطاقة الكهربية، والموارد المائية، كما أن البنك الدولي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة
(UNDP) حقَّقَا هدفهما بتقديم المعونات المالية للبلاد الأكثر فقرًا. ولكن الأمور لم تَسِر
على
النحو المتوقع، وهو ما لفت انتباهَ اليسار. ومن ناحية أخرى شعر المحافظون أن ذلك يؤكد
اعتقادهم بأن منْحَ المعونات الدولية لتلك البلاد يعني إلقاء الأموال في البالوعات.
وقد أشارت هذه الانتقادات إلى الاتجاهات الأحدث التي قد تساعد على إبراز السجل التنموي
للأمم المتحدة على المدى البعيد. فقد كان ضروريًّا بالنسبة إلى المنظمة الدولية وأعضائها
المرور بالأزمات الاقتصادية في السبعينيات والثمانينيات؛ لأن ذلك ساعد الوكالات والحكومات
على تبيُّن ما يمكن عمله، ولا يجب عمله، وما له جدوى سياسية، وما يفتقر إلى ذلك، على
نحو ما
جاء ببعض التقارير الخاصة بالتنمية التي صدرَت فيما بعد. فوقوع أزمة مالية في المكسيك
أو في
بريطانيا، يساعد صندوق النقد الدولي على تحسين أسلوب وأدوات العمل. وقد تورط النقد الشديد
لأعمال البنك الدولي في خطأ يفوق ما تعرَّضت له عمليات حفظ السلام من نقد، على فرض أن
مثل هذا
النقد قد يساعد على تحسين الأداء في المستقبل. وقد تجاهل الانحراف نحو اليسار — في حوار
الشمال — الجنوب، حقيقة أن مجموعة من الدول طالبت الحكومات المنتخبة ديمقراطيًّا من مجموعة
أخرى أن تنقل مواردها حتى يمكن اتباع طرق مناسبة لتحقيق تعاون عالمي على نطاق واسع، مثل
مشروعات القروض المحدودة التي سنعرض لها في الفصل التالي. وقد تم تنفيذ ذلك كله تدريجيًّا؛
فالوكالات والحكومات مثل الأفراد من البشر، قادرة على التعلم من أخطائها، ولكن المؤسسات
المالية الدولية ووكالات التنمية تركَت انطباعًا بسوء الإدارة وعدم الكفاءة يصعب التخلص
منه،
بسبب ما ارتكبَته من الأخطاء الأولى.
إن أيَّ استخلاص للجهود التي بذلَتها البشرية جمعاء في المجال الاقتصادي، والتقدم
الذي تحقق
خلال ما يزيد على نصف قرن بعد العام ١٩٤٥م، لا بد أن يكون مركبًا. وأهم الدروس المستفادة
هو
أن السياسة المحلية كانت وراء ما حققته معظمُ بلاد العالم من الرخاء، وليس العون الدولي،
يصدق هذا على ألمانيا وسنغافورة وغيرهما من البلاد التي دخلت إلى معسكر الدول الغنية.
ويعني
ذلك أنه لا بديل لمعايير السياسة الداخلية الرشيدة، أو تشجيع المشروعات الاستثمارية.
ولم
يشذَّ عن ذلك سوى بعض الدول المنتجة للبترول المحظوظة القليلة العدد. غير أن ذلك يقيم
الدليل
على أن الحكم الرشيد، والسياسة الحكيمة، تمثل موارد وطنية تفوق في قيمتها الموارد النفطية
في باطن الأرض. ولكن القفز من ذلك إلى استنتاج أن نظام الأمم المتحدة والوكالات التابعة
لها، والوكالات المتخصصة وغيرها من المؤسسات المتصلة بها، لم يكن لها تأثير على التنمية
الاقتصادية في تلك العقود الخمسة، يُعدُّ قراءة خاطئة للتاريخ، ما في ذلك شك.
وبحلول عام ٢٠٠٠م، كانت وكالات الأمم المتحدة قد قطعَت شوطًا طويلًا في تحسين نفسها،
وأصبحت
في وضع أفضل لمساعدة أولئك الذين قامت من أجل خدمتهم. ويتضح هذا التغييرُ في النشاط والأفكار
التي طورها برنامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP)، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم
والثقافة (UNESCO)، ومنظمة رعاية الطفولة (UNICEF) وغيرها من المؤسسات، عملت على أن تكون
أكثر فعالية ونفعًا، على نحو ما سنعالجه في الفصل التالي. ورغم الحاجة إلى إنجاز الكثير
في
هذا الصدد، فإن ثمة نشاطًا مستمرًّا، وتعاونًا أفضل بين الوكالات وبعضها البعض، وفهم
أكثر
وضوحًا وعمقًا حول أين وكيف تستطيع كل مؤسسة أن تلعب دورًا أكثر فعالية. لم ينَل ذلك
كله
حظًّا من الذيوع، ولا يعلم عنه إلا القليل، ولكنَّ ثمة تقدمًا ملحوظًا تم تحقيقه بالفعل.
وكان
هناك تعاون متواصل بين البنك الدولي والبنوك الإقليمية التابعة للأمم المتحدة وخاصة في
مشروعات ميدانية معينة، حيثما احتلت المساعدة الفنية موقع الأولوية. وعلى سبيل المثال،
حققت
المبادرة الأفريقية لفعاليات البناء تعاونًا بين البنك الدولي، وبنك التنمية الأفريقية،
وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، ووكالات الأمم المتحدة الأخرى، إضافة إلى المصادر المشتركة
للدخل. وقد ألزمت اتفاقية الشراكة الجديدة للتنمية الأفريقية المبرمة عام ٢٠٠١م جميع
القادة
الأفارقة بالشفافية التامة، واتباع الدقة القانونية في الإدارة، التي يترتب عليها قيام
الدول المانحة بتقديم معونات تنموية إضافية. وأدَّى هذا إلى بداية تحريك الأمور، مع وضع
الشركاء المحليين في المقدمة.
وهكذا، بينما استمر الجدل السياسي حول الاقتصاد الكوكبي دون انقطاع، كانت القدرة
على
البناء مستمرة في أماكن عدة، ولا يستطيع عالمٌ مشتتُ الرؤى إنكارَ ما لحالات التحسن الفردية
من
قيمة. فإن منحة ثلاثية يقدِّمها البنك الدولي، بالاشتراك مع مشروع الأمم المتحدة للتنمية
والمشروع الاقتصادي للأمم المتحدة، إلى قرية صغيرة تقع على منحدرات جبل كينيا، للتحكم
في
المياه وتوليد الكهرباء، تؤدي إلى تنمية مجتمع عانَى الكوارث الطبيعية لأجيال عدة. وقرضًا
يقدِّمه برنامج الأمم المتحدة للتنمية إلى صغار الفلاحين في قيرغيزستان، يُتيح لأولئك
الفلاحين فرصةً نادرة لبناء مستقبلهم وتحسين أحوالهم المادية. هنا نجد قصص النجاح الصغيرة
التي تفخر بها وكالات الأمم المتحدة، وهي تستحق الاستماع إليها، أكثر من قصص سوء الإدارة
وهدر الإمكانات.
١٤
ولكن تبقى حقيقة أن وكالات الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية لا تستطيع الردَّ على تهمتَين
كبيرتَين هما: (أولًا) لم تتوفر لها القدرة على مساعدة الفقراء الحقيقيِّين الذين يمثلون
بليون
نسمة من سكان العالم، رغم ما بذلته من جهود. و(ثانيًا) لم تلعب تلك الوكالات إلا دورًا
متواضعًا — إذا كان لها دورٌ فعلًا — فيما حدث من ارتفاع مستوى المعيشة لمئات الملايين
من
العائلات في العالم، وخاصة في آسيا. ومن الإنصاف أن نُقرَّ بأن الحالتين كانتا بمنأًى
عن قدرات
الوكالات الدولية التي لم يكن باستطاعتها التأثير على الأوضاع في الحالتين صعودًا أو
هبوطًا. ولعل وكالات الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية لا تستطيع سوى العمل في الأطراف فقط،
أو
في سياق معين تفضِّله على غيره من السياقات.
ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. فقد لقيَا الكثير
من جرَّاء
الدعوة إلى تغيير — أو حتى إلغاء — المؤسسات التي صنعَتها اتفاقية بريتون وودز، وذلك
عند
الاحتفال بالعيد الخمسين للمنظمة الدولية. وكان النقد العنيف للمنظمة يتم تحت شعار «خمسون
عامًا تكفي». ولكن هذا المطلب لم يكن مطلبًا عمليًّا، غير أنه — إضافة إلى ما أُثير في
التسعينيات — أدَّى إلى العودة إلى التفكير في إمعان النظر في أداء المنظمة الدولية،
والبحث عن
سبيلٍ لتحسين ذلك الأداء. وقد عاد التوءمان إلى مزاولة مهامها المستقلة: صندوق النقد
الدولي
يلعب دور الحارس والإطفائي الذي يعمل على إنقاذ البلاد الأعضاء في حالة تعرضها لأزمات
مالية، وركز البنك الدولي على المشروعات الطويلة الأجل لمساعدة البلاد الأشد فقرًا. ولكنَّ
استقلالَ كلٍّ منهما بمهامه لم يعنِ الانفصالَ التام؛ ففي كثير من الحالات كان عليهما
أن يعملَا
معًا، طالما كانت أيُّ أزمة اقتصادية أو اجتماعية تقع في دولة نامية، أو تلحق بأحد أسواق
الدول البارزة، تستدعي التدخل في ظل أسلوب رشيد لتقسيم العمل. وقد استمر الطرفان في التعرض
للتحديات الصعبة: فواجه صندوقُ النقد الدولي الأزمةَ المالية في أمريكا اللاتينية، وكان
عليه
تلبية حاجات جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، والأزمة المالية المفاجئة في شرقي آسيا
في
أواخر السبعينيات؛ وشغل البنك الدولي في الدعوة إلى تلبية المطالب المتزايدة للدول
الأفريقية، متعرضًا بذلك للتورط في أخطاء جعلَت نقَّاده يتابعون عملَهم بهمة ونشاط.
١٥ وعندما نُمعن النظر في تلك الأخطاء، نُدرك أن صندوق النقد الدولي لم يكن
باستطاعته أن يخرج منتصرًا وحده، فإذا قدَّم قرضًا كبيرًا لروسيا أو البرازيل — مثلًا
— وألزم
المتلقِّي بشروط البنوك فيما يتصل بذلك القرض، فقد يُنتقد لذلك ويُتَّهم بالتعنت، وإذا
لم يستجب
لطلب الدولة المتلقية اتُّهم بالعجز عن مواجهة الأزمة المالية العالمية. ولعل أفضل ما
يمكن
قوله إن العالم ربما كان أسوأ حالًا مما هو عليه اليوم لو لم يكن هناك صندوق للنقد الدولي،
وبنك دولي.
ويمكن أن تنسحب المقولة ذاتها على ما تحقق من تقدُّم في الحقل الخطير الخاص بترتيبات
التجارة الدولية، التي أثارت جدلًا وهجومًا فاق ما نالَته أيٌّ من المؤسسات الدولية التي
أقامَتها اتفاقية بريتون وودز. فقد جاء إنشاء منظمة التجارة الدولية (WTO) عام ١٩٩٥م بديلًا
للاتفاقية العامة للتجارة والرسوم الجمركية (GATT) في ختام المفاوضات الصعبة التي جرَت في
أوروجواي، جاء تحقيقًا لأملٍ طال انتظارُه لتحقيق فكرة إقامة منظمة دولية للتجارة، التي
طُرحَت
في بريتون وودز لتُشكِّل «الرِّجل الثالثة» التي تقف عليها الأمم المتحدة، وها هي المنظمة
الجديدة تقف مستقلة شأنها في ذلك شأن المجلس الاقتصادي والاجتماعي. وتزودت منظمة التجارة
الدولية (WTO) بأسنان أقوى من تلك التي كانت للجات، مما جعلها مؤسسة أكثر أهمية وإثارة
للجدل لأنها تلعب دور الشرطي الذي يراقب الالتزام بشروط التجارة الدولية دون تمييز، مما
شكَّل
تحدِّيًا للسياسات الحمائية للأغنياء والفقراء على السواء. كما تعاملَت مع مجموعات أكبر
من
السلع والخدمات، ولم يقتصر مجال عملها على المنتجات الصناعية وحدها. واستنفدت الكثير
من
طاقاتها في فضِّ المنازعات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فيما يتعلق بالدعم
الخفي،
والمعاملات التفضيلية للفلاحين، والرسوم الجمركية على الصلب، وغيرها من أمور لا تنال
المنظمة الشكر عليها، إذا أخذنا في الاعتبار ما تفعله الحكومات على الجانبين من حشدٍ
لمجموعات المصالح المحلية (اللوبي)، قبل أن تضطرَّ إلى التوصيل إلى حلول توفيقية على
طاولة
المفاوضات، غير أن التوافق والتراجع أفضل من التورط في انهيار كذلك الذي حدث في
الثلاثينيات.
ولكن أخطر ما أُثير من جدل حول منظمة التجارة الدولية (
WTO)، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة
والتنمية (
UNCTAD)، وما صدر عنهما من قرارات اتسمَت بالتحيُّز لقوانين السوق، أنهما فضلتَا
الانحياز للأقوياء ضد الضعفاء. وقد يبدو هذا الجدل مثل حوار الطرشان! فدعاة «تسوية أرض
الملعب» يرَون أن الإدارة الحكومية الجيدة، وتشجيع التجارة، كفيلة باجتذاب الاستثمارات
الأجنبية، وزيادة الدخل، وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، دون حاجة إلى المساس بقوانين
السوق، أو مَنْح مزايا خاصة. ولكن النقاد في الجنوب يجأرون بالشكوى من أن الكوكبة صِيغَت
آليتُها
للعمل ضد البلاد النامية، التي ليس لديها فرصٌ متاحة للتفاوض على اتفاقيات منظمة التجارة
الدولية (التي تجري وراء أبواب مغلقة)، وتعجز عن ضبط حركة رأس المال الوارد والصادر،
ولا
تستطيع الوقوف أمام الشركات الضخمة التي تتمتع بأسباب القوة التي لا قِبَل لها بها، وخاصة
أن
تلك البلاد تعتمد على قدر محدود من الصادرات. ويحتجُّ الليبراليون في الشمال على آليات
الكوكبة والتحديث باعتبارها تُمثِّل تهديدًا خطيرًا للثقافات وأنماط الحياة التقليدية
في
البلاد النامية، وتشكِّل تدميرًا للبيئة برًّا وبحرًا وجوًّا. ويخشى قادة النقابات العمالية
في الشمال من أن سوق العمل عندهم قد تفشل في التنافس مع إنتاج الشركات العاملة في الجنوب
الذي يحظى بتكلفة أقل كثيرًا من الإنتاج في أسواق الشمال.
١٦
وقد بددَت المظاهرات العنيفة التي وقعَت أمام الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة الدولية
المنعقد في مدينة سياتل أواخر عام ١٩٩٩م، الاعتقاد بأن هذه الانتقادات لا يجب أخذها
بالاعتبار. فقد ضمَّت تلك المظاهرات حشدًا هائلًا متنوعًا من المحتجِّين، ضمَّ أنصار
المحافظة على
البيئة، والعمال النقابيِّين، والفوضويِّين، ودُعاة حقوق الإنسان، وممثلي شعوب الجنوب،
بيَّنَت رفضَ
الملايين للتحول الذي شهدَته الثمانينيات والتسعينيات في إدارة الاقتصاد العالمي نحو
الليبرالية، ونظام السوق الحرة. ورأى النقاد في اتجاه البنك الدولي إلى التركيز على العمل
في البلاد الأشد فقرًا، وما اتسم به برنامج الأمم المتحدة للتنمية من أفكار حالمة لتقديم
برنامج شامل للتنمية، رأوا أن ذلك ما زال يمثل النظام الاقتصادي القديم متخفيًا في زيٍّ
جديدٍ.
ولم يطرأ أيُّ تغيير على العلاقات المتوترة بين المبادئ المثالية المتعلقة بالمساواة
التي
صيغَت في ميثاق الأمم المتحدة، وواقع الحال بما هو عليه من تفاوت هائل في توزيع الثروات،
والقوة، والنفوذ، في اقتصاد عالمي ظل على حاله عندما دخل المجتمع العالمي إلى القرن الحادي
والعشرين.
هنا نجد نماذجَ صارمةً حول الجهود المشتركة لتحسين أحوال البشرية؛ الفقر المدقع في
دارفور
وميانمار ومناطق أخرى من العالم، حتى إذا كان الملايين في بانجالور وشنغهاي يشقون طريقهم
إلى الالتحاق بصفوف الطبقة الوسطى. واستنادًا إلى الإحصاءات التي بين أيدينا، هناك ما
يتراوح بين البليون والبليونين من البشر (ثلث سكان العالم) ما زالوا يعيشون على دخل يقلُّ
عن
دولارين في اليوم الواحد، وتُعاني الكثير من بلاد العالم من سوء التغذية، وتلوث مياه
الشرب،
وغياب الخدمات الصحية والتعليمية، وتفاقم مشكلة البطالة. وتجتاح الأمراض والأوبئة، قديمها
وجديدها، مجتمعات كاملة. يدفع اليأس العديد من المجتمعات إلى تدمير البيئة، بما يترتب
على
ذلك من تدمير قوام الحياة الاقتصادية. ولعل الدول التي انهارَت في أفريقيا تقدِّم أبرز
دليل
على فشلنا في تقديم العون في الوقت المناسب في مواجهة الضغوط الديموغرافية والبيئية،
مما
عجل بانهيار تلك الدول، وما زال انهيار غيرها من الدول محتملًا. أما البلاد التي وجدت
نفسها
في الطريق إلى الخروج من ربقة الفقر في أمريكا اللاتينية في العقدين الأخيرين من القرن
العشرين، فقد اكتشفَت أن ما حققته كان هشًّا عندما عصفَت بهم رياح الأزمة المالية، وهرع
رأس
المال هاربًا إلى الخارج. وكان عليها اتباع إجراءات صارمة جديدة، وكأنها لم تعرف تلك
الإجراءات من قبل. وفي الشمال، تحسَّنت أحوال الاقتصاد في البلاد الاشتراكية السابقة،
ولكنها
ما زالت تُناضل من أجل البقاء في عالم تحتدم فيه المنافسة. وهناك الكثير من الجماعات
الاقتصادية والاجتماعية في البلاد الغنية ينتابها الشعور بالقلق من عدم ضمان فرص العمل
المتاحة، وما قد يأتي به المستقبل. وهذا ما قصدنا إليه عندما تحدَّثنا في بداية الفصل
عن سجل
خيبة الأمل. وحتى إذا كان قطاع عريض من البشر يعيش الآن حياةً أفضل مما كانت عليه الحال
عام
١٩٤٥م، فإن حجم السلبيات هائل، لا يترك مجالًا مناسبًا لتلقِّي التهاني. فما زال العمل
ناقصًا،
بل هامشيًّا على أحسن الفروض.