الفصل الخامس
الوجه الناعم لرسالة الأمم المتحدة
عادة ما ينظر إلى المهام العسكرية والاقتصادية التي حددها الميثاق للأمم المتحدة،
على
أنها تمثِّل الجسد «الصلب» للتعاون الدولي، فهي مهام ترمز إلى القوة، وتحقيق الأهداف،
والنزعة
العملية، في كل ما اتصل بعالم الإنسان. وعلى النقيض من ذلك، توصف الأجندات التي يُعالجها
هذا
الفصل بأنها تمثِّل الأهداف «الناعمة» للأمم المتحدة: الأجندات النسوية، المرأة والطفل،
الصحة
العامة العالمية، قضايا السكان، الحفاظ على البيئة، احترام وتشجيع التعددية الثقافية،
ورعاية الحريات الاجتماعية. وهذه كلها أمورٌ تُعدُّ أمورًا ثانوية من حيث الأهمية، وعلى
كلٍّ فليس
لدى الأمم المتحدة مجلسٌ قويٌّ كمجلس الأمن أو صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، حتى
تلتزمَ
الدول الأعضاء بالقرارات الخاصة بتلك القضايا. وبدلًا من ذلك لدى الأمم المتحدة هيئات
أقل
شهرة ونفوذًا، تحمل أسماءً مختلفة، يتداخل عملُها مع بعضه البعض (على نحو ما رأينا من
قبل)،
متواضعة النفوذ على الساحة الدولية، تتمثل في برامج الأمم المتحدة المختلفة، واللجان،
والصناديق، والإدارات التي اختصَّت بهذا النشاط. (ولعلها تمثِّل الوجه الناعم لرسالة
الأمم
المتحدة).
هذا الانطباع يصدق تمامًا من النظرة الأولى؛ فصندوق رعاية الطفولة (UNICEF) ليس كمجلس
الأمن، ولجنة الأمم المتحدة للسكان ليست كالبنك الدولي، وميزانيات تلك المؤسسات لا يمكن
أن
تُقارَن بميزانيات مايكروسوفت وإكسون، ولا يَصِل عددُ العاملين فيها إلى عدد أفراد شرطة
مدينة
شيكاغو. غير أن هذه الطرق التقليدية للقياس تعجز عن تقدير الطبيعة الثورية لهذه الأجندات
في
سياق تاريخ العالم، فهي لا تحتل مكانة ثانوية في مستقبل البشرية بحال من الأحوال.
وهناك ثلاثية للتحولات وراء هياكل الأمم المتحدة كلها، هي: الأمن، والرخاء، والتفاهم.
وقد
رأى صنَّاع الأمم المتحدة أن منْعَ الحروب والعدوان يحتاج إلى دعم الأمن بآليات عسكرية،
ونظام
فعال عن طريق مجلس الأمن. ولمنع الدول من الدخول في صراعات مدفوعة إلى ذلك باليأس، لا
بد أن
تكون هناك سياسات اقتصادية إيجابية وحيوية، تهدف إلى تحقيق التكامل التجاري والمالي.
ولكن
صناع النظام الدولي عام ١٩٤٥م لم يتوقَّفوا عند حدود الأدوات العسكرية والاقتصادية؛ فقد
أدركوا
أن عدم الاستقرار، والغيرة، والتطلعات القومية، والأعمال العدوانية تتأثر بالحزازات
الثقافية، والدينية، والعِرقية الشديدة. ولذلك حاولوا أن يُقيموا أدوات تعمل على إعلاء
التطلعات الاجتماعية والثقافية التي تضمنَتها صياغةُ النص الأصلي للميثاق. ولا بد من
تأكيد أن
السنوات الأولى من عمر الأمم المتحدة حفلَت بما يفوق حدود التطلعات، ولعل أهم نقطة هنا
هي أن
هذه المبادئ الرفيعة قد أعلنَت، وحظيَت بالقبول العام.
وقد تم الاتفاق — أيضًا — على مواقع معظم المؤسسات والوكالات التي أُنيطَ بها السعي
لتحقيق
هذه الأهداف، وكانت تمثِّل ساحة للعمل أثارَت اهتمامَ الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي
الاجتماعي.
١ ولما كان مجلس الأمن قد اختص نفسه بقضايا الحرب والسلام، وأخذت مؤسسات بريتون
وودز على عاتقها المهامَّ الاقتصادية والمالية، فقد رأت الجمعية العامة في الأجندات
الاجتماعية والثقافية المجال المناسب لتلعب فيه دور القيادة. وقد كانت تلك الأجندات موضوعَ
اهتمام الدول الأعضاء من اسكندنافيا وأمريكا اللاتينية، والدول النامية الحديثة العهد
بالاستقلال كالهند، لأنها ركزت — بصورة أو بأخرى — على «الشعوب التي لا تاريخ لها»، التي
ليس
لها نفوذٌ عسكري أو اقتصادي أو إعلامي، كما هو الحال بالنسبة إلى النخب التقليدية في
السلطة.
كما أن الدول الكبرى لا تُولي اهتمامًا لتلك الأجندات إلا إذا مسَّت مصالحها ومكانتها.
ولذلك
كان تركُّزُ الكثير من المقار الرئيسية للوكالات الخاصة بالأجندات «الناعمة» في جينيف،
وفيينا،
وباريس، وروما، وطوكيو، ونيروبي، أمرًا له مغزاه، إذا لاحظنا أن المؤسسات التي أقامَتها
اتفاقية بريتون وودز قد تركَّزت في واشنطون، وفي مقرِّ الأمم المتحدة بنيويورك.
وليست كلُّ الوكالات العاملة في حقول السياسات الاجتماعية والبيئية والثقافية تابعةً
للمجلس
الاقتصادي والاجتماعي؛ فالنظام — كما يلاحظ القارئ — لم يكن على هذه الدرجة من التحديد.
فعلى
سبيل المثال، عملَت منظمة الصحة العالمية مع غيرها من الوكالات، ولكنها ظلَّت منظمة ترتبط
بالحكومات؛ فالعضوية فيها للحكومات، وهي تختلف عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (
UNEP) الذي
أقامَته الجمعية العامة؛ ولذلك عليه أن يقدِّم تقاريره النصف السنوية إليها عبر المجلس
الاقتصادي
والاجتماعي. وكان على كلِّ وافدٍ جديد إلى هذا الميدان أن تتقطع أنفاسُه ويعاني الكلل،
حتى يقف
على هذا الكمِّ من التداخل بين الوكالات المختلفة والأجندات المشتركة، والصراعات بين
الوكالات
التابعة للمنظمة الدولية.
٢ فما العلاقة — مثلًا بين — «لجنة أوضاع المرأة» التي أقامها المجلس الاقتصادي
والاجتماعي، وصندوق الأمم المتحدة للمرأة، واللجنة التي أقامَتها الجمعية العامة «لجنة
تصفية
التمييز ضد المرأة»، والمعهد الذي أقامه المجلس الاقتصادي والاجتماعي «المعهد الدولي
للبحوث
والتدريب من أجل تقدُّم النساء»؟ لا شك أن انتقادات المحافظين لها ما يُبررها عندما يطالبون
بتنظيم تلك الوكالات المبعثرة المتداخلة الاختصاص في إطار واحد، تفاديًا لإهدار الإمكانات
والجهود.
وسوف نحاول تناول هذه القضايا في الصفحات التالية، ولكن من الواضح أن فصلًا واحدًا،
أو
حتى كتابًا كاملًا، عن سياسات الأمم المتحدة الاجتماعية والبيئية والثقافية يمكن أن يغوص
في
خضمِّ الأبجديات التي تضمُّ قاعدة طويلة من المؤسسات والوكالات، بدلًا من النظر إلى الظاهرة
نظرةً شاملة، فلا مكان في هذا الكتاب للحديث — مثلًا — عن مجموعة «خبراء الأمم المتحدة
في
الأسماء الجغرافية»، أو «الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة»، أو حتى «منظمة
السياحة العالمية»، أو تضييع الوقت بحثًا عن مقارِّ تلك الهيئات. وبدلًا من ذلك سوف نركز
على
المجموعات الكلية، وما اتصل بها من قضايا جذبَت اهتمام المنظمة الدولية: قضايا البيئة،
والقضايا الاجتماعية المتصلة بالصحة، وقضايا السكان، والمرأة، والطفولة، والشئون الثقافية
والفكرية. ومن المؤكد أن ثمة تداخلًا بين هذه القضايا والأجندات الاقتصادية التي عالجناها
في الفصل السابق وبينها، والأجندات الخاصة بحقوق الإنسان التي سوف نتناولها في الفصل
التالي، ولكن الموضوعات التي نعرض لها هنا قائمة بذاتها.
٣
كان أكثر ما حرصت عليه الدول الأعضاء عقب الحرب العالمية الثانية، إعادة بناء المجتمع
الدولي، ولم يكونوا قد واجهوا — بعدُ — الصراع بين الشرق والغرب. وإذا استرجعنا الأفكار
التي
دارَت حول تحويل هذا الحلم إلى حقيقة واقعة، ومعرفة كيف تبدَّدَت الأحلام أو حجمَت، فإننا
نواجه
بالطموحات والتفاؤلات التي سادَت في ذلك الوقت. ففي ١٩٤٥م كوَّنَت الأمم المتحدة «المنظمة
الدولية للتربية والعلوم والثقافة» (UNESCO) لتتولى تنفيذ أجندة ثقافية طموحة. وبعد ذلك
بعام واحد، أُقيمَت العديد من المؤسسات الأخرى منها تأسيس صندوق الأمم المتحدة لرعاية
الطفولة
(UNICEF) الذي كانت مهمتُه تقديم العون للأطفال في المجتمعات الأوروبية التي عانَت ويلاتِ
الحرب، ثم تولَّى فيما بعدُ تقديمَ خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية للطفولة في البلاد
النامية
مع الاحتفاظ بالتسمية نفسها. وقام المجلس الاقتصادي والاجتماعي — في العام نفسه — بتأسيس
«لجنة السكان والتنمية» لتوجه أول جهد يُبذل في هذا المجال، كما أسَّس «لجنة التنمية
الاجتماعية» لتقديم المشورة في هذا الميدان. وإضافة إلى ذلك أسَّس «لجنة أوضاع المرأة»
ثم
«لجنة مكافحة المخدرات» التي حظيَت بأهمية كبرى، فاقَت الكثيرَ من المؤسسات الأخرى (وقد
اهتمَّت
الأمم المتحدة بقضية المخدرات اهتمامًا يعادل الاهتمام بنزع السلاح والتفتيش على
الأسلحة).
وقد جاورت هذه المؤسسات والوكالات غيرها من الوكالات المتخصصة، في المقار التي تجاورَت
في
نفس شوارع باريس وجينيف وروما وفيينا، وكذلك في مانهاتن بالقرب من إيست ريفر. وكما لاحظنا
من قبل، كانت بعض الوكالات قديمة قِدَم عصبة الأمم، مثل «منظمة العمل الدولية»، و«اتحاد
البريد الدولي». ولكن دول العالم كانت تُقيم مؤسسات حكومية أخرى مستقلة في الوقت نفسه،
كما
سمحت الجمعية العامة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي بإقامة بعضها الآخر. وكما رأينا، أسست
«منظمة الصحة العالمية» عام ١٩٤٦م، وأعلنَت أن هدفها «الارتقاء بالمستوى الصحي لجميع
الشعوب».
وتُشاركها في الأهمية «المنظمة الدولية للأغذية والزراعة» التي كان عليها التصدي لمشكلات
المجاعات والعناية بالزراعة على مستوى العالم، والتي جاء تأسيسها عام ١٩٤٥م. وكذلك، اعتبرت
المؤسسات التي شُكِّلت باتفاق الحكومات من المؤسسات التابعة للجمعية العامة، ولكنها لم
تكن ذات
بال عندئذٍ. كانت تلك الأيام حافلة بالبناء، وليس من الغريب أن نجد الكثير من الأفراد
الذين
خرجوا من غمار الحرب، وهبوا أنفسهم للعمل في المؤسسات الدولية من باب الالتزام بتحقيق
عالم
أفضل في ظل السلام. وأصبح القليل منهم من أبرز العاملين بالأمم المتحدة مثل المظلي
البريطاني برايان أورقهارت
Brian Urquhart المتخصص الكبير في اقتصاديات التنمية، ومن جزر
الهند الغربية جاء آرثر لويس
W. Arthur Lewis، والدبلوماسي الأمريكي الأسود الشهير رالف
بانش
Ralph Bunche، وخبير القانون الدولي الفرنسي المتنفذ رينيه كاسان
Rene Cassin، وأسماء
هؤلاء جميعًا تَرِد في نصِّ هذا الكتاب. ويذكر أورقهارت في مذكراته: «كنَّا جميعًا متفائلين،
ننظر
إلى المشكلات الطارئة، وإلى من سموا بالواقعيِّين نظرة الطمأنينة والرضا».
٤
وعلى كلٍّ، ما لبث إيقاع تنفيذ سياسات الأمم المتحدة الاجتماعية والثقافية أن غلب
عليه
البطء؛ لأن العديد من المجالات الأخرى نالَت أولوية الاهتمام. ومن الواضح أن الحرب الباردة
أضرَّت بتلك الآمال الباكرة. وكان من الصعب أن ينال الحفاظ على التعددية الثقافية اهتمامًا
في
جوٍّ خيَّمَت عليه سحُبُ أزمات برلين، وكوريا، والسويس، والمجر. وقد اتجهت معظمُ موارد
الأمم
المتحدة وأنشطة وكالاتها المتخصصة إلى إعمار البلاد التي عانَت من ويلات الحرب في أوروبا،
ودعم اقتصادها. وعندما أوشكَت هذه العملية على الانتهاء، واجهَت الأمم المتحدة المشاكل
الضاغطة والملحَّة التي نجمَت عن تصفية الاستعمار وزيادة حجم عضويتها، وتحوَّل الاهتمام
إلى
تلبية حاجات التنمية الاقتصادية على نحو ما رأينا في الفصل السابق. ونظرًا لما شاع من
افتراض عدم استطاعة تحقيق الكثير في المجالات الاجتماعية والثقافية دون تحقيق النمو
الاقتصادي والرخاء، احتلَّت هذه المجالات «الناعمة» المرتبة الثانية من الاهتمام.
ولعل أهمَّ إنجاز عملي حققَته الأمم المتحدة في سنِيها الأولى — موازٍ لقصة الوكالات
الاقتصادية — هو العمل الذي قامَت به بعضُ المؤسسات المتواضعة التابعة لها مثل اللجنة
الإحصائية ومجموعة المستشارين الاقتصاديِّين والعلميِّين. فقد أعلنَت أممُ العالم في
ميثاق الأمم
المتحدة — لأول مرة في التاريخ — أنها قد عقدَت النية على النهوض بالبشرية جمعاء، ولكن
ذلك لا
يمكن تحقيقه دون الوقوف على الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والسكانية. وأحسَّ صناع الأمم
المتحدة أنهم يتحركون في الظلام وسط ما خلَّفته الحرب العالمية الثانية من دمار؛ لذلك
أنشأ
المجلس الاقتصادي والاجتماعي عام ١٩٤٦م «اللجنة الإحصائية». وقد تبدو أعمال مثل هذه
الإحصاءات، ودراسة الحد المناسب لمستوى المعيشة، وقياس النمو السكاني ومعدلات الخصوبة،
ودراسة خسائر النبات أو التغيرات المناخية، قد تبدو مثل هذه الأعمال ذات طابع علمي بحت،
ولكنها تقدِّم المادة التي تستند إليها القراراتُ الأساسية الدولية والقوانين الدولية،
وخاصة
ما تعلَّق منها بالبلاد النامية. وفي عام ١٩٧١م أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي أمرًا
إلى
اللجنة الإحصائية أن «تُولي اهتمامًا خاصًّا لدراسة وتقييم التقدم الاقتصادي والاجتماعي،
على
أن تأخذ في اعتبارها احتياجات الدول النامية». ويخدم ذلك الاتجاه الذي تسعى الجمعية العامة
والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، والمؤسسات المعاونة لهما والوكالات المتخصصة إلى التوجه
إليه.
ويمكن ملاحظة التغير في الأولويات من إعمار بلاد أوروبا التي مزَّقَتها الحرب إلى
معاونة
التنمية الاجتماعية في الجنوب، في تشكيل مؤسسات الأمم المتحدة ذاتها. فقد ترتب على الزيادة
الكبيرة في عدد الدول الأعضاء اتساع العضوية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي من ١٨ عضوًا
في
١٩٤٥م إلى ٢٧ عضوًا في ١٩٦٣م إلى ٤٤ عضوًا في ١٩٧١م. وزادت عضوية «لجنة التنمية الاجتماعية»
التي أنشأها المجلس من ١٨ عضوًا عام ١٩٤٦م إلى ٢١ عضوًا عام ١٩٦١م إلى ٣٢ عضوًا عام ١٩٦٦م.
ومع
تزايد التوجس من تجارة المخدرات على مستوى العالم، فقد قفز عددُ أعضاء لجنة المخدرات
من ١٥
عضوًا عند تأسيسها عام ١٩٤٦م، إلى ٥٣ عضوًا عام ١٩٩١م. وفي معظم الحالات كان توسيع العضوية
يتم على أساس «التمثيل الجغرافي»، أي أن الأعضاء في تلك اللجان مثَّلوا أفريقيا وآسيا
وأمريكا
اللاتينية وأستراليا وما حولها. ولم تَعُد هناك إشارة إلى الحاجة إلى الخبرة والكفاءة
إلا
نادرًا، فمَن يستطيع قياس مستوى قدرات مَن تُعينهم دولهم في تلك اللجان استنادًا إلى
مثل هذه
المعايير؟
وكان المغزى السياسي لذلك واضحًا؛ إذ أصبحت الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي
واللجان والمؤسسات التابعة لهما، وحتى الوكالات المتخصصة أكثر ديمقراطية في تشكيلها،
وربما
كانت أحسنَ تنظيمًا أيضًا، فهي — على أقل تقدير — تضمُّ ممثلين لسكان العالم كله. لذلك
طالبت
بنظام اجتماعي اقتصادي جديد، وأحسَّ العاملون بها أنهم يتقدمون إلى الأمام رغم أن مجلس
الأمن
والمؤسسات التي أقامَتها اتفاقية بريتون وودز ظلَّت علاقات القوى فيها على ما كانت عليه
عام
١٩٤٥م. ومثَّل ذلك مأزقًا يؤدي إلى إحباط الرؤى التي عبَّر عنها أولئك الذين دعَوا إلى
الإصلاح
الاجتماعي والبيئي والثقافي في السنوات الأولى من عُمْر المنظمة الدولية، ومَن تطلَّعوا
إلى
تحقيق ذلك في العقود الأخيرة من القرن العشرين.
ولم يجد مَن أداروا الوكالات الاجتماعية والثقافية في السنوات العشر الأولى متسعًا
من
الوقت للتفكير في هذا المأزق، لكثرة الأمور التي كان عليهم معالجتها. وكما يذكر أحد
المؤلفين، عندما تمَّ التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة «تقرر ترشيد استهلاك الخبز، والحليب،
واللحوم، والسكر، والشحوم والزيوت في الكثير من البلاد، كما كان هناك نقصٌ حادٌّ في المواد
الغذائية الضرورية، وتجاوز الطلب على الفحم والحديد والخشب والطاقة الكهربية العرضَ المتاح
منها. ودُمِّرت أعدادٌ لا يمكن حصرها من البيوت في أوروبا وآسيا وأصبحت غير صالحة للسكن،
وما
تبقَّى من المساكن التي كانت في حالٍ يُرثَى لها قبل الحرب، اكتظَّت بالسكان في المدن
الكبرى.
وأصبحت هناك أعدادٌ هائلة من اللاجئين لا تستطيع العودة إلى أوطانها، واحتاجَت السكك
الحديدية
والطرق والجسور والموانئ والمصانع إلى الإصلاح أو إعادة البناء. وتقطَّعت شبكة التجارة
الدولية ووسائل الدفع التي كانت قائمةً قبل الحرب. كان هناك كمٌّ هائلٌ من المشكلات التي
تحتاج
علاجًا على المدى البعيد أو القريب.»
٥ وقد أدَّت مشكلة اللاجئين وحدها إلى بعثرة الموارد المحدودة للأمم المتحدة؛ فقد
انضم إلى الملايين الثمانية من اللاجئين في أوروبا عددٌ مماثل لهم ممن طُردوا من الشرق
على يد
القوقاز والأوكرانيِّين الذين حاولوا تفادي انتقام السوفييت، واليهود الذين حاولوا الذهاب
إلى
فلسطين. وكان هناك ملايين أخرى من البشر يُعانون سوءَ التغذية والبطالة، يتطلعون إلى
الهجرة
إلى «العالم الجديد» عندما تسنح لهم فرصة لذلك.
وهكذا، جاء إنشاء العديد من وكالات الأمم المتحدة، استجابةً مباشرة للمآسي الإنسانية
التي
خلَّفتها الحرب، ولم يأتِ نتاجًا للتفاوض والتخطيط الهادئ عند سفوح تلال بريتون وودز
الباردة.
فوكالة إغاثة اللاجئين (UNRRA)، وصندوق رعاية الطفولة (UNICEF)، ومنظمة الأغذية والزراعة
(FAO) نزلت إلى ميدان العمل مباشرة. وكان من المتوقع أن تختفيَ تلك الوكالات بعد انتهاء حالة
الطوارئ التي خلَّفتها الحرب، رغم أن الظروف لم تسمح لها بذلك. وكما رأينا ظل صندوق رعاية
الطفولة يحمل كلمة «طوارئ Emergency» في اسمه، بينما تحوَّلَت وكالة إغاثة اللاجئين إلى
المنظمة الدولية للاجئين (IRO) ثم أصبحَت عام ١٩٥١م «المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون
اللاجئين» بعد إنقاص الكثير من الصلاحيات التي كانت (IRO) تتمتع بها، ويعود ذلك على الحرب
الباردة وما نجم عنها من قلة الاهتمام بالأهداف الإنسانية في ميثاق الأمم المتحدة. فقد
أصر
السوفييت على أن تقتصر رعايةُ اللاجئين من خلال المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون
اللاجئين (UNHCR) على أولئك الذين فروا من البلاد الفاشية، ولم يُبدِ الاتحاد السوفييتي
اهتمامًا بمنظمة الأغذية والزراعة (FAO) لأنها تقع تحت هيمنة الولايات المتحدة، ورأى في
منظمة التربية والعلوم والثقافة (UNESCO) ميدانًا للصراع الأيديولوجي. وكان من الطبيعي أن
تحذوَ دول حلف وارسو حذوَ الاتحاد السوفييتي؛ فقد تمسكَت بالاشتراكية العلمية ورأت فيها
السبيل
الأمثل لتلبية حاجات الشعوب كبديل للمادية الرأسمالية.
ولكن الإحباط الأكبر جاء في تكرار حدوث المآسي الإنسانية التي خلَّفَتها الحرب من
حيث
اللاجئين، في بلاد أخرى خارج أوروبا. فقد حققت أوروبا في السنوات العشر التي أعقبَت الحرب
انتعاشًا اقتصاديًّا، وتقدُّمًا في التنمية الاجتماعية، ولكن الكوارث بدأت تتراكم في
مناطق
أخرى من العالم. فقد أدَّى تقسيم الهند، وما تَبِعه من «آلام مخاض ولادة» الهند وباكستان
عام
١٩٤٧م إلى نزوح تسعة ملايين مسلم من الهند، وخمسة ملايين هندوسي من باكستان، ونتج عن
الحرب
الكورية نزوح أربعة ملايين ونصف المليون لاجئ إلى كوريا الجنوبية. وكان اللاجئون في تلك
الحالات — على الأقل — يلقَون رعاية أهل بلادهم؛ ولذلك كانت هناك فرصٌ معقولة لاستيعابهم
وجمْع
شملِ الكثير من العائلات، كما كانت الحال بالنسبة إلى اللاجئين من ألمانيا الشرقية، الذين
تم
استيعابهم في الجمهورية الفيدرالية.
ولكن الأمر كان مختلفًا بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين نزحوا أو طردوا عبر الحدود
الخاصة
بالدولة التي أُنشئت حديثًا عام ١٩٤٨م (إسرائيل)، واتجه اللاجئون — بصفة رئيسية — إلى
الأردن.
وكانت حالتهم بائسة مزرية، وأدى وجودهم بالأردن إلى تدهور مستوى المعيشة، وتفشِّي الأمراض،
مما جعل الجمعية العامة تضطر (خلال عام آخر) إلى إنشاء «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في
الشرق الأدنى».
٦ ومع تحسُّن الأحوال في أوروبا، ظنَّ مخططو الأمم المتحدة أنهم يتعاملون مع مشكلة
مؤقتة؛ فالوثائق تُشير بقدر من التفاؤل إلى حقِّ اللاجئين في العودة إلى ممتلكاتهم (أو
تعويضهم
عنها)، أو عن مشاريع إعادة توطين اللاجئين واستيعابهم في البلاد التي نزحوا إليها. ولكن
وضعَت الدول المضيفة العقبات في طريق العاملين بوكالة الإغاثة (
UNRWA) ومقاومتهم لبرامج
التوطين (مفضلين بقاء اللاجئين الفلسطينيِّين في معسكرات الإيواء)، لا يوازيها سوى رفض
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة فكرةَ عودةِ العرب إلى أراضيهم. ومع ازدياد عدد اللاجئين
بعد
هزيمة العرب في حرب ١٩٦٧م، والانفجار السكاني في معسكرات اللاجئين، أصبحت «وكالة غوث
وتشغيل
اللاجئين (
UNRWA)» تقدِّم الخدمات الأساسية لثلاثة ملايين لاجئ عام ١٩٩٤م، ولم تجد الجمعية
العامة مفرًّا من تجديد مهمة الوكالة كل بضع سنوات، دون أن تلوحَ في الأفق بارقةُ أمل
في
انتهاء مهمتها. هذا العجز عن معالجة مشكلة ضحايا الحروب البائسين سوف يتكرر، خاصة في
أفريقيا وآسيا والبلقان.
وفي منتصف الخمسينيات، قام الباحثون بمؤسسة بروكنجز بواشنطون بإنتاج دراسة كبيرة مشتركة
بعنوان: «الأمم المتحدة والتعاون الاقتصادي والاجتماعي»، وهي بمثابة كشف حساب عمَّا تم
إنجازه
في هذه الميادين خلال السنوات العشر الأولى من عمر المنظمة الدولية، وما لم يتم إنجازه
منها، وكانت النتائج التي توصَّلَت إليها الدراسة هامة، ولكنها لا تبعث على الدهشة. فقد
حقق
التقدم الاجتماعي والاقتصادي معدلات طيبة في بعض أنحاء العالم (أوروبا) خلال ذلك العقد
من
الزمان، وحقق بعض النتائج المتواضعة في مناطق أخرى (أمريكا اللاتينية)، ونتائج محبطة
(في
آسيا). ونظرًا لوجود الاستعمار — عندئذٍ — في أفريقيا، نادرًا ما نجد لها ذكْرًا في
الدراسة.
ولاحظَت الدراسة وجودَ حالة من الاضطراب بين نوعَين أو أكثر من التوجهات. فعلى سبيل
المثال،
حقَّقَت البرامج والوكالات المتخصصة ذات الطابع التقني تقدُّمًا أكثر من غيرها من المؤسسات
التي
تأثَّرت بالسياسة، ولكن إذا تمسكَت تلك الوكالات بأصول العمل التقني فقد تضرُّ بمصالح
الساسة
(الذين يمولون الوكالات). واتجهت الفلسفات الاقتصادية — على اختلافها — ضد التطلعات العالمية
لميثاق الأمم المتحدة. فقد بقيَت الكتلة السوفييتية بعيدًا، وكان هناك اختلافٌ كبير بين
الدول
الأوروبية التي تفضِّل اضطلاع الحكومات بدور أكبر، والشكوك الأمريكية في هذا التوجه.
وبعض
البرامج وجدَت صعوبة في اختيار الأهداف الرئيسية التي تسعى لتحقيقها (مثل تحسين مستوى
التغذية للجميع)، أو إلى مساعدة الضحايا (اللاجئين والأطفال)، مع عدم توفُّر الموارد
المالية
الكافية لتلبيةِ كلِّ الحاجات. وبعض ما كان يحتاج إلى برنامج قصير الأجل (
UNICEF-UNRWA) تحوَّل
إلى برنامج طويل الأجل، بل احتاج إلى إعادة النظر. واعتبرت منظمة التربية والعلوم الثقافية
(
UNESCO) مفرطة في تطلعاتها مهدرة لطاقتها. وفي الختام، رأت دراسة بروكنجز أن سجل الأمم
المتحدة في هذا المجال «ترك الكثير من الأمور المأمول فيها»، ولكن ما تم تحقيقه في ذلك
العقد من الزمان «يضع حجر الأساس للتفاؤل النوعي حول المستقبل»، إذا أخذنا في الاعتبار
حالات النزوح غير العادية التي خلَّفَتها الحرب، والصراعات الإقليمية، وما يترتب على
الصراع
بين الشرق والغرب من شلل لحركة المؤسسات. ولم يكن ذلك التناول الحذر لتاريخ الأمم المتحدة
فريدًا في بابه.
٧
وأهم اتجاه رصدَته تلك الدراسة حول الكيفية التي أصبحَت بها «المشاكل الخاصة بالدول
المتخلفة تمثِّل رصيدًا يوفر مجال العمل لبرامج الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية»
حتى في
ذلك الوقت المبكر (١٩٥٥م). فقد شهدَت السنوات الأولى من عمر المنظمة الدولية بعضَ الاهتمام
بقضايا البلاد الخاضعة للاستعمار والبلاد الفقيرة؛ فقد اهتمت منظمة العمل الدولية (ILO)
بأحوال العمل والعمال في تلك البلاد منذ حقبة ما بين الحربين العالميتين. ودفعَت أزمة
النقص
في الغذاء (١٩٤٨–١٩٤٥م) منظمةَ الأغذية والزراعة (FAO) إلى تقديم العون للدول غير الغربية
عشيةَ تأسيس المنظمة. ولكن حدَث تحوُّلٌ كبيرٌ في الاهتمام من الخمسينيات فصاعدًا، ويرجع
ذلك إلى
حركة تصفية الاستعمار المتصاعدة من ناحية، ووفرة المادة الإحصائية التي تكشف عن أبعاد
المشكلات الاجتماعية لأول مرة (الفقر — سوء التغذية — الانفجار السكاني) من ناحية أخرى.
وأخيرًا، كانت الحرب الباردة ذاتها تشهد اتساعًا خارج حدود أوروبا، وتنافس الشرق والغرب
على
اجتذاب تأييد البارزين من القادة الإقليميِّين في بلادٍ كالهند، ومصر، والبرازيل،
وغيرها.
ولم تكن الأجندات الاجتماعية والثقافية للأمم المتحدة بمعزل أبدًا عن حقائق الأوضاع
السياسية والاقتصادية الدولية، بل تفاعلَت معها وتأثرَت بها. وعلى ضوءِ تنامِي الحركات
الداعية
للتغيير السياسي في الستينيات والسبعينيات، اضطرَّت الأمم المتحدة إلى إدخال بعض التعديلات
على أجنداتها الاجتماعية، عكسَتها تلك السلسلة من المؤتمرات الطموحة التي عقدَتها الأمم
المتحدة، كان في طليعتها مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية الذي عُقد في استوكهولم
عام
١٩٧٢م. وتلا ذلك ردُّ الفعل الذي نجده في المرحلة التالية التي استمرت طوال الثمانينيات،
وتأثرت بإحياء اقتصاديات السوق الحرة. والنزعة المحافظة في الكثير من البلاد المتقدمة
وخاصة
الولايات المتحدة الأمريكية. واستمر تنظيم مؤتمرات الأمم المتحدة، ولكن خيَّمَت على اجتماعاتها
سحُبُ العسر المالي، والنظرة التشاؤمية إلى دوافعها، وخيبة الآمال في نتائجها. أما المرحلة
الثالثة، فقد صاحبها انتهاءُ الحرب الباردة بعد العام ١٩٨٩م، وانتشار الاعتقاد بالحاجة
إلى
تجديد الجهود الرامية إلى مواجهة التحديات الاجتماعية والبيئية المتزايدة التي يواجهها
العالم. وأدَّى ذلك إلى زيادة هائلة في الانتباه إلى هذه التحديات، وعقد مؤتمرات دولية
هامة
في التسعينيات التي تراجعت — بدورها — تدريجيًّا بسبب الإجهاد من ناحية (حيث من الصعب
عقد
مؤتمر دولي كبير كل عام)، ونقص الإمكانات المادية (وهي المشكلة الدائمة) من ناحية
أخرى.
ولتفادي تحوُّل تلك الجهود إلى مجردِ سجلٍّ لمؤتمرات الأمم المتحدة — وقد رصد
Michael Schechter ٣٢ مؤتمرًا منها بين ١٩٧٢ و١٩٩٦م — سوف نركز هنا على المجالات الثلاثة التي قمنا
بتحديدها من قبل، وهي: (أولًا) قضايا البيئة، و(ثانيًا) القضايا الاجتماعية المتعلقة
بالصحة
والمرأة والطفولة، و(ثالثًا) الشئون الثقافية والعلمية.
٨
ويتصل بذلك بعضُ الملاحظات العامة التي نُوردها هنا. أولًا، كانت الغالبية العظمى
من
مؤتمرات الأجندة «الناعمة» تتعلق بقضايا الجنوب في الوقت نفسه، باستثناء مؤتمر حقوق الإنسان
الذي عُقد بفيينا عام ١٩٩٣م، والمؤتمرات القليلة الأولى حول حقوق المرأة، وبعض المؤتمرات
المتعلقة بقانون البحار، بعض المؤتمرات كانت تختصُّ تمامًا بالجنوب، مثل مؤتمرَي الأمم
المتحدة
في باريس (١٩٨١–١٩٩٠م) حول البلاد الأقل نموًّا، والبعض الآخر من المؤتمرات كان دوليًّا
ولكنه ركَّز على قضايا الجنوب، مثل المؤتمر الدولي عن دور العلم والتكنولوجيا في التنمية
(فيينا ١٩٧٩م)، وغلب على تلك المؤتمرات التحمُّس لتطلعات الجنوب وتأييدها، وخاصة دول
الشمال
المعنية بذلك مثل البلاد الاسكندنافية، وهولندا، وكندا، وبعض الدول الأخرى. وقد حرصَت
تلك
المؤتمرات على الابتعاد عن أراضي الدول الكبرى. فلم يجتمع أيٌّ منها في لندن أو في موسكو
أو
في بكين (حتى عام ١٩٩٥م عندما عُقد مؤتمر المرأة هناك)، والمؤتمر الوحيد الذي عُقد بمدينة
نيويورك كان يتعلق بموضوع يحمل ملامح «الشدة» هو مؤتمر نزع السلاح والتنمية عام ١٩٨٧م،
إضافة
إلى القمة الدولية للطفولة عام ١٩٩٠م. وكانت باريس تمثِّل استثناء هنا؛ لأنها كانت مقرًّا
للعديد من وكالات الأمم المتحدة، وللأمانة التحضيرية للمؤتمرات (وربما يرجع ذلك — أيضًا
—
إلى ميل أعضاء الوفود إلى زيارة باريس). وما نستخلصه من البيانات الصادرة عن تلك المؤتمرات
أن معظم بلاد الجنوب ودول الشمال المعنية بقضاياه، فضَّلَت تمامًا العملَ فيما بين الحكومات،
واستخدام الهياكل الحكومية، بينما كانت الوفود الممثلة للحكومات الأكثر محافظة تُبدي
قلقها
من هذا الاتجاه أو تُعارضه تمامًا، بحكم معارضتها لاضطلاع الحكومة بدور واسع في
بلادها.
والظاهرة العامة الثانية لمؤتمرات الأمم المتحدة هي الطابع الشعبي الذي اتسمَت به،
فلم
تعقد اجتماعات سرية إلا نادرًا، على نحو ما درج عليه مجلس الأمن والوكالات المعنية بالمال
والتجارة، بل عقدَت تلك المؤتمرات علنًا، وتحت نظر وسائل الإعلام. وفي مؤتمر الأمم المتحدة
الخاص بالبيئة والتنمية — «قمة الأرض» المنعقدة في ريو عام ١٩٩٢م — غطَّت قناة CNN الفضائية
جميع فعاليات المؤتمر، وكذلك فعلَت وكالات الأنباء، والصحافة الدولية، وحضر المؤتمر ما
لا
يقل عن ١٠٨ من رؤساء الدول والحكومات لإلقاء كلمات أمام المؤتمر، مما يعني أن ريو كانت
المكان المناسب لمثل هذا المؤتمر. ولكن من اللافت للنظر حضور ٢٤٠٠ ممثل لأكثر من ٦٥٠
منظمة
غير حكومية، كما شارك سبعة عشر ألفًا في أنشطة منتدى المنظمات غير الحكومية، وكذلك حضره
ممثلون للمؤسسات الخيرية الليبرالية الأمريكية الكبرى (فورد — روكفلر — ماك آرثر — بيو
–
كارنيجي) التي قدَّمت الدعم المالي لورش العمل، والمجموعات البحثية، والمطبوعات الخاصة
بالمؤتمر. وسوف نعرض لهذه الظاهرة في الفصل السابع من هذا الكتاب، ولكننا لا نستطيع الكتابة
عن الأجندات الثقافية والاجتماعية للأمم المتحدة دون أن يلفتَ أنظارنا هذا التطور.
ثالثًا، ركَّزت المؤتمرات الدولية بقوة على عملية «المتابعة». فلم يكن باستطاعة أمانة
المؤتمرات العمل قبل انعقادِ كلِّ مؤتمر بعام كامل وأحيانًا عدة أعوام، إذا كانت تلك
المؤتمرات
لا تتوصل إلى نتائج جادة في نهاية اجتماعاتها. ولذلك، ختمَت المؤتمرات أعمالَها بإعلان
بيانات
محددة، أدَّى الكثيرُ منها إلى إبرام اتفاقات جديدة، وأعقب بعضها إقامة مؤسسة لمراقبة
تنفيذ
الاتفاقات ومساعدة الدول على تنفيذها. وعلى سبيل المثال، أدَّى المؤتمر العالمي للغذاء
المنعقد في روما عام ١٩٧٤م إلى التأسيس الفوري لمجلس الغذاء العالمي (WFC)، والصندوق الدولي
للتنمية الزراعية (IFAD) بينما أدَّى المؤتمر الدولي للمرأة المنعقد بمدينة مكسيكو عام ١٩٧٥م
إلى إنشاء صندوق الأمم المتحدة للتنمية النسوية (UFINEM)، والمعهد الدولي للبحث والتدريب
للنهوض بالمرأة (INSTRAW)، وإعلان الأمم المتحدة عن «عقد المرأة»، وما اتخذَته الجمعية
العامة بعد ذلك بسنوات قلائل من قرار إبرام اتفاق إنهاء كل أشكال التمييز ضد المرأة.
وكثيرًا ما صوتَت الوفود المشاركة في المؤتمر الدولي حول إجراء تقييم فيما بين انعقاد
مؤتمر
وآخر، أو كل خمس سنوات، لكيفية تنفيذ القرارات الصادرة عن المؤتمر والالتزام بها، وطالبَت
المؤسسات التي تم إنشاؤها بتقديم تقارير سنوية عن نشاطها.
ومن السهل أن نرى عكس ذلك من كبوات وثغرات في التشريع الدولي، وتنظيم المؤتمرات، ونظام
العمل بها، وإنشاء الوكالات تنفيذًا لقراراتها. وهي تجعل نظام الأمم المتحدة أكثرَ تعقيدًا
وتداخلًا، رغم ندرة قيامه بتدبير الموارد المالية الإضافية لزيادة العمالة بالمنظمة
الدولية، ما لم تُبدِ إحدى الدول الغنية رغبةً في دعم مؤسسة أو وكالة جديدة على نحو ما
فعلت
اليابان مع «جامعة الأمم المتحدة» التي اتخذَت من طوكيو مقرًّا لها. ونادرًا ما خضعَت
الوكالات نفسها لرقابة خارجية، ونادرًا ما خضع العاملون فيها لقواعد صارمة للتعيين في
وظائفهم أو الاستغناء عن خدماتهم. ولم يُثقل العملُ كاهلَ الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي
والاجتماعي ولجانه المختلفة القديمة والحديثة على السواء وحدها، ولكن المطالب الكثيرة
لاحقَت
الإدارات المدنية في حكومات الدول الأعضاء لتقديم البيانات والإحصاءات، وكتابة التقارير،
ومراقبة تنفيذ المعاهدات والتشريعات المتصلة بها. وليس باستطاعة الدول الفقيرة أو تلك
التي
تُعاني ويلات الحروب أن تلبِّيَ تلك المطالب، بينما ازدادَت الدول العظمى ضيقًا بتلك
المؤسسات
الجديدة التي تتداخل مجالات عملها، وتفرِّط في الطموح والتطلعات، وهو مشهدٌ هيَّأ للمحافظين
الشكوى خلال الثمانينيات والتسعينيات من أن الكثير من نشاط الأمم المتحدة يعدُّ إهدارًا
للأموال دون طائل. ورغم أن هذا العداء الموجَّه إلى «البيروقراطيات المتورمة» لا يخلو
من
المبالغة، فقد كان يقترب — أحيانًا — من الحد الذي لا يستطيع الليبراليون المدافعون عن
المنظمة الدولية القبولَ به.
وأخيرًا، كانت هناك تلك القضية الخادعة الخاصة «بالإلزام» في مواجهة «السيادة الوطنية»،
التي تَعْني استخدامَ الاتفاقيات الدولية، ورقابة الوكالات التابعة للأمم المتحدة، للتأكد
من
تنفيذ الدول الأعضاء للقرارات التي ترَى فيها مساسًا بسيادتها الوطنية أو تتعارض مع مصالحها
الوطنية. وليس في ذلك ما يُثير الدهشة، فإذا كانت الدول تشعر بالحساسية تجاه تدخُّل الأمم
المتحدة في الأمور التي تمسُّ حاجاتِها الأمنية، فإن عليهم أن يتحسبوا للاتفاقات التي
تؤثر على
الاقتصاد والأحوال الاجتماعية والثقافية، والمجالات الخاصة بالحفاظ على البيئة وحقوق
الإنسان. وقد رأينا ذلك في حقل الاقتصاد في صورة الاعتراضات الشديدة على مؤتمر الأمم
المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، وعلى الدور الذي تلعبه مؤسسات بريتون وودز، عندما شهدت
السبعينيات ضغوطَ الدول المتقدمة في الشمال لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد، وهي الضغوط
التي
أدَّت إلى ردِّ فعلٍ شهدَته الثمانينيات من جانبِ بعضِ الدول الصناعية الغنية. ولكن رد
الفعل ذاك
كان متوقعًا عندما صوتَت مؤتمرات الأمم المتحدة لصالح «أهداف الإلزام» فيما يتعلق بالتطلعات
الدولية، والمستويات الطموحة للتدفق السنوي للمساهمات من الشمال إلى الجنوب في صورة معونات
التنمية. وربما تناقص غضبُ الليبراليين والمحافظين إذا انخفضَت نبراتُ المواجهة، ومن
المؤكد أن
القائمين على تنظيم تلك المؤتمرات بذلوا قصارى جهودهم لتفادي انهيار تلك المؤتمرات أو
الانسحاب منها. وربما كانت تلك الخلافات لا فكاكَ منها طالما تعلَّقَت بخلافات أيديولوجية
وتوترات سياسية. ولا شك أنها كشفَت عن صعوبةِ تحويلِ الكلمات البليغة البرَّاقة التي
صِيغَ بها
الميثاق إلى واقعٍ عمليٍّ في عالمٍ يضمُّ ١٩٠ دولة مستقلة ذات سيادة، تتسع فيه الفجوة
بين
الأغنياء والفقراء اتساعًا هائلًا.
أما الاتفاقات والسياسات الخاصة بالبيئة فتمثِّل أجندة متأخرة في هذه القصة، ولكن
تطورها
على المدى القصير يُعطينا فكرةً عن عملية الحشد من أجل تحقيق الأهداف المشتركة التي سوف
نُعالجها باعتبارها أولى حالات الدراسة وأكثرها تفصيلًا. وهذه القصة تمثِّل نموذجًا لاحتمالات
وصعوبة التوصل إلى رؤية مجتمع كوكبي موحَّد. ويصور الجدل حول البيئة — بداية — كيف تبرز
الاهتماماتُ الدولية وتتدحرج ككرة الثلج حتى تُصبحَ كرةً كبيرة. وتُذكرنا إحدى الباحثات
أن
«ميثاق الأمم المتحدة لم يتطرَّق إلى حماية البيئة؛ فهو لا يحدد بشكل تفصيلي أهدافَه
ومبادئ
منْع التلوث، والمحافظة على الموارد أو الحاجة إلى التنمية المستدامة». وتُضيف أن ذلك
لم يكن
يدعو إلى الدهشة طالما كانت الحاجة ماسة في ١٩٤٥م إلى معالجة أوجه القصور التي شَهِدتها
تجربةُ
عصبة الأمم عن طريقِ منعِ العدوان وحماية حقوق الإنسان، وتحقيق الرخاء.
٩ كما أن الرغبة الأساسية في عالم ما بعد الحرب لتحقيق النمو الاقتصادي — بغضِّ
النظر عن نشوب الصراع بين الشرق والغرب — سواء اتخذ ذلك شكلَ إعادة بناء الصناعات التي
دُمِّرت
في أوروبا والشرق الأقصى، أو الحرص على وصول التحديث إلى البلاد التي كانت خاضعةً للاستعمار.
وما كانت الحاجة ماسة إليه — كما أشارت دراسة بروكنجز التي ذكرناها من قبل — هو المزيد
من
الفحم والغاز والخشب، والآجر، والماء، والمزيد من الحديد والصلب، والإنتاج الزراعي،
والأسماك والدواجن والمنتجات الحيوانية. وأثناء أزمة الوقود التي شلَّت أوروبا عام ١٩٤٧م،
تطلَّع
الناس الذين عانوا من البرد إلى القطارات الواقفة بلا حراك والمصانع الساكنة، وأحسُّوا
بالأمل
عندما رأوا القطارات تتحرك، ومحطات القوى تهدر، والمداخن يتصاعد دخانُها إلى السماء تسابق
إليها الغازات! وفيما عدا القوانين التي تحمي الفصائل النادرة من الأحياء وتقديم الحدائق
الوطنية (وهو ما يعود إلى مطلع العقد الأول من القرن العشرين) لم يحدث إلا القليل في
حقل
حماية البيئة.
وفي الشمال حدثَت التغيرات الأولى في التفكير، ودعَّمَتها الأدلة الدامغة على ما يُلحقه
النشاط
الاقتصادي البشري بالبيئات المختلفة من دمار، وما يلحق بالكائنات الأخرى، وكذلك الإنسان،
من
أضرار. فقد أدَّى الضبابُ الأسود الناتج عن المناخ الرطب والمعدلات العالمية للتلوث الصناعي،
إلى كارثة حلَّت بمنطقة لندن الكبرى في ديسمبر ١٩٥٢م عندما مات الآلاف من السكان نتيجة
إصابتهم
بأمراض الجهاز التنفسي، مما ترتب عليه صدور قانون المملكة المتحدة للهواء النقي عام ١٩٥٦م
كخطوة هامة على الطريق إلى مكافحة تلوث البيئة. وتوالَى صدور التشريعات الخاصة بتطهير
الأنهار في أوروبا وأمريكا الشمالية بحظر تصريف النفايات فيها من المعادن الثقيلة والزيوت
وغيرها من الملوثات. وبدأ الناس يُدركون خطورة ما تُسببه الأمطار الحمضية من دمار للمباني
التاريخية والغابات على السواء. وبعد ذلك بقليل صدرَت الكتب التي كانت فتحًا على طريق
حماية
البيئة، مثل كتاب راشيل كارسون: «الربيع الصامت» (عام ١٩٦٢م) الذي نبَّهت فيه المؤلفة
إلى ما
سبَّبه استخدام اﻟ د. د. ت (المبيد الحشري) في القضاء على الحيوانات البرية الصغيرة والطيور
والحشرات. وجاءَت الأدلة على تلوث البيئة والاستجابات الأولى على المستوى المحلي فالإقليمي،
عندما أقدمَت الولايات الليبرالية في أمريكا مثل كاليفورنيا، ووسكونسن، وماساشوستس على
اتخاذ
إجراءات حماية البيئة، بينما تردَّدت الولايات ذات الصناعات الثقيلة مثل أوهايو وإنديانا
في
اتخاذ مثل تلك الإجراءات. كما أدَّى جوار الدول الأوروبية لبعضها البعض إلى التنسيق فيما
بينها لاتخاذ إجراءات الحفاظ على البيئة، فلم يكن باستطاعة هولندا منْع صرف النفايات
الصناعية في نهر الراين ما لم تفعل الدول التي تقع عند أعالي النهر ذلك. ووضعَت قواعد
عامة
للحفاظ على البيئة التزمَتها جميعُ تلك الدول.
ولكن عندما تُصبح الشعوب أكثرَ اهتمامًا بتلوث الهواء والماء محليًّا، أو بالصيد
الجائر في
السواحل التي تقع عليها بلادهم، لا يمثِّل التفكير في القضية بأبعادها الواسعة، وتزايد
إدراك
ما تلحقه من خطر على الأرض (الكوكب الذي نعيش فيه)، لا يمثِّل ذلك خطوةً بعيدةَ المدى.
فما جدوى
الكفِّ عن استخدام اﻟ د.د.ت في السهول الغربية للولايات المتحدة إذا استمر استخدام
المبيدات الحشرية استخدامًا كثيفًا في الأرجنتين حيث تتغذَّى الصقور على الحشرات المصابة
ورِمَم
الحيوانات الميتة بسبب التسمم بالمبيدات؟ وما جدوى القوانين الصارمة التي تُصدرها السويد
أو
فنلندا للحفاظ على الهواء النقي، إذا كانت الرياحُ الجنوبية تجلب إليهم دخانَ الفحم البُني
اللون التي تُطلقها مداخن مصانع ألمانيا الشرقية عبر البلطيق لتُلحق الدمار بالغابات
عندهما؟
وما جدوى قيام بريطانيا وأيرلندا بإلزام الصيادين فيها بحدود معينة للصيد أمام سواحلها،
إذا
استمر الصيادون الإسبان والبولنديون في نهْب الثروة السمكية؟ أضِف إلى ذلك، أن الأدبيات
الحديثة حول الضغوط البشرية على كوكب الأرض تفترض الطابعَ الكوكبيَّ الشامل للمشكلة،
وتلعب دورَ
النذير المبين. وعكسَت عناوين الكتب هذا الاتجاه: ففي ١٩٧١م، نشر ريتشارد فوك Falk كتابَه «هذا
الكوكب المهدَّد بالأخطار»، وبعد ذلك بعام واحد نشَر دينيس ميدوز وزملاؤه دراسةَ نادي
روما التي
حملَت عنوان: «معوقات النمو»، في تحدٍّ سافرٍ لكل الكتابات التقليدية التي عرَفها حقل
اقتصاديات
النمو. وحتى قبل ذلك ببضع سنوات — عام ١٩٦٨م — نشر بول إيرلخ Ehrlich كتابَه المفزع، واسع
الانتشار: «القنبلة السكانية»، ليوجِّهَ الأنظار إلى خطر جديد مثير للقلق، فما يلحق الضرر
بكوكبنا ليس ما يقوم به الثلاثة بلايين ونصف البليون من البشر (سكان العالم عندئذٍ) من
نشاط
صناعي، ولكن مضاعفة تعداد السكان في البلاد الأكثر فقرًا على مرِّ العقود التالية سوف
يلحق
الدمار الشامل بالبيئة، ويَحُول دون الفكاك من الفقر.
ويمثِّل انخراط المجتمع المدني في حركة الحفاظ على البيئة السمةَ الثانية لتلك الحركة،
ونعني
بذلك الجماعات الذاتية التكوين (وهي تتركز في الشمال أساسًا، وممن ينتمون إلى الطبقة
الوسطى)،
وهي جماعات يغلب عليها التوجُّس من الشركات الكبرى والحكومات، وتهتمُّ بحشد المواطنين
للعب دور
أكثر فعالية في تقرير مصير مجتمعهم. ولم يكن تأسيس تلك الجماعات في الوقت نفسه الذي شَهِد
مولدَ حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة والحركة النسائية في الغرب عامة، والحركات
الطلَّابية الاحتجاجية في الستينيات، لم يكن ذلك التأسيس محضَ صدفة؛ لأن تلك الحركات
شكَّلَت
تحدِّيًا للنظام القائم، ولطرق التفكير التقليدية الخاصة بكيفية معالجة الأمور. لقد سبق
ذلك —
بالطبع — مؤسسات أقدم، كانت نواة لحركة الحفاظ على البيئة، مثل «نادي سييرا»، و«جمعية
أودبون»، ولكن قامَت إلى جانبها منظمات أكثر راديكالية ونشاطًا؛ مثل: «أصدقاء الأرض»،
و«صندوق
حماية الحياة البرية العالمية»، و«السلام الأخضر». وبعض الحملات التي قامت بها تلك المنظمات
كانت تُعنَى بمشكلة واحدة (مثل «أنقذوا الحيتان»)، ولكنها جميعًا أضفَت على الحركة حيوية
جديدة، وركَّزت على ما يفعله البشر بكوكبهم. وعملَت بعضُ المنظمات — وفي مقدمتها «السلام
الأخضر» — على جذبِ أنظار الرأي العام عن طريق تنظيم المظاهرات وحركات الاحتجاج الضخمة،
وسواء
قَبِلنا بأسلوبهم في العمل أو اعترضنا عليه، فقد كان لعملهم هذا آثارٌ واضحة. فقد قامت
البرلمانات بتكوين لجان لشئون البيئة — تحت ضغط حركات أو أحزاب الخضر في بلادهم — وأُقيمت
وزارات أو وكالات لحماية البيئة خصصَت لها اعتمادات مالية كبيرة، وصدرَت تشريعاتٌ لمكافحة
التلوث وحماية الكائنات المعرَّضة للخطر والحفاظ على التوازن البيئي.
وتحوَّلت الحركةُ إلى حركة كوكبية عندما عُقد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة الإنسانية
(
UNCHE)
في ستوكهولم عام ١٩٧٢م.
١٠ وكان المجلس الاقتصادي والاجتماعي قد طالب — قبل ذلك بأربع سنوات — بإقامة مثل
هذا المؤتمر الدولي الذي قبلَت السويد استضافتَه. وقام مورس سترونج
Maurice Strong — الأمين
العام للمؤتمر الدولي — باستشارة الخبراء، وإعداد المشروعات، وتوجيه الدعوة إلى المنظمات
غير
الحكومية المعنية بشئون البيئة لحضور دورات انعقاد المؤتمر الدولي. ومرة أخرى، جاءت
الصياغات التي استخدمت بليغة وطموحة؛ فقد نصَّت ديباجة إعلان ستوكهولم أن «الحرية حقٌّ
مكفول
للبشر جميعًا، ولهم الحق في المساواة، والعيش في مستوى لائق، في بيئة ذات مستوى يسمح
بالحياة الكريمة ورغد العيش». وقد أحسَّ أنصار البيئة — الآن على الأقل — أن الأجندات
«الناعمة» أصبحَت تتصدر المسرح الدولي؛ فقد كانت المؤتمرات الشهيرة التي عقدَت من قبل
(وستفاليا — فيينا — فرساي — بوتسدام) محدودةَ العدد والمجال قياسًا بالمؤتمرات الدولية
للبيئة الإنسانية (
UNCHE).
ولكن، ما لبث الكثيرُ من دول الشمال أن تبينَت تطابق اهتماماتها البيئية، ولا يربو
عليها
إلا ارتياب حكومات الجنوب في أن القصدَ من تلك التوجهات عرقلةُ خططها الرامية إلى التنمية
الاقتصادية والصناعية. فإذا أبدَى الكنديون قلقَهم من الآثار الناجمة عن تدمير الغابات
المطيرة، غضب البرازيليون والماليزيون، واعتبروا ذلك تدخلًا في حقِّهم في استغلال مواردهم
المحلية، ونُظر إلى «تقرير محددات النمو» المزمع صدوره عن مؤتمر ستوكهولم، من جانب الشركات
الكبرى (التي تعمل في حقل استخراج المعادن والصناعات الثقيلة) ودعاة حرية السوق من
الاقتصاديين المحافظين في الشمال (الذين يرون في النمو الاقتصادي عملية شاملة لا تقبل
بما
يغلها ويحدُّ من تقدمها)، وكذلك حكومات آسيا وأمريكا اللاتينية، نُظر إليه من جانب هؤلاء
جميعًا على أنه مصدر التهديد لهم. وطبعًا، كان لكلٍّ ما يُبرر موقفه، فإذا قيدت حركة
النمو
والتنمية، ضاعت فرصة انتشال الملايين من البشر من وهدة الفقر، ولكن إذا تُرك الحبل على
الغارب بما يترتب على ذلك من كوارث بيئية، فقد يتهدد ذلك البشرية جمعاء.
وكانت النتيجة التوصل إلى صيغة وسطية لمفهوم «التنمية المستدامة»،
١١ شأنُها في ذلك شأنُ غيرها من قرارات المؤتمرات الدولية الأخرى التي نظمَتها الأمم
المتحدة. فتمَّ تأكيدُ استخدام تقنيات جديدة، إلى جانب غيرها من الوسائل المحلية، التي
تسمح
باستغلال الموارد الطبيعية والحد من الأخطار البيئية. فلا مانع من استمرار النمو، ولكن
بقدرٍ
أكبر من الحساسية والتقدم التقني، بمعاونة الموارد التي تُقدِّمها الدول الغنية إلى البلاد
الفقيرة (رأس المال — التكنولوجيا — الخبرة الفنية). كل ذلك لا يتجاوز حدود القول الذي
لا
يترتب عليه عمل، وسوف يقود إلى نكسات شديدة الإحباط. وإن كان مؤتمر ستوكهولم (١٩٧٢م)
قد حقق
نتائج ملحوظة تفوق ما تعرَّض له من نقد.
كان في طليعة تلك النتائج تأسيس «برنامج الأمم المتحدة للبيئة» (UNEP) ليتحول إلى بؤرة
الجهود التي بذلَتها المنظمة الدولية لمعالجة قضايا البيئة والتنسيق مع مختلف مؤسسات
الأمم
المتحدة. وكان لاتخاذ نيروبي (كينيا) مقرًّا لأمانة البرنامج مغزاه. وكان مجلس إدارة
البرنامج يتكوَّن من ثمان وأربعين دولة، وتقوم الجمعية العامة بانتخابه كل ثلاث سنوات،
وبذلك
تُتيح الفرصة أمام الدول الأعضاء التي تُعاني قدرًا من الحساسية إزاء القضايا البيئية،
للمشاركة في تكوين هذه المؤسسة الراديكالية الجديدة، وتؤكِّد طابعَها الديمقراطي. وكان
على
برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن يدفع بأجنداته إلى مقدمة اهتمامات الأمم المتحدة غير
العسكرية بمراقبة حالة الكوكب (الأرض)، وحفز مختلف وكالات الأمم المتحدة، وإعداد قاعدة
بيانات، والعمل على تحسين الظروف البيئية من خلال القانون الدولي للبيئة، ووضع المعدلات
القياسية للبيئة. أضِف إلى ذلك ما ترتَّب على حشد المنظمات غير الحكومية في مؤتمر ستوكهولم
من
إطلاق الجني من القارورة واستحالة إعادته إليها مرة أخرى، فأصبحَت جميعُ المؤتمرات الدولية
للبيئة تُنسج على منوال مؤتمر ستوكهولم. وخاصة ما اتصل بالارتباط بالمجتمع المدني الدولي.
فأصبح السجل البيئي للحكومات والبرلمانات والوزارات، وحتى الوكالات المتخصصة محطَّ أنظار
الرأي العام، وكذلك برنامج الأمم المتحدة للبيئة ذاته، فقد اهتمَّت المنظمات غير الحكومية
بمراقبة ومتابعة القرارات والبروتوكولات التي تصدر عن مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة الإنسانية
(UNCHE).
وبعد مرور عقدَين من الزمان، تنادَت الحكومات المعنية والمنظمات غير الحكومية والأفراد،
إلى
عقدِ مؤتمر دولي آخر للبيئة، لمعالجةِ أوجه القصور التي بدَت خلال العقدَين، فكان انعقاد
المؤتمر الذي عُرف باسم «قمة ريو للأرض» في عام ١٩٩٢م. ترى … ماذا حدث للوعود التي طرحها
مؤتمر
ستوكهولم؟ بداية، كان مؤتمر ستوكهولم مفرطًا في التفاؤل، حشد الرغبات المذهلة والطموحة
لتحسين أحوال بيئة الكوكب، ولكن — للأسف — لم تتحلَّ البشرية بهذه الآمال المثالية نفسها.
فالدول الوطنية شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، كانت بالغةَ الحساسية فيما اتصل بهمومها
المحلية، كلهم لا يقبلون التنازل عمَّا يرونه من حقوق السيادة، فلم يستطيعوا الإذعان
للآمال
الكبار المتعلقة بالحفاظ على البيئة. ولاحظَ أحدُ الباحثين أن إعلان ستوكهولم «وضع ٢٦
مبدأً
بائسًا: اثنان يتعلقان بالحقوق، وأربعة تتصل بالحفاظ على الموارد، واثنان يخصان التلوث،
وثمانية للتنمية، وعشرة لموضوعات عامة، وواحد نصَّ على القبول بمسئولية الدولة عمَّا
يلحق
بالبيئة من أضرار».
ولكن كيف يستطيع بلدٌ مثل موزمبيق، يعاني من الحرب الأهلية، ولا يزيد نصيبُ الفرد
من الدخل
السنوي فيه عن مائة دولار، تحقيق مثل هذه الأهداف؟ وكيف يمكن التأكد من أن الصين بعد
ماو قد
التزمَت بذلك؟ وكيف تستطيع الحكومات الضعيفة الهيبة مثل حكومات اليونان وإيطاليا وأورجواي
تنفيذَ تلك القرارات؟ كيف تستطيع الإدارة الأمريكية التي يقاسمها الكونجرس السلطةَ، وتُعاني
ضغوطَ اليمين الذي يأنف الخضوع لسلطة دولية، كيف تستطيع مثل هذه الإدارة الموافقة على
مقررات
تأتيها من الخارج؟ لقد التزمت بتلك القرارات — طبعًا — البلادُ الاسكندنافية مثل الدانمارك،
وبعض بلاد الكومنولث البريطاني مثل نيوزيلندا. ولكن ذلك يُلقي الضوء على المشكلة — ببساطة
—
إذ كان من السهل على الدول المتجانسة الغنية ذات النظام الليبرالي الديمقراطي والتي يتميز
مجتمعُها بارتفاع مستوى التعليم (باستثناء أمريكا)، الالتزام بتنفيذ القرارات والاتفاقيات
الدولية الخاصة بالبيئة أكثر من غيرها من الدول. وقد ظلت هذه الحقيقة ماثلة لا ريب فيها،
بعد ما يزيد على ثلاثة عقود من صدور قرارات مؤتمر ستوكهولم.
وهكذا، كان الالتزام بمقررات ستوكهولم محدودًا تمامًا عند بقية الدول الأعضاء في
المنظمة
الدولية. من ناحية أخرى، تراكمَت الأدلة حول تمادي البشر في ممارسة الأنشطة المدمرة للبيئة.
وكشفَت الصور التي التقطَتها الأقمار الصناعية أو المقالات التي عالجَت ذلك في مجلات
مثل مجلة
National Geographic، عن تعرُّض الغابات المطيرة لدمار متعمد وحرائق متعمدة غطَّت مساحات هائلة،
وجأر الصيادون بالشكوى في كل مكان من تناقُص ما تحويه المصايد من أسماك، رغم أنهم لا
يعترفون
بتسبُّبِهم في ذلك نتيجة الصيد الجائر. وساهمَت الصناعات الملوثة للهواء في الهند والصين
والبرازيل في زيادة معدلات الوفاة بأمراض الجهاز التنفسي. وفي يونيو ١٩٨٨م صرَّح كبيرُ
علماء
وكالة حماية البيئة التابعة للأمم المتحدة (UNEPA) أمام إحدى لجان الكونجرس بأن «ارتفاع
درجة حرارة الكوكب (الأرض) حقيقة قائمة» وأن ذلك الارتفاع في ازدياد.
وتطبيقًا للتوصيات التي جاءت بتقرير بروندلاند
Brundtland الصادر في ١٩٨٧م بعنوان
«مستقبلنا المشترك»، الذي أثار مشاعرَ القلق نفسها تجاه المستقبل، عقد المؤتمر الدولي
الثاني
للبيئة والتنمية في ريو عام ١٩٩٢م (الذي عُرف بقمة الأرض). وقد سبقَت الإشارة إلى الدعاية
الواسعة التي أحاطَت بالمؤتمر، والحضور الكثيف للحكومات والمنظمات غير الحكومية، ويجب
أن
نلتفت إلى السمات الأخرى التي ميزت المؤتمر. أولها، أن المؤتمر عقد في الجنوب بعد عشرين
عامًا من انعقاد مؤتمر ستوكهولم، فانتقلَت بذلك أجندة الأمم المتحدة إلى جنوبي خط الاستواء.
وثانيها، أن المؤتمر كان أشدَّ المؤتمرات حدة وقسوة، ويصعب تبيُّن ذلك في الملخصات التي
وضعها
قسمُ الإعلام بالمنظمة الدولية الذي وجَد نفسَه مضطرًّا إلى التخفيف من حدة الألفاظ المستخدمة
في أعمال المؤتمر حتى لا يُثيرَ ثائرةَ الدول الكبرى القوية من أعضاء المنظمة الدولية،
وبدلًا
من ذلك ركَّزت الملخصات على إبراز الجوانب الإيجابية التي عكسها المؤتمر، مثل: حضور أكبر
عدد
من رؤساء الحكومات لا نظير له في الاجتماعات الدولية الأخرى، والعدد الكبير لممثلي المنظمات
غير الحكومية، وارتفاع نسبة الحضور في منتدى المنظمات غير الحكومية الذي جاء موازيًا
للمؤتمر، والصحافيِّين والإعلاميين الذين قاموا بتغطية الحدث وبلغ عددُهم عشرة آلاف (وهو
رقم
يصعب التأكد من صحته). وتضمنَت منشورات قسم الإعلام إعلانَ ريو للبيئة، واتفاقية المحافظة
على
الغابات، والاتفاق الخاص بتغييرات المناخ، وقرارات إنشاء عدد من اللجان العليا والفرعية
والمجالس الاستشارية. وصِيَغ كلٍّ من تلك القرارات والاتفاقات بصورة مُرضية، مثلما جاء
في الملخص
التالي لمؤتمر ريو: «تعترف الحكومات بالحاجة إلى إعادة توجيه الخطط والسياسات الدولية
والوطنية للتأكد من أن كلَّ القرارات الاقتصادية قد أخذت في اعتبارها الآثار البيئية.
وقد أتَت
هذه الرسائل أُكُلَها فجعلَت من سلامة البيئة مبدأً تهتدي به الحكومات والشركات على السواء».
١٢
لم يكن مؤتمر قمة الأرض كارثةً أو انهيارًا تامًّا، ولكنه شَهِد العديد من حالات العراك
الذي
كشف مدى غياب صفة «الاتحاد» عن منظمة الأمم المتحدة بعد نحو نصف القرن من انتهاء الحرب
العالمية الثانية، وبعد مرور ربع القرن على تصفية الاستعمار، كان الصراع المحتدم — مرة
أخرى — صراعًا بين الشمال والجنوب. وكانت الدول النامية مستفزة، وغاضبة من استمرار اتساع
الفجوة بين الدول الغنية (التي تمثِّل خمس العالم)، والدول الفقيرة (التي تمثِّل الأربعة
أخماس). وأبدَت البرازيل والهند وماليزيا ضيقَها بقلق بلاد الشمال من قيامهم بإزالة الغابات،
ومن صناعتهم الملوثة للبيئة، واتهامهم بالتسبب في ارتفاع درجة حرارة الأرض، والقضاء على
الكائنات الحية، واتهموا الإجراءات المقترحة للحفاظ على البيئة بأنها أدوات تُستخدم ضدهم
لمنع الجنوب من اللحاق بالشمال. كيف يُعلن الأمريكان قلقَهم من قيام البرازيليِّين بحرق
الغابات
المطيرة، أو من المصانع الصينية الملوثة للهواء، في الوقت الذي تُعدُّ فيه الولايات المتحدة
صاحبة النصيب الأكبر من الغازات الملوثة للهواء على كوكب الأرض؟ وإذا كانت البلاد الغنية
قلقة للغاية مما يسبِّبه الفقراء من تلوث للبيئة، فكم من التعويضات يدفعونها لكبحِ جماحِ
التصنيع في الجنوب؟
وكالعادة، أبدَت الدول الاسكندنافية استعدادَها لتقديم معونات مالية إضافية للمحافظة
على
البيئة، ولكن ما شهدَته الثمانينيات من التحولات التاتشيرية-الريجانية ضد «نزعة الرفاهية»
على الصعيدَين المحلي والدولي تَعْني انصرافَ الحكومات الأخرى في الشمال عن الاهتمام
بقضايا
البيئة. وتحوَّلَت حقوقُ الملكية الفكرية، أو احتكار المؤسسات الرأسمالية الخاصة في الشمال
لتلك
الحقوق، إلى حقل ألغام. وترتَّب على ذلك تعرُّض وفد الولايات المتحدة في مؤتمر قمة الأرض
لمتاعب
جمة جاءت بسبب معارضتها للرقابة الدولية لتنفيذ قرارات المؤتمر المتعلقة بالحفاظ على
البيئة
من ناحية، ولإحجام الرئيس الأمريكي جورج بوش عن حضور القمة.
ولذلك كانت القرارات والإعلانات و«المبادئ» التي أطلقها مؤتمر ريو أقلَّ كثيرًا مما
تبدو
للعيان. وانتهى «البيان الخاص بمبادئ الغابات» (الذي دعا للحفاظ على الغابات المطيرة)
بعدم
تضمُّن ضرورة الالتزام به بسبب إصرار ماليزيا على أن قطْعَ أيِّ بلد لغاباته شأنٌ داخلي.
وجاء النص
النهائي لميثاق التغيُّر المناخي (
UNFCCC) على نحو ما ذكره اثنان من المحللين بأسلوب مهذب:
«نموذجًا للكثير من الاتفاقات الصادرة عن مؤتمر ريو؛ حيث أدَّت المناقشات ذات الطبيعة
السياسية العالية النبرة إلى صياغة نصوص شديدة الضعف».
١٣ المفاوضات التي أعقبَت المؤتمر، ودارَت حول الأهداف والقواعد الخاصة بالبيئة،
مثل تلك التي دارَت في مونتريال (١٩٨٧م) وكيوتو (١٩٩٧م)، والبروتوكولات المتصلة بذلك،
ضايقَت
المحافظين من الأمريكان الذين كرهوا فرضَ أيِّ قيود على طريقتهم في إدارة أعمالهم، ومثَّلَت
تحدِّيًا للمعاملة الخاصة التي حظيَت بها بلدٌ كالصين. ولكن عدم توقيع الولايات المتحدة
على
اتفاقية كيوتو ضايقَ بدوره أوروبا وكندا، والدول الأخرى الساعية إلى تخليص بيئة الكوكب
مما
تتعرض له من أخطار.
وافقَت نتيجة هذه الإجراءات ما كان موجودًا عام ١٩٤٥م، ولكنها كانت أقل كثيرًا مما
توقعه
أصحاب النزعة الدولية ودعاة حماية البيئة للحفاظ على الكوكب الذي نعيش فيه. غير أن الضغوط
استمرَّت؛ فقد أدى التدهور الصناعي في روسيا وأوكرانيا إلى تفاقم المشكلات البيئية في
البلدين. وازداد ارتفاع درجات حرارة الكوكب نتيجة قطع وإحراق الغابات في البرازيل، وأمريكا
الوسطى، والهند، وإندونيسيا، كما حدث الشيء نفسه بسبب الصناعة الملوثة للبيئة في الصين.
واستمرَّت الإدارة الأمريكية والمصالح المالية الكبرى القوية في معارضةِ أيِّ ضوابط تُفرض
على
استخدام الوقود، وتعاني «الخطة الزرقاء» الرامية إلى تنظيف البحر المتوسط من التلوث،
من
المشكلات الناجمة عن التكدس السكاني، وعدم مكافحة التلوث. وأخذَت الثلوج القطبية في الذوبان
بسرعة متزايدة، من أنتركتيكا إلى القطب الشمالي مرورًا بالقمم الثلجية في جبال الألب
السويسرية، وازدادَت حرارةُ المحيطات، وتجلَّى ذلك في تزايد قوة الأعاصير والعواصف المدمرة
الذي
نشهده اليوم. ومع تضخُّم سكان الأرض من ستة بلايين حاليًّا إلى ثمانية أو تسعة بلايين
عام
٢٠٥٠، يصبح صمود النسيج الاجتماعي والبيئي صعبًا.
إذن، ما الذي تحسَّن؟ من المؤكد أننا الآن أكثر إدراكًا لما تتركه أعمال الإنسان من
آثار
على كوكبنا مما كانت عليه الحال في ١٩٤٥م. من دلالات هذا الإدراك المتنامي، والتغطية
الإعلامية لموضوعات البيئة، ومساهمة المنظمات غير الحكومية، والجماعات الكنسية، والمؤسسات
في ذلك، واستخدام الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، وما زالت هناك حاجة ماسة إلى
المضيِّ
قُدُمًا في هذا النشاط. كما أن هناك الكثير من الأمثلة على الاهتمام الكبير بنظامنا البيئي،
يتجلَّى في إقامة العديد من المحميات في الغابات، والمستنقعات، ونمو المؤسسات المعنية
بالبيئة؛
مثل «صندوق حماية الحياة البرية»، والاهتمام المدهش بالسياحة البيئية في بلاد مثل كوستاريكا
في مقابل تناقص إنتاج الموز، وإحراق الغابات.
وأخيرًا، هناك النظام التعاوني الدولي ذاته الذي يتمُّ معظمه في إطار نظام الأمم
المتحدة؛
فقد استغرقت المنظمة الدولية — أو الدول الأعضاء — وقتًا طويلًا للاعتراف بأن الحفاظ
على
الكوكب الذي نعيش فيه جزءٌ من واجباتها، وإن بقيَت الكثير من الحكومات التي لا تلتزم
بهذه
المسئولية. ومن المعوقات التي تتصل بذلك: الفقر المدقع، وندرة الحاجات الاجتماعية الضرورية،
والصراعات الدينية والعِرقية العنيفة والدموية التي تُعمي الأبصار عن حقيقة انتمائهم
إلى
الجماعة البشرية الواحدة. كذلك تؤدي معارضةُ الدول الغنية للاتفاقات والقرارات الدولية
الخاصة بالبيئة إلى الحيلولة دون القيام بعمل دولي مشترك للحفاظ على البيئة ومساعدة الدول
الأشد فقرًا. وكثيرًا ما كانت الأمم المتحدة عدوةً لنفسها؛ فقد كان اختيار نيروبي مقرًّا
لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) اختيارًا خاطئًا مثَّل لها حرجًا شديدًا حتى اليوم؛ لأن
ضعف الحكومة المضيفة يجعل نيروبي مكانًا لا يشجع على الزيارة، كما أن الكوادر الدولية
ذات
الاعتبار تُحجم عن العمل هناك، والبرنامج يعاني من قلة الاعتمادات المالية المخصصة
له.
غير أن المجتمع الدولي خطَا إلى الأمام عندما أدرك أن مستقبله واحد. حقًّا كانت هناك
إحباطاتٌ وانتكاسات بسبب الأزماتِ وفشلِ الحكومات، وتوفر الأدلة حول تزايد الإضرار بالبيئة.
فقد أعاق التقدم على طريق الحفاظ على البيئة الكونية إهمال بعض الحكومات أو معارضتها
لهذا
الاتجاه ومعاداتها له، واتساع الفجوة بين الأهداف المعلنة والإنجازات المتواضعة. وهناك
الكثير من الهفوات الواضحة، ولكن المجتمع المدني — سواء المنظمات غير الحكومية أو المؤسسات
والجمعيات المعنية — لعبَت دورَها في العمل على تحسين الأداء. ويظل السؤالُ مطروحًا عن
مدى
إمكانية حماية الكوكب من قدراتنا على إلحاق الدمار به، مع مراعاة أن سجلَّ ما بعد عام
١٩٤٥م
ليس سجلًّا مشجعًا.
ويمكننا تقييم رحلة المنظمة الدولية صوبَ تحسين حقوق المرأة والطفل، والأسرة عامة،
بطريقة
مختصرة. وكما لاحظنا من قبل، أكَّد ميثاق الأمم المتحدة الإيمان المطلق «بكرامة الإنسان
والحقوق المتساوية للرجل والمرأة». ولم يكن ذلك موضوعًا في حاجة إلى استكشاف على نحو
ما حدث
بالنسبة إلى البيئة، ولكنه كان مبدأً يجب تطبيقه، فلا يكون مجردَ لغو. وكانت نحو نصف
الدول
التي وقَّعَت ميثاق الأمم المتحدة عام ١٩٤٥م تضع قيودًا على حقِّ الاقتراع للنساء، وعلى
حقهن في
تولِّي الوظائف العامة، وكان التمييز ضد النساء في المستعمرات على درجة كبيرة من السوء.
كما
أن الأحوال السياسية والاقتصادية في العقود الأولى التالية للحرب الثانية، حوَّلت الاتجاه
إلى
أولويات أخرى — على نحو ما ذكرنا من قبل — اعتبرَت أكثر إلحاحًا، وهي إعادة بناء المؤسسات
الصناعية والبنية الأساسية، وتشكيل أحلاف جديدة (مثل الناتو)، والعمل على تحقيق الرخاء.
ولعل الهدف الأخير كان من شأنه خدمة وضْع المرأة، ولكن ذلك لم يتمخض عن شيء.
وعلى نقيض ذلك، كان هناك اعترافٌ مبكر بالحاجات الضرورية للطفل اجتماعيًّا وصحيًّا
وتعليميًّا، وكان هذا أمرًا طبيعيًّا؛ فرعاية الطفولة وحمايتها لا صلة لها بالأيديولوجيات
أو الجدل السياسي، ومن أجل ذلك تمَّت العودة إلى قوانين المصانع التي صدرَت في القرن
التاسع
عشر. كما كان هناك اهتمامٌ آخر عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، بمعاناة الكثير من
أطفال
أوروبا من سوء التغذية والأمراض المعوية وشلل الأطفال والجدري والسل، وغالبًا ما كان
الكثيرُ
منهم يتامى. وجاء تأسيس صندوق الطوارئ لرعاية الطفولة UNICEF لمواجهة هذه الأزمة الإنسانية
التي اتفق الجميع على ضرورة مواجهتها.
وعند العام ١٩٥٣م، أصبح واضحًا أن احتياجات الأطفال ذات أبعاد دولية، وانعكس ذلك
على تكوين
مجلس الصندوق الذي يضم ٣٦ عضوًا غالبيتهم من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبفضل
توالي
عددٍ من المديرين الأكفاء على تلك المؤسسة الهامة حققَت سجلًّا من النجاح فاق المؤسسات
الأخرى
التابعة للأمم المتحدة. ونلاحظ ذلك من المساهمات التي يتلقَّاها الصندوق كلَّ عام من
المؤسسات
الخاصة، والجهود المحلية لجمع التبرعات، كما أن بعض شركات الطيران تحرص على دعم الصندوق
ورسالته الهامة.
١٤
وقد توج ذلك بانعقاد «القمة الدولية للطفولة» بمدينة نيويورك عام ١٩٩٠م، التي جاءت
—
كالعادة — مثقلةً بالأعمال. فقد كان هناك «عشرة أهداف عامة، وسبعة عشر هدفًا فرعيًّا
أُعدِّت
للعام ٢٠٠٠ مع أهداف للأعوام الخمسة حتى ١٩٩٥م»، وتم تضمين تلك الأهداف جميعًا «الإعلان
العالمي للحفاظ على الطفولة وحمايتها وتنميتها». ثم صدرَت «الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل».
وصدَّقت عليها جميع الدول، وبدءوا اتخاذ الخطوات الأولى تجاه تحقيق تلك الأهداف الدولية
(ولم
يمتنع عن التصديق على الاتفاقية سوى الولايات المتحدة الأمريكية والصومال). ويصعب القول
إن
هذه الإعلانات والاتفاقات الدولية لم تكن كافية، نظرًا لتزايد سكان العالم بسرعة كبيرة.
وصاحب الخطوات المتقدمة في الكثير من أنحاء العالم (برامج التحصين ضد الأمراض، مشروعات
تنقية المياه، مراكز رعاية الأمومة والطفولة)، صاحبَها ضغطٌ متزايد من الأعداد الهائلة
من
المواليد الجوعَى والمرضى، وخاصة في معظم بلاد أفريقيا. ولعل أفضل ما يمكن قوله إن حماية
الطفولة أصبح منصوصًا عليها في اتفاقيات دولية، وإن تصديق الدول على اتفاقية حماية الطفولة
حقَّق مستوى أعلى، وإن العالم وجد في اليونيسيف مؤسسة دولية لا تُضارعها مؤسسةٌ أخرى
في الأداء والالتزام.
١٥
وعلى النقيض من ذلك، كانت الحملة الدولية لتحسين حقوق المرأة مثارًا للجدل دائمًا،
وسارَت
بخطًى وئيدة، ولم تنطلق إلا عندما انطلقَت الحركةُ النسائية في الستينيات في أمريكا وأوروبا
التي كان لها صداها في بقية بلاد العالم (باستثناء الكتلة السوفييتية والصين، اللذَين
زعموا
دائمًا أنهم يحققون المساواة النوعية). فإذا كانت هناك ضغوطٌ من أجل تغيير قوانين الطلاق،
وتأمين الحقوق، وتكافؤ الفرص، في كاليفورنيا أو كوبنهاجن، فمن الضروري أن تكون هناك ضغوطٌ
مماثلة في كلكتا وكيب تاون، بغضِّ النظر عن اختلاف الثقافات. فلم تَعُد هذه الأجندة محلية،
بل
أصبحت عالمية، سايرَت النزعة الراديكالية في الجمعية العامة وأجنداتها السياسية، وضغوط
النظام الاقتصادي الدولي الجديد، وتزايد الوعي بقضايا الحفاظ على البيئة، مع تصاعد الهجوم
على تجاوزات السلطة التقليدية. فقد خضع الرجال البيض الرأسماليون في الشمال لنفوذ وتأثير
نساء الجنوب الملونات، وأنصار البيئة، ومؤيدي الحكومات، والحركات النسائية. كما اقترنت
الأجندات الليبرالية بتلبية مطالب الحركة النسائية، وحظيَت بتأييد الحكومات والساسة الذكور
في الدول الغنية (مثل بيير ترودو Pierre Trudeau في كندا).
ولعل ذلك يبرِّر تشبيه أجندة الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة بالجهود القديمة التي بُذلَت
لتحقيق المساواة الاقتصادية على المستوى العالمي. لقد نجح المؤتمر الدولي لحقوق المرأة
—
الذي عُقد بمدينة مكسيكو عام ١٩٧٥م — في إيجاد معايير للتقدم في الميدان الدولي، توازَت
مع
التحسن المحلي في المساواة النوعية في المجتمعات المختلفة، ومع «صندوق الأمم المتحدة
للتنمية النسائية»، ومعهد التدريب، ثم قرار الجمعية العامة عام ١٩٧٩م بتبني «الاتفاقية
الدولية لمنع كلِّ أشكال التمييز ضد المرأة». ولكنَّ ثمة شكًّا في أن «عقد المرأة» (١٩٧٥
–
١٩٨٦م) الذي حَظيَ بدعاية واسعة، قد نجح في تحقيق ذلك كلِّه قياسًا بتطلعات وآمال النساء
في
العالم. ولا شك أن قرارات مؤتمر مكسيكو مثَّلت أعلى نقطةٍ وصلَ إليها مدُّ الأجندة النسائية،
ولكن
ما لبث أن أعقبه فتورٌ في الهمم، وضعفٌ في الموارد البشرية والمالية.
وهناك أسبابٌ متعددة لتلك الفجوة بين النوايا والإنجازات؛ فقد أدَّت صدمةُ البترول
عام ١٩٧٣م
إلى إبطاء النمو الاقتصادي لعدة سنوات، فيما عدا بعضَ دول شرق آسيا. وأدَّى ما تبع ذلك
من خفض
معدلات الإنفاق إلى إنقاص الاعتمادات الخاصة بجميع البرامج الدولية. وعلى سبيل المثال
اضطرَّ
صندوق الأمم المتحدة للتنمية النسوية — الذي كان تمويلُه تطوعيًّا — إلى العمل بميزانية
ضئيلة، كما عانى «معهد تدريب المرأة» في جمهورية الدومينكان من عسر مالي. أضف إلى ذلك،
ما
لقيَته قرارات قمة المرأة من اعتراض وهجوم من جانب المحافظين في الشمال في نهاية عقد
السبعينيات. ولم تُبدِ حكومة تاتشر في بريطانيا وإدارة ريجان في الولايات المتحدة اهتمامًا
بالأجندة النسائية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتحويل أموال دافعي الضرائب لتمويل برامج
«عقيمة»؛ مثل منع الحمل والإجهاض، التي كانت محلَّ اعتراض مؤيدي الحكومتَين بسبب معتقداتهم
الدينية.
ولكن تلك البرامج كانت موجهةً لنساء العالم النامي اللاتي يُعانين من الضغوط الاقتصادية
والسكانية؛ فقد كان سكان العالم يزيدون ١٤٠ مليون نسمة سنويًّا خلال عقد الثمانينيات،
وجاءت
معظم الزيادة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وجاء انتشار الجفاف
والمجاعات والصراعات الداخلية ليترك تأثيرات سلبية على الأمومة والطفولة. ولم تعترف بلاد
كثيرة بالحقوق القانونية للمرأة من الجزيرة العربية إلى أفريقيا الوسطى، وأدى سقوط
الإمبراطورية السوفييتية إلى تدهور مستويات الخدمات الصحية لسكان تلك البلاد فيما عدا
النخب
الاجتماعية. وشكَّلت النساء — عام ١٩٨٥م — ثلثَي عدد الأميِّين في العالم.
وإذا كان المدُّ قد ضعف، فمن الممكن أن يعلوَ من جديد؛ ففي مطلع التسعينيات انتهَت
الحرب
الباردة، وحلَّت سياسات أكثر تسامحًا محلَّ النزعة التسلطية التاتشرية-الريجانية، ودفع
برنامج
الأمم المتحدة للتنمية والبنك الدولي بفكرة «الأمن الإنساني»، وأصبحت حقيقة الفجوة النوعية
(بين أوضاع الرجال والنساء) أكثرَ وضوحًا. ولمع لاري سومرز Larry Summers كبير خبراء البنك
الدولي — عندئذٍ — عندما قال إن أفضل السبل لتحسين أحوال البلاد النامية هو زيادة فرص
التعليم
المتاحة للبنات والشابات، وكان ذلك رأيًا بعيدَ النظر، تلاقَى مع ما طالب به العاملون
في
الميدان. وإذا كانت الحملة المطالبة بالمساواة النوعية قد وهنَت، فقد آن الأوان لانتعاشها
من
جديد.
فبعد مرور عقدَين من الزمان على مؤتمر مكسيكو، عقدَت الأمم المتحدة مؤتمرًا دوليًّا
طموحًا
عن المرأة والتنمية في بكين (سبتمبر ١٩٩٥م). وبانعقادِ هذا المؤتمر بدأَت الأمم المتحدة
التحرُّكَ
في هذا الاتجاه؛ فقد جاء هذا المؤتمر بعد مؤتمرات أخرى عن الطفولة (١٩٩٠م)، والبيئة (١٩٩٢م)،
وحقوق الإنسان (١٩٩٣م)، والسكان (١٩٩٤م)، كما أعقبه مؤتمرٌ آخر عن السكن والمدن (١٩٩٦م).
زِدْ على
ذلك أن مؤيدي هذه المؤتمرات المتعاقبة، أصبحوا الآن يهتمُّون بالربط بينها. ولفتَت ملاحظات
الأمم المتحدة على مؤتمر بكين أنظارَ القرَّاء إلى أن هذا الحدث العالمي له تأثيراتٌ
واضحة.
«ابتداء من قمة الطفولة في نيويورك التي أكَّدَت حاجاتهم إلى قمة الأرض في ريو؛ حيث
تمَّ
الربط بين الحاجة الماسة إلى الاعتراف بالدور المركزي للمرأة في التنمية المستدامة، إلى
مؤتمر فيينا حيث تم تأكيد حقوق المرأة في المساواة، إلى مؤتمر كوبنهاجن الذي سجل الدور
المركزي الذي تلعبه المرأة في مكافحة الفقر، إلى مؤتمر القاهرة، ثم مؤتمر استانبول فيما
بعد؛ حيث تم تأكيد حق النساء في مراقبة القرارات التي تؤثر على صحتهن وعلى العائلات
والبيوت. كلُّ تلك المؤتمرات مهَّدَت الطريق إلى مؤتمر بكين، وساعدَت على إيجاد أرضية
جديدة
للنضال من أجل المساواة في الحقوق، وحصول المرأة على دور مركزي في صنْع القرارات على
مختلف
المستويات في المجتمع.»
١٦
وبذلك كانت للمؤتمر سمات متميزة؛ فقد شاركَت فيه ١٨٩ حكومة، و٢١٠٠ منظمة غير حكومية،
وثلاثون ألف شخص تجمَّعوا في مؤتمرات فرعية موازية، وقام خمسة آلاف إعلامي بتغطية فعاليات
المؤتمر. وصدر عن المؤتمر «إعلان بكين وبرنامج العمل»، أكَّد حقوق المرأة في المساواة،
وأعلن
«حق المرأة في الميراث»، وأدان الاغتصابَ باعتباره جريمة حرب، وطالب الحكومات بمراجعة
القوانين التي تحرِّم الإجهاض وذلك تلبية لضغوط الحركات النسوية، وحتى يُرضي الفاتيكان
والمسيحيين المحافظين والمسلمين نصَّ على تأكيد «المغزى الاجتماعي للأمومة، ودور الوالدين
في
الأسرة وفي تربية الأطفال»، وطالبَ بمتابعة تنفيذ القرارات بإشراف المجلس الاقتصادي
والاجتماعي. وناشد مؤسسات ووكالات الأمم المتحدة صاحبة العلاقة التنسيقَ الجيد لعملها،
والتركيز الشديد على ما صدر عن المؤتمر من قرارات، وطالب الدولَ الأعضاء الالتزام ببرنامج
العمل الذي وضعه المؤتمر.
وقد قامت بعض الدول بتنفيذ ذلك. فعلى سبيل المثال، وعدت الهند بزيادة الاستثمار في
التعليم مع التركيز على تعليم البنات والنساء، وأنشأت مفوضية لحقوق المرأة لتلعب دور
الادعاء العام في هذا المجال. وأنشأت الولايات المتحدة مجلس البيت الأبيض للمرأة، والتزمَت
بحماية المرأة من العنف المحلي. فهل أحدث إعلانُ بكين تغيُّرًا حقيقيًّا؟ من الصعب القول
بذلك.
ومن الجدير بالملاحظة أنه في غضون المدى الزمني نفسه الذي عقد فيه المؤتمر (عقد التسعينيات)
كانت هناك نماذجُ لنساء بادرنَ بإقامة مشروعات خاصة بهن في الهند وشرقي أفريقيا — على
سبيل
المثال — (وغالبًا ما كان ذلك بدعم من البنك الدولي، وبرنامج التنمية الدولي والمؤسسات
الخيرية الأمريكية) وبذلك أصبحن يتمتعن بالاستقلال الاقتصادي. كان هناك تقدمٌ يحدث على
الأرض
في مقابل البيانات الرسمية.
غير أن التقدم كان بطيئًا جدًّا في الكثير من أنحاء العالم، ومنعدمًا تمامًا في أنحاء
أخرى. فما يقال عن تلك المؤتمرات وما حققَته من أعمال تمَّ التعبير عنها في التقارير
بعبارات
براقة، لا يتضمن الإشارة إلى أن هذه المؤتمرات واكبَت توسعًا في مهام حفظ السلام في العالم
أجمع. ولم يعِ منظمو هذه المؤتمرات أن عالم ما بعد الحرب الباردة كان حافلًا بالاضطرابات.
ومن الصعب أن نتخيل إمكانية حدوث تقدُّم في حقوق النساء في البلاد التي مزَّقتها الحروب
والصراعات المحلية؛ مثل كوسوفو، وجنوب السودان، وليبريا، وسيراليون. كما كانت هناك مؤشرات
عن غياب المساواة في الإرث في عمان والسعودية مثلًا. ولم تستجب الدول التي تُصدر أحكام
الإعدام على الزانيات لمطالب بروتوكولات ١٩٩٥م، كما لم يرتدع زعماء القبائل الذين يُبيحون
الاغتصاب الجماعي لنساء الأعداء المهزومين. ورغم حدوث تقدم حقيقي لوضع المرأة في بعض
الولايات الهندية، ما زالت الكثير من القرى الفقيرة تمارس التمييز التقليدي البغيض ضد
النساء، كما أن وَأْد البنات ما زال يمارَس في آسيا، وهو ما تكشف عنه إحصاءات التوازن
النوعي
في تلك البلاد.
١٧ وحتى في بلاد واسعة الثراء كالولايات المتحدة الأمريكية تمثِّل النساء القطاع
الأكبر ممن يعانون الفقر.
وأهم مؤشر لتلك الفجوة الواسعة بين الأهداف والإنجازات، يتمثل في إحصاءات الأمم المتحدة
ذاتها التي تتسم بالدقة والأمانة. فاللجنة الدولية لمنعِ كلِّ أشكال التمييز ضد المرأة
(CEDAW)
تنشر تقاريرَ دوريةً مرعبة عن الاغتصاب الجماعي، والتعذيب، والاسترقاق الجنسي، في مختلف
أنحاء
العالم. وتُشير إحصاءات «صندوق الأمم المتحدة لتنمية المرأة» (UNIFEM) إلى تدنِّي أوضاع البنات
والنساء في الأقاليم التي تُعاني الفقر المدقع. وقد لخص «المرصد الدولي لحقوق الإنسان».
The
Human Rights Watch في تقريره السنوي عن حقوق النساء، التقرير الذي أعدَّه (UNIFEM) عن أحوال
النساء بعد خمس سنوات من مؤتمر بكين عام ١٩٩٥م، ولاحظ في التلخيص ما يلى:
«رغم التعهدات التي قطعَتها الحكومات على نفسها في بكين، تزداد أوضاعُ النساء سوءًا
في
مناطق معينة. وعلى سبيل المثال، زاد عددُ النساء الريفيات اللاتي يُعانين الفقر المدقع
(الذي
يهدد بالموت) بنسبة ٥٠٪ في العقدَين الأخيرَين، في مقابل نسبة ٣٠٪ للرجال … ورغم أن النساء
يقمنَ بثلثَي مجمل ساعات العمل، يحصلنَ على عُشْر الدخل الإجمالي، ويمتلكنَ أقل من عشر
الممتلكات
في العالم، كما أن ثلثَي الأطفال المحرومين من التعليم في العالم ويقدَّر عددهم ١١٠ ملايين
طفل
هم من الإناث.»
١٨
وتُشير مصادر أخرى مثل البرنامج الإنمائي الدولي (UNDP)، في إطار مؤشرات التنمية البشرية،
إلى أن هذه الأرقام تمثِّل تقديرات شديدة التحفظ، (مما يعني أنها قد تزيد في واقع الأمر
عن
تلك الأرقام).
نحن –إذن — أمام مشكلة؛ فمن المؤكد أن أجندة المرأة حققَت تقدمًا منذ العام ١٩٤٥م،
ولكن ذلك
حدث بطريقة مضطربة، فهي واضحة تمامًا في المناطق التي لا تكاد تحتاج إلى مساعدة الأمم
المتحدة مثل ستوكهولم أو سان فرانسيسكو، ولكنها لا تكاد تُرَى في الصومال أو السنغال،
ويفوق
التحيز والتمييز ضد المرأة ذلك بكثير، ربما يعود ذلك إلى أن الفقر يلعب دورًا أكبر في
هذا
الصدد. وخلال العقد الماضي (١٩٩٥–٢٠٠٥م)، لم يكَد يتحرك عددٌ ممن يعيشون على دولار واحد
أو
دولارَين يوميًّا، وفي أفريقيا جنوب الصحراء تتزايد أعدادُهم بصورة مطلقة، وأكثرهم معاناة
الفقيرات من النساء. ويمثل ذلك تدهورًا ملحوظًا في الأحوال الإنسانية، مهما كان عدد
الوكالات واللجان والبرامج التي أقيمَت لمعالجة مشكلات المرأة، ومهما بلغ عدد المؤسسات
الدولية المعنية من البنك الدولي إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
وإذا كانت اليونيسيف المؤسسة المفضلة بين مؤسسات الأمم المتحدة، فإن نقيضها تمامًا
المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO) وهو أمر يبدو غريبًا. فقد جاء إنشاء
المنظمة للحد من سوء التفاهم الناجم عن اختلاف الثقافات والأيديولوجيات، والعمل على تضييق
الخلافات بدلًا من اتساعها. وليس للمنظمة ما لمجلس الأمن أو صندوق النقد الدولي من القوة،
ولذلك تعجَّب البعض لذلك القدر من الاهتمام الذي حظيَت به المنظمة. وعلى كلٍّ، فإن معظم
عملها
بعيدٌ عن السياسة، يلقَى ترحيبًا من جميع الأعضاء، فلماذا أصبحت مثارًا للجدل؟
لعل ذلك يرجع إلى نبرة الطموح العالية التي صِيغَ بها نظامُها الأساسي الذي نصَّ على
أنها
«تساهم في إقرار السلام والأمن عن طريق الارتقاء بالتعاون بين الدول الأعضاء من خلال
التربية والتعليم والعلوم والثقافة، من أجل إشاعة الاحترام العالمي للعدل وسيادة القانون
وحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي ضمنَها ميثاقُ الأمم المتحدة لجميع شعوب العالم،
دون
التمييز على أساس الأصل العِرْقي، أو الجنس أو اللغة أو الدين.» كانت هذه أهداف تفتقر
إلى
الوضوح خاصة بالنسبة إلى منظمة لها مجلس إدارة دوري يضم ٥٨ مندوبًا، لا يجتمع سوى مرة
واحدة
كل عامَين، ولا يتمتع بأيِّ صلاحيات تشريعية. ولعل ذلك يرجع إلى محاولات منظمة العمل
في العديد
من الميادين — المناطق الأثرية، إعادة الممتلكات الثقافية المسروقة، الرياضة، المحيطات،
مجالات الأحياء، حتى الأنشطة التي تدخل في اختصاص لجان التعاون الحكومي — فنتائج التوصيات
التي تصدر عن المنظمة تُلقَى على كاهلها أعباء جسام تنوء عن حملها، ولكن لا يحظى ما تقوم
به
في مجال الثقافة بالاهتمام الدائم من جانب الدول الكبرى الأعضاء في المنظمة الدولية.
والسبب الحقيقي الذي جعل من المنظمة مثارًا للجدل يعود إلى كونها أصبحت أداةَ تسويق
التحيزات الأيديولوجية والعنصرية، تمامًا على عكس الأهداف التي أُنشئت من أجلها. فالأفكار
لا
تعرف الحياد وقد شهدَت فترةُ الحرب الباردة صراعًا على كسب عقول شعوب العالم الثالث.
وقد أعرب
المحافظون في الولايات المتحدة عن غضبهم من اليونسكو لعدم وقوفها إلى جانب الغرب في الحرب
الكورية. وفي عام ١٩٥٤م، قرر الاتحاد السوفييتي الانضمامَ إلى المنظمة بعد انقضاء نحو
عقد من
الزمان على تأسيسها شابَه الشكُّ في أهدافها، واتهامها بأنها تعمل على تسويق الليبرالية،
وحذَت
البلاد الاشتراكية حذوَ الاتحاد السوفييتي. وبالطبع حصلَت الدول النامية المستقلة حديثًا
على
عضوية المنظمة. وما لبثَت المنظمة أن أصبحَت منبرًا للتعبير عن الأفكار المعادية للغرب،
بسبب
احتدام الصراعات في كل مكان — وخاصة صراع الشمال والجنوب حول النظام الاقتصادي — ولأن
المؤسسات القوية بالأمم المتحدة كانت إما بيد الدول القوية الغنية، أو كانت مجمدةً بسبب
ظروف
الحرب الباردة. وجاء الكثير من الصدام الأيديولوجي حول فكرة تدخُّل الدولة. ولما كان
الكثير
من الدول الحديثة العهد بالاستقلال تمرُّ بمرحلة بناء الدولة الوطنية، فقد ناصرت مبدأ
التدخل
الحكومي والتوزيع العادل للثروات، ونبذَت النزعة الليبرالية الأمريكية. هذه الخلافات
بدَت في
أماكن مختلفة بما فيها مشروع اليونسكو لمراجعة محتوى المقررات الدراسية (وخاصة كتب التاريخ
بالمدارس) التي بدَت عملًا نبيلًا يساعد على تخليص الفرنسيِّين والألمان من الثقة المفقودة
بعد
١٩٤٥م، ولكنه لم يكن مشروعًا جذابًا بالنسبة إلى المحافظين إذا تطرَّق التدريس إلى تناول
موضوع الحاجة إلى نظام اقتصادي دولي جديد.
وكان الموضوعان اللذان أثارَا حنَقَ أمريكا وبريطانيا وبعض دول الشمال الأخرى هما:
موقف
المنظمة من إسرائيل، والدعوة إلى نظام إعلامي عالمي جديد. فقد رفض المؤتمر العام للمنظمة
في
١٩٧٤م حقَّ إسرائيل في عضويةِ أيِّ مجموعة إقليمية، وأدان إقدامها على تغيير المباني
التاريخية
بمدينة القدس، وطالب المؤتمر المدير العام لليونسكو بتولِّي الإشراف على النظام التعليمي
في
الأراضي العربية المحتلة، وهو اقتراح يستحيل تنفيذُه دون موافقة السلطات الإسرائيلية.
ومن
الواضح أن عدم القبول باحتلال القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، كانت وراء صدور
تلك
القرارات. ولما كان احتلال الأراضي العربية موضوع صراع سياسي مكانه مجلس الأمن والجمعية
العامة، فإن ذلك عدَّ تجاوزًا لمهمة المنظمة. ونتج عن ذلك أن ثارَت شكوكُ بعض الساسة
الأمريكان
تجاه اليونسكو والمنظمة الدولية عامة. وازداد المناخ توترًا عندما نجحَت الدول العربية
— بعد
ذلك بعام واحد — في إقناع الجمعية العامة بإصدار قرار ساوى بين الصهيونية والعنصرية.
وفي الوقت نفسه تقريبًا، ثار نزاعٌ حول الضغوط التي قامت بها الدول النامية للمطالبة
بنظام
إعلامي واتصال دولي جديد. ويرجع ذلك إلى ضيق تلك الدول من هيمنة المؤسسات الإعلامية
الغربية، مثل الإذاعة البريطانية (BBC)، والإذاعة الأمريكية
(CBS)، ووكالة رويترز (Reuters)
للأنباء وغيرها من وسائل الإعلام التي روجت لأفكار اقتصاد السوق، وشوهت النظم المعمول
بها
في بلاد أخرى. ومثلما كانت الحال بالنسبة إلى قضية المباني التاريخية في القدس، اعتبرت
قضية
صحة ونزاهة الصحافة الدولية خارج إطار اختصاص اليونسكو. غير أن إعلان اليونسكو الخاص
بالإعلام عام ١٩٧٨م الذي دعا إلى وضْع ضوابط على حرية الصحافة والإذاعة، جر المنظمة إلى
حقل
ألغام كانت في غنًى عن الوقوع فيه. لقد كانت هيمنة الإعلام الغربي على الخدمات الإخبارية
الدولية تنطوي على قدرٍ من المبالغة عندئذٍ وحتى اليوم، مما يعني أن قواعد اللعبة بين
الشمال
والجنوب لم تكن عادلة. ومن الممكن أن يكون هناك بعضُ الاختلاف في الآراء على نحو ما حدث
في
الجدل حول دور الدولة وحدود سلطة المنظمة الدولية، ولكن محاولة قلب التوازن بقرار سياسي
صادر عن اليونسكو، وأن يكون من بين ما نص عليه من أفكار حق الدولة في الترخيص للصحفيِّين
(الأجانب)، كان تجاوزًا غير عملي، زوَّد نقاد اليونسكو بالذخيرة الحية.
واقترن ذلك كله بتزايد الأدلة على سوء إدارة المنظمة على الصعيد المركزي، فقسمٌ كبير
من
العاملين فيها يحتلُّون مبنى اليونسكو الجديد الباهظ التكلفة، في رقم ٧ ميدان فو نتنوي
بباريس،
وكان ٨٠٪ منهم لا يعملون بالدول النامية على الإطلاق، وذهب ٦٠٪ من ميزانيتها للمرتبات،
وهو
رقم مرتفع بكل المعايير. وكان المدير العام الدكتور أحمد مختار إمبو معروفًا في الغرب
بعدم
الكفاءة، يُحابي الأقارب والمعارف والمناهضين للغرب في التعيينات في الوظائف، وخلق العديد
من
مناصب «المستشار الشخصي للمدير»، وورَّط المنظمة في أمور سياسية محضة. وفي عام ١٩٨٤م
كان لدى
بريطانيا وأمريكا مبررات كافية للانسحاب من اليونسكو، ولم يؤدِّ ذلك إلى حرمان المنظمة
من
مساهمتها المالية (كانت الولايات المتحدة وحدها تدفع نحو ٢٥٪ من ميزانية اليونسكو) فحسب،
بل
وضع علامة استفهام ضخمة حول مشروعيتها. وتصدَّت الحكومات المؤيدة لليونسكو للدفاع عنها،
ولكنَّ
أحدًا لا يُنكر الضرر الجسيم الذي أصاب المنظمة.
١٩
كان ذلك أمرًا مؤسفًا لأنه صرَف الأنظار عن الميادين والمشروعات التي كان يعمل بها
موظفو
اليونسكو الأكفاء؛ مثل أبحاث المحيطات، ومشكلات التصحُّر، وأبحاث بيولوجيا الخلايا، والمحافظة
على الآثار المعرَّضة للخطر، وتحديد مواقع الآثار المتصلة بالتراث الإنساني وحمايتها،
وفوق
ذلك كلِّه تدريب المعلمين وبرامج محو الأمية في الدول النامية والمجتمعات التي مزَّقتها
الحروب.
والبرامج الأخيرة كانت مثارًا للجدل؛ مثل برامج تعليم اللاجئين الفلسطينيين في معسكراتهم.
ولكن من الملاحظ أنه عندما أعلن الرئيس جورج بوش أمام الجمعية العامة في سبتمبر ٢٠٠٢م
أن
الولايات المتحدة قد تستردُّ عضويتها باليونسكو، انتعشَت الآمال في أن تكون المهمة التالية
لليونسكو مساعدة أفغانستان في إعادة بناء نظامها التعليمي والثقافي
٢٠ وفي ظل قيادة جديدة للمنظمة غير مُسيَّسة ومنضبطة، طالبَت الحكومات العربية
المختلفة المنظمة بالبحث عن سبل للتغلب على الحساسية المتبادلة بين الغرب والعالم الإسلامي،
وهو أمرٌ يتطلَّب عملًا شاقًّا، ولكنه علامة طيبة أن اليونسكو تُحاول أخيرًا العودة إلى
ممارسة
اختصاصها بالمساعدة على تلافي «صدام الحضارات». فإذا تابعت ذلك، فأمامها الكثيرُ مما
يجب
عمله.
ولا تَعْني هذه التحسينات الأخيرة أن المنظمة قد حققَت النجاح الآن. فهي لا تزال
تعاني من
الخلل بين أجور موظفيها وتكاليف مشروعاتها، وما زالت معظمُ إداراتها تتركَّز في باريس،
وهي لا
تزال تبذل الكثيرَ في مشروعات تدخل في اختصاص مؤسسات أخرى؛ مثل برنامج الأمم المتحدة
الإنمائي
(UNDP) واليونيسيف والبنك الدولي (مثل برامج تعليم البنات، والتدريب العلمي، ونقل
التكنولوجيا). كما ما زالت الشكوكُ تُساور المحافظين حولها، حتى إن من بينهم مَن يفضِّل
إلغاءَها
تمامًا.
وتمثِّل قصة اليونسكو — من ناحية — ما يجري للأجندات الناعمة للأمم المتحدة، وما تُعانيه
من
أعراض، فهي أو حتى العالم، لم يقترب من الأهداف التي أعلنها في الأربعينيات، ولم يستطع
عملَ
إلا القليل في بعض المجالات، مثل التسامح الديني والعِرقي وفقر النساء. والكثير من المنظمات
تتداخل اختصاصاتُها، وتتحمل من الأعباء ما ينوء به جهازُها المحدود القدرات. وعلينا أن
نرجع
إلى ما جاء في تقرير مؤسسة بروكنجز، من أنه لا يزال هناك «الكثير مما يجب القيام به»،
سواء
في المجال الاجتماعي أو البيئي أو الثقافي.
ولكن، ثمة طريقة أخرى أكثر إيجابية للنظر إلى تلك التجارب الأولية التي عرَفها العمل
الدولي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. فعندما كُتب ميثاق الأمم المتحدة كان
سكان
الكوكب الذي نعيش فيه يزيدون قليلًا عن البليوني نسمة، وبعد حوالي نصف القرن قفز تعدادُ
سكان
الكوكب إلى ستة بلايين نسمة (عام ٢٠٠٠م)، هذه الأفواه الأربعة بلايين هي الإضافة الخالصة
للبشرية في زمن بالغ القصر لم يعرفه التاريخ من قبل، ألقَت حاجاتهم الطبيعية إلى المأكل
والملبس والمسكن والرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل، بأعباء جسام على المجتمع الدولي
وعلى
بيئة كوكبنا. وما زال الكثير من هذه الحاجات ينتظر الإشباع عند أكثر أهل الأرض فقرًا
على
أقل تقدير، وتم إشباعها جزئيًّا عند غيرهم، ولكن من الصعب أن نتصور حجم الدمار والخراب
والاستنزاف الذي يُصيب كوكبنا من جرَّاء هذه البلايين الستة من البشر في غيبة أجندات
الأمم
المتحدة الاجتماعية والبيئية والثقافية، وفي غيبة المؤسسات الدولية التابعة لها التي
تؤدي
عملَها على نحو ما فعلت، أداءً ضعيفًا أو مناسبًا، حتى تضعَ برامجها موضعَ التطبيق العملي
على
الأرض. إنه سجل معقَّد، ولكن من الصعب تصور مجريات الأمور على نحو آخر.