الفصل السادس
تحسين الوضع العالمي لحقوق الإنسان
لعل من الحماقة أن نذهب إلى أن أجندة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان قد تجاوزَت
غيرَها
من الأجندات الموازية، في وقتٍ نرى فيه المذابح وأعمال التطهير العِرقي قائمةً على قدَمٍ
وساقٍ.
ولكن تأثير نظام حقوق الإنسان الدولي قطع شوطًا طويلًا منذ دخلَت قوات الحلفاء معسكرات
الاعتقال النازية في مايو ١٩٤٥م، واكتشفوا الفظائع الهائلة التي كانت تجري هناك،
١⋆ وتعهَّد العالم بالحد من الممارسات اللاإنسانية التي يمارسها البعض ضد غيرهم من
البشر. وطالما أننا عبَّرنا — هنا وهناك — عن عدم ارتياحنا للطريقة التي عُولجت بها الآمال
الكبار خلال ستين عامًا من عُمْر المنظمة الدولية، لن يقبلَ أحدٌ بهذا الزعم؛ ولذلك يقع
على
عاتق مَن يزعمون أن تقدمًا قد حدث بالفعل، أن يُقيموا البرهان على صحة ذلك.
وقد سبقَت الحملة التي دعَت إلى حقوق الإنسان والتسامح الفظائع التي حدثَت في معسكرات
الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت تلك الدعوة ذات جذور عميقة في العقائد
المسيحية والبوذية.
٢⋆ غير أن حقوق الإنسان كمصطلح سياسي فكرة حديثة برزَت في أواخر القرن الثامن عشر.
٣ فقد كتب توماس بين
Thomas Paine كتابَه «حقوق الإنسان»، وتحدَّث الدستور الأمريكي
عن «حقوق معينة لا يمكن إهمالها»، وأعلن رجال الثورة الفرنسية نضالَهم من أجل «حقوق الإنسان
وحقوق المواطن». وفي القرن التاسع عشر، نظم الأنجليكان الإنجليز من أمثال وليم ويلبرفورس
William Wilberforce حملة ناجحة لإلغاء تجارة الرق ثم الاسترقاق نفسه، إضافة إلى إلغاء
التمييز ضد الكاثوليك في بريطانيا كلها. وكانت قوانين الحرب — وخاصة ما اتصل بمعاملة
المدنيين خلال الحروب — آخذةً في التطور وخاصة في الغرب، على أقل تقدير. فقد أدان وليم
جلادستون
Gladstone — رئيس الوزراء البريطاني — الفظائعَ التي شهدتها البلقان في السبعينيات
من القرن التاسع عشر. ودعا الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون
Woodrow Wilson، في المبادئ
الأربعة عشر التي أعلنها عام ١٩١٨م، إلى حقِّ الشعوب في تحقيق المصير، كردِّ فعلٍ صريح
لغزو
بلجيكا والصرب وغيرهما من الدول الأوروبية الصغيرة، ثم انسحب ذلك — تدريجيًّا — على
المستعمرات. وفي عام ١٩٤١م، وقَّع الرئيس الأمريكي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل
«ميثاق الأطلنطي» الذي أعلن حقَّ جميع الشعوب في الحرية والحياة الكريمة. وأعلنت جمهورية
ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) الالتزام «بالحريات الأربع» على نطاق واسع.
٤
وتعدُّ الفترة ١٩٤٥–١٩٤٨م نقطةَ الانطلاق على طريق حقوق الإنسان. فقد اختلف النظام
الدولي
لحقوق الإنسان — الذي وضعَته الأمم المتحدة عندئذٍ — اختلافًا نوعيًّا عما كان قبله،
حتى ما تم
طرحه في عصر التنوير؛ لأن تلك الإعلانات لحقوق الإنسان لم يكن لها مكانٌ في القانون الدولي،
بمعنى أن الحكومات لم تتعهد فيما بينها بالالتزام بها. وكانت «قوانين الحرب»، رغم أهميتها،
مجردَ قواعد تتعلق بالأعمال العسكرية، وخاصة ما تعلق بمعاملة المدنيين، وليست مكونًا
أساسيًّا لحقوق الإنسان على مرِّ الزمن (وذلك رغم إقرار مؤتمر لاهاي للسلام في ١٨٩٩ و١٩٠٧م
لقوانين الحرب). غير أن موادَّ ميثاق الأمم المتحدة غيَّرَت ذلك تمامًا.
ولكن الخلاف ما زال قائمًا حول مدى التغيير الذي دخل على حياة الناس — تحديدًا — بإقرار
ميثاق الأمم المتحدة النظام الدولي لحقوق الإنسان. ورغم أن صياغة ديباجة حقوق الإنسان
الدولية دقيقة وواضحة، رأينا من قبل أنها جاءت مصاحبة للفقرة السابعة من المادة الثانية
التي نصَّت على أن: «ليس هناك في هذا الميثاق ما يلزم الأمم المتحدة في الأمور التي تدخل
في
إطار السلطة المحلية لأي دولة، ولا تتطلب تقدُّم أعضاء الأمم المتحدة بطلب لتسويتها …»
كيف
يستطيع مواطنو العالم وحكوماتهم التوافق مع حقوق الإنسان الدولية مع اعتبارها من أمور
السيادة الوطنية؟
وزاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الصادر في ١٩٤٨م) الأمورَ تعقيدًا، رغم كونه
يمثِّل
جهدًا دوليًّا لدعم وتعريف حقوق الإنسان.
٥ فقد رجَّح الإعلانُ كفةَ حقوق الأفراد على حساب الدولة، وإن كان ذلك على الورق.
كما أنه تأثَّر بالأعمال الفظيعة التي حدثَت خلال الحرب العالمية الثانية؛ فالفقرة الثانية
من
الديباجة تُشير إلى: «عدم اعتبار وإنكار حقوق الإنسان الذي نتج عنه الأعمال البربرية
التي
آلمَت الضميرَ الإنساني …» رغم ذلك كلِّه، جذَب الإعلانُ اهتمامًا عالميًّا واسعًا، بسبب
الدور
التآمري لإليانور روزفلت رئيسة لجنة حقوق الإنسان التي تلقَّت سيلًا جارفًا من العرائض
من
كافة أنحاء العالم تدعو إلى معاونة المنظمة الدولية للشعوب حتى تتخلص من التعديات المحلية
على حقوق الإنسان، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، ذلك الالتماس الذي تقدَّم به دي بوا
W. E.
B. Du Bois إلى الأمم المتحدة للعمل على إنهاء التمييز ضد «مواطني الولايات المتحدة الذين
ينحدرون من أصول زنجية»، وهو الالتماس الذي لقيَ اهتمامًا من الوفود الآسيوية والأفريقية
القليلة، كما استغلَّته الحكومة السوفييتية لإحراج أمريكا (في الوقت نفسه الذي كان فيه
ستالين
يمارس الإرهاب ضد شعبه، ويرفض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان باعتباره ماسًّا بحقوق السيادة
الوطنية للدولة).
ورغم الاختلاف حول طبيعة مضابط لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فقد مضَت قُدُمًا
في عملها
يُعاونها عددٌ من كبار المثقفين والمفكرين في العالم من علماء الفلسفة، والقانون، والأدب،
والتاريخ، والعلوم الاجتماعية، بما فيهم ﻫ. ج. ويلز
H. G. Wells العالِم العجوز المعطاء.
ولعل العالم الفرنسي رينيه كاسان
Rene Cassin كان أكثرَهم نفوذًا؛ فقد وجَّه عناية اللجنة إلى
الدراسات في الفكر الكاثوليكي التي تعود إلى عقودٍ خلَت، حول تهذيبِ سلوكِ الرأسمالية
نحو ضرورة
احترام كرامة الفرد، ولما كان كاسان ابنًا لتاجر يهودي فقد أبدى اشمئزازَه من المحرقة.
وسواء
كانت من عمل مجموعة قامَت بصياغتها، أو كان كاسان قد تولَّى مهمةَ الصياغة وحده، فقد
جاء
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وثيقةً رائعة تغطِّي مجالًا هامًّا.
٦
ويبدأ الإعلان إحدى عشرة مادة صِيغَت على نسقِ الدستور الأمريكي والإعلان الفرنسي
لحقوق
الإنسان، من حيث إقرار المساواة بين جميع البشر، وحق كل إنسان في الحياة، والحرية، والأمان.
تليها المواد (من ١٢–١٧) التي تتضمن ما يمكن أن نسمِّيَه بالحقوق المدنية، مثل حق الزواج،
وحق الملكية، وحق حرية الانتقال، وغيرها. والقسم الثالث (المواد ١٨–٢١) الذي أصبح يُعرف
باسم «إيوان كاسان» الذي يعود إلى الأصول التاريخية في المدنية الأثينية، ويتناول الحقوق
السياسية الديمقراطية، معلنًا حقَّ المواطنين في عقد الاجتماعات السلمية، وحرية التعبير،
وحق
المشاركة السياسية من خلال «انتخابات دورية حقيقية».
٧ واتسم القسم الرابع (المواد ٢٢–٢٧) بالاتساع المدهش، ويتضمن الحقَّ في الضمان
الاجتماعي، وحقَّ الترفيه عن النفس، وحقَّ العمل، وحقَّ الحصول على أجرٍ مساوٍ للعمل
المتساوي، وحقَّ
الانضمام لنقابات العمال، وحق التمتع بالرعاية الصحية، وحق الحياة الكريمة (الحصول على
مستوى لائق للعيش)، والحق في التعليم المجاني الأساسي. والمادة (٢٥) ملفتة للنظر، لأنها
حددت الحق في الحياة الكريمة بحيث تضمن «الغذاء، والكساء، والمسكن، والرعاية الصحية،
والخدمات الاجتماعية الضرورية، والحق في ضمان في حالة البطالة، أو المرض، أو العجز عن
العمل، أو الترمل، أو الشيخوخة، أو نقص مستلزمات الحياة …»
وإذا أخذنا هذه المواد والحقوق التي أقرَّتها الوثيقة معًا، فسوف نجد أنها تمثِّل
أكبر عطاء
لحقوق الإنسان وكرامة الإنسانية، تم طرحه من قبلُ ومن بعدُ. ولذلك اعتبرَت بمثابة «العهد
الأعظم للبشرية» (Magna Carta)، وتمَّت ترجمة الإعلان إلى كلِّ اللغات تقريبًا. وكان موجزًا
بالقدر الذي جعل من السهل طباعته على شكل لوحة واحدة علقَت في المدارس والمكتبات في جميع
أرجاء المعمورة. وجاءَت طباعتها وموافقة الجمعية العامة عليها لتجعل من إليانور روزفلت
(رئيس
اللجنة) بطلة العصر، ولا شك أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يُعدُّ أعظمَ وثيقة سياسية
في
تاريخ العالم.
ولكن، من المفيد قراءة الوثائق الأرشيفية للمفاوضات والمساومات بين الوفود للمشاركة
في
اللجنة، التي دارَت وراء أبواب مغلقة، والتحفظات التي أبدَوها، والانتقادات التي جاءت
من
الوفود الممثلة للدول التي امتنعَت عن التصويت، وأحسَّت بتهديد النظام العالمي الجديد
لمصالحها.
٨ وقد تم تحويل الالتماسات العديدة التي جاءت من البلاد الخاضعة للاستعمار إلى
المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي تجاهلها تمامًا. ولما كانت إليانور روزفلت تخشى ما
قد
تتعرض له من هجوم في بلدها، فقد حذَّرت من أن دعوة دي بوا
Du Bois إلى حقوق الزنوج في
الولايات المتحدة في المساواة بغيرهم من المواطنين، قد تؤدي إلى تدمير المؤتمر. وطالبت
الدول صاحبة المستعمرات — ومن بينها فرنسا التي استضافت اللجنة — والبلاد التي بها أقليات
من
أهل البلاد الأصليِّين مثل أستراليا بتخفيف نبرات الصياغة. واستاء المحافظون الأمريكان
من
المواد المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، واعتبروا كاسان شيوعيًّا خفيًّا. وتعجب مسئولو
المالية في كل مكان في العالم من الحقوق التي أقرَّها الإعلانُ لما يترتب عليها من أعباء
مالية
لتحقيق العمالة الكاملة، والمساواة في الأجور والتعويضات.
ثم جاءت المواجهة على حلبة الحرب الباردة بصورة لم تكن مفاجئة، وبعد الاجتماع الأول
للجنة
أعلن الرئيس الأمريكي «مبدأ ترومان» (مارس ١٩٤٧م) الذي أعلن أن العالم الآن يُواجه اختيارًا
بين الشمولية والحرية. وانغمس الاتحاد السوفييتي في هذه الحرب الدعائية، فلم يكتفِ بالهجوم
على العنصرية الداخلية في أمريكا، بل طالب أن يتضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلغاء
عقوبة الإعدام، وهو ما لقيَ مقاومةَ الغربيِّين من دعاة تنفيذ أحكام الإعدام بالرصاص
أو الشنق
أو الكرسي الكهربائي، وامتنع الاتحاد السوفييتي — في نهاية الأمر — عن التصويت بحجة أن
الإعلان لم يؤيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تأييدًا كافيًا (!) كما لم يُدِن الفاشية.
ولم
ترتَح السعودية إلى المادة الخاصة بحرية العقيدة الدينية، كما اعترضَت جنوب أفريقيا على
الإعلان لعدة أسباب من بينها «المشاركة في الحكم» وخاصة أنها بدأت اعتمادَ سياسة التفرقة
العنصرية apartheid. ولم يكن باستطاعة مئات الملايين من شعوب المستعمرات في أفريقيا وآسيا،
وحوض البحر الكاريبي، وغيرها من الأقاليم، أن تجدَ فرصة للتصويت على الوثيقة الوحيدة
التي
تُعلن إقرار حقوقهم الطبيعية.
تُرى … كيف نُقيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: هل كان خطوةً واسعة إلى الأمام بالنسبة
إلى
البشرية، أم كان وثيقةً توافقية مجردة من الإخلاص؟ ذهبَت الكثير من حكومات ذلك الزمان
إلى
اعتبار الإعلان مجردَ «إعلان مبادئ» من حقِّ الحكومات أن تأخذ منه ما تراه مناسبًا لها،
وتُهمل
ما عدا ذلك، طالما كان قرارُ الموافقة عليه قد تم في الجمعية العامة وليس في مجلس الأمن،
فلا
يعدُّ ملزمًا للدول الأعضاء. ولا شك أن وزارة الخارجية الأمريكية حذَّرَت الوفدَ الأمريكي
من أن
يتضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أيَّ صياغة تتعلق بالتطبيق أو وضْع القواعد التنفيذية،
ولا شك — أيضًا — أن معظم الحكومات حرصَت على ذلك. بعبارة أخرى، شتان بين إعلانِ حقِّ
كلِّ إنسان
«في الحصول على التعويضات العادلة»، وإجبار الحكومات على وضْع القواعد التنفيذية التي
تُلزمها
بذلك. وبينما نصَّت ديباجةُ الإعلان على أن «كل فرد وكل مؤسسة في المجتمع» يجب أن يُناضل
من أجل
تحقيق الاحترام للحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان، فإن ذلك الإعلان يختلف عن
ميثاق
الأمم المتحدة بما اشتمل عليه من أمور على الدول الأعضاء الالتزام بها.
غير أن الإعلان كان خطوةً إلى الأمام في قصة البشرية لا يجب التنصُّل منه تنصُّلًا
تامًّا؛ لأن
الأعداد الكبيرة من المجموعات والأفراد (الاتحادات الوطنية والدولية — البرلمانات — ناشطي
حقوق الإنسان — نقابات العمال — الحركات النسائية — الكتاب والعلماء والمفكرين) أولئك
الذين
تطلَّعوا إلى صدور هذه الوثيقة وناضلوا من أجل ذلك، لم يرَوا في صدورها خاتمة القصة،
بل
بدايتها. وشعرَت جماعات الضغط التي تمثِّل الطوائف الدينية والعِرقية التي تعرَّضت لمآسي
الكساد
العالمي الكبير وفظائع الحرب العالمية الثانية، أن صدور الإعلان قد زوَّدها بالقوة الدافعة
لحركتها، ورأَت فيه خطوة أولى على طريقٍ يحتاج المضيُّ عليه إلى التكاتف والتآزر من أجل
تحويل
حقوق الإنسان العالمية إلى حقيقة ملموسة.
أضِف إلى ذلك، أن الإعلام أصبح لديه موضوعٌ يركِّز الاهتمام عليه، ولا يقتصر ذلك
على الصحافة
الليبرالية في الغرب، بل يمتدُّ إلى صُحُف المعارضة في البلاد التي تتعدَّى على حقوق
الإنسان.
وأصبحَت هنا معايير لقياس مدى التزام الحكومة بتحويل أقوالها إلى أفعال، والتمييز بين
ما هو
إيجابي وما يتسم بالسلبية. وأخيرًا، هناك حكومات أخذَت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
مأخذَ
الجد، وأقامَت وكالات وإدارات خاصة لمعالجة القضايا الخاصة بحقوق الإنسان (وينسحب ذلك
على
معظم الدول الليبرالية المهتمَّة بالرفاه الاجتماعي في الشمال). وكان عددُ تلك الدول
قليلًا في
بداية الأمر، ونظرًا لارتباط الإعلان بالمجتمع المدني الدولي بدأَت تتزايد أعدادُ الدول
المعنية، «وما لبث التصريح أن دبَّت فيه الحياة بسرعة»، على حدِّ قول لورين
Lauren. ولمَّا كان
صدورُ الإعلان عن الجمعية العامة بأغلبية كبيرة دون أن تكون هناك أصوات رافضة (إذ اقتصر
الأمر على الامتناع عن التصويت) فإنه — في رأي فيرار
Farer وجاير
Gaer — «أصبح محددًا
ملزمًا لسلوك الدولة»، وتلك بداية لا بأس بها على أيِّ حال.
٩
ولكن، كيف تم التعامل مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ هنا نجد سجلَّ حقوق الإنسان
يغلب
عليه الخلط، والإحباط أحيانًا. فعلى الصعيد المؤسسي، برز الضعفُ الوراثي في نظام الأمم
المتحدة على الفور. كانت الإدارة المركزية هي «لجنة حقوق الإنسان» التابعة للمجلس الاقتصادي
والاجتماعي، وبالتالي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي؛ وبذلك لم يَزِد مركزُها القانوني
على غيرها
من اللجان الأخرى مثل لجنة الأمم المتحدة للإحصاء أو لجنة المخدرات، فهي تقدِّم التقارير
والمشورة، ولكنها لا تُصدر القرارات. وجاء إنشاء «لجنة الأمم المتحدة لأوضاع المرأة»
ليقتطع
جانبًا من اختصاص لجنة حقوق الإنسان، واقتطعَت اللجان الخاصة بالتجارة بالجنس، والجرائم
الدولية، والحد الأدنى لسنِّ زواج البنات جانبًا آخر من دائرة الاختصاص. يمكن القول إن
الأمم
المتحدة أصدرَت العديد من القرارات، وأقامت المؤسسات الجديدة المختلفة في مجال حقوق الإنسان.
فالسنوات الخمس عشرة الأولى شهدَت تتابعَ صدور الإعلانات تلو الأخرى: اتفاقية أوضاع اللاجئين
(١٩٥١م)، واتفاقية الحقوق السياسية للمرأة (١٩٥٢م)، والقواعد السياسية للحدود الدنيا
لمعاملة
السجناء (١٩٥٥م)، والاتفاق الدولي لإنهاء كلِّ أشكال التمييز العنصري (١٩٦٥م).
غير أن التغيُّرَ الكبير جاء به القرار الخاص بإصدار ميثاقَين تُوَقِّعهما الدول
الأعضاء؛ أولهما
عن الحقوق المدنية والسياسية، وثانيهما عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية،
ومن ثَم
تقويض دعائم التوازن الذي صنعه كاسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
١٠
ولم يخلُ تنفيذ ذلك من الكثير من الجدل، فلم يتمَّ تبنِّي الميثاقَين إلا عام ١٩٦٦م.
وليس من
الغريب أن ما أُثير من جدل حول الميثاقَين كان قريبًا مما أُثير في ١٩٤٦–١٩٤٨م حول طبيعة
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فقد ذهب دعاةُ إصدار ميثاق واحد إلى خطأ التورُّط في
الفصل بين
الحريات السياسية وغيرها من الحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ لأن وجود الأولى
دون
الأخرى سوف يجعل من تلك الحقوق حقوقًا اسمية محضة، وأن القدرة على التصويت الحر في
الانتخابات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتأمين العيش الكريم. أما دعاة الفصل بين الميثاقَين،
فذهبوا إلى أن الحقوق المدنية والسياسية هي وحدها التي لا تقبل الفصل، ويمكن أن يوفر
القضاءُ
الحمايةَ لها في حالةِ تعرُّضِها لعدوان الدولة، وأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
ذات طبيعة إعلانية تعبِّر عن التطلُّع إلى المجتمع المثالي، تقف العديدُ من العقبات في
وجه
النضال من أجلها، ولكنها لا تبدو ملحَّة. ولذلك عندما أبرم «الميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية» عام ١٩٦٦م، لم تتقاعس الدول الأعضاء عن التوقيع والتصديق عليه،
لأنها
رأَت أن النصَّ على الحق في الضمان الاجتماعي، والتعليم، والمسكن، والغذاء، إنما هي مجرد
«تطلعات» لا تلزم الحكومات، وأن من حق الحكومات أن تتعامل مع هذه «التطلعات» بالطريقة
التي
تناسبها. فقد تعمل السويد والدنمارك على أن توفر لمواطنيها الحقوقَ الاقتصادية والاجتماعية
والخدمات الصحية من المهد إلى اللحد، ولكن الولايات المتحدة المحافِظة لا تفعل ذلك، رغم
عدمِ
اعتراضِها على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يغطي الحقوق السياسية والقانونية.
كما أن
ثلثَي دول العالم لا تمتلك القدرة على ذلك حتى لو كانت لديها الرغبة فيه. ولعل أفضل ما
يمكن
قوله إن هذين الميثاقَين قد دعَّمَا حقوق الإنسان، وجعلَا من أجندة حقوق الإنسان موضوعًا
عامًّا
أثقل وزنًا من ذي قبل. ولمَّا كنَّا قد ناقشنا الأجندات الاقتصادية والاجتماعية للأمم
المتحدة
في فصل سابق، سوف نركِّز هنا على المسيرة الطويلة الوئيدة لتحقيق الحريات المدنية والسياسية،
والحق في عدم التعرُّض للاعتقال والتعذيب والقتل، والإبعاد عن الموطن، والحرمان من حق
التعبير
أو حق التصويت، وعدم التعرض للتمييز على أساس عِرقي أو ديني أو ثقافي. هذه جميعًا تمثِّل
العمود الفقري للأجندة الدولية لحقوق الإنسان في الماضي والحاضر على السواء. وتمثِّل
هذه
الأجندة بدورها التمييزَ بين التطلعات الكبرى والنتائج المتواضعة.
وقد حدث تقدُّم على مستويَين مثَّل كلٌّ منهما دعمًا لصاحبه: أولهما مجال الرصد والمراقبة
المستمرة، والآخر توسيع دائرة الوعي العام بتلك الحقوق وزيادة مساحة التطلعات العامة
تجاهها. وتُوازي قصة الرصد والمراقبة ما ذكرناه من قبلُ عن الأجندات الاقتصادية والاجتماعية،
وقد كان الميثاقان أداتَين لوضع معايير عالمية، وإرساء نظام لجمع المعلومات والتقارير،
للوقوف على مدى الالتزام بالمبادئ التي جاءت بالميثاقَين. وتقرر اجتماع «مجلس الأمم المتحدة
لمحاربة الجريمة ومعاملة السجناء» مرة كل خمس سنوات للنظر فيما تم إحرازه من تقدُّم (أو
تقاعس) في هذا المجال. وكان على كلِّ الدول الأعضاء أن تُقدِّم تقارير عن الخطوات التي
قامَت
باتخاذها وفقًا للميثاق فيما اتصل بمكافحة التمييز العنصري، وتتولَّى «لجنة منع التمييز
العنصري» فحصَ هذه التقارير وتصفيتها واستخلاص النتائج منها. وقرر المجلس الاقتصادي
والاجتماعي — عام ١٩٥٦م — أن تقوم كلُّ الدول الأعضاء بإرسالِ تقريرٍ كلَّ ثلاث سنوات
إلى الأمين
العام للأمم المتحدة، تُبيِّن فيه ما تم إنجازُه في مجال تنفيذ المبادئ الواردة في الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان، كما كان على المؤسسات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة أن تفعل
الشيء
نفسه. وطُلب من «منظمة العمل الدولية» أن تقدِّم تقاريرَ عن الحالات التي يتمُّ فيها
تسخير
الأفراد للعمل أو حالات الاسترقاق. وتضمَّنَت آليات العمل في بعض مراحلها تلقِّي شكاوى
فردية،
على نحو غير مسبوق.
وإذا أخذنا في الاعتبار تفاصيل الانتهاكات التي لحقَت بتلك القرارات (في الصفحات التالية)
فقد يؤكد ذلك ما ذهب إليه نقَّاد الأمم المتحدة من المحافظين، الذين رأوا في الأمم المتحدة
إطارًا للأفكار المثالية الحالمة البعيدة عن الواقع، وأنها بارعة في خلق وظائف ذات رواتب
كبيرة في جهازها البيروقراطي في جينيف أو نيويورك، ولكنها فاشلة في أداء مهامها. غير
أن من
الممكن القول إن عملية جمع البيانات وإصدار التقارير تُعدُّ من أفضل السبل للإبقاء على
اهتمام
العالم بقضايا حقوق الإنسان، وإحراج الحكومات التي تنتهك تلك الحقوق. أضِف إلى ذلك أن
مراقبة
وكالات الأمم المتحدة لأوضاع حقوق الإنسان ما لبثَت أن توازَت مع عملِ المنظمات غير الحكومية
القوية، والمؤسسات الكنسية، ووكالات الغوث التي كان لها جميعًا عاملون في الميدان يراقبون
الانتهاكات، وكذلك الجماعات التي مارسَت الضغوط في الغرب من أجل تحسين معاملة اليهود
في
الاتحاد السوفييتي والمسيحيين في الصين.
هذا الوعي الواسع بانتهاكات حقوق الإنسان صاحبَهُ في الستينيات شيوعُ الاهتمام «بحقوق
الفرد».
١١ وكان المحرك الأكبر لذلك حركة الحقوق المدنية في أمريكا، وأضافَت الحملة
الواسعة لحقوق المرأة في المساواة رصيدًا إلى الضغوط المطالِبة بالتغيير، وزادَت فظائع
حرب
فيتنام من الغليان. فلم يَعُد هناك مكانٌ للعسف، واحتكار السلطة والتمييز في عصر عرَف
التوسع في
التعليم، وشَهِد جيلًا جديدًا يتحدَّى السلطات، كما شَهِد تراجعَ المبادئ الاجتماعية
المحافظة.
وكما لاحظنا في الفصل السابق، كان من الصعب على الليبراليِّين أن يشنُّوا حملة من أجل
الحقوق
المدنية في الولايات المتحدة، ولا يقفون في وجه التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا. واعتبرَت
الحركة النسوية في الشمال المساواة النوعية «ضرورة» عالمية، وأصبحَت هذه القضية قضيةً
عالمية
الأبعاد والرؤى. وصاحبَ هذه الحركات الراديكالية التي شهدَتها الستينيات، حركة التصفية
السريعة للمستعمرات، واستقلال العديد من بلاد العالم الثالث، بما جلبَته معها من أجندة
حافلة
بالشكاوى من النظم السائدة سواء كانت «الاستعمار الجديد» أو استمرار التمييز العنصري.
ومع
استمرار مظاهرات الاحتجاج في شوارع المدن الكبرى والجامعات أواخر الستينيات، بدَا العالم
مقلوبًا رأسًا على عقب، وأن قضايا حقوق الإنسان سوف تندفع إلى الأمام بقدراتها
الذاتية.
غير أن ما شهدَته الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان،
كانت من أبشع ما شهده القرنُ العشرون باستثناء الجرائم اللاإنسانية التي ارتكبَتها النازية.
١٢ وقد انصرف اهتمامُ الليبراليين الغربيين — عندئذٍ — إلى التركيز على الانتهاكات
التي قامت بها النظم الشمولية اليمينية والنظم العنصرية. وكان جنوب أفريقيا مستهدفًا
دائمًا
لإنكاره حقوقَ المساواة في الحقوق للسود وغيرهم، وكذلك المستعمرات البرتغالية في أنجولا
وموزمبيق، والنظام الاستيطاني في روديسيا، طالما كان هؤلاء جميعًا يرمزون إلى قهر البيض
للعناصر العِرقية الأخرى. كما كان هناك نقدٌ مرٌّ مستمرٌّ لحكم العسكر في اليونان، والحكم
الشمولي
المستمر للجنرال فرانكو في إسبانيا، وأنطونيو سالازار في البرتغال، والنظم العسكرية في
أمريكا اللاتينية التي نجحَت في تحقيق «اختفاء» الصحفيِّين النشطاء المحليِّين، (البرازيل
–
الأرجنتين — باراجواي). وضاقَت منظمات حقوق الإنسان — أيضًا — بالممارسات القمعية العسكرية
البريطانية في ألستر
Ulster، أو الجرائم التي ارتكبَتها العسكرية الهندية في كشمير.
غير أن الفظائع الأخرى وقعَت في مكان آخر؛ فقد أعقب مأساة التجربة الاقتصادية (خطوة
واسعة
إلى الأمام) التي قام بها ماوتسي تونج في الخمسينيات، والتي أدَّت إلى وفاة ثلاثين مليون
صيني
تقريبًا، قيام الحرس الأحمر ببثِّ الرعب في قلوبِ كلِّ من جاءوا من أصول بورجوازية، وألحقوا
الدمار بالمعابد والأعمال الفنية القديمة، وما مارسَته دول حِلْف وارسو من مظالم ضد المعلمين
والمفكرين وغيرهم ممن يجرءون على التحدُّث عن الحريات المدنية، وقمع الاحتجاجات في بودابست
عام ١٩٥٦م، وبراغ عام ١٩٦٨م. كانت تلك الأعمال جميعًا تسخر من الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان.
ويلاحظ أن وكالات الأمم المتحدة المتخصصة لم تلعب دورًا بارزًا في إلقاء الضوء على تلك
الانتهاكات والاحتجاج عليها، مقارنةً بمنظمة العفو الدولية، وكيف كان باستطاعتهم ذلك
ووجودهم
ذاته يعتمد على توافق القوى الكبرى؟
ولعل ما حدث في كمبوديا في السبعينيات كان الأكثرَ بشاعة، عندما ملك الخمير الحمر
زمامَ
الأمور في البلاد، وسِيقَ الملايين من الكمبوديين الأبرياء — على اختلاف أعمارهم — خارج
المدن
حيث لقوا حتْفَهم. وتعرَّض ما يقرب من عشرين ألف مواطن كمبودي للتعذيب حتى الموت في إحدى
المدارس التي تم تحويلها إلى مركز للتحقيق للخمير الحمر، وما زالت جماجم أولئك الضحايا
شاهدةً على هذه المأساة في «متحف التطهير العِرقي». ولعل ستالين أو حتى هتلر قد تُصيبهما
الصدمة إذا شاهدوا ذلك؛ فقد تم قتل ما يزيد على ثُمن السكان، مما يجعل من ذلك التطهير
العِرقي
«أكبر نسبة من الخسائر في الأرواح لحقَت بدولة واحدة في القرن العشرين»، فلا عجبَ من
أن يُطلق
عليها اسم: «ميادين القتل».
١٣
ولم يكن بالإمكان عملُ الكثير في مواجهة المذابح في كمبوديا؛ فالجمعية العامة للأمم
المتحدة لا تملك حقَّ التدخل. فقد تصدق على تقارير لجنة حقوق الإنسان التي تَصِلها من
خلال
المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك الإحصاءات السنوية عمَّا تحقق من «تقدم» نحو تطبيق
الإعلان العالمي أو الميثاق المناهض للعنصرية، ولكن هذه الصلاحيات لا تُصاحبها قوة إبراء
أو
إلزام. وليس من اختصاصِ أيٍّ من مؤسسات الأمم المتحدة حقُّ التدخل سوى مجلس الأمن، ولكن
الحرب
الباردة أدخلَته في مرحلة الجمود، وكذلك فعل الفيتو الذي تتمتع به الدولُ الخمس الدائمة
العضوية. ولعبَت الصين دورَ الحامي (إن لم يكن الراعي) للخمير الحمر؛ ولذلك لم تكن هناك
مهمة
حفظ سلام في كمبوديا. كذلك كانت الصين لا تقبل بإجراء تحقيقات أو قرارات تتعلق بشئونها
الداخلية فيما يتعلق بانتهاك الحريات في التبت. وينسحب ذلك على الاتحاد السوفييتي الذي
قاوم
محاولة مجلس الأمن سحْقَه لانتفاضة «ربيع براغ» عام ١٩٦٨م، أو عمليات القمع التي قام
بها ضد
المعارضة الداخلية. كانت المادة الثانية من القسم السابع لميثاق الأمم المتحدة تُلقي
بظلال
كثيفة على هذه الأمور، فحوَّلَت نصوص الإعلان العالمي إلى مجرد كلمات لا حول لها ولا
قوة. لم
يكن الجانب الشيوعي الملوم وحده؛ فقد قدمت فرنسا الدعم الاقتصادي والعسكري للديكتاتوريات
في
مستعمراتها السابقة بغربي أفريقيا. وبدافع الخوف من التقدم الشيوعي، قدَّمت الولايات
المتحدة
المساعداتِ والحمايةَ للنظم الشمولية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، حتى تكسبَهم
إلى
جانبها، فلا يميلون صوب موسكو أو بكين. وعانَى الكثيرُ من الليبراليين والراديكاليين
في شيلي
والسلفادور السجنَ والتعذيب والقتل على يد حكومات حظيَت بمباركة البيت الأبيض.
والحق أن الأمم المتحدة لا تستطيع أن تفعل إلا القليل، أو لا تفعل شيئًا على الإطلاق
لمواجهة مثل تلك الانتهاكات، ما لم يُصدر مجلس الأمن قرارًا بالتدخل. ولا تستطيع الأمانة
العامة والوكالات التابعة لها أن تُشير بإصبع الاتهام إلى أيٍّ من الدول الكبرى؛ ولذلك
ناضلَت
من أجل أن تظلَّ سياسية بقدر الإمكان. ففي التقرير الذي صدر عنها بمناسبة عيدها الخمسين
بعنوان: «الأمم المتحدة وحقوق الإنسان ١٩٤٥–١٩٩٥م» (الذي قدَّم له الأمين العام بطرس
بطرس
غالي) نفضَت المنظمةُ يدَها من المسئولية. ورغم أن التقرير يضم مجموعة ممتازة من الوثائق،
ويروي قصة التوصل إلى الميثاقَين المتعلقَين بحقوق الإنسان، التزم المجلد جانبَ الحياد
التام
في الفصل السابع الذي حمل عنوان: «إدارة النظام: من الميثاقَين الدوليَّين إلى المؤتمر
الدولي
بفيينا عن حقوق الإنسان ١٩٦٧–١٩٩٣م»، فقد صيغ الفصل صياغة بيروقراطية تبريرية. تم إقناع
القارئ بأن «لجنة حقوق الإنسان» ما هي إلا لجنة «توفيقية»، لها — ببساطة — طبيعة «استعلامية
تحقيقية»، عملها الأساسي تلقِّي التقارير. وقد تدخل في «حوار بنَّاء» مع الحكومات فيما
يتصل
بالأمور المتصلة بالميثاقَين. وخلَا التقرير من ذكر أيِّ بلد استخدم فيها النظام، فلا
ذكر
للسلفادور أو التبت أو كمبوديا.
وحتى بالنسبة إلى المنظمة الوحيدة التي لها صلاحيات التدخل، وهي اللجنة التي أنشأتها
اتفاقية «مكافحة التعذيب وغيره من أعمال القسوة غير الإنسانية أو المعاملة المهينة أو
العقاب»، وتُخوِّلها الاتفاقيةُ حقَّ التحقيق «في الأوضاع القائمة في البلد العضو»، حتى
هذه
اللجنة أصبحت واهنةً لا نفعَ فيها؛ إذ افتقرت إلى الموارد المالية الضرورية، ولم تُخول
حقَّ فرض
عقوبات أو إلزام الدولة المخالفة بشيء؛ فالعملية كلها «تعالج في جميع المراحل بين اللجنة
وممثلي الدولة المعنوية التي يتم فحصُ ممارساتها، بسرية تامة». ولعل أكثر ما احتوى عليه
التقرير إثارة للسخرية هو إشارته إلى قرار الجمعية العامة باعتبار عام ١٩٦٨م «العام الدولي
لحقوق الإنسان» بمناسبة مرور عشرين عامًا على صدور الإعلان العالمي، مع عقد مؤتمر بهذه
المناسبة في طهران، حيث كان البوليس السري للشاه يرتكب كلَّ الانتهاكات التي ينهى عنها
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ولكن مثل هذه الفظائع لا يمكن إبقاؤها طيَّ الكتمان إلى الأبد؛ فقد لعب التليفزيون
دورًا
هامًّا في تغطية حرب فيتنام إلى درجة سبَّبَت الحرج لإدارة جونسون، أو تغطية «يوم الأحد
الدامي» في بلفاست، أو سحق المظاهرات في ميدان «تيان آن من» في بكين. وجهود منظمة العفو
الدولية لا يمكن إنكارها، أو التحقيقات الصحفية التي جلبَت التقارير عما يجري من فظائع
في
مختلف أنحاء العالم إلى الرأي العام. كما تلقَّت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الآلاف
من
شكاوى الأفراد، وسواء أهملت الدول المعنية الردَّ عليها أو قدَّمت ردودًا سلبية، فإنها
تتعرض
علنًا للحرج. وظهرَت صحفٌ جديدة ومنظمات معنية بحقوق الإنسان. ففي منتصف السبعينيات تخلَّصَت
إسبانيا والبرتغال واليونان وتركيا من الحكم الشمولي، في وقت واحد تقريبًا. وفي الولايات
المتحدة اهتمَّ الرئيس جيمي كارتر بأجندة حقوق الإنسان بصورة غير مسبوقة وحوَّلها إلى
حملة
دولية، ولكن ما لَبِث أن واجه تحفُّظات الجمهوريين المحافظين من أمثال إليوت أبرامز وجان
كيركباتريك، الذين رأوا معالجة القضية «بالطريقة الأمريكية»، بمعنى التركيز على الحقوق
السياسية وحدها دون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وكانت تلك الحملة أداةً لإحراج الأنظمة
الماركسية، سواء في ذلك دول حلف وارسو، أو جمهورية الصين الشعبية أو موزمبيق وغيرها من
الدول الاشتراكية في العالم الثالث. ولم تَعُد حقوق الإنسان مسألةً تُعالج تحت الطاولة
في
السياسة الدولية. وكان لا بد من حدوث ذلك على ضوء التحول الذي حدث في الاقتصاد العالمي،
وثورة الاتصالات، والآليات الاجتماعية الجديدة، وتصفية الاستعمار. ومن المؤسف أن وكالات
الأمم المتحدة عجزَت عن قيادة هذا التغيير.
وقد أخذَت العمليةُ كلُّها دفعةً كبيرة بصدور قانون هلسنكي النهائي في أغسطس ١٩٧٥م
بعد عامين من
المفاوضات بين الشرق والغرب، وقد وقَّعَت على الاتفاق ٣٣ دولة أوروبية (الجميع ما عدا
ألبانيا)، وكندا والولايات المتحدة
١٤ وقد أطلق على العملية اسم «مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا» (
CSCE)، وكان من
السمات الرئيسية للوفاق بين نيكسون وبريجنيف الذي لعب هنري كيسنجر الدور الأساسي فيه.
وقد
أولى الرأي العام الدولي — عندئذٍ — قانون هلسنكي اهتمامًا كبيرًا، وخاصة بُعْده الأمني
الذي
اعترف رسميًّا بالحدود السياسية القائمة في أوروبا (بما فيها حدود الألمانيَّتَين الشرقية
والغربية)، وبتبادلِ المراقبين في المناورات العسكرية لحلف الأطلنطي ووارسو. ولعل المواد
الخاصة بحقوق الإنسان في تلك الاتفاقية كانت من أبرز سماته. فقد سمح الاتفاق بالمراقبة
المتبادلة وإعداد التقارير على الجانبَين. ويبدو أن بريجنيف لم يُعطِ تلك المواد اهتمامًا،
فقد
كانت — عنده — مثل النص في مؤتمر يالتا على إجراء انتخابات «حرة» في بولندا. ولكن الظروف
تغيَّرَت الآن لعدة أسباب: أولًا، كانت هناك مؤتمرات لمراجعة التطبيق عقدَت في بلغراد
(١٩٧٧ –
١٩٧٨م)، وفي مدريد (١٩٨٠–١٩٨٣م)؛ حيث عاد عامل المتابعة الحساس يلعب دورَه من جديد. وثانيًا،
أُقيم «مرصد حقوق الإنسان»
Human Rights Watch بمساعدة مؤسسة فورد، ليصبح أهمَّ منظمة غير
حكومية في الميدان منذ تأسيس منظمة العفو الدولية قبل ذلك بعقدَين من الزمان، واختص المرصد
بمراقبة تنفيذ المواد الخاصة بالحقوق السياسية في اتفاقية هلسنكي. وخلال عام صدر ميثاق
٧٧
على يد المعارضين التشيك مثل فاسلاف هافل — بمساعدة أمريكية — ليُقيمَ الدليل على أن
قمع «ربيع
براغ» قبل ذلك بتسع سنوات لم يُؤتَ أكله. وبعد ذلك بقليل، أسَّس عمال ميناء جدانسك البولندية
«حركة التضامن» للنضال من أجل الحقوق الاقتصادية والسياسية، وشكَّلت بذلك تحديًا واضحًا
للنظام الشمولي، ولكن لم يكن من السهل قمعها بعد اتفاقية هلسنكي، ومع وجود الكنيسة
الكاثوليكية القوية التي يرأسها بابا بولندي.
وهكذا، كان عقد الثمانينيات متميزًا في قصة حقوق الإنسان؛ فقد تداعَت النظم الشمولية
في
الكثير من أرجاء العالم: أمريكا الجنوبية، وسط أوروبا، بعض بلاد أفريقيا، كوريا، حتى
الصين
(على الأقل فيما يتعلق بالحرية الاقتصادية). ولكن تلك النظم ظلَّت قائمة في دول أخرى.
لعل ذلك
يرجع إلى أن انتشارها اتخذ طابعًا دوليًّا منظمًا، ولا سبيل إلى استثناء بعضها، حتى لو
حاولت الأطراف المعنية الإبقاء عليها. وفي أوائل الثمانينيات، بدأت وزارة الخارجية
الأمريكية — بتوجيه من الكونجرس — نشْرَ تقرير سنوي عن أوضاع حقوق الإنسان في جميع بلاد
العالم
(باستثناء الولايات المتحدة طبعًا)، واحتوَت التقارير على عرضٍ فجٍّ للانتهاكات التي
تقع في
البلاد الشيوعية، ولكنها تناسَت مذابح الهنود الحمر على يد جيش جواتيمالا. ولكن إدارة
ريجان
لم تستطع متابعة السياسة ذات الوجهين، فتطالب القادة السوفييت بإزالة الحواجز التي تحول
دون
اندماجها في المجتمع الدولي، بينما تشجع وتدعم الحكومات المستبدة الطاغية في أمريكا الوسطى.
عندئذٍ خصَّص المرصد الدولي لحقوق الإنسان، مرصدًا لأمريكا، ثم آخر لآسيا، حتى لا يفلتَ
أيُّ
إقليم من المراقبة. وفازَت منظمة العفو الدولية بجائزة نوبل للسلام عام ١٩٧٧م، وهي جائزة
تُوجه
الأنظار إلى كلِّ مَن يفوز بها. وجاء مقتل الأسقف أوسكار روميرو أثناء قيادته لقداس احتفالي،
ليُسبب صدمة للكاثوليك في أمريكا اللاتينية التي تخلَّصت من النظم اليمينية. وأصبحت الشمولية
تمثِّل طرازًا من أنظمة الحكم عفا عليه الزمن، في الشرق والغرب على السواء.
ويلفت النظر في هذا المشهد الحافل بالمتناقضات ثلاثة أحداث شهدها عامَا ١٩٨٩–١٩٩٠:
ففي
يونيو ١٩٨٩م أمرَت حكومة الصين بسحق مظاهرة للطلبة في ميدان تيان آن من ببكين، وهو عملٌ
شبيهٌ بما
حدث في بودابست (١٩٥٦م) أو براغ (١٩٦٨م)، وقد سجلت تليفزيونات العالم أعمالَ القمع التي
تعرَّض
لها طلابُ الصين. نحن هنا أمام نظام شيوعي قوي ومتماسك يستطيع استخدامَ العنف دون حساب،
بما
في ذلك الدبابات، ضد مواطنيه، وربما لحق من قبض عليهم من الطلاب بالآلاف الذين قتلوا
في
الميدان. وفي مناطق أخرى كان المدُّ يتجه وجهةً أخرى، فقد شَهِد العام ١٩٨٩م تحطيمَ سور
برلين
وانهيارَ جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ليعقبَ ذلك في العام التالي توحيد ألمانيا وتفكيك
حلف
وارسو، وتلا ذلك سقوطُ الاتحاد السوفييتي نفسه، وبذلك انتهَت الحرب الباردة بسلام، فيما
عدا
رومانيا والقوقاز. انتهَت التجربة السوفييتية التي قامت على فرض التغيير الاجتماعي بالقوة،
«ما أقصر القرن العشرين!»
١٥ على بُعد خمسة آلاف ميل، كان هناك نظامٌ يتأرجح من ميراث الأربعينيات؛ فقد تقلَّد
دي كلارك
de Klerk الحكمَ في جنوب أفريقيا عام ١٩٨٩م، وبعد عام واحد بدأ عملية الهدم الممنهج
لنظام التفرقة العنصرية الذي سوف يقود إلى حكم الأغلبية السوداء. وتولَّى الحكم في بلادهم
سجناء السبعينيات من أمثال نيلسون مانديلا، وفاسلاف هافل. وجاء الرئيس جورج بوش ليُعلن
–
فيما بعد — «نظامًا دوليًّا جديدًا»، وهو ما بدا كذلك عندئذٍ، ما في ذلك شك؛ فقد شعر
نشطاء
حقوق الإنسان في العالم بالغبطة، حتى مع تسليمهم بأنه لم يتمَّ سوى عمل القليل.
لقد آن الأوان لتقييم كلِّ ما تم عمله؛ ففي ١٩٩٠م اتخذَت الجمعيةُ العامة قرارًا
— بضغط من
حركة عدم الانحياز — بعقد مؤتمر دولي عن حقوق الإنسان بمجرد انتهاء اللجان التحضيرية
من
عملها. ولكن المؤتمر لم يُعقد إلا عام ١٩٩٣م في فيينا، علامة مبكرة على أن التوصل إلى
اتفاق
لن يكون أمرًا سهلًا. ورغم ذلك توفَّرت للمؤتمر كلُّ مقومات النجاح، وجاء تعبيرًا عن
اهتمام
المجتمع البشري بالعمل المشترك من إرساء مبادئ عالمية. «اجتمع في فيينا عشرة آلاف مشارك
تقريبًا، بينهم ثمانية من رؤساء الدول، وتسعة من رؤساء الحكومات، ووزراء العدل والخارجية
من
١٧١ دولة، وثلاثة آلاف من ممثلي المنظمات غير الحكومية، وحوالي ٢٥٠٠ صحفي وإعلامي من
جميع
أنحاء العالم». وقد سبق انعقادَ المؤتمر اجتماعُ منتدى المنظمات غير الحكومية لمدة ثلاثة
أيام، وحمل المنتدى اسمَ «كل حقوق الإنسان للجميع». وصدَر عن المؤتمر الرسمي «إعلان فيينا
والبرنامج التنفيذي» (
VDPA)، وهو وثيقةٌ مطوَّلة تحتوي على مجموعة من المبادئ، وخطة للعمل
التنفيذي تتم مراقبتُها دوريًّا، مع إصدارِ تقريرٍ كلَّ خمس سنوات بالتقدم الذي تم إحرازه.
ومن
أهم ما صدر عن المؤتمر التوصية بإقامة «المفوضية العامة للأمم المتحدة لحقوق الإنسان»
(
OHCHR)، وقد حظيَت التوصية بموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد خمسة شهور.
١٦
وغلبَت على المناقشات التي دارَت على مدى تسعة أيام، وعلى وثائق المؤتمر تأكيد مناخ
عصر ما
بعد الحرب الباردة، مما يدل على ربط الأشياء ببعضها البعض. فقد تم النظر إلى حقوق الإنسان
باعتبارها مكونًا حيويًّا للتنمية، وإلى التنمية باعتبارها السبيل لضمان حقوق الإنسان.
واعتبر الفقر وسوء التغذية، والإقصاء الاجتماعي، وغياب الرعاية الصحية عدوانًا على كرامة
الإنسان، ووبالًا على حقوق الإنسان الفعلية تَصِل إلى مستوى الاعتقال دون مبرر قانوني
وكذلك
العدوان على البيئة. ولمَّا كان المؤتمر قد عُقد فيما بين مؤتمر ريو (قبل ذلك بعام) ومؤتمرَي
القاهرة وبكين في العامَين التاليَين فقد كان ذلك متوقعًا. وتأرجح البندول في المناقشات
جيئةً
وذهابًا بين الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في مقابل الحقوق السياسية والقانونية الأدق
تحديدًا. وقد ساعد ذلك على تأييد أصحاب النظرة الأوسع لمفهوم حقوق الإنسان.
ولكن كان يصعب الخروج من مؤتمر فيينا دون الشعور بأنه جاء تحصيلًا لحاصل؛ فقد وافقت
الوفود على إعلان «حق التنمية»، ودعَوا إلى اتخاذ خطوات أبعد لتحسين حقوق المرأة في العالم.
وطالبوا الدولَ بالتصديق على اتفاقية حقوق الطفل عام ١٩٩٥م. وأكَّدت حقوق العناصر الوطنية
والعناصر المنتمية إلى السكان الأصليين (لبعض البلاد)، ودعَوا إلى رعاية العمالة المهاجرة،
والحق في المطالبة باللجوء والحصول عليه. وطالبوا بإنهاء كلِّ أشكال التمييز والعقوبات
غير
العادية المتسمة بالقسوة. وإذا نظرنا إلى ذلك كلِّه نظرةً شاملة نجد أن تلك القرارات
تقرِّب
العالم من مطالبة المنظمات غير الحكومية بجميع الحقوق لجميع البشر.
١٧
وكما جرَت العادة مع الإعلانات التي تصدر عن الأمم المتحدة، كان ثمة الكثير من المعارضة
والغضب، والتردد في التسليم بالحلول الوسط، على نحوٍ يتباين مع ما نجده مكتوبًا على الورق.
كانت الخلافات — عندئذٍ — أقلَّ حدة بين الشرق والغرب، وأكثر حدة بين الغرب والجنوب.
كانت
حكومات جنوب شرقي آسيا والصين تتحسب لنفوذ المنظمات غير الحكومية وللمؤسسات ذات الطابع
السياسي، وطالبَت البلاد المتحررة اجتماعيًّا من بين الدول النامية بمعايير أكثرَ تشددًا
في
أجندة حقوق المرأة. وكانت هناك حساسية تجاه تحدِّي سلطة الدولة، والمعونات التنموية المشروطة.
وكان هناك هجومٌ على الاتجاه نحو تحويل المبادئ الغربية إلى مبادئ عالمية، وثارَت مناقشات
طويلة حول «القيم الآسيوية» وهو المصطلح المفضَّل عند ماليزيا وسنغافورة. والتقى وزراء
خارجية
منظمة (ASEAN) في سنغافورة ليضعوا صياغةً مشتركة للنص على ضرورة الأخذ في الاعتبار «الظروف
الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ذات الطبيعة الخاصة»، ويعني ذلك أنهم لا
يقبلون
الخضوع للمعايير الليبرالية (الغربية) فيما اتصل بالمساواة النوعية (حقوق المرأة)، وأسلوب
الحياة الفردي. وكانت الصين شديدةَ الحساسية لأي نقد يُوجَّه لسجلِّ حقوق الإنسان عندها
في مواجهة
الانتقاد الشديد «لنزعة الهيمنة في السياسة الدولية»، وأصبحت أكثرَ حنَقًا عندما أثارَت
بعضُ
المنظمات غير الحكومية ضرورةَ دعوة الدالاي لاما لإلقاء خطاب أمام المؤتمر، وتم رفض
الاقتراح. ومن نافلة القول، أن دعاة حقوق الإنسان على اختلاف أصولهم (وليس مَن جاءوا
من
الشمال وحدهم)، المطالبين بحقوق الإنسان من الأفارقة والمدافعين عن حقوق الإنسان من الهنود،
قد ناضلوا بقوة من أجل الحصول على إقرار بمطالبهم، وقاوموا الفكرة القائلة بالاختلافات
النسبية بين الثقافات.
ولكن معظم هؤلاء كانوا من غير ممثلي الدول، ومؤتمر فيينا كان اجتماعًا لممثلي الدول
الأعضاء في المنظمة الدولية. وقد كان وقْعُ ذلك صعبًا على المنظمات غير الحكومية؛ فقد
جاءوا
إلى فيينا تحدوهم آمال كبار معتمدين في ذلك على ما سبق تحقيقه في ريو، وكلهم ثقة في نظام
عالمي جديد (رأوه عالمهم)، ويأملون في نشر ثقافة حقوق الإنسان، ولكن الحكومات الغاضبة
لم
تمكِّنهم من ذلك. ورغم أن المنظمات غير الحكومية قدَّمت الكثير من الأفكار الجديدة، والعديد
من
مشروعات القرارات، أكثر مما فعل ممثلو الحكومات، فقد تقلَّص تمثيلُهم في المؤتمر وفي
لجان
صياغة القرارات. ولما كان ممثلو الدول يحرصون على الصياغات الدبلوماسية التوفيقية، فقد
وصف
مدير منظمة العفو الدولية محاضر المؤتمر «بالعار»، وعلَّق مدير المرصد الدولي لحقوق الإنسان
على هذا الذي حدث بقوله إنه «سعيد أن المؤتمر لا يُعقد إلا مرة واحدة كلَّ ربع قرن».
وفي مقال
معاصر علَّق ساخرًا أن من بين ما يدعو إلى التفاؤل حول رحلة حقوق الإنسان ومستقبلها في
الأمم
المتحدة «الجهود التي بذلَتها الحكومات لإعاقة فرصة التقدم إلى الأمام … وبسلوكهم هذا
اعترفوا
بما حققَته فكرة حقوق الإنسان من كسب لعقول رعايا تلك الحكومات.»
يفسر كل ذلك الصياغة المضنية لوثيقة فيينا؛ حيث تأرجح صُنَّاعها بين ما هو عالمي وما
هو من
سلطة سيادة الدولة، وكان أحسن ما استطاعوا الوصول إليه ما جاء بالفقرة الأولى من البند
الخامس:
«يجب أن يعالج المجتمع الدولي حقوق الإنسان على الصعيد العالمي بطريقة عادلة متساوية
من
حيث المستوى والتوكيد. وبينما يجب أن تكون الخصوصيات الوطنية والإقليمية ومختلف الأسس
التاريخية والدينية والثقافية موضع الاعتبار، فإن من واجب الدول حماية وترقية كل حقوق
الإنسان وحرياته الأساسية، بغضِّ النظر عن نظمها السياسية والاقتصادية والثقافية.»
وإذا أمعنا النظر في هذه الفقرة تبدو وكأن دعاة العالمية قد ظفروا ببغيتهم، ولكن
هناك
المشكلة المزمنة للجمعية العامة (وبالتالي مؤتمرات الأمم المتحدة)، التي تتمثَّل في كون
ما
يصدر عنها من وثائق يُعدُّ مجردَ إعلانات مبادئ. وما لم تعلن الدول الأعضاء التزامها
بمبدأ معين
أو موافقتها على أهداف معينة، لا نجد سوى تصريحات تعبِّر عن «النوايا الحسنة»، فنجد —
مثلًا —
بلدًا كاليمن لا يرغب في تغيير الأوضاع المحلية للمرأة، يضع توقيعه على وثيقة حقوق المرأة،
وكذلك تفعل الصين التي ترتاب دائمًا في تلك الوثائق. وكما يلاحظ كلارنس دياس
Clarence Dias
— أحد خبراء حقوق الإنسان ومستشاري مؤتمر فيينا — فإن الإعلانات مثل تلك التي تخص حقوق
المرأة «لا تأخذها الكثير من الدول مأخذَ الجد، ما لم تتحرك الأمم المتحدة من مجرد تأكيد
تلك
الحقوق إلى إقامة آلية فعالة للعمل على مراقبة حقوق المرأة والتزام الأعضاء بها».
١٨
وهو تعليقٌ منصف؛ فقد صدرت ستُّ اتفاقيات خاصة بحقوق الإنسان، إما في إطار إعلان فيينا
أو
جاءت تالية له، ولكن لم يوقع تلك الاتفاقيات ويصدق عليها سوى مجموعة مختارة من الدول،
واستمرَّت الولايات المتحدة الأمريكية في الامتناع عن توقيع اتفاقية حقوق الطفل، كما
لم توقع
على الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك نتيجة للضغوط
السياسية للمحافظين. فقد أصبحت المؤتمرات الدولية للأمم المتحدة مصدرَ إزعاج لصناع السياسة
الأمريكية الذين عُرفوا بارتيابهم التقليدي والدائم من كل ما يحدُّ من سلطتهم الوطنية.
ولكن،
مع وجود التايمز الثقافي الذي تم التعبير عنه في مناطق أخرى، وضع ذلك التعنت ضد الاتفاقيات
الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، أمريكا في مقدمة الدول النامية، التي تفعل الشيء نفسه،
بل أصبح موضوعًا للنقد من جانب الدول النامية ذاتها، وحركة منظمات المجتمع المدني (غير
الحكومية)، والإعلام الحر. وفي قمة الأرض في ريو، تعرَّضت الولايات المتحدة للتوبيخ لا
باعتبارها أكبر منتج في العالم للغازات الملوثة للبيئة فحسب، بل لمطالبتها الجنوب بالحد
من
الصناعة «القذرة» (أي الملوثة للبيئة)! وقد تعرَّضت الولايات المتحدة للنقد — فيما بعد
—
لارتفاع نسبة السجناء لديها، واستمرارها في تطبيق عقوبة الإعدام. وكان لذلك كلِّه نتائج
سيئة
تمثَّلت في تأكيد كراهية المحافظين الأمريكان للأمم المتحدة، وإعطاء الفرصة للدول النامية
للتعبير عن ضيقها لما تلقاه من عظات حول حقوق الإنسان في الوقت الذي تترك لهم حرية تنفيذ
الإصلاحات التي دعَت إليها الاتفاقات الدولية. وهنا نواجه سؤالًا له ما يُبرره: أيهما
على
خطأ: الدولة التي وقَّعَت بروتوكول فيينا وأعلنَت أنها لم تلتزم ببعض الاتفاقيات، أو
الدولة
التي صدَّقَت على الاتفاقيات الدولية دون أن تكون لديها الرغبة أو النية في الالتزام
بها؟
وأين نستطيع رصدَ أيِّ تقدم حقَّقَته الأمم المتحدة ذاتها في ميدان حقوق الإنسان؟
ولنبدأ بقيادة
المنظمة، فقد أعلن الأمين العام الجديد بطرس بطرس غالي أنه يعتقد أنه يجب أن تحظَى أجندات
حقوق الإنسان والتنمية المستدامة باهتمام يعادل الاهتمامَ بمشاكل الحفاظ على السلام وفرضه
بالقوة، وقدَّم عددًا من الوثائق في هذا الصدد «أجندة للسلام»، و«أجندة للتنمية»، وختمها
(عام
١٩٩٦م) «بأجندة للتحول الديمقراطي». ترتَّب على ذلك قيام وكالات الأمم المتحدة الخاضعة
للأمانة
العامة بتضمين برامجهم قرارات فيينا، وأبرز نموذج لذلك برنامج الأمم المتحدة للتنمية
(UNDP). وحظيَت المنظمة الدولية للطفولة (UNICEF) بدفعة كبيرة، وحدَث الشيءُ نفسه لبرامج
المرأة والوكالات. ويعود ذلك إلى إبراز أهمية هذه البرامج من ناحية، ولأن المؤتمر طالب
الأمين العام للبحث عن سبل لزيادة الموارد المخصصة لها، من ناحية أخرى. وأصبحت حقوق الإنسان
على رأس قائمة الأمور التي يسعى البنك الدولي للتحقق منها. وعند منتصف التسعينيات أعلنَت
مؤسسات الإقراض الرئيسية أن طلبات الدول التي تنتهك حقوق الإنسان وتمارس الفساد، للحصول
على
قروض، لن تلقَى الاهتمام. فقد تستطيع الحكومات أن تتجاهل اتفاقيات فيينا أو ترفضها صراحة،
ولكن المنظمات الدولية لا تستطيع ذلك.
ثانيًا، دعمت فيينا عمليات إعداد التقارير وجمْع المعلومات حول انتهاكات حقوق الإنسان
دعمًا كبيرًا باعتباره جانبًا أساسيًّا للمتابعة، وهو شبيهٌ هنا بما اتخذ بعد هلسنكي
من
إجراءات رغم كونها ذات طابع عالمي.
١٩ وقد أوجد المؤتمر عاملًا للضغط الزمني عندما قضى بلقاء الدول الأعضاء كل خمس
سنوات (وفي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والجمعية العامة عام ١٩٩٨م) لمراجعة مدى التزامها
بمبادئ الإعلان الدولي وبروتوكولات فيينا. ولم يكتفِ مؤتمر فيينا بحث الدول وحكوماتها
على
التصديق على جميع الاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان، والالتزام بها، والمضي قُدُمًا في
إقامة
المحكمة الجنائية الدولية، وتعليم وتدريب موظفيها في حقل حقوق الإنسان خلال خمس سنوات
فحسب،
بل طلبت من مؤسسات الأمم المتحدة — وخاصة مركز حقوق الإنسان في جينيف، ولجنة حقوق الإنسان
—
وضع المعايير والمؤشرات الخاصة بتطبيق تلك الحقوق. واقترح أن تقوم كلُّ وكالة تابعة للأمم
المتحدة بتخصيص مكتب لتناول ما يخص الوكالة من الأجندة العالمية لحقوق الإنسان. وأن يتم
تنظيم جماعات العمل مع معالجة مشكلة التداخل في الاختصاص بتحديدِ دورِ كلِّ وكالة تحديدًا
دقيقًا. وقدمت عادة تعيين «مقرر» أو «ممثل» خاص لزيارة بلد ما، وإجراء تحقيق حول ادعاءات
انتهاك حقوق الإنسان (الدينية، أو التمييز العِرقي، أو اختفاء المعارضين)، تلك العادة
التي
كانت قائمة بالفعل فيما يتعلق بميانمار، والسلفادور، وأفغانستان، وجنوب أفريقيا، قدَّمت
حافزًا لقرارات مؤتمر فيينا التي دعَت إلى تكثيف استخدام تلك الآلية. وأخيرًا، كان على
الأمين العام أن يزوِّد الجمعية العامة بتقارير دورية بما تم إنجازه في هذا الصدد.
ثالثًا، إقامة المفوضية العليا لحقوق الإنسان كان يعني وجودَ مسئول على مستوًى عالٍ
يختص
بأجندة حقوق الإنسان، يتولَّى مكتبُه جمْعَ المعلومات وكتابة التقارير الدورية وإعداد
التقرير
الشامل كلَّ خمس سنوات عمَّا تم عمله منذ مؤتمر فيينا. ومن الواضح أن كلَّ شيء اعتمد
على مقدرة
ونزاهة المفوض السامي، ولكن في الدورة التي تولَّت فيها هذه المهمة ماري روبنسون (الرئيس
السابق لأيرلندا) قامت المفوضية بأعبائها خير قيام. فقد تم تحريك مكتب جينيف، وكان وجود
المقر الرئيسي للمفوضية في مدينة نيويورك من شأنه أن يُعطيَ التنسيق دفعة إلى الأمام
مع توسع
ميدان العمل. وحولت مهام رصد مدى الاستجابة الدولية للاتفاقيات، وجمع المعلومات حول
انتهاكات حقوق الإنسان، والإعداد لمؤتمر فيينا ما بعد الخمس سنوات، حولت تلك المهام
المفوضية إلى مركز حيوي للنشاط. وقد لعبَت ماري روبنسون دورَ المشجع والملهم، فرفعَت
من
معنويات العاملين معها، وحظيَت بالقبول عند مجتمع المنظمات غير الحكومية، وبذلك قدمت
رسالة
واضحة.
ولكن للأسف لم تستطع هذه الوكالة الجديدة (ومَن عملت معهم وتعاونوا معها) مواجهةَ
أكثر
الانتهاكات بشاعة. فقد أسندت إلى المفوضية العليا لحقوق الإنسان (OHCHR) مهمة «إزالة
العقبات الراهنة ومواجهة التحديات في سبيل التطبيق التام لحقوق الإنسان، وفي وضْع حدٍّ
للانتهاكات الدائمة لتلك الحقوق في مختلف أنحاء العالم». ولكن السنوات التي وقعَت حول
مؤتمر
فيينا وفي أعقابه، شهدَت أبشعَ حالات التطهير العِرقي وانتهاكات حقوق الإنسان في النصف
الثاني
من القرن العشرين. فقد تمزَّق الاتحاد اليوغوسلافي في عام ١٩٩١م بإعلان كلٍّ من سلوفينيا
وكرواتيا الاستقلال، لتشتعل بذلك نيران العمل العسكري الصربي وتأجج نيران الحرب الأهلية.
كان سفك الدماء الثلاثي الأبعاد مريعًا، تحمَّل منه المسلمون النصيبَ الأكبر. وأدى انهيار
التعايش الإثني إلى نزوح الملايين من ديارهم. وتضاعفَت الفظائع من قرية إلى أخرى، وقد
حدث
ذلك كلُّه على بُعد بضع مئات الأميال جنوبي شرقي فيينا، وفي القارة التي اعتقدَت شعوبها
أنها قد
تخلَّصت من الحروب والتصفية العِرقية التي ما زالت ذكرياتها ماثلةً في الأذهان.
كان افتراض دوام السلام من الأمور التي لا تخطر ببال الكثيرين في أفريقيا. حقًّا،
شهدَت
القارة تحولات ديمقراطية مدهشة صاحبَها تقدُّمٌ في حقوق الإنسان في الكثير من البلاد،
في مدى
زمني قصير. وكما يذكر أحدُ المتابعين «كانت هناك في يناير ١٩٨٩م خمس دول من بين ٤٧ دولة
تقع
فيما وراء الصحراء الكبرى الأفريقية يمكن وصفها بأنها ذات نظم حزبية تعددية (مع استخدام
معايير بالغة الكرم)، هي: بوتسوانا، وجامبيا، وموريشيوس، والسنغال، وزمبابوي. وعند نهاية
العام ١٩٩٤م أصبحت هذه الفئة من الدول ٣٨ دولة». كان ذلك تحولًا كبيرًا نحو الديمقراطية
على
نحو ما حدث في شرقي أوروبا والاتحاد السوفييتي السابق، وأمريكا الوسطى.
٢٠ ولكن، بينما استطاعت بعض البلاد الأفريقية التخلص من الحكومات الفاسدة عن طريق
صناديق الاقتراع، عانَى البعض الآخر تحت حكم الدكتاتوريات التي لا تعترف بحقوق الإنسان
وبذلك
أعطَت سلاحًا ماضيًا للمحافظين في الشمال، الذين يرَون أن إعطاء المساعدات لأفريقيا شبيه
بإلقاء الأموال في المصارف الصحية (المجاري).
غير أن انتهاكات حقوق الإنسان على يد الدكتاتوريات وحكومات الحزب الواحد لا تقارن
بالكوارث التي لحقَت بالبلاد الأفريقية الأخرى. ففي القرن الأفريقي دخلت إريتريا في صراع
حدود مع جيبوتي ثم بعد ذلك مع إثيوبيا، ونتج عن هذا الصراع ضحايا من القتلى واللاجئين
وغير
ذلك من الفظائع التي أدانها مؤتمر فيينا. وفي السودان، شنَّ النظام الإسلامي الحاكم في
الشمال
حربَ إبادة ضد القبائل المسيحية والوثنية في الجنوب.
٢١⋆ ولم تنَل تلك الصراعات إلا اهتمامًا محدودًا؛ لأن الإعلام الغربي لم يسلط الضوء
عليها، على عكس الاهتمام الذي أولاه للحروب الأهلية في الصومال أوائل التسعينيات؛ فقد
كان
التليفزيون الأمريكي حاضرًا هناك يعرض كلَّ مساء مناظر مئات الآلاف من ضحايا المجاعة،
والنساء
والأطفال الذين فروا من مواطنهم مما دعا الإدارة الأمريكية — على عهد بوش وكلينتون —
إلى
إرسال القوات الأمريكية إلى أفريقيا في إطار عمليات إقرار السلام. وأدى فشل هذه المهمة
— على
نحو ما أشرنا في الفصل الثالث — إلى توجيه ضربة شديدة لكل فكرة تتعلق بالمهام الإنسانية
لإقرار السلام، ودفعَت الولايات المتحدة إلى الاعتراض على تفويض مجلس الأمن لقوة حفظ
السلام
في رواندا وبوروندي حيث كانت تلوح في الأفق مأساةٌ كبرى، بلغَت فيها المذابح من حيث الحجم
ما
بلغت في كمبوديا.
ولا شك أن وقوع تلك الفظائع والمذابح الجماعية في كوسوفو وسربرنشا والصومال ورواندا
في
أعقاب مؤتمر فيينا كان مصادفةً مفزعة. كان الجدل يدور في المؤتمر حول سيادة الدولة في
مواجهة
الحقوق الدولية أو الفردية. ولكن معظم الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان في منتصف
التسعينيات تمَّت على أيدي قوات فوضوية تابعة للدول الانفصالية؛ مثل الصرب ورواندا، أو
تمت في
سياق حرب أهلية تم تبادل أطراف الصراع لارتكاب الفظائع فيها كما في البوسنة، أو قام بها
«أمراء الحروب» والقبائل في بلاد ليس بها حكومات كما في الصومال. كان مدُّ الهجمات الإرهابية
عاليًا من نيروبي (كينيا) إلى جنوب اليمن وما وراءها. وبعبارة أخرى، ارتكبَت هذه الفظائع
جماعاتٌ لم يكن لها وجود في مؤتمر فيينا، ولم تعرف يومًا مكانها، وموضوع المؤتمر الذي
انعقد
فيها، ولعلها لم تشهد من قبل أيَّ مؤتمر نظمته الأمم المتحدة. كيف كانت عندئذٍ حال نظام
حقوق
الإنسان الدولي الذي صنع بصورة ركزَت على الحكومات أمرَ تطبيقها؟ فإذا قام الأمين العام
أو
المفوضية الدولية لحقوق الإنسان (OHCHR) بإرسال ممثل إلى بوروندي، فمع مَن يتفاوض؟
لقد تسبَّب ذلك في إثارة بعض الأسئلة الهامة حول طبيعة الدولة ذاتها، وقدرتها المفترضة
على
حماية مواطنيها. وفي منتصف التسعينيات كان المجتمع الدولي مهمومًا بظاهرة «انهيار الدول»،
وهو أمرٌ لم يَدُر بخلد الآباء المؤسسين للأمم المتحدة. وذهب بعض المعلقين إلى أن تلك
المجتمعات الفاشلة تحتاج إلى أن تُوضع تحت الوصاية الدولية بمعرفة «مجلس الوصاية» (الذي
لم
يُلغَ رسميًّا) الذي يجب تفعيله من جديد، وهي أفكار سبَّبَت انزعاجًا للعديد من وزارات
الخارجية
في آسيا وأفريقيا. ولكن كان من الصعب إنكار أن سلطة الدولة الوطنية ما زالت تُواجه التحديات.
وراحَت المنظمات غير الحكومية والجماعات الأخرى — التي شعرت أنها قد نُحِّيَت جانبًا
في مؤتمر
فيينا — تدعو إلى الحاجة إلى سلطة دولية وخاصة مع حلول العيد الخمسيني للأمم المتحدة
عام
١٩٩٥م. فأمراء الحروب، وقادة العناصر الإثنية، وكارتلات المخدرات غير القانونية، والحركات
الإرهابية، لا تُبدي اهتمامًا بالدولة إلا بالحفاظ على ضعفها. والنمو الكوكبي السريع
للمال
والتجارة يجعل من المؤسسات متعددة الانتماءات الوطنية ذات قوة تفوق قوة معظم حكومات العالم،
بحيث يمكنها أن تقوض أركان بلاد تبدو قوية وموحدة — مثل تايلاند وماليزيا — عن طريق إلحاق
الضرر بعملاتها الوطنية. ويذهب بعض الخبراء إلى أن «إعادة ترتيب السلطة» بعيدًا عن الدول
إلى أيدي مؤسسات عليا ودنيا آخذٌ في الحدوث.
٢٢ ولسنا في حاجة إلى الخوض في تفاصيل هذا الجدل في علم السياسة للوقوف على حقيقة
أن نفوذ الحكومات قد ضعف فعلًا، ويصبح من الصعوبة بمكان على نظام دولي لحقوق الإنسان
يتمركز
حول الدول، وتُحركه المعاهدات، أن يحقق تقدمًا فعليًّا.
ودخلت وكالات الأمم المتحدة إلى القرن الحادي والعشرين محملةً بأعباء إعلان فيينا
لحقوق
الإنسان والاتفاقات الدولية الصادرة عنه والمفوضية الدولية لحقوق الإنسان (OHCHR)، ولكنها
ما زالت تعاني من أحداث البوسنة وأفريقيا الوسطى. وتقفز إلى الذهن نظرة «خطوتان إلى الأمام
وخطوة إلى الخلف» التي يُشعلها الجدل بين دعاة الاتجاه الدولي والانعزاليِّين، أنصار
الأمم
المتحدة ومنتقديها؛ فالمرتابون في قدرات المنظمة الدولية والمشككون في صلاحيتها، يشيرون
إلى
نقاط الفشل والكوارث. وهناك الكثيرون في أمريكا الذين يرون في أهداف الأمم المتحدة ما
يُهدِّد
الحريات الأمريكية، وأن أعمال إقرار السلام تلقَى نجاحًا فقط عندما تشترك فيها الولايات
المتحدة بعد تردُّد. وعلى نقيض ذلك، نجد المدافعين عن الأمم المتحدة والمؤيدين لها يفضِّلون
الإشارة إلى رصيد النجاحات، والتقدم الوئيد، وحسن أداء الأعمال، من أمريكا الوسطى إلى
ناميبيا، إلى نظام حقوق الإنسان الجديد ذاته.
كان كلاهما على حق، فمع مطلع القرن الحادي والعشرين بدأت الأحوال تسوء في الضفة الغربية
وقطاع غزة، وأخذت الجماعات الفلسطينية النضالية (مثل حماس وحزب الله)
٢٣ تزيد من وتيرة صداها مع الحكومة الإسرائيلية ذات السياسة العدوانية؛ هدم
المستوطنات وحوادث الهجمات الانتحارية في حافلة مكتظة بالركاب، وهو ما يتنافى تمامًا
مع
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فضلًا عن ذكر اتفاق أوسلو ١٩٩٣م الذي كان من المفروض
أن يجلب
السلام إلى الأرض المقدسة. رفضَت معظم (وليس كل) الدول العربية الحقوق الاجتماعية والسياسية
للمرأة. وأمر دكتاتور العراق صدام حسين بارتكاب المظالم غير المعلنة ضد الأكراد والأغلبية
الشعبية، وحول نظام طالبان المتعصب أفغانستان إلى مباءة لانتهاكات حقوق الإنسان. وكان
نظام
كوريا الشمالية أكثر سوءًا؛ فالسكان يعيشون تحت وطأة الدعاية وندرة الطعام الجيد، والرعاية
الصحية. واستمرت الصين في قمع المعارضين. ومارسَت موسكو سياسةَ القمع في الشيشان، فردَّ
مواطنوها بهجمات عدوانية بالقنابل في موسكو. وكان سجل حقوق الإنسان في أفريقيا أسوأ الجميع،
مع استمرار النظم الدكتاتورية ذات الحزب الواحد في غربي وشرقي أفريقيا، واستمرار المذابح
في
الكونغو التي امتدت إلى البلاد المجاورة لها، والتطهير العِرقي في السودان ورواندا. ويكفي
أن
نقرأ تقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوي أو التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية
عن أي
سنة سابقة لنُدرك أن مثل تلك الفظائع قد تحدث في عالم اليوم.
٢٤
ولكن التعثر لا يعني الفشل أو الموت؛ فقد جاءت نهاية الفصل العنصري apartheid في جنوب
أفريقيا موحية، وخاصة مع صدور قرار حكومة مانديلا بعدم التعرض للأقلية البيضاء (على نحو
ما
حدث في شرقي أفريقيا)، والعمل على تضميد الجراح القديمة من خلال «لجنة البحث عن الحقيقة
والتوفيق».
وقد كانت السهولة التي تمت بها الانتخابات الحقيقية الأولى في جنوب أفريقيا — بإشراف
الأمم المتحدة — والملايين من الناخبين المصطفين لعدة أيام لممارسة حقهم في التصويت،
كانت
بمثابة موجة مد عالية انساحَت في بقية بلاد شبه القارة. غادرت القوات الكوبية أنجولا،
واختفى
الجند المرتزقة. واستقلت ناميبيا، وأُجريَت فيها الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة. وتباطأت
الحروب التي جارت على حقوق الإنسان في أمريكا الوسطى ثم تلاشَت، وحصل أوسكار أرياس
Oscar
Arias على جائزة نوبل تقديرًا لجهوده لمدِّ النموذج الديمقراطي في كوستاريكا إلى جاراتها.
(انفردت كوستاريكا بالحكم الديمقراطي عام ١٩٧٨م، وفي ١٩٩٥م، حصلَت جميعُ دول أمريكا الوسطى
الست
على الحكم الديمقراطي).
٢٥ وانتهى حكم الجنرالات في الأرجنتين والبرازيل. ولعل فوق ذلك كله، يأتي اندفاع
شعوب شرق أوروبا والبلطيق إلى الأخذ بنظام المجتمع المفتوح والسوق الحرة وكافة حقوق
الإنسان. فالمثقفون والإعلاميون والفلاسفة في المجر وبولندا وجمهورية التشيك وأوكرانيا
يسمح
لهم اليوم بالحديث في أي شيء، كما سمح للمنظمين الوطنيين في تلك البلاد بحريَّة البيع
والشراء. ويصدق الشيء نفسه على روسيا، وإن كان ذلك في حدود أقل. ويرصد محرر بيت الحرية
Freedom House التي تتخذ من نيويورك مقرًّا لها، يرصد في كل عام تقدُّم الديمقراطية والحريات
المدنية، رغم أنهم يلاحظون أيضًا وجود تراجع في سجلِّ حقوق الإنسان في تلك البلاد ووجود
حالات
من الانتهاكات لتلك الحقوق.
ولعل الكثير من ذلك كان واردَ الحدوث، بغضِّ النظر عن دور الأمم المتحدة. فإن انهيار
الاتحاد
السوفييتي وحلف وارسو، وتحوُّل الصين إلى اقتصاد السوق، والتقدم السريع للكوكبة في مجال
الإنتاج والأسواق، ساهمَت جميعًا في جعل المزيد من البلاد تأخذ بالنظم الغربية، لا في
مجال
الأسواق المالية (البورصات) فحسب، بل في مجالات سيادة القانون، والشفافية، وتوسيع حقوق
المرأة والأقليات العِرقية، وتخفيف الرقابة على الإعلام. وقد يقال إن الأمم المتحدة لا
تستطيع الزعم أن ذلك التحول جاء نتاجًا لجهودها، ولكن ذلك تبسيط للأمور مبالغ فيه. إذ
من
المنطقي القول بأن بعض مهام حفظ السلام، والجهود التي بُذلت لبناء الدول الوطنية، كان
لها
تأثيرها في إقناع القادة السياسيِّين والرأي العام أن من الخير القبول بتحرُّك أوسع تجاه
الديمقراطية وإقامة نظام حقوق الإنسان.
وقد تم التحول من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي في جنوب أفريقيا وناميبيا
— كما
أشرنا — بمراقبة الأمم المتحدة للانتخابات في البلدين، وهو عمل بدَت فيه المنظمة الدولية
في
أحسن صورها. تُرى … مَن له الشرعية غيرها لحراسة صناديق الاقتراع، وإحصاء الأصوات في
بلاد
تسودها الريبة والتوجس؟ ويرتبط تقدم حقوق الإنسان بصورة متوازية مع حفظ السلام، وهو أمر
يتطلب موارد مالية ضخمة من المجتمع الدولي، أو من الدول التي بادرت بمواجهة هذا التحدي،
على
نحو ما رأينا في الفصل الثالث من هذا الكتاب. فقد أشرف أكثر من عشرين ألفًا من ذوي الخوذات
الزرقاء على الانتخابات في كمبوديا، بينما حافظ ستون ألفًا من قوات حلف شمال الأطلنطي
(الناتو) على السلام في البوسنة، جاء ربعهم من الولايات المتحدة. وتحملت أستراليا المهمة
التي فوضها فيها مجلس الأمن لقيادة قوة متعددة الجنسيات لإقرار النظام وإجراء الانتخابات
في
تيمور الشرقية، وتولَّت بريطانيا قيادة عملية سيراليون، بينما أسندت قيادة تحالف الأمم
المتحدة في ليبيريا إلى نيجيريا والولايات المتحدة. هذا المشهد كلُّه ألقى الضوء على
نقطة
معينة مؤداها أن حقوق الإنسان لا تتقدم بمجرد صدور الإعلانات عن المؤتمرات الدولية التي
تنظمها الأمم المتحدة أو من خلال المظاهرات التي تنظمها مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات
غير الحكومية، ولكن يجب أن يصاحب ذلك توفر النية لدى حكومات الدول الرئيسية لتقديم الموارد
اللازمة لتحقيق هذا الهدف، وتخليص العالم من الأشرار. ولما كان تحديد الأشرار يرتبط
بالثقافات والأيديولوجيات، فلا نتوقع أن يكون هناك تعريف محدد لذلك يتفق عليه أعضاء مجلس
الأمن الذين يقع على عاتقهم اتخاذ القرار النهائي.
ولكن، لماذا لا نضع ما حققته الأمم المتحدة من نجاحات في اعتبارنا؟ هل كان باستطاعتنا
تصور إقدام الحكومة الإندونيسية على إرخاء قبضتها على تيمور الشرقية والسماح لقوة حفظ
السلام التي قادَتها أستراليا بالوجود في الإقليم والإشراف على الانتخابات، وفتح الطريق
أمام
حرية التعبير، ما لم تكن هناك ضغوط دولية هائلة وراء ذلك؟ وهل كانت التسوية ممكنة في
بلد
مضطرب مثل كمبوديا دون تدخُّل الأمم المتحدة؟ وهل يمكن تصور تسوية سياسية في ناميبيا
أو
موزمبيق دون تدخل المنظمة الدولية؟ هذه كلها إنجازات تُحسب للأمم المتحدة.
يضاف إلى ذلك أن أجندة حقوق الإنسان لا تتسم بالثبات؛ ففي مطلع القرن الحادي والعشرين
دفع
الأمين العام كوفي أنان بفكرة «حق الحماية» الذي يعطي للأفراد الذين تنتهك حكوماتُهم
حقوقَهم
الإنسانية، حق حماية المجتمع الدولي لهم، وهو عودٌ إلى مبادئ إليانور روزفلت والإعلان
العالمي لحقوق الإنسان. وتصدر المفوضية الدولية لحقوق الإنسان (OHCHR) تقاريرها الدورية
بانتظام، ولكن تقارير المرصد الدولي لحقوق الإنسان (Human Rights Watch) أكثر حدة، وتُعطي
الكنائس الكويكرية والكاثوليكية ثقلًا لتعميم تلك الانتهاكات لحقوق الإنسان، ولا تكف
منظمة
العفو الدولية عن تسجيل الانتهاكات. ومع قدوم القرن الحادي والعشرين لم يَعُد باستطاعة
أي
دولة المساس بحقوق الإنسان دون أن تفضحها مؤسسات المجتمع المدني الدولية وتسبِّب لها
المتاعب.
ولم تسلم من ذلك أمريكا التي تُواجه انتقادًا مرًّا من جانب المنظمات غير الحكومية العالمية
بسبب ما يلقاه سجناء جوانتانامو وأبو غريب، وسجن باجرام من سوء المعاملة.
وهكذا، رغم الانتكاسات والممارسات السيئة، حدث تقدمٌ كبير بالنسبة إلى فكرة حقوق
الإنسان
المحلية والدولية على مدى الستين عامًا المنصرمة، مقارنةً بأي فترة سابقة من تاريخ العالم.
ولكن الفجوة بين الحقوق التي يتمتع بها المواطن في السويد مقارنةً بالسودان مثلًا، ما
زالت
واسعة. ولكن المهم هنا أننا جميعًا نعرف ذلك الآن، وأن هناك جهودًا دولية تُبذل لتضييق
هذه
الفجوة. ولعله من المناسب أن نُنهيَ هذا الفصل بما توصَّل إليه الأستاذ لورين من نتائج
قبل عقد
من الزمان: «خلال خمسين عامًا من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، شهد العالم ثورة
حقيقية لتحويل الأفكار الخاصة بحقوق الإنسان إلى حقيقة واقعة، وامتداد تلك الحقوق إلى
شعوب
المستعمرات السابقة يعدُّ عملًا غير مسبوق، وكذلك وضع المعايير خلال إعلانات واتفاقيات
ملزمة،
وحماية الحقوق من خلال آليات تطبيق الاتفاقيات، وغيرها من الإجراءات التي لم ينصَّ عليها
في
تلك الاتفاقيات، والترويج للحقوق من خلال التعليم والإعلام، والارتقاء بتلك الحقوق من
خلال
تقديم الخدمات الاستشارية والمساعدات الفنية في الميادين التي يعاني فيها الناس من الانتهاكات.»
٢٦
ولكن لورين يفطن إلى أن تلك الثورة لم تبلغ غايتَها بعد؛ فالانتهاكات مستمرة وما زالت
المقاومة باقية، والمشاكل متفاقمة. وهو أمر لا خلاف عليه، فما زالت قوى الشر، والتحيز،
والإحَن القديمة تفعل فعلها، ولكن لا يستطيع الكثير منها — منذ العام ١٩٤٨م — أن يسدلَ
الستار
على أعماله السيئة، وتلك بداية طيبة على أيِّ حال.