الفصل السابع

نحن شعوب العالم الديمقراطية والحكومات والمنظمات غير الحكومية

يُعدُّ موضوع التمثيل النيابي والديمقراطية أهمَّ ما تسعى إليه الأمم المتحدة طوال تاريخها منذ العام ١٩٤٥م حتى اليوم. وهو من أكثر الإشكاليات التي تواجه العالم في الحاضر والمستقبل؛ لأنه يرتبط بالعديد من التوترات والألغاز والتناقضات. وعلى ضوء العراك الذي نشب بين الدول الأعضاء (وخاصة في مجلس الأمن) في العقود الأخيرة، يصبح من الصعوبة بمكان الاعتقاد بأن الدول الكبرى المزهوة بقوتها وسيادتها، الشديدة الارتياب، التي اجتمعَت في سان فرانسيسكو، قد جعلت الميثاقَ الذي يربط بينها، يستهل بعبارة: «نحن شعوب العالم». ويبدو أن حكومات تلك الدول أرادت أن تجعل من ديباجة الميثاق قطعةً من البلاغة اللفظية، قبل أن تتضح حماقات وتهورات النظام العالمي الجديد الذي هوَت مطارقه المختلفة في الفصول المتوالية من هذا الكتاب. وعلى كلٍّ، ختمت تلك الديباجة بالعبارات التالية: «وتبعًا لذلك، وافقَت حكوماتنا على هذا الميثاق … وهي تقيم بهذا … الأمم المتحدة». وهكذا، احتوت الصفحات القليلة التالية من الديباجة على تأكيد انفراد الدول والحكومات بتمثيل الشعوب، رغم ما استهلَّت به الديباجة من تعبيرات تتسم بالجرأة والنظرة الإنسانية إلى المشروع.

وما حدث بعد العام ١٩٤٥م يُوحي بأن الميثاق كان يزيد قليلًا على حدِّ التهاون، فعلينا أن نُدرك أن تلك الجمل والعبارات التي أشارَت إلى الحكم، والديمقراطية، والتمثيل النيابي، والتعبير عن الشعوب، استمرت ماثلةً وحاضرة طوال تطور الأمم المتحدة، ولها مرجعيتُها في العديد من الدوائر في الحاضر والمستقبل.١ ولا شك أن القارئ يدرك التناقضات الكثيرة الناشئة عن ذلك الكم الهائل من التصريحات عن «الشعوب» في وثيقة تتعلق بالتسويات التي اتفقت عليها الحكومات في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.٢ فقد أثارت قضية حقوق الدول في مواجهة السلطة الدولية للمنظمة، دون أن تحسمَها في الإعلان العالمي الذي صدر بعد ثلاث سنوات. فقد وضع الإعلان مجموعة من الأهداف السامية في مواجهة الواقع العالمي المتسم بالحدة، وتلك قصة الأمم المتحدة في مختلف المجالات. فقد تجاهل الإعلانُ علاقةَ الدول الكبيرة بالدول الصغرى التي لم تعالج بصورة واضحة، فهل يكون صوت دولة صغيرة مثل ناميبيا (١٠٨ ملايين نسمة) مساويًا في الأمم المتحدة لصوت الهند ذات البليون نسمة على نحو ما جاء في المواد الخاصة بالمساواة بين الدول ذات السيادة؟ وهل تحظى شعوب بريطانيا وفرنسا بقوة أكبر مما للهند في المنظمة الدولية التي يزيد عددُ سكانها عن سكان الدولتَين بعشرة أضعاف؟

ومن ناحية أخرى، أتاحَت تلك الديباجة الفرصة أمام ممثلي «الشعوب» ممن لا ينتسبون إلى الحكومات للإدلاء بآرائهم مثل: المنظمات غير الحكومية، والإعلام، والأقليات، وحركات المقاومة، فهل يمكن أن يعبروا عن «الشعوب»، أم أن الأمر قاصر على الحكومات؟ ويضاف إلى ذلك مَن يشعرون بأن الدولة الوطنية تمثِّل المشكلة وليس الحل. وشجع ذلك على طرح شكل جديد للديمقراطية أو — على الأقل — شكل منفصل عن ظاهرة الحكومات التي تعبر عن نفسها في اجتماع الجمعية العامة التي تنعقد في خريف كل عام.

ومن ثَم يعالج هذا الفصل قصةَ الأمم المتحدة — بعيدًا عن الدول الكبرى — وفي كثير من المجالات التي سنتناولها في هذا الفصل لن نتجنب الأعضاء الكبار وحدهم، بل يمتدُّ ذلك إلى الحكومات ذاتها. فالفصل يعالج المطالب والأفكار والحركات التي سعَت لاحتلال موقع على المسرح الدولي، وما زالت مستمرة في اتجاهها للصعود، ويعالج الهياكل والمفاهيم والتطلعات، والافتراضات الخاصة بالديمقراطية، والشرعية، والمجتمع المدني. ويعالج الفصل — أيضًا — التغيير من القاعدة وليس من القمة، فهو فصلٌ حافل بالتداخل، ولكنه لا يفتقر إلى الأهمية.

ونظرًا لذلك، فمن الأفضل تقسيم القصة إلى ثلاث حلقات منفصلة ولكنها متداخلة: أولها، دور الجمعية العامة ذاتها باعتبارها هيئة «ديمقراطية» في إطار الأمم المتحدة، وثانيًا، التاريخ المتواضع للكثير من الحركات التي لم ترضَ عن أداء الجمعية العامة فسعَت إلى تجاوز النظام الدولي وتحقيق تمثيل حقيقي في إطار حكومة عالمية، وثالثًا، قصة النمو البارز للجماعات التي ترى أنها تعبِّر عن «المجتمع المدني العالمي» (المنظمات غير الحكومية، والكنائس، والمؤسسات، والإعلام)، وهي الجماعات التي يمثِّل وجودُها تحديًا لاعتبار «الدولة» أساسًا للنظام العالمي، وقد تكون بحكم تنوع طرق عملها أقرب إلى جماهير «شعوب العالم» من الحكومات.

ويعدُّ الدور الذي تلعبه الجمعية العامة للأمم المتحدة أطول أدوار هذه الحلقات الثلاث، وأكثرها وضوحًا ومثارًا للخلاف؛ لأن ذلك كله يتعلق بالخطاب الحكومي. ويمكن القول إن الجمعية العامة أكثر قربًا إلى برلمان الإنسان بعدما ارتفع عدد أعضائها من خمسين دولة عام ١٩٤٥م إلى ١٩١ دولة مع مطلع القرن الحادي والعشرين، كما أنها قائمة على مبدأ التمثيل لأن المندوبين فيها يمثلون بلادهم ويتحدثون باسمها (بغضِّ النظر عن كون حكومات تلك الدول منتخبة ديمقراطيًّا). هنا يُثار جدل قد يتفق عليه أعضاء الكونجرس الأمريكي والبرلمانيون الهنود، على الرغم من الاختلاف البيِّن بينهم، فهم يؤكدون أن الأمم المتحدة تمثِّل مجموعة من الحكومات، ولا تُولي اهتمامًا للمجالس المنتخبة أو تهتم بفكرة الحكومة العالمية. وقد زادَت نبرةُ هذا الاتجاه عندما تزايدَت أعدادُ البلاد المستقلة عن الاستعمار التي انضمَّت إلى الأمم المتحدة، فهم لا يقلُّون حرصًا على السيادة الوطنية من الدول الأقدم عمرًا. ومن ثَم تتجه الأنظار إلى مقولة أن هذه الدول وقَّعَت بنفسها طلبات العضوية للمنظمة الدولية، وهي التي تدفع الثمن، أما غيرها فليس له في العير أو النفير.

ولكن هذه النظرة تترك الكثير من المشكلات وتزيد من عدم الارتياح في نواحٍ مختلفة: أولها، أن المبدأ الذي تتبعه الجمعية العامة «صوت لكل عضو» رغم تشابهه (من حيث الشكل) مع مبدأ «صوت لكل نائب»، أو «صوت لكل فرد»، قد عانَى الكثير من الضعف في أقسام أخرى من الميثاق، وخاصة ما اتصل منها بحقائق القوة الدولية. وتمثِّل الامتيازات التي اختصت بها الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن نقيضًا لهذا المبدأ الديمقراطي، وخاصة عندما نتذكر السلطات الواسعة والدور الذي ينفرد به المجلس ككل. وكان ذلك من أسباب اعتراض الدول المتوسطة الحجم مثل أستراليا والبرازيل والمكسيك على المواد الخاصة بمجلس الأمن عام ١٩٤٥م، ومن أسباب اعتراض الهند والبرازيل اليوم على اختلال التوازن في مجلس الأمن (رغم استعدادهما للقبول بالعضوية الدائمة إذا مُنحَت لهما).

ترى … كيف تكون الجمعية العامة مناظرة للبرلمان أو الكونجرس، إذا كان كلُّ ما اتصل بالأمن العالمي لا يدخل في اختصاصها؟ وعندما تكون قراراتها في المسائل المتصلة بالأمن — مثل قراراتها المتكررة بشأن الشرق الأوسط — لا سندَ لها من جانب القانون الدولي مقارنةً بقرارات مجلس الأمن؟ أو عندما لا تكون لها صلاحيات مالية ذات بال، ولكنها قد تواجه أزمة عندما يمتنع كبار المساهمين في مواردها المالية عن سداد حصصهم؟ أو عندما تجتمع لفترة قصيرة كلَّ عام تتلقى خلالها التقارير من الوكالات المتعددة واللجان والبرامج المتنوعة، وتصدر القرارات، وتصدق على ميزانية قد تكون واقعية، وقد لا تكون كذلك، ثم ينفض اجتماعها بعد ذلك، (على حين يجتمع مجلس الأمن متى شاء بعد ساعات من دعوته للانعقاد)؟

وعندما تآكلت صلاحياتها الاقتصادية لصالح المؤسسات المستقلة التي أقامتها اتفاقية بريتون وودز؟ وعندما تتعرض محاولات تعديل الميثاق، أو تعيين أمين عام إلى اعتراض (فيتو) من جانب إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية؟

ولذلك السبب، قلما يَرِد ذكْرُ دور الجمعية العامة عندما يصدر كتاب أو يُنشر تقرير حول «إصلاح الأمم المتحدة»، أو عندما يدعو بعضُ الساسة إلى تغيير الطريقة التي تُدار بها المنظمة الدولية، وإذا ذكرَت الجمعية العامة ففي سياق أهميتها في إطار الأمم المتحدة والدعوة إلى تحسين أدائها.٣ ولعل الكتابات عن مجلس الأمن تفوق من حيث العدد ما كُتب عن الجمعية العامة بنسبة مائة إلى واحد. وهناك أيضًا كتابات أكثر عددًا عن دور المنظمات غير الحكومية، أو الشركات المتعددة الجنسيات، أو الإعلام العالمي. ولا يمكن أن يكون هذا التجاهل لدور الجمعية العامة مبعثه الرضا عنها وعدم الحاجة إلى إدخال تغيير عليها، بقدر ما يعود ذلك إلى عدم الاهتمام بها، أو عدم الإحساس بالحاجة إلى تحسين وضعها، أو ربما يعود ذلك إلى الجهل بها. ويعترف الجميع بافتقار الجمعية العامة إلى السلطات الحقيقية، ولكن قلما يجهرون بذلك. وليس هناك تأثيرٌ ملموس للدعوات الخاصة بالجمعية العامة مثل تلك التي أطلقها رئيس البرازيل لولا دا سيلفا Lula da Silva في الخطبة التي ألقاها أمام الجمعية العامة (سبتمبر ٢٠٠٣م) «أن تتولى مسئوليات في الحفاظ على الأمن والسلام العالمي».٤

ولا يعني ذلك أن الجمعية العامة عديمة الجدوى، فهي التي تقر الميزانية الخاصة بها، كما تتولى الإشراف على عمل العديد من الوكالات، والبرامج الخاصة برسم السياسات، ولها صلات وثيقة بالوكالات المتخصصة وذلك من خلال المجلس الاقتصادي والاجتماعي، واللجان الست الرئيسية التابعة لها. ويعاني هيكلها من تداخل الاختصاصات البيروقراطية — على نحو ما أشرنا من قبل — ولكن من الصعب أن نجد حكومةً أو برلمانًا في العالم لا يعاني من هذه المشكلة، وعلى الأقل تحاول الجمعية العامة تحسين أحوالها ودمج بعض الوكالات بضغوط من الدول الأعضاء.

ولكن الدور الأبرز للجمعية العامة هو اعتبارها مقياسًا للرأي العام العالمي؛ حيث يحتشد في اجتماعها السنوي الوفودُ من مختلف أنحاء العالم، ورؤساء الدول والحكومات يُلقون خطاباتهم أمامها. ولكن يمكن القول إن من بين أسباب ضعف الصفة التمثيلية للجمعية العامة الحكومات الممثلة فيها التي لم تأتِ من خلال انتخابات ديمقراطية. وتُواجه انتقادًا شديدًا بسبب تمسُّكِها بمبدأ التداول في عضوية اللجان والوكالات، مما قد يؤدي إلى تولِّي دولة غير مناسبة رئاسة إحدى المؤسسات الهامة التابعة لها، مثلما حدث في السنوات الأخيرة عندما تولَّت ليبيا رئاسةَ لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي لمدة ستة شهور. كما أن باستطاعة الجمعية العامة أن تُصدر قرارات غبية بالأغلبية المطلقة؛ مثل إصدارها القرار الذي اعتبر «الصهيونية مناظرة للعنصرية» في نوفمبر ١٩٧٥م الذي زاد من غبائه افتقار الجمعية إلى سلطة إلزام القانون الدولي بتنفيذ قراراتها.٥

ولكن، لا يمكن إنكار دور الجمعية العامة كمعبِّر عن الرأي العام العالمي بسهولة. فقد سعَت لإصدار قرارات ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا وروديسيا (رغم أنها التزمَت السكون إزاء الفظائع التي ارتكبها ماوتسي تونج في الصين)، وما لبثَت الأغلبية التي تستمدُّها الجمعية العامة من اتساع عضوية الدول النامية (الآسيوية — الأفريقية — الأمريكية اللاتينية) أن أدَّت إلى إحراج الدول الغنية (وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا)، فاضطرَّت إلى المشاركة في الضغوط الدولية ضد بريتوريا لإنهاء النظام العنصري. كما لعبَت الجمعية العامة — أو بالأحرى الكتلة الإقليمية منها — دورًا في عملية السلام بأمريكا الوسطى. وكثيرًا ما طالبت الأمين العام بإصدار تصريحات حول المسائل العالمية الحرجة، كما كانت القوة المحركة وراء تنظيم مؤتمرات دولية عن حماية البيئة، والسكان، والمخدرات، والمرأة، وحقوق الإنسان في التسعينيات على نحو ما أشرنا في الفصول السابقة. وجاءت الآثار النسبية لتلك المؤتمرات وما ترتب عليها من تغييرات لتؤكد أن أداء الجمعية العامة يتسم بالإيجابية عندما ترُكز جهودها على الأجندات «الناعمة» للأمم المتحدة.

ولا تستطيع الجمعية العامة أن تحقِّق إلا القليل عندما تنشغل بالقضايا الأمنية حيث تجد نفسها ممزقة بين تطلعاتها الطموحة من ناحية، وصرامة نصوص الميثاق من ناحية أخرى، ويكفي أن نورد مثالًا حديثًا لذلك؛ ففي يوليو ٢٠٠٤م قدَّمت محكمة العدل الدولية «رأيًا استشاريًّا» إزاء قرار الحكومة الإسرائيلية (برياسة إرئيل شارون) ببناء جدار عازل بين الفلسطينيِّين والمستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية، وجاءت استشارة المحكمة بقرار صوَّتَت عليه الأغلبية بالجمعية العامة (الاجتماع العاشر الطارئ بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني)، وهو إجراء لها الحق فيه دستوريًّا. وجاء قرار المحكمة بأغلبية ١٤–١ (لرفض القاضي الأمريكي بالمحكمة) ينتقد سياسة حكومة شارون الخاصة بهدم منازل الفلسطينيين. ولكنَّ الطرفَين لم يوافقَا على قرار المحكمة، وهو مطلب أساسي لمحكمة العدل الدولية، كما أن قرار الجمعية العامة لم يضع في اعتباره حقَّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، كما تجاهل أن جميع قرارات مجلس الأمن السابقة دعَت إلى التفاوض حول الحدود، وبذلك لم يتمَّ تحديد الموقع الذي يقام فيه الحائط العازل. وبذلك تورَّط أعضاء الجمعية العامة في مسألة تتعلق بالأمن تدخل في اختصاص مجلس الأمن، كما أن الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية قد تجاوزَا الحدود الدستورية، رغم أن الإعلام كان في معظمه مؤيِّدًا لقرار المحكمة وتحدَّث عن «المعنويات العالية للفلسطينيين». غير أن قرار المحكمة جعل إسرائيل في عزلة دولية، كما أحرج الحكومة الأمريكية التي زاد تورطها في القضية الفلسطينية، ولكنها لم تُوقف ما كان يفعله الإسرائيليون. وسوف يُخبرنا أصحاب النظرة الواقعية أن هذا القرار لا قيمةَ له؛ لأن الأمر من اختصاص مجلس الأمن، وأن الفيتو الأمريكي سوف يقطع الطريق على كل المحاولات الأخرى.

ومن الصعوبة بمكان تحديدُ موقف الجمعية العامة من الناحية الدستورية على ضوء ذلك، ومن حيث ادعاؤها تمثيل «شعوب العالم» في إطار حكومي. فللجمعية العامة أهميتها عند دول العالم النامي، والدول الغنية المتوسطة الحجم مثل كندا والسويد التي لا دورَ لها في مجلس الأمن. وهي المكان الذي يُسمعون فيه صوتَهم للآخرين، كما أن بعض الدول الأصغر حجمًا (مثل سنغافورة ونيوزيلندا) يتخذون من الجمعية العامة منبرًا للتعبير عن آراء الدول غير دائمة العضوية بمجلس الأمن. وحتى لو كانت قرارات الجمعية العامة تفتقر إلى القوة التي لقرارات مجلس الأمن، فهو أمر محدود الأهمية، طالما كانت تلك القرارات تعبِّر عن رأي أغلبية الأعضاء الذين يطالبون بفرض العقوبات ضد دولة مارقة أو إدانتها، مثلما حدث عند غزو العراق للكويت في ١٩٩٠م. وحتى عندما أصدرَت قرارًا باستشارة محكمة العدل الدولية في مسألة الجدار العازل الإسرائيلي، فإن ذلك القرار له تأثيره، على الرغم مما أُخذ على قرار المحكمة من مآخذ قانونية. وسوف تظلُّ الجمعية العامة المنبر المسموع الكلمة على المستوى الحكومي، والمعبر عن أفكار ومشاعر العالم، وإن ادَّعَت لنفسها صلاحيات ليس لها سندٌ قانوني؛ فدون الجمعية العامة لن يكون للأمم المتحدة وجودٌ فعلي.

ومهما كان تقديرنا لدور الجمعية العامة وما حققَته من إنجازات، فإن من الواضح أنها تحقق الآمال التي عقدها عليها الكثيرون عند إقامتها. وقد عاد بعضُ المفكرين إلى الأفكار الأولى عن «نحن شعوب العالم» التي ربما ذهبَت إلى احتمال إقامة مجلس ثالث في المستقبل، إلى جانب الجمعية العامة ومجلس الأمن، يُعدُّ برلمانًا عالميًّا من طراز خاص، يختار شعوبُ العالم أعضاءَه بطريق الانتخاب الديمقراطي المباشر. وهي فكرة تطفو هنا وهناك في الخطاب العام مثل سفينة وسط الضباب. وتتسم الكثير من الاقتراحات بالغموض وتفتقر إلى أسانيد واقعية. ومن الأمثلة الأولى لذلك كتاب «عالم واحد» ﻟ «ونديل ويلكي» Wendell Willkie (الذي سبقت الإشارة إليه) وهو عملُ رجلٍ طاف أرجاءَ المعمورة عام ١٩٤٢ و١٩٤٣م، وعاد إلى الولايات المتحدة لينظم حملةً تدعو إلى «المساواة في الفرص بين الأعراق والأمم»، وأثار ذلك جدلًا واسعًا في ذلك الوقت، وأعطى دفعة لحركة «الفيدرالية الدولية» التي أُسِّسَت عام ١٩٤٧م، التي ما زالت تدعو — حتى اليوم — إلى إقامة هيكل لنظام ديمقراطي عالمي يضمُّ المواطنين من سكان الكوكب.
ولكن ما الشكل الذي يقوم عليه هذا الهيكل؟ كان على «لجنة الحاكمية الكوكبية» (The Commission on Global Governance) أن تتناول ذلك في تقريرها عام ١٩٩٥م الذي حمل عنوان «جوارنا الكوكبي» Our Global Neighborhood. ولكن، على الرغم من أن التقرير عرض للتحولات التي حدثَت على الصعيد العالمي، التي جعلَت من نظام الدولة الوستفالية ومنظمات ما بعد ١٩٤٥م أقل تأثيرًا باطراد، فهي لم تضغط من أجل التغيير النظامي أو الدستوري في صورة مجلس ثالث له صلاحيات تشريعية حقيقية. وشغل التقرير بمناقشة الفرق بين «الحاكمية الكوكبية» و«الحكومة العالمية» (وربما يعود ذلك إلى النظرة السلبية إلى الأمم المتحدة من جانب الأغلبية الجمهورية في مجلس الكونجرس عندئذٍ).٦ ومن ثَم ترك التقرير القارئ أمام اقتراحات تقليدية؛ كزيادة عدد الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن، وبعث الحيوية في الجمعية العامة، وتنشيط مجلس الوصاية لتولِّي أمر «عامة» العالم، واستبدال مجلس الأمن الاقتصادي بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتأسيس قوات عسكرية دائمة للأمم المتحدة من المتطوعين إلى غير ذلك من أمور. واقترح التقرير إقامة «منتدى المجتمع المدني» يضم المنظمات غير الحكومية ومجموعات المواطنين الأخرى، وأن يكون له حقُّ التقدم بطلبات إلى الجمعية العامة. ورغم أن الكثير من تلك الأفكار كانت — ولا تزال — صالحة، فإن اللجنة لم تبذل محاولة جديدة من أجل إقامة برلمان الإنسان، ولكنها قدَّمت أفكارًا لتحسين الهياكل القائمة وجعلها تعمل بصورة أفضل.
واتجه باحثون آخرون إلى إبراز فكرة المجلس البرلماني وتطويرها. ففي مقالٍ هامٍّ لريتشارد فوك وأندرو شتراوس نُشر بمجلة Foreign Affairs (٢٠٠١م)، ذهب الباحثان إلى أن الضغوط باتجاه الكوكبة تجعل الظروفَ مهيأة أمام المجتمع المدني العالمي، وخاصة نشطاء المنظمات غير الحكومية، وكبار رجال الأعمال لإقامة برلمان عالمي للحدِّ من المصاعب الديمقراطية التي تُواجهها المؤسسات الحالية. وذهبَا إلى أن «إقامة مثل هذا المجلس — حتى لو كان ضعيفًا في البداية — سوف يقدِّم رؤية ديمقراطية للمنظمات الدولية؛ مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي». وذهب الصحفي البريطاني الراديكالي جورج مونبيوت إلى القول في مناسبات عدة بفساد النظام العالمي القائم، لمحاباته لعدد محدود من الدول (الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن)، والشركات الكبرى، والإنسان الأبيض عامة، وأنه يجب أن يُستبدل به برلمانٌ عالمي يضمُّ ستمائة عضو يمثِّل كلُّ واحد منهم عشرة ملايين نسمة، ويأخذ الكثير من الناس هذه الفكرة مأخذ الجد.٧

والمشكلات العملية والسياسية لهذا النوع من الفكر الطوباوي متعددة؛ فالمجلس العالمي الذي يضم المنظمات غير الحكومية التي تستمد أهميتها من ذاتها، قد يكون معارضًا لجميع البرلمانيِّين الذين ناضلوا من أجل الحصول على مقاعدهم في الهيئات التشريعية في بلادهم، ويعتقدون بأن مجالسهم تمارس الديمقراطية الحقة. وجديرٌ بالملاحظة أن البرلمان الأوروبي المنتخب ديمقراطيًّا له صلاحيات محدودة. وعلى كلٍّ، إذا استطاع مرشح أن يمثِّل عشرة ملايين مواطن (بما في ذلك دول جزر الكاريبي والمحيط الهادي «الباسفيك»)، فعليه أن يُرسلهم للتصويت في المكان المحدد للإدلاء بأصواتهم، فهل يستطيعون ذلك دون مساعدة الدولة الوطنية التي عليها أن تتنازل عن سيادتها الوطنية للبرلمان العالمي، ودون أن يتضمن ميثاق الأمم المتحدة ما يحدِّد ذلك ويُنظمه، ودون وجود اتفاقية مبرمة بين الدول تتعلق بهذا الشأن؟ والتعقيدات الأخرى لهذا المشروع خارج حدود التصور؛ ففي البرلمان العالمي الذي يضم ٦٠٠ عضو كلٌّ منهم يمثِّل عشرة ملايين مواطن سوف تحصل الصين على ١٤٠ مقعدًا والهند على ١٢٠ مقعدًا، وبريطانيا وفرنسا على خمسة أو ستة مقاعد لكل منهما، وروسيا على نحو ١٤ مقعدًا، والولايات المتحدة الأمريكية على حوالي ٢٧ مقعدًا. إن الاقتراح مثاليٌّ طبعًا، ولكنَّ مآلَه سلة مهملات التاريخ.

وهكذا، بينما تستمر المجادلات حول التغيرات الهيكلية التي تستهدف توسيع دائرة التمثيل وتحقق الرقابة الديمقراطية، ثمة حملات تُشنُّ باسم «الشعوب» تجاوزَت النظر إلى الهياكل التقليدية للحاكمية العالمية، وراحَت تتطلع إلى لاعبين جدد. وعند ختام القرن العشرين، ازداد ترديد مصطلح «المجتمع المدني العالمي»، الذي يضم مجموعة مختلفة من المنظمات غير الحكومية، والكنائس، والمؤسسات، والإعلام، وازداد بروزُه بصورة جعلَته يمثِّل تحديًا لسلطة الحكومات على شعوبها. ورأى مؤيدو هذه المنظمات فيها نموذجًا لازدهار طبقي للسياسات التي يقودها المواطنون، التي تتحدث مباشرة باسم من لا صوت ولا حول لهم. بينما يرى معارضوها أن تلك المنظمات تمثِّل وسطاء لم يتمَّ انتخابهم، وجماعات مصالح تتبنَّى أفكارًا من صنعِها. وسوف نعالج فيما يلي بعضَ جماعات المجتمع المدني، وكفاحها من أجل إعادة صياغة العالم (على حدِّ زعمهم)، ونرصد ما حققَته من نجاح وإخفاق، ومدى تقدُّمِها في حملاتها من أجل شفافية أكبر مساحة، ومن أجل الديمقراطية وخدمة المجتمع العالمي.

ولا شك أن أشهر تلك الجماعات هي المنظمات غير الحكومية، التي بدأت محدودةَ العدد نسبيًّا، ثم توسعَت وانتشرَت انتشارًا واسعًا في السنوات الأخيرة. وأصبح من الصعب حصرُ عددِها بسبب عدم خضوعها لجهة رسمية، وتشعُّب ميادين عملها، وتزعم بعضُ المصادر أن عدد تلك المنظمات بلغ الثلاثين ألفًا اليوم. ولهذه المنظمات أهدافٌ مميزة، ألم تكن حركة مناهضة الرق في القرن التاسع عشر في بريطانيا منظمة غير حكومية؟ وكان للمنظمات العامة المتنوعة وجودٌ في مؤتمر سان فرانسيسكو عام ١٩٤٥م، وسمح لبعضها بعرض وجهات نظرها على الوفود (وهي: نقابة المحامين الأمريكية، والجماعات النسوية، ودعاة الفيدرالية الدولية). ومن ثَم تعود فكرة إقامة جمعيات ذات أهداف معلنة لها تأثيرها على السياسة العامة، إلى فكرة قديمة ترتبط بنشأة الديمقراطية وقيام المجتمع المدني. أضِف إلى ذلك، أن ميثاق الأمم المتحدة أقرَّ هذه العلاقة في المادة (٧١) التي أعلنَت أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة «يجوز له أن يتخذ الترتيبات المناسبة للتشاور مع المنظمات غير الحكومية التي تهتمُّ بالمسائل التي تدخل في دائرة اختصاصه». ورغم غموض هذا النص إلا أنه كان اعترافًا بتلك المنظمات.

وما جد في عالم اليوم هو تضخم أعداد المنظمات غير الحكومية واتساع مجال اهتماماتها. ويعود ازدهار حركتها إلى انتشار الاحتجاجات العامة في مختلف أرجاء العالم، والانتشار التلقائي للحركة في الستينيات من القرن العشرين.٨ فقد اعتبر الكثير من الناس — وخاصة الشباب — أن هيكل السلطة قد عفَّى عليه الزمن، سواء كان ذلك في الغرب الرأسمالي الأناني، أو الشرق الشيوعي المتحجر. ولعبَت حركةُ الحقوق المدنية في الولايات المتحدة دورَ المحفز والمشجع لحركة الاحتجاج العالمية، بسبب عمق مطالب التغيير التي نادَت بها، والدعاية الواسعة التي صاحبَتها، وما حققَته من إنجازات سياسية. فاكتسبَت حركةُ حقوق المرأة في أوروبا وأمريكا طاقةً جديدة، ونظمَت قطاعات أخرى من المجتمع الديمقراطي، وانتشرَت انتشارًا واسعًا إلى بقية أنحاء العالم. وأدَّى قمعُ حركة «ربيع براغ» في عام ١٩٦٨م، وكبْتُ حركات المعارضة في دول حلف وارسو، أدَّى إلى انتشار الجمعيات السرية في تلك البلاد، وانتشار «مراصد حقوق الإنسان» خارجها. وبدأ دعاةُ الحفاظ على البيئة حملاتِهم من أجل مصير الكوكب الذي نعيش فيه. كما نظمَت جماعات أخرى للمطالبة بنظام اقتصادي عالمي جديد.

وقصة هذه التحولات الاجتماعية والفكرية غنيةٌ بالتفاصيل، ولكنها معقَّدة، يصعب تصنيفها، لأن العديد من تلك المنظمات تختلف أغراضُها اختلافًا بيِّنًا، كما تختلف أساليبُ عملها. وانتهى الأمرُ ببعض النشطاء الذين قادوا الحملات من أجل التغيير السياسي وحقوق الإنسان إلى رئاسة حكومات بلادهم، (مثل: نيلسون مانديلا، وفاسلاف هافل، وليخ فاليسا)، فهم يدخلون بذلك في فئة أخرى تختلف عن أولئك الذين يناضلون من أجل الحفاظ على الحياة البرية مثلًا. ولكن ما يشترك فيه الجميع هو الاعتقاد في ضرورة التغيير، وأن عليهم حثَّ الساسة المحليين — أو حتى إجبارهم– على الموافقة على التغيير المقترح.

لذلك فضَّلت بعضُ المنظمات غير الحكومية العملَ المباشر من أجل تحقيق أهدافها (مثل جماعات السلام الأخضر)، ورأَت أخرى العملَ من خلال مؤسسات قائمة (مثل صندوق حماية الحياة البرية العالمية)، أو من خلال نظام الأمم المتحدة ذاته، بعضها له طبيعة خاصة (مثل: أطباء بلا حدود)، وبعضها الآخر يركِّز على دائرة محددة (مثل جمعية حماية الصحافيين)، بينما يعمل الآخرون من خلال أجندة واسعة. ويرتبط الكثير من تلك المنظمات بالكنائس (مثل الكويكرز، أو الجمعيات الكاثوليكية للسلام والتنمية)، وتحاول أن تبتعد عن الصراعات السياسية. وما زال الكثير من المنظمات الأخرى معنيًّا بمصير بلد واحد أو شعب واحد (مثل: الأكراد، إسرائيل، تايوان، التبت، قبائل الأمازون). وهذه المنظمات — عامة — تقوم على الأطراف وليس المركز بحكم عملها بعيدًا عن الحكومات، وارتيابها الدائم فيها، ولأنها تطالب بالتغيير، وتحسين أوضاع حقوق الإنسان والبيئة. ولكن من المؤكد أنها لا تتجه جميعًا نحو اليسار أو تستخدم خطابًا يساريًّا؛ فالأساقفة الكاثوليك في أمريكا اللاتينية يضغطون من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ولكنهم يعارضون الإجهاضَ ويقاومون تحديد النسل، وهما أمران تدعو إليهما المنظمات النسوية الأمريكية. وتُعلن جماعات حقوق الإنسان احتجاجَها على هدم بيوت الفلسطينيِّين في غزة على يد إسرائيل، بينما تُدافع الجماعات المؤيدة لإسرائيل عن حقِّها في القيام بذلك، وأظهر «اليمين المسيحي» الأمريكي قدراتٍ نادرة على الانتشار الذاتي. ومهما كان شأن الأيديولوجية فإن كلَّ حملة ذات وزن مؤثر تبزغ من القاعدة؛ ولذلك ليس من الغريب أن يشعر الساسة التقليديون بعدم الارتياح إزاء ظاهرة المنظمات غير الحكومية، حتى لو تعاملوا باحترام شديد مع بعض الجماعات. فهذه المنظمات لا تقبل الخضوع لسيطرة الحكومات أو توجيهها، وكثيرًا ما سبَّبت لها المتاعب والحرج.

وتعمل الكثير من المنظمات غير الحكومية بالتعاون مع الأمم المتحدة، وقد بدَا الاعتراف بفضل المنظمة الدولية في زيادة عدد هذه المنظمات منذ الاجتماع الأول للجمعية العامة (لندن ١٩٤٦م)، فقد ساعد حصول المنظمات غير الحكومية على الصفة الاستشارية من جانب المجلس الاقتصادي والاجتماعي على استخدامها «الصفة الدولية» في التأثير على الحكومات، ونشر الدعوة إلى نظام عالمي يسوده السلام والتفاهم الثقافي. وإن كانت المقترحات المقدَّمة من تلك المنظمات إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي تخضع لفحص دقيق من جانب اللجنة الدائمة للمجلس، وقد رفضت الكثير منها، وغالبًا لا تدرج من المقترحات إلا تلك التي تأتي من جانب المنظمات غير الحكومية المصنفة في المرتبة الأولى عند المجلس. ولكن اتصال تلك المنظمات بالجمعية العامة أو مجلس الأمن كان مستحيلًا، مما يجعل المجلس الاقتصادي والاجتماعي يلعب دور الحاجز الذي يقف في وجه اهتمامات المجتمع المدني وهمومه.٩

ولكن، حتى لو كان القليل — نسبيًّا — من تلك المنظمات غير الحكومية له حقُّ التقدم بوثائق (لا تزيد كلٌّ منها على ألفَي كلمة) إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي أتاح لها الصفة الاستشارية، فقد مثل ذلك خطوات قصيرة على طريق المشاركة الديمقراطية العامة. أضف إلى ذلك، أن قسم الإعلام بالأمم المتحدة فتح أبوابه أمام حركة المنظمات غير الحكومية، ووضع قائمة طويلة بالمنظمات المعتمدة منها. وهناك منظمات غير حكومية أخرى معتمدة لدى مكاتب الأمم المتحدة في جينيف وفيينا ونيروبي دون أن تكون لها الصفة الاستشارية التي يتطلب الحصول عليها موافقة المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة. وهناك ٣٩٠٠ منظمة غير حكومية مسجلة إما لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو لدى قسم الإعلام وحده. وأخيرًا، تحصل الآلاف من المنظمات غير الحكومية على تراخيص لحضور المؤتمرات الدولية للأمم المتحدة؛ حيث يكون باستطاعتهم التأثير على ممثلي الحكومات، وتقديم المعلومات والعون للدول الصغيرة، وتنظيم أنشطة موازية للمؤتمرات (منتديات)، وتجعل حضورها مشهودًا.

وعلى الرغم مما تقوم به المنظمات غير الحكومية من أعمال داخل وخارج الأمم المتحدة، فمن الواضح أن تأثيرها الأكبر يقع على الرأي العام والإعلام. لأن المنظمات تركِّز جهودها على إيجاد وسائل الإعلام الخاصة بها ليقينها أن عملَها سوف يؤثر على دوائر واسعة من الرأي العام، مما يساعد على تغيير أحوال العالم إلى الأفضل. وفي هذا السياق سوف نركِّز في تحليلنا على اختيار نماذج من مختلف أنواع المنظمات غير الحكومية والسياسات التي تَتْبعها.

والنموذج الأول هو منظمة العفو الدولية (Amnesty International) في مجال حقوق الإنسان، فهذه المنظمة الشديدة النشاط، تركِّز على إنهاء الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان في السلامة البدنية والعقلية، وحرية الاعتقاد والتعبير، وعدم الخضوع للتمييز، وهي تعمل من أجل إجبار الحكومات والسلطات الاستبدادية على الالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وجاءت نشأتُها متواضعة عام ١٩٦١م، وعندما دعا المحامي البريطاني بيتر بننسون Peter Benenson إلى حملة ضد الحكومة البرتغالية لسجنها طالبين لشربهما نخب الحرية. وأصبحت المنظمة الآن شجرة عظيمة متعددة الفروع، وافرة الظلال، تضمُّ في عضويتها أكثرَ من المليون عضو في ١٦٠ دولة، وتتلقَّى المعلومات من مختلف المصادر عن انتهاكات حقوق الإنسان، وتنظم الحملات من أجل الإصلاح. ومن النادر أن نجد حكومة لم تُعانِ الحرجَ من تقارير منظمة العفو الدولية بصورة أو بأخرى (الاتحاد السوفييتي والصين لقمعهما المعارضة، وبريطانيا لانتهاكات أولستر، والولايات المتحدة لعنف الشرطة، والبلاد العربية للتعذيب وإنكار حقوق المرأة، وسيراليون لحوادث القتل غيلة، وإسرائيل لتجاوزها في استخدام القوة في قطاع غزة، وإندونيسيا بسبب إخفاء السياسيين). وقد حصلَت المنظمة — عام ١٩٧٧م — على جائزة نوبل للسلام.١٠

ويذهب نقَّادُ منظمة العفو الدولية إلى أنها كثيرةُ التدخل في شئون الدول، تُفرط في إصدار الأحكام، وتركِّز على أقوال الضحايا، ولا تكترث لرأي السلطات التي قد تكون مدفوعةً لذلك لأسباب أمنية؛ مثل وجود حالة أحكام عرفية. وأن حرصها على كسب حماس المواطنين المحليِّين والترويج لنفسها يفوق حدودَ جرأتها. وكثيرًا ما ناقضَت اللجنة الدولية للصليب الأحمر ما يَرِدُ بتقارير منظمة العفو الدولية. فالصليب الأحمر منظمة إنسانية ذات طابع آخر، وهي تحظَى (ومقابلها الإسلامي: الهلال الأحمر) برعاية الحكومات، وهي تتلقَّى دعمًا ماليًّا من اللجان الوطنية التابعة لها وكذلك حكومات الدول. ورغم ذلك تعود نشأة الصليب الأحمر إلى مبادرة خاصة من جانب مواطني سويسرا الذين أفزعهم إهمالُ الجنود الجرحى في معركة سولفرينو عام ١٨٥٩م.

وتفخر منظمة الصليب الأحمر الدولي بحيادها؛ ففي الحرب العالمية الثانية قام ممثلوها بزيارة الأسرى البريطانيِّين في معسكرات الألمان حاملين الطعام والبريد، وفعلوا الشيءَ ذاته مع الأسرى الألمان في المعسكرات البريطانية. وكان مجالُ عملها أصلًا زمن الحروب، ثم وسعَت مجال عملها ليشمل مساعدة الضحايا في أعمال العنف الداخلية والتنسيق مع جهود الإغاثة. وهي تلتزم السرية التامة عند زيارتها للسجون فيما عدا حالات الانتهاكات الصارخة، وتعمل على جمْعِ شمْلِ العائلات، وحماية أسرى الحرب من مختلف الأطراف. وهذا يعني أنها تضطرُّ أحيانًا إلى التفاوض مع النظم القمعية المستبدة، التي لا تتردد منظمة العفو الدولية أو المحافظون في الولايات المتحدة في إدانة أعمالها. وتفترض منظمة الصليب الأحمر — في تلك الحالات — أن الحكومات — حتى المستبد منها — تقبل بالتعاون مع منظمة محايدة، فالهدف النهائي للصليب الأحمر هو مصلحة الأسرى التي تحتلُّ عندها الأولوية المطلقة، بغضِّ النظر عن جنسية الأسير أو آسريه.

وثمة تلاقٍ بين كلٍّ من منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر مع أهداف الأمم المتحدة، وكذلك يتصل عملُها اتصالًا وثيقًا بدور المفوضية السامية لحقوق الإنسان، ولكنهما يؤديان عملَهما بطريقة مختلفة تمامًا. إحداهما سريعة الحركة تندفع وسط مخاطر قد لا تُقدِم الملائكةُ على الخوض فيها، تستعدُّ دائمًا للمواجهة كلما دعَت الحاجة لذلك، مناشدةً الرأيَ العام الدولي لتأييد قضاياها، وتسأله أن يزوِّدَها بالطاقة، تحرص دائمًا على نشْر ما لديها على الرأي العام (كتالوج مطبوعاتها عام ٢٠٠٥م في الولايات المتحدة يقع في ٣٤ صفحة من القطع الكبيرة)، وترفض الحصول على أيِّ تمويل حكومي حتى لا يُشكِّل قيدًا على حركتها. وتسير اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) في الاتجاه النبيل نفسه بحماية حقوق الإنسان السياسية بالنسبة إلى الجرحى، والمشردين من ديارهم، والمضطهدين، وأسرى الحروب، ولكنها تسعى لتحقيق أغراضها بطريقة أكثر دبلوماسية والتزامًا بالقواعد التي وضعَتها الاتفاقات الدولية (وخاصة بوتوكولات جينيف)، وتحصل على مِنَح وهبات ضخمة من الحكومات الأعضاء بالأمم المتحدة، وتحاول التزامَ الحياد التام.

ولكلٍّ من النشطاء والعاملين في منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر مَن يؤيدهما، ولا يمكن تفضيلُ أحدهما على الآخر على ضوء تعقُّد عالم اليوم الذي تتنوع فيه الصراعات والآلام الإنسانية. وربما كان تدخُّل الصليب الأحمر أفضلَ في وضع معين، وقد تكون حملات منظمة العفو الدولية أكثرَ تأثيرًا في وضع آخر، وربما كان تحرُّكُ المنظمتَين معًا في بعض الحملات — بالتوازي مع غيرهما من منظمات حقوق الإنسان الأخرى والإعلام — مطلوبًا لإرغامِ نظامٍ قمعيٍّ على تغيير أساليبه. فكلا الأسلوبَين مطلوبان لإقناع المجتمع العالمي بضرورة التحرك لمواجهة كارثة معينة. ولا ريب أن وزارات الخارجية في جميع بلاد العالم تفضِّل أسلوبَ الصليب الأحمر في معالجة الأمور بالحكمة، ولكنَّ الإعلامَ والبرلمانيِّين وباقي مؤسسات المجتمع المدني تتحمَّس كثيرًا لمنظمة العفو الدولية، وإن ظل للصليب الأحمر موقعه.

أما «منظمة أطباء بلا حدود» (Medecins sans Frontieres) فلها نهجُها الخاص وأساليبها المختلفة في العمل، وإن كانت تمضي في الاتجاه نفسه. وقد تأسَّسَت المنظمة عام ١٩٧١م على يد مجموعة من الأطباء الفرنسيِّين لتقديم الخدمات والمساعدات الطبية في مناطق الحروب والكوارث، وهي تبذل جهدَها لتلتزم الحياد — شأنها في ذلك شأن الصليب الأحمر — غير أنها ترغب دائمًا في فضحِ ما يتمُّ ارتكابه من انتهاكات لحقوق الإنسان في مجال عملها، شأنُها في ذلك شأنُ منظمة العفو الدولية. وهو ما فعلَته مؤخرًا في دارفور حينما منعَت الحكومة السودانية المراسلين الأجانب من العمل هناك، وقد تعاونَت المنظمة — في هذا الصدد — مع المؤسسات الكنسية العاملة هناك في تنبيه الرأي العام الدولي إلى ما يجري هناك. وبذلك تعمل «منظمة أطباء بلا حدود»، كآلة تنبيه للأمم المتحدة ذاتها، أو كجهاز إنذار مبكر، على الرغم من إصرارها على أنها منظمة غير حكومية، فهي عادةً موضعُ ترحيبِ كلِّ الأطراف في مناطق النزاعات والمجاعات؛ لأن أهدافها شفافة، ترمي إلى تقديم الخدمات الطبية، والغذاء، والتسهيلات الصحية، وغير ذلك من أعمال الإغاثة إلى مختلف المناطق المنكوبة والمضطهدة في العالم. وهذه المنظمة تميل إلى اكتساب صورة شعبية أكثر من الصليب الأحمر؛ ففي العام ١٩٩٩م طالب رئيسُها الرئيسَ الروسي بوريس يلتسن — علنًا — بالكفِّ عن قصف المدنيين في الشيشان. وقد فازَت منظمة أطباء بلا حدود — في السنة نفسها — بجائزة نوبل للسلام، واستخدمَت قيمة الجائزة في التوعية بالحاجة إلى مكافحة الأمراض التي أهملَت مكافحتها مثل السل والملاريا.
ويفخر ميثاق «منظمة أطباء بلا حدود» بأن متطوعيها «يُدركون تمامًا المخاطر التي تُحيط برسالتهم، وليس لهم الحق في المطالبة بالتعويض عمَّا قد يتعرَّضون له من أخطار لأنفسهم أو المنتفعين بخدماتهم غير ما تستطيع المنظمة أن تُقدِّمَه لهم.»١١ وفي عام ٢٠٠٤م بلغ عددُ المتطوعين للعمل بالمنظمة ٢٥٠٠ متطوع (من الأطباء، والممرضات، والفنيين) عاونهم خمسة عشر ألفًا من العمال المحليِّين في ثمانين دولة، في تقديم الخدمات الطبية. وقد تعرَّضت المنظمة لضربة مؤلمة عندما قُتل خمسةٌ من فريق العمل التابع لها في أفغانستان (٢ يونيو ٢٠٠٤م)، اتُّهموا بالعمالة للإمبريالية الأمريكية، فاضطرَّت المنظمة إلى سحب فريق المتطوعين الدوليين المكوَّن من ثمانين عضوًا، وأنهَت عملَ ١٤٠٠ من العاملين المحليين في ذلك البلد.١٢ وكانت المنظمة تعمل في أفغانستان لمدة ٢٤ عامًا، وكانت تستخدم الدواب في نقل الأدوية إلى تلك البلاد المنكوبة. حادثُ القتل الذي تعرَّض له فريقُ العمل بالمنظمة يطرح سؤالًا سنعالجه في هذا الفصل هو: هل تستطيع أيُّ منظمة إنسانية تُدار من باريس أو لندن أو جينيف أو نيويورك أن تسلمَ من الشك في وجودِ نفوذٍ أجنبيٍّ وراءها، فتهاجم — في تلك الأصقاع — على النحو الذي تهاجم به عمليات التدخل الغربي؟ ويتصل بذلك سؤال آخر: هل تستطيع وكالات الغوث الإنساني وحقوق الإنسان وغيرها من المنظمات الحكومية أن تحظَى باحترام مختلف أطراف الصراع على ضوء ما حدث من هجمات ضدها؟١٣
وهناك مجال متسع آخر لنشاط المنظمات غير الحكومية ركَّزت فيه العمل في قضايا البيئة يتوازى مع نشاط وكالات الأمم المتحدة المتخصصة في هذا المجال أحيانًا، ويتقدَّمُها أحيانًا أخرى. فنحن أمام حركة كبرى تضم الآلاف من المنظمات غير الحكومية، لعل أكثرها نشاطًا «منظمة السلام الأخضر» التي جذبَت اهتمامَ وسائل الإعلام للمرة الأولى في أوائل السبعينيات عندما قامت بأعمال اجتماعية غير مسبوقة تهدف إلى إحراج الحكومات والشركات التجارية لوقف الأنشطة الضارة بالبيئة.١٤ وقد أدَّى ذلك إلى إثارة سؤال يتعلق بمثل هذه المنظمات: كيف تستطيع مجموعة من الأفراد أن تُعطيَ لنفسها حقَّ الكلام باسم الشعوب جميعًا فيما يتصل بالبيئة والغابات وصيد الحيتان؟ وقد شعروا بضرورة تجاهل القواعد الخاصة بإعاقة الحركة على الطرق، أو القوانين التي تضع قيدًا على الاجتماع والتجمهر من أجل تحقيق أهدافهم، حتى ولو كان ذلك يُعدُّ خروجًا على القانون، تمامًا كما فعلَت حركةُ الحقوق المدنية في الولايات المتحدة من قبل. كان ما فعلوه «عصيانًا مدنيًّا» انتقل إلى أعالي البحار.
وهكذا كان نشطاء السلام الأخضر على استعداد لتعريض أنفسهم للأخطار من أجل جذبِ الأنظار إلى قضيتهم، أو إجبار السلطات على تغيير السياسات التي يعترضون عليها. وكان من أمثلة ذلك اعتراض عملية ذبح الفقمة (عجل البحر) في كندا وألاسكا، ومقاومة الصيد الجائر في أعالي البحار، والإبحار بسفينتهم وسط منطقة التجارب النووية الفرنسية في المحيط الهادي (الباسيفيك)، والاحتجاج على القطع العشوائي للأشجار في الغابات المطيرة. وكان من الأهداف الأساسية لحركتهم الاجتماعية شركات النفط الدولية، وشركات الأخشاب الكبرى، وصناعة صيد الحيتان في النرويج واليابان. أضِف إلى ذلك تعرُّض نشطاء السلام الأخضر لأعمال عنف من جانب السلطات، مثل قيام المخابرات الفرنسية بإغراق سفينة المنظمة Rainbow Warrior عام ١٩٨٨م، لتمنعَها من الإبحار إلى منطقة التجارب النووية الفرنسية في جنوب المحيط الهادي. ورغم إنكار الحكومة الفرنسية أيَّ صلة لها بالحادث، فإن موجة الغضب العارمة التي ترتبت عليها مكَّنت المنظمة من جمع ملايين التوقيعات من مختلف أنحاء العالم على طلبات بإيقاف التجارب النووية، ونجحَت إلى حدٍّ كبير في إرغام الدول الكبرى — وخاصة فرنسا — على الحد من تجاربها النووية. ولا شك أن انتهاء الحرب الباردة، وتغيير مناخ العلاقات بين الشرق والغرب، ساعد على إبرام معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (عام ١٩٩٦م). ولكن ليس من قبيل المبالغة القول بأن المنظمة التي دقَّت ناقوس الخطر، قد لعبَت دورًا هامًّا في التحول في اتجاه الرأي العام.

ولم يكن ذلك مجردَ احتجاج رمزي؛ فمنظمة «السلام الأخضر» تستخدم اليوم العديدَ من المحامين وجماعات الضغط (اللوبي) من أجل خدمة قضيتها، شأنها في ذلك شأن غيرها من المنظمات غير الحكومية. وتُجنِّد — أيضًا — العلماء لفحص المنتجات، وفحص ما لحق بالبيئة من أضرار، وتُنظم حملات دعاية متقدمة من خلال شبكة المجموعات المحلية المنتمية إليها والمتطوعين، واستخدام الشبكة الدولية للمعلومات. وقادَت حملة عارمة في السنوات الأخيرة ضد المحاصيل المهندسة وراثيًّا، وأجبرَت الشركات — الواحدة تلو الأخرى — على الانسحاب من هذا الميدان. وقد تنبَّهَت أيضًا إلى تحقيقِ بغيتِها من خلال القانون الدولي والهيئات الدولية والاتفاقات الدولية. وأدَّى حشدُ العديد من الحكومات إلى قيام الأمم المتحدة بفرض العقوبات على ليبيريا لقطعها العشوائي للغابات. وأدَّت حملات أخرى للمنظمة إلى جعل منظمة الملاحة البحرية الدولية تُشدد من الضوابط المستخدمة في ناقلات النفط، وفي سفن نقل المواد الخطرة في بحر البلطيق. وأعلنَت في سبتمبر ٢٠٠١م — بمناسبة عيدها الثلاثين — أنها نجحَت في تحقيق «السلام الأخضر من خلال النشاط الدائب الملتزم …»

أما المعهد الدولي للموارد The World Resources Institute (WRI) الذي أُقيم بواشنطون عام ١٩٨٢م، فأقلُّ اتجاهًا إلى المواجهة. وبينما نجحَت منظمة السلام الأخضر في تنظيم نفسها من سلسلة من الجماعات المستقلة في أكثر من ثلاثين دولة، ركَّز المعهد الدولي للموارد نشاطَه في موقع واحد، حيث يضمُّ مقرُّه ما قد يزيد على المائة من العلماء والمهندسين والمستشارين ورسامي الخرائط وغيرهم من المتخصصين، الذين ينتشرون في العالم للعمل في المشروعات المتعددة التي تهدف إلى تحسين الظروف البيئية، كما يعمل المعهد على نشر الوعي البيئي من خلال سلسلة النشرات والمطبوعات التي يُصدرها، وأهمها تقريرُه السنوي «موارد العالم World Resources»، ولكنَّ اهتمامَه الرئيسي هو إقامة علاقة شراكة مع مؤسسات العالم النامي، وعادةً يتولى تدبير التمويل اللازم لذلك من الوكالات الحكومية والمؤسسات في دول الشمال. وربما كان كافيًا أن نُوردَ مثالَين لنشاط المعهد الدولي للموارد.١٥ ففي يونيو ٢٠٠٤م، أعلن المعهد الدولي للموارد واتحاد الصناعات الهندسية تعاونَهما معًا في مشروعاتِ دعمِ الصناعات المحافظة على البيئة في الهند، وهو حدثٌ بالغُ الأهمية إذا وضعنا في اعتبارنا أن الهند صاحبة أكبر اقتصاد آسيوي (بعد الصين)، وأن إنتاجها الصناعي الكبير المتنامي يساهم في ظاهرة الاحتباس الحراري. ويحصل مركز جوردج للأعمال الخضراء — الذي يقوم بالدراسات الميدانية للمشروع — على دعمٍ من حكومة ولاية أندرا براديش ومؤسسة جوردج والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). وفي الشهر نفسه، أعلن المعهد الدولي للموارد تعاونَه مع بنك التنمية الآسيوي لدراسة «النقل الحضري المحافظ على البيئة» في آسيا. وقامت الوكالة السويدية للتنمية بتمويل المؤسسة القابضة التي أقيمَت لهذا الغرض، وتتولَّى مؤسسة شل تمويلَ «مركز النقل والبيئة» التابع للمعهد الدولي للموارد، والذي يختصُّ بتقديم المشورة في هذا المجال.
ومن بين المنظمات غير الحكومية ذات الطبيعة الخاصة، تلك التي تصرف جهودَها إلى تحسين أوضاع النساء والبنات وحماية حقوقهن، فهي تعمل على توفير الكرامة وحقوق المواطنة لأكثر من نصف البشر. وتركِّز هذه المنظمات نشاطَها في البلاد النامية التي يُنكر معظمها على النساء حقوقهن الأساسية. وهنا يقع المراقب للأوضاع على تداخل بين أنشطة العديد من المنظمات ذات النشأة الذاتية، ولكن هذا التداخل لا يمثِّل عائقًا بالضرورة طالما كان هدف هذه المنظمات النهوض بالمجتمع المدني. ومن الصعب متابعة تأسيس المنظمات الجديدة في هذا المجال التي تنمو باطراد يجعلها تفوق الحصر، وغالبًا ما تقوم كلٌّ منها في أعقاب حالات الانتهاك والتعديات على حقوق المرأة. وعلى سبيل المثال، سافرت مجموعة من الناشطات النسويات في الولايات المتحدة عام ١٩٨٣م إلى نيكاراجوا للوقوف على آثار حرب الكونترا على النساء والأطفال، وقد تأثرنَ مما شاهدنَ تأثرًا شديدًا حتى إنهن حين عُدنَ، قُمنَ بتأسيس منظمة (MADRE) التي يصفها الموقع الخاص بها على الشبكة الدولية للمعلومات بأنها «منظمة دولية لحقوق المرأة، تطالب بحقوق الإنسان للمرأة والعائلات» ولهذه المنظمة اهتمامٌ خاصٌّ بأمريكا اللاتينية؛ حيث تُقيم علاقات مع الحركات النسوية هناك، وتهتمُّ سياسيًّا برصد ما تُسببه الحكومات الأمريكية والشركات الكبرى والاتفاقات التجارية مثل (NAFTA) من أضرار تلحق بالنسيج الاجتماعي للإقليم. ثم هناك «منظمة المساواة الآن» (Equality Now) التي تأسسَت عام ١٩٩٢م للنهوض بالمستوى الحقوقي للمرأة في العالم، من خلال استخدام القانون الدولي والقانون الوطني. وبعد ذلك بتسع سنوات، أسَّست المنظمة نفسها «ائتلاف المحامين من أجل النساء» Lawyer's Alliance for Women (LAW) لحمل هذه الرسالة من بلد إلى آخر، وتقديم الشهادات في المحاكم، وأمام الهيئات العامة الأخرى. وهناك منظمة أخرى مختلفة تمامًا هي «الصندوق العالمي للمرأة (Global Fund for Women)» الذي جمع منذ العام ١٩٨٧م أموالًا كافية من الجهات المانحة بلغَت ٣٢ مليون دولار لتمويل ٢٣٠٠ من الجمعيات النسائية في مختلف أنحاء العالم، وهي تدعم نحو الأربعمائة مشروع جديد سنويًّا، بالمنح التي قد تبدو صغيرة في نظر أهل الشمال ولكنها تستقبل بالامتنان في ميدان استحقاقها.
وقد يعنُّ لبعض النقاد التساؤل: تُرى … ماذا حقق هذا النشاط وإهدار الطاقات من إنجازات؟ من الواضح أن النتائج مختلطة تمامًا. فالكثير من هذه المنظمات ذات أهداف متفرقة، شديدة الغضب، وتفتقر إلى حسن السياسة، وتميل إلى تبديد قواها في كلِّ ما ترمي إليه من أهداف جميعًا. فمنظمة (MADRE) مثلًا تُقرُّ صراحةً أن «برامجنا تعكس السعيَ لتحقيق الأهداف الألفية للتنمية من منطلق حقوق الإنسان وحاجات الشعوب، التي تهدف إلى إنهاء الفقر المدقع والجوع، وتأمين التعليم الأساسي في العالم، والارتقاء بالمساواة النوعية (بين الجنسين)، وتمكين المرأة، والحد من وفيات الأطفال، والرعاية الصحية للأمهات، ومكافحة الإيدز والملاريا وغيرهما من الأمراض، وتحسين الأحوال البيئية، وتطوير شراكة عالمية في التنمية».١٦ وهذا — دون شك — يمثِّل قائمة طويلة من الطلبات التي تعجز أيُّ منظمة عن تلبيتها بما في ذلك الأمم المتحدة ذاتها.
أما المنظمات الأخرى فتركز على رسالة محددة، مما يجعل أداءَها مختلفًا وكذلك نشاطها. فلننظر إلى حالة الأستاذة وانجاري ماثاي مؤسسة حركة الحزام الأخضر في كينيا، وهي أول امرأة في شرقي ووسط أفريقيا تحصل على درجة الدكتوراه، التي فازَت بجائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٤م. وعندما بدأت حركتَها عام ١٩٧٧م بزراعة أشجار بدلًا من تلك التي راحَت ضحية القطع العشوائي لأشجار الغابات، اعترضَت الحكومة الكينية على ذلك، وعندما تم زراعة مشاتل تضم ٦٠٠ شجرة بسواعد النساء بعد عقدٍ من الزمان شعرَت الحكومة الفاسدة للرئيس دانيال أراب موي بالقلق. وعندما عارضَت حركة الحزام الأخضر بناء عمارة من ٦٢ طابقًا في نيروبي لتصبح مقرًّا للحزب السياسي الحاكم، جنحَت الحكومة إلى العنف. وتعرَّضَت الدكتور ماثاي للضرب ثلاث مرات على الأقل، وكانت نتيجة ذلك أن ألقَت منظمات حقوق الإنسان والمنظمات النسائية الدولية بثقلها وراء حركة الحزام الأخضر، واهتمت الصحافة العالمية بالقضية، وقدَّمت بعض مؤسسات الشمال معونات مالية للحركة لمشروع زراعة الأشجار (وقد بلغ عدد الأشجار التي زرعَتها الحركة عشرين مليون شجرة)، وجاء حصول ماثاي وحركتها على العديد من المنح والجوائز من مختلف أنحاء العالم ليدفع حكومة كينيا إلى التراجع. وفي عام ٢٠٠٢م انتُخبت الأستاذة وانجاري ماثاي عضوًا بالبرلمان، وأُسندَت إليها حقيبة وزارية. وقبل ذلك بسنوات هجرها زوجها، وحصل على حكم بالطلاق استند إلى أنها «ذات مستوًى عالٍ من التعليم، وعلى درجة من القوة والنجاح، وهي عنيدة، تصعب السيطرة عليها …» ولولا تلك الصفات لما حققت هذه المرأة المناضلة شيئًا.١٧

ولكن ماذا يعني ذلك كله على صعيد الهياكل العالمية للقوة؟ ربما كان لا يعني الكثير. فقد غيَّرت الحكومة الكينية من موقفها، ولكنها لم تلتزم بأجندة حقوق المرأة؛ فغالبية الحكومات يسيطر عليها الرجال وكذلك حال أجهزتها البيروقراطية. وحقوق المرأة لا اعتبار لها في العالم الإسلامي ومعظم بلاد أفريقيا. ومفاتيح القوة الحقيقية للمنظمات الدولية تقع في أيدي مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولكن إذا بُعث أحد من نشطاء العمل العالمي في الأربعينيات، فسوف يُدهشه وضع المنظمات غير الحكومية في عالم اليوم، ويعجب لما لها من حضور بارز.

تُرى … إلى أيِّ مدى يمكن قول الشيء نفسه عن المؤسسات غير الحكومية الأخرى مثل الكنائس، والإعلام، والمؤسسات الخيرية، فيما يتعلق بتنمية المجتمع المدني العالمي؟ لا شك أن الديانات ذات الطابع المؤسسي؛ كالإسلام والمسيحية والبوذية وغيرها، لها تأثيرٌ كبير على حياة وأفكار البلايين من البشر، ولكن هل تعكس هذه الحقيقة التداخلَ مع المنظمات العالمية والتأثير فيها؟ الإجابة — على الأرجح — بالنفي؛ فالعائلات والأفراد يتعبدون تقربًا إلى الله، ولا يصلون من أجل تغيير المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة. غير أن ما تقوله الكنائس أو تفعله له تأثيرات كبيرة على السياسة الدولية بسبب حجم أتباعها، ولكنها تلجأ إلى الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها من أجل تحقيق التغيير على الصعيد الدولي.

ولا يعني ذلك أن الدور العام للكنائس سياسيٌّ محضٌ؛ فجمعية الكويكرز لخدمات الإغاثة تعمل بهدوء وكفاءة لإغاثة المنكوبين في مختلف أرجاء العالم، ونادرًا ما تجذب أنظار الإعلام. ولجنة أصدقاء الأمريكان للخدمات التي تأسَّسَت في منتصف القرن التاسع عشر لمساعدة ضحايا مجاعة البطاطس في أيرلندا، وقامَت بأعمال الإغاثة في ألمانيا في أعقابِ كلٍّ من الحربَين العالميَّتَين (وحصلَت على جائزة نوبل للسلام عام ١٩٤٧م تقديرًا لذلك)، تلعب الآن دورًا عالميًّا وتعمل في ٢٢ دولة فساعدَت ضحايا الفيضانات في موزمبيق، وضحايا المجاعات في القرن الأفريقي، وضحايا العنف في الشيشان. وتقوم الكثير من الكنائس الاسكندنافية والجمعيات التبشيرية بخدمات مشابهة على الساحة العالمية. ثم هناك جمعية خدمات الإغاثة الكاثوليكية التي تأسَّست عام ١٩٤٣م، وبعض المنظمات ذات الطابع الوطني مثل منظمات (CAFOD) في بريطانيا التي تُقدِّم خدمات الإغاثة في ٩٤ دولة، وخدمات التمريض لضحايا الإيدز، والرعاية الصحية، والخدمات التعليمية، والقروض الصغيرة، وإرساء دعائم السلام. وعلى الرغم من أن هذه المنظمات ذات التوجه الديني تعمل إلى جانب وكالات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني في أصقاع بعيدة من العالم إلا أنها تعبِّر عن المجتمع العالمي.١٨
وتتمتع الكنائس بالقدرة على تحريك الحكومات، وهو ما لا يتوفر للمنظمات غير الحكومية. من ذلك ما قامت به الطائفةُ اليهودية الأمريكية من حشدٍ سياسيٍّ عندما نشرَت صورَ السجناء المسلمين في معسكرات الاعتقال بالبوسنة، وما كانوا عليه من هزال شديد في أغسطس ١٩٩٢م، فنشرَت المنظمات اليهودية الأمريكية صفحةً كاملة في جريدة New York Times تحمل عنوان «أوقفوا معسكرات الموت»، ونظَّموا مسيرة إلى البيت الأبيض، مما دفع صنَّاع السياسة الأمريكان إلى التحرك. وبعد ذلك باثنَي عشر عامًا قام مجلس الأساقفة الكاثوليك في أمريكا بمطالبة وزير الخارجية كولن باول بوقف عمليات التصفية العِرقية التي تمارسها الحكومة السودانية في دارفور، مما جعل وزارة الخارجية الأمريكية تُولي الأمرَ اهتمامًا، وخاصة عندما طالبت الكنائس البروتستانتية في الجنوب بتدخل الحكومة الأمريكية ومجلس الأمن في الإقليم إذا استدعَت الضرورة ذلك.١٩

وتداخلُ سياسةِ الكنائس مع السياسة الدولية مثيرٌ للجدل أحيانًا، ويمثِّل إشكالية. فقبلَ جيلٍ كامل، كان مركز العاصفة في العلاقة بين الكنيسة والدولة يقع في أمريكا الوسطى واللاتينية؛ حيث تحظى الكنيسة الكاثوليكية بنفوذ لا نظير له. وكان قادة الكنيسة يميلون — تقليديًّا — في الجانب المحافظ، وغالبًا كانوا يؤيدون النظمَ الديكتاتورية. ولكن قدوم الأفكار «التحررية» الجديدة، وظهور أساقفة راديكاليين خلال فترة الحروب الأهلية التي حطَّمَت أمريكا الوسطى، وبروز جيل جديد من القساوسة الشبان وخاصة الجزويت، الذين دعَوا في عظاتهم إلى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والدستوري، كل ذلك غيَّر المناخَ كلَّه. وارتبطَت الكنيسة بالجناح السياسي الراديكالي مما كلَّفها أحيانًا ثمنًا باهظًا. وعندما قامَت الكنيسة بإجراء تحقيق حول انتهاك حقوق الإنسان في جواتيمالا، ذهب إلى أن ٧٩٪ من ٥٥ ألفًا من حالات الانتهاك ارتكبَتها «قوات الأمن»، تم إلقاء القبض على الأسقف يوحنا جيراردي الذي أعدَّ التقرير النهائي، وضُرب بالهراوات حتى الموت (٢٦ أبريل ١٩٩٨م)، فكان ذلك تكرارًا لحادثِ اغتيالِ كبيرِ الأساقفة في السلفادور أوسكار روميرو عام ١٩٨٠م أثناء قيادته لقداس كنسي. وقد حقَّقت لجنةُ تقصِّي حقائق تابعة للأمم المتحدة عام ١٩٩٢م في مقتل روميرو، وحددَت الجناة الذين ارتكبوا الجريمة. ولكن قضية الأسقف جيراردي نقلها أنصاره إلى أوروبا وتولَّت أمرَها منظمةُ العفو الدولية. وفي هذا النموذج تعاونَت الوكالات والكنائس والمنظمات غير الحكومية معًا.

ولكن هذه المؤسسات الكنسية المختلفة، لم تتخذ موقفًا موحدًا تجاه المسائل الأخرى؛ فرغم ما عُرف عن اتجاه «الكنائس البروتستانتية لشمال أوروبا» إلى اتخاذ مواقف تقدمية إزاء القضايا العالمية، بما عُرف عنها من اعتناق لليبرالية، فإن ذلك لا يصدق على كنائس الولايات المتحدة المحافظة تجاه دور الوكالات الدولية فيما يتعلق بالإجهاض وتنظيم الأسرة، كما أنه لا يصدق — بالتأكيد — على الفاتيكان. والوضع الخاص الذي حصلت عليه دولة الفاتيكان (Holy See) كمراقب في الجمعية العامة (منذ ١٩٤٥م)، يعطيها فرصةً للتأثير على سياسات الأمم المتحدة بقدر لا يتوفر لغيرها من المنظمات غير الحكومية أو الكنسية. ومن بين المزايا التي تتمتع بها الحق في التصويت في المؤتمرات الدولية للأمم المتحدة، ومن ثَم التأثير في صياغة القرارات الصادرة عنها، وهو أمرٌ لا خلاف عليه، يتمُّ تقبُّلُه كحقيقة تاريخية. ولكن إصرار الفاتيكان على التدخُّل لتعديلِ نصِّ «برنامج العمل» خلال المؤتمر العالمي للسكان بالقاهرة عام ١٩٩٤م (بحجة أن صياغة مشروع البرنامج تُشجع على الإجهاض حسب الرغبة، وممارسة المراهقين للجنس، والشذوذ الجنسي)، هذا التدخُّل من جانب الفاتيكان ضايقَ الكثيرَ من الوفود والمنظمات النسوية، ودفعها إلى المطالبة بخفضِ درجةِ تمثيلِ الفاتيكان إلى مستوى المنظمات غير الحكومية. ولما كانت للفاتيكان علاقاتٌ دبلوماسية مع أكثر من مائة دولة في العالم، كما أن موقفَها من تلك القضايا يلقَى دعمًا من البروتستانت المحافظين واليهود والمسلمين، فإن دعوة المنظمات غير الحكومية لم تكن مجدية. ولعل تلك الضجة التي أُثيرَت حول صياغة برنامج العمل، والنزعة التوفيقية في تلك الصياغة تُبيِّن أن حركاتِ المنظمات الليبرالية غير الحكومية لها حدودها التي لا تستطيع تجاوزها، رغم ما بلغَته من نموٍّ، وما لها من صوت مسموع وتأثير.٢٠
غير أنه لا مجالَ للشك في أن الكثير من المنظمات غير الحكومية قد استفادَت كثيرًا من انتشار المؤسسات الخيرية الأمريكية والليبرالية أساسًا، في دفع عجلة الديمقراطية العالمية. وكانت مؤسستَا كارنيجي Carnegie وروكفلر Rockefeller أول ما أُنشئَ من تلك المؤسسات في مطلع القرن العشرين لأسباب تتصل بالضرائب والعمل الخيري معًا، ولحقَت بهما مؤسسةُ فورد Ford عام ١٩٣٦م. وقد استطاعَت تلك المؤسسات أن تزيدَ من قوتها المالية بطرق شتى. ومن الصعوبة بمكان أن نقفَ على إحصاءات دقيقة عن ذلك؛ لأن الأرقام تتضارب هنا بصورة غير عادية حتى في التقرير السنوي الواحد لمؤسسة بعينها (يقضي القانون الأمريكي بضرورة إصدار المؤسسات الخاصة تقاريرَ سنويةً، وأن تُنفق ما لا يقل عن ٥٪ من أصولها السنوية). وفي العام ٢٠٠٢م بلغَت قيمةُ الأصول الخاصة بما يقارب ٦٥ ألفًا من المؤسسات الأمريكية الخاصة، ٤٣٥ بليون دولار، وأنفقَت سنويًّا ثلاثين بليون دولار، وهو رقم يعادل إجمالي الناتج القومي لزيمبابوي أو السلفادور في تلك السنة. ويذهب القسطُ الأكبر من المبالغ التي تُنفقها المؤسسات الأمريكية إلى هيئات أمريكية محلية: كالمدارس، ومتطلبات المدن، والأبحاث الطبية. ورغم ذلك تُنفق هذه المؤسسات الكثيرَ على ما يُطلق عليه «برامج الشئون الدولية» وخاصة أكثرَها جذبًا للاهتمام، وخاصةً أن اليمين السياسي يرى أن الكثير من هذه المؤسسات مبالغٌ في نزعتها التقدمية المدمرة، بينما يرى فيها اليسار الراديكالي السمة النخبوية التي تفتقر إلى الديمقراطية، وتعتبر الكثيرُ من بلاد العالم النامي هذه المؤسساتِ أدواتٍ للتدخل الخارجي حتى لو كانت المِنَح التي تُقدِّمها محلَّ ترحيب.٢١
ويبدو أن ثمة طريقَين رئيسيَّين تؤثِّر عبرَهما المؤسساتُ الخيرية على المجتمع المدني والعالمي، يمكن أن تتصل بأهداف الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أولهما، في ميدان التبادل الثقافي، والمِنَح الدراسية، وبرامج البحوث والتدريب ونشْر المعلومات حول القضايا الدولية، على نحوٍ شبيهٍ بأجندة اليونسكو، طالما كان الهدف المعلن هو ترقية المعرفة والتفاهم بين الشعوب. ولعل تمويل المؤتمرات العلمية التي تجمع بين علماء الشرق والغرب زمنَ الحرب الباردة يصلح مثالًا لذلك — من بين العديد من الأمثلة — وقيل في تبريره إتاحة الفرصة لتنمية سياسات التعايش بدلًا من المواجهة. وقد تدفَّق جانبٌ كبير من أموال المؤسسات على غربي أوروبا في الخمسينيات والستينيات لدعْم الصحف وتقديم المِنَح والمعونات للمؤسسات التعليمية، وتشجيع تذوُّق الثقافة الأمريكية لتقليل النفور الأوروبي من نزعة الأمركة وللحيلولة دون التطلع إلى الاتحاد السوفييتي. كذلك كان تمويل المكتبات في البلاد النامية نموذجًا لاستثمار أموال المؤسسات الأمريكية الخاصة. ولما كانت وكالة التنمية الدولية الأمريكية (USAID) والمخابرات المركزية (CIA) تفعل الشيءَ نفسه، فليس من الغريب أن يشكَّ الكثيرُ من الأفراد الأجانب وحكوماتهم في نشاط المؤسسات الأمريكية الخاصة، ويرَونها ذراعًا أخرى للاستراتيجية الأمريكية، رغم أن تلك المؤسسات كانت تتبنَّى في تلك المرحلة أجنداتٍ أكثرَ تقدمًا وليبرالية مما يمكن أن يتخيلَه مؤسِّسوها، بما اتسموا به من صرامة وتحفُّظ.

والطريق الآخر المؤثر على المجتمع المدني العالمي يتمثَّل في دعم المؤسسات الخيرية لجماعات حقوق الإنسان، وتمويلها لمشروعات الحفاظ على البيئة وتحسين الزراعة، وبصفة خاصة تمويل البحوث الخاصة بطب المناطق الحارة والتجارب. هذا التدفق لأموال المعونات يأتي من العالم الأول إلى العالم الثالث، وكانت مؤسسة روكفلر رائدةً في هذا المجال؛ فقد بدأَت تقديمَ المِنَح إلى الهند عام ١٩١٦م، وفي عام ١٩٣٢م موَّلَت إنشاء «المدرسة الهندية للوقاية الطبية والصحة العامة». كما كانت مؤسسة روكفلر رائدةً في تقديم المِنَح لدعم المشروعات المجتمعية في أمريكا اللاتينية وحوض الكاريبي. ورغم أن مؤسسة فورد لم تدخل هذا المجال بصفة جدية إلا في الخمسينيات، فقد قرَّرت تخصيص الجزء الأكبر من تمويل برامج الشئون الدولية لشبه القارة الهندية. وقد تعاونَت المؤسستان (روكفلر وفورد) في لعبِ دورٍ هامٍّ في دعم ما سُمي «الثورة الخضراء» في آسيا، حيث ساعدتَا تلك البلاد على التوسُّع في الإنتاج الزراعي.

تُرى … ماذا يعني ذلك من الناحية المالية؟ تُعطينا التقارير السنوية للمؤسستَين الكبيرتَين: فورد، وجيتس Gates فكرةً عن ذلك. بلغَت القيمة الإجمالية لأصول مؤسسة فورد ٩٫٩٧ بليون دولار عام ٢٠٠٣م مكَّنها من تقدير مِنَح بلغَت قيمتها ٤٨٩ مليون دولار، وهو ما يقلُّ كثيرًا عمَّا يتوفر لوكالة المعونة الأمريكية (USAID) أو البنك الدولي طبعًا، ولكنها أهمُّ كثيرًا من حيث كونُها أيسرَ منالًا، ولا تتقيَّد بالتدخل السياسي (من جانب الحكومة الأمريكية). وتُعدُّ المؤسسة أقرب ما تكون إلى دولة صغيرة، فلها مكاتب في مكسيكو، وريو دي جانيرو، وسنتياجو، ولاجوس، وجوهانسبرج، ونيروبي، والقاهرة، وتل أبيب، وموسكو، وبكين، وهانوي، وجاكرتا، ونيو دلهي (حيث يقع أكبر مكاتبها في الخارج). وفيما بين عامَي ١٩٥١ و١٩٩٥م، خصصَت مؤسسة فورد مئاتِ الملايين من الدولارات ﻟ ٢٥٠٠ منحة قدمَت لمشروعات مختلفة في الهند، ويكفي رؤية الزوار الذين يتدفقون في أعداد كبيرة على مكتبها في نيو دلهي للخروج بانطباع أن حركة الزوار تفوق عددَ مَن يترددون على السفارات أو القنصليات الكبرى.
ومؤسسة جيتس حديثة النشأة، ولكنها أصبحَت بعد عقد واحد من الزمان أكبرَ مؤسسة مانحة في العالم. نتيجة ما حققَته عائلة جيتس من مكاسب هائلة من شركة مايكروسوفت. وفي العام ٢٠٠٣م بلغَت أصول مؤسسة جيتس ٢٧ بليون دولار، وتُنفق على المِنَح السنوية ما قيمته بليون دولار. وأكبر مشروعاتها هو ما تسمِّيه «صحة العالم» الذي أنفقَت عليه عام ٢٠٠٣م وحده ٥٧٦ مليون دولار، ذهب معظمها إلى مكافحة الأمراض القاتلة كالإيدز والملاريا. والمؤسسة من أكبر مكافحي الإيدز في أفريقيا؛ حيث تتجه الأموالُ التي تُخصصها لذلك إلى البحوث الطبية والرعاية الصحية للمصابين بالإيدز. ولذلك ليس لهذه المؤسسة ما لمؤسسة فورد من انتشار ومكاتب في مختلف أنحاء العالم، فهي تُنفق أموالًا طائلة على مشروعات كبيرة محددة. أما سياسة مؤسسة فورد فذات طابع عام، تقوم على تقديم المِنَح الصغيرة لمشروعات معينة مثل مبادرة إحدى القرى للعمل على تحسين البيئة، أو تزويد قرية بمياه الشرب النقية، وتقديم القروض الصغيرة للمشروعات النسوية الإنتاجية. كما لعبَت دورًا متميزًا في الارتقاء بحقوق الإنسان في الدول النامية، وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى إثارة غضب النظم السلطوية وإحراجها. وعندما تدخَّل النظام العسكري الحاكم في الأرجنتين لقمع جامعة بيونس أيرس عام ١٩٦٦م، ساعدَت مؤسسة فورد علماءَ الأرجنتين على الانتقال إلى دول أمريكا اللاتينية الأخرى. وعندما مارسَت الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا التمييزَ ضد الأساتذة الأفارقة في التعليم العالي، أقامَت مؤسسة فورد برنامجَ بحوث جنوب أفريقيا في جامعة ييل Yale. وتقوم المؤسسة الآن بدعم اللجنة الكولومبية للقضاة، ومنتدى فكري للجزويت في بوجوتا، يُناضل كلٌّ منهما من أجل حقوقِ الإنسان وتُعَد تقارير ترصد فيها الانتهاكات في هذا المجال. ولكن الكثير من المنح التي تُقدِّمها المؤسسات الخيرية يُساء التصرُّف فيها بسبب سوء الإدارة أو اتِّباع أساليب خاطئة، وإن كانت النتائج الإجمالية لنصف قرن من العون المادي في هذا المجال قد ساعدَت — دون شك — على توثيقِ عُرَى التعاون الدولي واتساع دائرة الوعي بالقضايا العالمية.
ومن الطبيعي أن تكون هناك مؤسسات خيرية مماثلة في بلاد أخرى؛ مثل: مؤسسة كروب (Krupp) في ألمانيا، ومؤسسة ساساكاوا (Sasa Kawa) في اليابان، ومؤسسة ليفرولم (Leverhulm) في بريطانيا، ولكن معظمها يركِّز على المشاريع المحلية، أو على التبادل الثقافي والتعليمي. ووجودُ المؤسسات الأمريكية في هذا المجال كاسحٌ وغالب؛ فمنذ بضع سنوات قُدِّر عددُ المؤسسات الخيرية العالمية التي تزيد أصولُ كلٍّ منها على المائة مليون دولار باثنتين وثلاثين مؤسسة كانت تسعٌ وعشرون منها أمريكية.
وقد يبدو — للوهلة الأولى — أن هذه السيطرة الغربية الطاغية موجودة أيضًا في ميدان الإعلام والتغطية الإعلامية للأجندات الدولية المتصلة بالأمم المتحدة. ويؤيد ذلك الانطباع حالتان، هما: دور الشبكة التليفزيونية الأمريكية CNN، والدور المختلف لهيئة الإذاعة البريطانية BBC World Service ولا يستطيع أحدٌ أن يجادل في أنَّ أيًّا من المنظمتَين كانت على رأس الحملة العالمية «نحن شعوب العالم»، ولكن نشرهما للأنباء والمعلومات على الكثير من البلاد في مختلف أنحاء العالم دعَّم الفكرة القائلة بأنه مع وجودِ كلِّ هذه الخلافات بين بلاد العالم، تتعرَّف أعدادٌ متزايدة من المواطنين (وخاصة الشباب) على ما يجري في مختلف أنحاء العالم. أضِف إلى ذلك أن CNN لعبَت دورًا يسمَّى «تأثير CNN» في جعْل الدول تدخل طرفًا في الأزمات الدولية، أو تنأَى بنفسها عنها، وخاصة الدول النامية. وقد عرض الأستاذ جاكوبسون Viggo Jakobsen لهذه الظاهرة بقوله: «إن الآلية المسبِّبة لتأثير CNN تكمن فيما يلي: التغطية الإعلامية (المنشورة والمتلفزة) للمعاناة والمظالم؛ حيث يطالب الصحفيون وقادةُ الرأي الحكوماتِ الغربيةَ بأن «تفعل شيئًا»، ويُصبح ضغطُ الرأي العام هائلًا، ولا تفعل الحكومات الغربية شيئًا.»٢٢وكانت الأمثلة الرئيسية لذلك الأزمات الثلاث التي حدثَت في منتصف التسعينيات: كوسوفو، والصومال، ورواندا-بوروندي. وعلى حدِّ تعبيرِ شاتوك John Shattuck — مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون حقوق الإنسان والديمقراطية — في ذلك الحين: «لقد دفع بنا الإعلام إلى الصومال، وأخرجنا منها». وقال بطرس بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة متعجبًا «لقد غيَّر التليفزيون من ردِّ فعلِ العالم تجاه الأزمات»، وهو استنتاجٌ لم يُثبت ردُّ الفعل العالمي لكارثة تسونامي المحيط الهندي في ديسمبر ٢٠٠٤م مصداقيتَه.
وإذا كان الدور الإعلامي مؤثرًا حقًّا، فإن ذلك لا يعبِّر عن القصةِ كلِّها. فالفظائع والكوارث الإنسانية التي قامَت شبكة CNN بتغطيتها (وحاولَت الشبكات الأخرى أن تحذوَ حذْوَها) جذبَت اهتمامَ الرأي العام أكثر من تلك التي لم تهتمَّ الشبكة بتغطيتها؛ مثل «أبخازيا، وأنجولا، والسودان، وليبريا، وناجورنوكاراباخ، وكشمير، وغيرها وغيرها من الأزمات». لقد كان الوضع في السودان أكثرَ بشاعة في أوائل التسعينيات منه في الصومال، ولكن شبكة CNN غطَّت الصومال، وغابَت عن السودان؛ ولذلك كانت الصومال هي التي اجتذبَت تدخُّلَ الأمم المتحدة والولايات المتحدة.٢٣ كما أن التغطية التليفزيونية تميل إلى الحدث الأكثر إثارة للمتلقِّي، وخاصة إذا كانت انتهاكات حقوق الإنسان فيه صادمة، كما أن الأمر يتوقَّف على مدى إمكانية إرسال فريق عمل بتكلفة عالية لتغطيةِ حدثٍ قد لا يكون مثيرًا. والقليل من الشبكات التليفزيونية اهتمَّت بمتابعة ما بعد الأزمات مثل متابعة التعمير بعد انتهاء الأحداث المأساوية في رواندا.
ولكنَّ الاهتمامَ الذي حَظيَ به تأثير CNN كمحرِّك وحيد أو أساسي للمواقف الحكومية الدولية، لا يضع في الاعتبار اللاعبين الآخرين على مسرح الأحداث الدولية بما في ذلك مَن أتَينا على ذكْرِهم من قبل (المنظمات غير الحكومية — منظمات حقوق الإنسان — وكالات الأمم المتحدة المختلفة التي تقدِّم تقاريرها إلى الأمين العام للمنظمة الدولية — الدبلوماسيون العاملون في الميدان الذين يقدِّمون لحكوماتهم التقاريرَ حول ما يحدث من فظائعَ ومآسٍ — الكنائس والمؤسسات الكنسية). ومن الواضح أن شبكة CNN لم تكن وراء إقناع الحكومتَين الفرنسية والكندية بالتدخُّل في رواندا. ولم يكن رئيس الوزراء البريطاني بلير في حاجة إلى ضغط إعلامي حتى يقررَ إرسال ألفَين من القوات الخاصة التابعة للبحرية الملكية إلى سيراليون. ومن الممكن أن يكون الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة أهمَّ تأثيرًا في دفْع وزير الخارجية كولن باول إلى الاهتمام بالسودان مما ترتَّب على دور الإعلام من تأثير في هذا الصدد. كما أن أعضاء الكونجرس الأمريكي السود يلعبون دورًا هامًّا في الضغط على حكومتهم باستمرار من أجل التدخُّل فيما يقع في القارة الأفريقية من أحداث. والخلاصة، أن الإعلام الغربي يلعب دورًا مساندًا في الخطاب السياسي وتحديد المواقف من الأحداث الهامة الجارية المتصلة بخطط السلام أو القضايا ذات الطبيعة الإنسانية، ولكنه لا ينفرد بذلك.
وتلعب هيئةُ الإذاعة البريطانية BBC World Service دورًا مختلفًا على ساحة الرأي العام العالمي (وهي غير إذاعة BBC التي تُبَثُّ محليًّا لبريطانيا وحدها). وقد تأسست هذه الهيئة عام ١٩٢٢م، وأخذَت على نفسها — منذ البداية — الالتزامَ بمبدأين: أولهما، أن تَبثَّ برامجها إلى العالمِ كلِّه بلغات مختلف البلاد، وليس بالإنجليزية وحدها (السواحيلي، والهندي، والهاوسا، والتركي، والعربي، وغيرها) يتولَّى إذاعتَها مذيعون من أبناء تلك البلاد المهاجرين إلى بريطانيا. والمبدأ الآخر الذي التزمَت به هيئة الإذاعة البريطانية أن تُقدِّم تقاريرها عن الأنباء العالمية بصورة شاملة غير مجتزأة، بقدر الإمكان، وذلك على نقيض ما كانت تفعله ألمانيا النازية قبل ما يزيد على نصف القرن من الزمان.
وكانت نتيجة ذلك تمتُّع الإذاعة البريطانية العالمية برصيد هائل من المصداقية، وخلال الحرب الباردة، تابع عشرات الملايين من المستمعين السوفييت ومن المستمعين في أوروبا الشرقية الإذاعة البريطانية، للوقوف على حقيقة ما يجري في بلادهم والعالم. واليوم يتابع النشرات المسائية للإذاعة البريطانية يوميًّا ما يقدر بتسعة وستين مليونًا من المستمعين في أفريقيا، وثمانية وأربعين مليونًا في آسيا. رغم ما قد يؤخذ على ما تقوم به الإذاعة البريطانية من استطلاعات للرأي، فهي تدَّعي أن ٦٤٪ من النيجيريين، و٥٥٪ من الهنود يرون أن الإذاعة البريطانية العالمية «تقدِّم لهم الأخبار والمعلومات بصورة محايدة وموضوعية». ويتناقض ذلك مع «صوت أمريكا»، والشبكات الأمريكية الرئيسية التي يرى فيها المستمعون الأجانب شدةَ المباهاة والتغالي والاعتداد بالذات (وخاصة عند معالجتها للأحداث في أمريكا، وليس العالم) وكما لاحظ بول كروجمان Paul Krugman — أحد كتَّاب الأعمدة في النيويورك تايمز ساخرًا في مايو ٢٠٠٣م، أنه حتى أثناء الحرب في العراق، كان معظم الأمريكان يستمعون إلى الإذاعة البريطانية للوقوف على الأخبار؛ لأن الشبكات الأمريكية مثل فوكس «التحفَت بالعَلَم الأمريكي وأخفَت الحقائق وراء الدعاية الوطنية.»٢٤
وتحظى الإذاعة البريطانية العالمية بأكبر قدر من المستمعين في بلاد الكومنولث وهي ظاهرة لا تُثير الدهشة. وهي تُعدُّ أكبر محطة إذاعية في غانا، ولكن ماذا يمكن قوله عن حقيقة وصول عدد المستمعين إليها في العراق إلى ١٫٨ مليون مستمع أسبوعيًّا؟ أو عندما نعلم أن ما يتراوح بين ٦٠٪–٨٠٪ من المستمعين في كابول (أفغانستان) يستمعون إلى هيئة الإذاعة البريطانية، أو عندما نسمع ما قالته المحامية الإيرانية شيرين عبادي عندما نالت جائزة نوبل للسلام، في إحدى المقابلات الصحفية: «نحن نستمع إلى القسم الفارسي بالإذاعة البريطانية لنقف على الأنباء والآراء التي لا نجدُها في وسائل الإعلام عندنا، فهذه الإذاعة سبَّاقة إلى إذاعة أنباء ما يجري في بلادنا من أحداث، وعندما يُعتقل أحد زملائنا أعرفُ الخبر لأول مرة من الإذاعة البريطانية.» ببساطة ليست هناك خدمة إذاعية عالمية تُضاهي الإذاعة البريطانية، وخاصة إذا علمنا أن العاملين بها يقومون يوميًّا بمسح ما يزيد على ثلاثة آلاف وكالة تليفزيونية وإذاعية، وما ينشر على الشبكة الإلكترونية الدولية internet بما يصل إلى مائة لغة مختلفة.
ولكن تظل المبالغة في تقدير تأثير CNN وBBC على الصعيد العالمي واردة؛ فهناك مؤسسات إعلامية محلية لها دورها؛ ففي الهند التي بها العديد من الصحف الهامة ومحطات الإذاعة والتليفزيون، لا يستمع إلى الإذاعة البريطانية العالمية بها سوى ١٫٧٪ من المستمعين البالغين. وفي الصين حيث يوجد ٣٥٠٠ محطة تليفزيونية محلية، لا يُسمح للشبكات الأجنبية ببثِّ البرامج الإخبارية. وفي الكثير من المدن الكبرى بأمريكا اللاتينية خدمات إعلامية حيوية، وحينما يكون هناك حظرٌ على الشبكات المحلية، يستطيع الناس الاستماع إلى إذاعات البلاد المجاورة لهم. غير أن حقيقة كون غالبية المستمعين إلى الإذاعة البريطانية العالمية خارج العالم الغربي الذين يُقدرون ﺑ ١٤٦ مليون مستمع، من المتعلمين والمهنيين والطبقة المعنية بالأمور السياسية، تعني أن مَن يتابعون هذه الخدمة الإذاعية يمثلون ١٫٥٪ من سكان الأرض. ويجب أن نُضيفَ إلى ذلك ما تتمتع به شبكة «الجزيرة» من تأثير كبير في العالم العربي؛ حيث يعتبرها الملايين من العرب مصدرًا للأنباء يحظَى بالثقة، وتُواجه انتقادات حادة من المحافظين الأمريكان والمتشددين الإسلاميِّين، وهي تُبَثُّ الآن بالإنجليزية أيضًا، مما يعدُّ بمثابة قلب للطاولة. وأخيرًا، يتطلب البحث المتعمق في مكان الأخبار والاتصال الثقافي في تطور الشئون العالمية، أن نضعَ في اعتبارنا الطبيعة المؤثرة والعابرة للقوميات التي تتميز بها الشبكة الإلكترونية الدولية internet التي حققَت نموًّا سريعًا في العقد الأخير من القرن العشرين، واستشرَت شعبيتُها في البلدَين العملاقَين: الصين والهند، ومن الصعوبة بمكان التوصل إلى وسيلة قياس جيدة لتأثيراتها العميقة، ولكن من الواجب أن نضعَ في اعتبارنا أن هذه الوسيلة الاتصالية قد يُحسن أو يُساء استخدامها على يدِ كلِّ مَن تتوفر له الطاقة الكهربية وجهاز كمبيوتر، وقد تُصبح أداةً قليلةَ التأثر جدًّا بالسيطرة الغربية.
وفي إطار هذا العرض لانتشار اللاعبين على الساحة الدولية من المنظمات غير الحكومية، والجماعات المحرِّضة، والوكالات المختلفة، قد تتنازع المراقبَ فكرتان: إحداهما إيجابية، والأخرى سلبية، فيما يتعلق بإمكانية إقامة مجتمع مدني عالمي حقيقي. والظاهرة الإيجابية تتمثَّل في ظهور نزعة إلى الدأب والتعاون المتواصل غلبَت على المشهدِ كلِّه. فقد عملَت المؤسسات الخيرية والمنظمات غير الحكومية والإعلام والكنائس معًا، أو كانت على اتصال ببعضها البعض على نطاق واسع، وغالبًا ما تتداخل مع حكومات الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، وكذلك مع الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة. فانتشار الإيدز في أفريقيا — مثلًا — يجتذب اهتمامَ الصحافة الدولية، كما تهتمُّ به الشبكات التليفزيونية الدولية (أحيانًا). وتبثُّ الإذاعة البريطانية العالمية المناقشاتِ حول هذه القضية بالإنجليزية والسواحلية ولغة الهاوسا. وهناك تحقيقاتٌ عن الموضوع تُذيب القلوب نشرَتها صحيفة الجارديان البريطانية، وصحيفة لوموند الفرنسية، تحضُّ القرَّاءَ على المساعدة في مكافحة هذا الداء الخطير. وتلعب المؤسسات الخيرية مثل جيتس وروكفلر دورًا بارزًا في الدعم المادي، وتقوم الإغاثة الكاثوليكية بخدمات التمريض والرعاية للمصابين والمحتضرين. ودخل البنك الدولي الميدان كلاعبٍ قويٍّ، وساهمَت مؤسسات ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة: من منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى منظمة رعاية الطفولة العالمية (UNICEF) إلى برنامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP)، وقدَّمت الحكومات الغنية اعتماداتٍ إضافيةً.٢٥

ويَسْري ذلك أيضًا على الانتهاكات الكبرى لحقوق الإنسان أو الكوارث الناشئة عن انتشار المجاعات. فالوكالات التابعة للأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، والكنائس، والمؤسسات الخيرية تجد نفسَها مدفوعةً نحو الميدان. فمثل هذه الكوارث والنكبات تتجاوز قدرة الحكومات على معالجتها (إذا حاولت ذلك)، ومعظم الحكومات تشعر بالارتياح لهذا المبرر الذي يعفيها من المسئولية. كما أن الكثير من هذه المنظمات والمؤسسات تلعب دورًا هامًّا في المشاركة بأعمال المؤتمرات الدولية التي تُنظمها الأمم المتحدة لاهتمامِها بأجنداتها وحرصِها على تغطيتها (الصحة – السكان – حقوق الإنسان – المخدرات). ولا بد أن يكون هناك تداخلٌ وتكرار — طبعًا — بين مختلف المنظمات النسوية أو برامج المساعدات الغذائية عندما تعمل كلٌّ منها منفردة، ولكن تلك طبيعة النظام. ويُواجه المؤرخُ المعنيُّ بهذه المشاكل مشكلةً منهجية حادة: كيف يمكنه القول إن الأمم المتحدة كانت وراءَ ما تحقَّق من تقدُّم، عندما تتوازى خطواتُ وكالاتها مع جهود المنظمات غير الحكومية؟ لعل هذا السؤال تصعب الإجابةُ عليه بشكل كامل، وربما كان ثانويًّا مقارنةً بالقصة الرئيسية، قصة وجود تنوُّع للتدخُّل واتساع لدائرة الأطراف القائمة به؛ حيث يتجه الجميع صوبَ تحقيق أهداف مشتركة: هو مدُّ يد العون إلى إخوانهم في الإنسانية، والعمل على تحسين مستوى الحياة لهم. ولكن الحكومات والبرلمانات التي تقوم بتمويل برامج الأمم المتحدة، يحقُّ لها أن تطرح ما تشاء من تساؤلات.

والجانب السلبي في ذلك يتمثل في أن معظم هذه الأنشطة تُمولها مؤسسات بلاد الشمال الغنية، وكذلك الكنائس والمنظمات غير الحكومية التي تتخذ من تلك البلاد قواعدَ لها، وتهتمُّ بها مؤسسات الإعلام التابعة لها، أليس من الصعب على حكومات وشعوب العالم النامي النظر إلى هذه الأنشطة باعتبارها غير متوازنة، تفضلية، تدخلية، وليست سوى تتويج لحقيقة أن العالم دخل إلى القرن الحادي والعشرين ولا زال خُمس سكانه يملكون أربعة أخماس ثروته؟ وهل يدعم هذا الشك العام البروز الكبير لدور الولايات المتحدة في النظام العالمي اليوم، وكذلك نشاط CNN وصوت أمريكا، والمؤسسات الأمريكية العملاقة، والمؤسسات الكنسية الأمريكية التي لا يخفى تحالفُها مع الشركات المتعددة الجنسيات، ومؤسسات الأمم المتحدة التي وضعت في بريتون وودز، والاستراتيجية العالمية المهيمنة التي يتبنَّاها البنتاجون؟ مثل هذه الأفكار قد تُسبِّب الكثير من الضيق لجمعية «الكويكرز لخدمات الإغاثة»، ولكن ذلك لا يعني عدمَ وجود تلك الشكوك، وخاصة في المناطق الأكثر اضطرابًا في العالم الإسلامي اليوم. ونجد تعبيرًا عن هذه الشكوك يتمثَّل في تعرُّض الصحفيِّين الغربيِّين للقتل، والهجوم على العاملين في منظمة أطباء بلا حدود، ونسْف مكاتب الأمم المتحدة. ولكنَّ الإحساسَ بأن البلاد الأوسع ثراء تفرض نفسَها على الآخرين، واتهامها بتدجين بقية بلاد العالم، إحساسٌ شائع على نطاق أوسع مدى.

وعلى كلٍّ، يعمل الكثيرُ من هذه المنظمات من أجل العالم النامي وبالتعاون مع شركاء في البلاد النامية. فالجهود التي تبذلها مؤسسةُ فورد في الدعم الطويل المدى لمشروعات النهوض بالقرى وتمكين المرأة في الهند، والاستثمارات الهائلة التي تقوم بها مؤسسةُ جيتس في مجال مكافحة الإيدز في أفريقيا، مبعثُها الرغبة الحقيقية لتقديم العون، والخالية من أيِّ غرض آخر. وخدمات الإغاثة والرعاية الطبية والتعليم التي تُقدِّمها الكنائس لا تقوم على حسابات من نوع ما، ولكنها تقوم على الالتزام التام تجاه المجتمع البشري. وبينما تقوم الكثير من المؤسسات الإعلامية (ومعظمها أمريكية) بما ينمُّ عن الجهل والإملاء على بقية العالم، هناك عددٌ كبير من الصحف الليبرالية تتبنَّى الدعوة إلى دفع عجلة التنمية في البلاد الأكثر فقرًا في العالم. كما أن معظم وكالات الأمم المتحدة المتخصصة تعتبر قضايا الفقر في العالم، والكوارث الإنسانية والبيئية، والإغاثة، والتنمية تمثِّل حجرَ الزاوية في رسالتها. ولكن بالنسبة إلى مشروع وانجاري ماثاي (في كينيا) أو القروض المصرفية الصغيرة في الهند، فلا يعني ذلك تفضُّل الأغنياء على الفقراء. وهناك تعاونٌ حقيقي بين الشمال والجنوب في آلاف المواقع التي يتزايد فيها أعدادُ النشطاء المحليين، وهي موجودة فعلًا حتى لو قلَّل من قيمتها سماسرةُ القوة في موسكو وبكين!!

هل هناك ما يمكن أن نُطلق عليه «المجتمع المدني العالمي»؟ وهل هو آخذٌ في النمو والفاعلية؟ الإجابة بنعم، ولكن تبقى هناك مشكلة: فعالمنا المادي والاجتماعي والعلمي يتغير أمام أعيننا، وسوف يستمر في التغير التام عندما يشبُّ أولادنا وأحفادنا عن الطَّوق. غير أن الأداة الرئيسية للتعامل مع هذه التحولات ستظل «الدولة الوطنية» وهياكلها المعروفة لنا، وإن كانت غيرَ ملائمة لمواجهة ما ينتظرها من مهام. لذلك تتكرر الدعوات إلى زيادة صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة من ناحية، والتساؤل عن أسباب الحشد الذاتي للمجتمع المدني العالمي من خلال المنظمات غير الحكومية وغيرها من المؤسسات الخاصة من ناحية أخرى. ويكمن في ذلك سبب الحملات الداعية إلى برلمان عالمي له كيانه الذاتي، رغم ما في تلك الدعوات من غموض، كما يكمن في سبب وجود حالة عدم ارتياح وعدم رضا بالأحوال العالمية السائدة. كل ذلك — على حدِّ قول كارل ماركس في سياق آخر — صيحة الروح في عالم يفتقر إليها. وسوف تزداد الضغوط من أجل إقامة ميدان عالمي أعظم، والقيام بأعمال أكثر اندماجًا وتماسكًا. غير أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ستقاوم ذلك، وخاصة الدول الكبرى تحديدًا، ربما استمروا على هذه الحال حتى تدفعَهم الضرورة إلى إعادة النظر في مواقفهم.

١  هناك مناقشة مستفيضة في: Inis Claude, Swords into Ploughshares, chaps. 18-19.
٢  لعله من الطريف أن نتذكَّر أن مؤتمر سان فرانسسكو عُقد فيما بين مؤتمري يالتا وبوتسدام اللذَين كانَا مختلفَين في طبيعتهما وموضوعاتهما في اللغة التي صِيغَ بها ميثاق الأمم المتحدة. ولكن تدخل هذه الحلقات الثلاث من المفاوضات يساعدنا على فَهْم الأسباب التي دعَت الدول الكبرى لترك الميثاق يتضمن الكثير عن الجمعية العامة. طالما كانت القرارات الحقيقية سوف يتم اتخاذها في مكان آخر، وبمعرفتهم وحدهم.
٣  مثلما فعل تقريرُنا الصادر عن جامعة ييل ومؤسسة فورد عن الأمم المتحدة في نصف القرن التالي الذي أهمل تمامًا الجمعية العامة.
٤  دور الانعقاد الثامن والخمسين، ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٣م.
٥  أشرنا في مقدمة الترجمة إلى تحيُّز المؤلف للكيان الصهيونى، ويتجلَّى عطفُه على الصهيونية في أكثر من مكان في الكتاب، ولكنه يتجاهل هنا الأثر السياسي لهذا القرار الذي لم يهدأ لأمريكا بالٌ إلا بعد إلغائه في ١٦ ديسمبر ١٩٩١م، ثم أصدر الكونجرس الأمريكي «قانون التعقب العالمي لمعاداة السامية» الذي صدَّق عليه بوش في ١٦ أكتوبر ٢٠٠٤م، والذي يعتبر العداء للصهيونية معاداة للسامية. (المترجم)
٦  المقصود بالحاكمية هو إيجاد قواعد ومؤسسات عالمية تقبل بها جميعُ الأطراف وتلتزم بها، والمقصود بالحكومة العالمية ما يُماثل الحكومة الوطنية ولكن يشمل نطاق الاختصاص العالم كله، انظر: The Global Neighborhood: The Report of the Commision on Global Governance, p. xvi.
٧  Richard Falk and Andrew Strauss, “Toward Global Parliament”, Foreign Affairs 80, no. 1 (January-February 2001), 212–20; Gorege Monbiot, The Age of Consent: A Manifesto for a New World Order (London, 2003), chap. 4.; www.worldparliamentgov.net/constitution.html. والموقع الأخير يشجِّع القرَّاء على الانضمام إلى حركة البرلمان العالمي، وقد شارك الكثيرون في مناقشة الفكرة في الصحافة والبرامج التليفزيونية.
٨  حول ما حدث في عقد الستينيات، راجع: Suri, Power and Protest, passim.
٩  Benjamin Cohen, “Of the people, By the people, for the people”, in the United Nations: Constitutional Development, Growth, and possibilities (Cambridge, Mass., 1961) pp. 129–37.
١٠  قمتُ بإجراء مسح لفهرس الدول في تقرير منظمة العفو الدولية الصادر عام ٢٠٠٧م عن أوضاع حقوق الإنسان عام ٢٠٠٣م، فلم أجد ذكرًا لكوستاريكا، والدانمارك، وأيسلندا، والنرويج، وهولندا، ونيوزيلندا. حتى فنلندا لم تسلم من الانتقاد.
١١  هذه المعلومات مستقاة من موقع المنظمة www.doctorswithoutborders.org.
١٢  أعقب ذلك قيام المنظمة بتخفيض نشاطها في باكستان خوفًا من وقوع هجوم مماثل، كما انسحب الصليب الأحمر من العمل في العراق لأسباب أمنية.
١٣  حول قرار أطباء بلا حدود الانسحاب من أفغانستان انظر مقال Sara Left في صحيفة The Guardian بتاريخ ٢٨ يوليو ٢٠٠٤م.
١٤  التفاصيل المتعلقة بالسلام الأخضر مأخوذة من موقعها www.greenpeace.org.
١٥  المثالان من موقع المعهد على الشبكة الدولية للمعلومات:
www.wri.org وخاصة http://newsroom.wre.org/newsrelease_text.com.
١٦  حصلنا على المعلومات الخاصة بهذه المنظمات من المواقع الإلكترونية التالية: www.madre.org; www.equalitynow.org; www.globalfundforwomen.org.
١٧  يبين الموقع الإلكتروني المتميز كيف صمدَت الحركة في وجه أعمال البلطجة التي شنَّها ضدها نظام الرئيس موي، راجع: www.greenbeltmovement.org.
١٨  راجع على سبيل المثال موقع: www.catholicrelief.org.
١٩  لعل النماذج التي يسوقها المؤلف تُزيح الستار عمَّا أسفر عنه تطور الأحداث في دارفور الذي كشف عن تورُّط الجمعيات التبشيرية في تأجيج الصراع في الإقليم ودورها المشبوه في مخططات تقسيم السودان. تُرى لماذا لم يتحرك أهلُ التقوى وأصحاب القلوب الرحيمة من يهود أمريكا وأساقفة كنائسها لطلبِ وضْعِ حدٍّ للأعمال العنصرية التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين أو أعمال الإبادة العِرقية التي مارسها الأمريكان في العراق؟ (المترجم)
٢٠  اعتمدنا هنا على: C. A. Mclntosh and J. L. Finkle, “The Cairo Conference on Population and Development: A New Paradigm?”, Population and Development Review 21, no. 2 (1995), 233–60; Yasmin Abdulla, “The Holy See at United Nations Conferences: State or Church?” Colombia Law Review 96, no. 7 (November 1996), 1935–75.
٢١  معظم المادة المتاحة عن المؤسسات الأمريكية موجودة على الموقع الإلكتروني لمركز المؤسسات: www.fdncenter.org وهناك مقالٌ هامٌّ قديمٌ عن مؤسسة فورد، هو: Peter D. Bell, “The Ford Foundation as a Transitional Actor”, in International Organization 25, no. 3 (Summer 1971), 465–78.
٢٢  Peter Viggo Jakobsen, “National Interest, Humanitarianism or CNN: What Triggers UN Peace Enforcement after the Cold War?”, Journal of Peace Research 33, no. 2 (1996), 205–15; Jakobsen, “Focus of the CNN Effect Misses the Point”, Journal of Peace Research 37, no. 5 (2000), 547–62; Jonathan Mermin, “Television News and American Intervention in Somalia: The Myth of Media-Driven Foreign Policy”, Political Science Quarterly 112, no. 3 (1997), 385–403.
٢٣  عجيبٌ أن يختزلَ المؤلفُ التدخُّلَ الأمريكي في الصومال في حدود التأثير التليفزيوني بينما لا يضعُ الحدثَ في إطاره الاستراتيجي؛ حيث تحرَّكَت الولايات المتحدة لتضع القرن الأفريقي في إطار مشروعها الأمني الاستراتيجي بعد نهاية الحرب الباردة وانفرادها بالهيمنة على العالم، بعد أن أصبحَت القطبَ الأوحد، وكان دور CNN في التغطية في خدمة هذه السياسة وليس دافعًا لها، ومن هنا تبدو الصورة التي يرسمها هنا لمعجزة اﻟ CNN ساذجة ومضللة، بها قدرٌ كبير من المغالطة والمبالغة الفجَّة. (المترجم)
٢٤  استقينا المعلومات الخاصة بهيئة الإذاعة البريطانية من مقالات مختلفة جاءت بتقريرها عن ٢٠٠٣–٢٠٠٤م، www.bbc.co.uk/worldservice/usLannualLreview أما عن ملاحظات كروجمان فقد جاء بالعمود الذي يحمل عنوان: “The China Syndrome” The New York Times. عدد ١٣ مايو ٢٠٠٣م
٢٥  لم نعثر على دراسة ترصد أشكال ومجالات التعاون بين المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الخيرية والكنائس ومؤسسات ووكالات الأمم المتحدة ويقتصر الأمرُ على قيامِ كلِّ طرف — على حدة — بإصدار التقارير عمَّا قام به من نشاط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤