وعود ومخاطر القرن الحادي والعشرين
ثمة استدلالٌ قديم عن المنظور والتاريخ مؤداه أننا جميعًا أعضاء في قافلة ضخمة تشقُّ طريقَها وسط الصحراء التي تقع على أحد جوانبها سلسلة من الجبال، تتخذ قممُها شكلًا معينًا بالنسبة إلى القادم من الجنوب، ولكنها تبدو مختلفةً تمامًا كلما اقتربت القافلة منها، ثم تختلف صورتُها مرة أخرى عندما ننظر إليها بعد مسافة كبيرة من تجاوزها. لعل من الأفضل لنا أن ننطلق في فهمنا للأمم المتحدة على الطريق نفسه. ومن الواضح أن الآباء المؤسسين وصحافة ذلك الزمان رأوا معنى وأهداف الأمم المتحدة بصورة مختلفة عما نفعل الآن، وكيف يفعلون غير ذلك في تلك السنوات (١٩٤٣–١٩٤٦م) التي كانت حافلةً بالاضطراب؟ وفي عالم اليوم، من الطبيعي أن نرى الأمم المتحدة في ضوء آخر (سواء كنَّا مؤيدين أو معارضين أو غير مكترثين بالمنظمة الدولية)، وهو ضوء صنعَته ستون عامًا من التاريخ. وعند حلول عام ٢٠٥٠م، سوف ينظر الناس وجماعات المصالح والحكومات إلى هذه التجربة الكبيرة للحاكمية الدولية بطريقة أخرى، على ضوء ما تُحققه من نجاحات وإخفاقات في العقود القادمة؛ ولو فعلوا غير ذلك لكان أمرًا مريبًا.
ذلك يجعل من العسير علينا تحديد المواقع التي يجب أن يحدثَ فيها تقدُّم، وأين تقع العقبات التي تقف في طريق التقدم، فالقصة بالغة التعقيد والتناقض بصورة محيرة، ولكنَّ ذلك لبُّ الموضوع. فالرسالة التي نخرج بها من الفصول الستة المتوازية التي تكون القسم الثاني من هذا الكتاب تُبين أن سجلَّ الأمم المتحدة يتسم بالتعقيد. تُرى، مَن يُدهشه ذلك ما دامت هذه المنظمة تقوم على قاعدة إنسانية، غير معصومة من الخطأ، وتعتمد على أمزجة الحكومات الوطنية القومية، وعلى سوء أداء الأفراد الذين احتلوا المراكز الرئيسية في إدارتها؟ لذلك إذا كان قد تحقَّق خليطٌ من معدل النجاح خلال العقود الستة الأولى من عمرها، يمكننا افتراض أننا سوف نرى إلى جانب هذا النجاح إخفاقاتٍ وكبواتٍ على مرِّ العقود التالية. لم يحدث انهيارٌ تامٌّ للأمم المتحدة؛ فقد استثمرَت الكثيرُ من الأمم والشعوب جهودَها فيها حتى تحوَّل دون حدوث ذلك، ومن ناحية أخرى، لن تحدث على الفور إعادة هيكلة دستورية للمنظمة الدولية على النحو الذي جاءت المطالبة به في مشاريع الإصلاح الراديكالية، حتى لو كان استحقاقُها مسلَّمًا به.
وعندما تتغيَّر الأمم المتحدة — إذا حدث ذلك فعلًا — فإن التحولات ستكون جزئيةً وتدريجية. ولا يعني ذلك أنها ستكون عديمةَ الأهمية، بل ستكون لها قيمة كبيرة. لذلك يتسم المدخل الشديد الليونة تجاه إصلاح الأمم المتحدة بالحرج الشديد، لأنه يتضمن الالتفاف حول العوائق التي تضعها الدول الكبرى، والبرلمانات الوطنية، وغيرهم ممن يفضِّلون بقاء الحال على ما هو عليه. فالتغيير ليس مستحيلًا، ولكن يقع عبؤه على عاتق المصلحين من أصحاب العقليات النقدية الذين لهم موقفهم من النظام الحالي، سواء كانوا مجموعات محلية في البلاد النامية أو أصحاب النزعة العالمية من الليبراليين في العالم المتقدم، فعليهم أن يقترحوا التغيرات التي يمكن أن تُفيد. ويجب أن تجتاز مثل هذه الاقتراحات اختبارَين: تُرى هل تقدِّم هذه الاقتراحات إمكانيةً لإجراء تحسينات كبيرة وعملية في الأحوال الإنسانية؛ وهل لديها فرصة لنَيل القبول من جانب الحكومات التي تتحكم في المنظمة الدولية؟
ويحتلُّ الجدل حول إصلاح الأمم المتحدة لتصبح أكثرَ فاعلية، وأحسنَ تمثيلًا، وأكثر مرجعية، أهميةً خاصة اليوم عن ذي قبل، منذ ربع قرن مضى مثلًا، بسبب التطورات المتنوعة التي حدثَت.
-
عند احتفال الأمم المتحدة بعيدها المئوي عام ٢٠٤٥م ستكون الصين أكبرَ قوة اقتصادية وإنتاجية في العالم، تفوق من حيث الحجم الولايات المتحدة.
-
قد تُصبح الهند صاحبةَ أكبر اقتصاد ثالث في العالم، يفوق من حيث الحجمُ اقتصادَ اليابان وأيًّا من الدول الأوروبية وحدها (وليس الاتحاد الأوروبي الذي قد يحقق إجمالي إنتاج قومي يفوق الولايات المتحدة).
-
قد تحقق البرازيل وإندونيسيا، ومن المحتمل روسيا، تقدُّمًا سريعًا يفوق معدل النمو الاقتصادي في الدول الأوروبية.١
هذه تنبؤات بارزة، ولا يبدو أن هذه السيناريوهات ستسقط كما يدَّعي البعضُ اليوم. ولكن تبقى النقطة الأساسية وهي أن التوازنات الاقتصادية العالمية وتوازنات القوة تتغير بسرعة أكثر من أيِّ وقت مضى منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وإذا بقيَت الأمم المتحدة متقوقعة داخل دستور عام ١٩٤٥م سوف تُصبح تلك مفارقةً تاريخية؛ ويجب أن تدرك البرلمانات والحكومات التي تقاوم الاقتراحات المنطقية لتحديث المنظمة الدولية أنها سوف تؤدي إلى جعلِ المنظمة لا صلةَ لها بالعصر، ويجب عليها التوقف عن مهاجمة الأمم المتحدة باعتبارها أداةً تفتقر إلى الفاعلية طالما هم الذين أرادوها كذلك.
والتطور الثاني الذي يدعو إلى ضرورة التغيير السريع للأمم المتحدة، يتعلق بالضغوط العالمية المتنوعة على قدرات البشرية للحفاظ على نفسها، هذه الضغوط معروفة لكل المتعلمين في العالم، ولا يُنكرها سوى أشباه العلماء الذين يزودون المجلات المحافظة بمقالات تنفي ذلك. فالمادة المتاحة عن البيئة والمجال الجوي تبيِّن أننا نواجه ضغوطًا على بيئتنا الطبيعية، وأن الاحتباس الحراري على وجه الخصوص، حقيقةٌ لا مراء فيها وكيف لا تكون كذلك مع تلاشي الثلوج في الألب السويسرية، واختفاء حقول الثلج في إنتراكاتيكا في البحر؟ ويرتبط بهذا تصنيع آسيا بهدف توفير مستوى معيشي أفضل لسكانها. تُرى، كيف تستطيع الصين والهند وإندونيسيا وباكستان تحقيقَ الرخاء لثلاثة بلايين من البشر دون إلحاق الدمار بكوكب الأرض؟ وقد لا نستطيع حلَّ هذه المشكلة حتى لو اجتمعنا على ذلك، ولكن من المؤكد أن بلدًا واحدًا لا يستطيع ذلك وحده. فالتحدي عالمي، ويجب مواجهته بوسائل عالمية.
ويصدق الشيءُ نفسُه على الظاهرة الجديدة نسبيًّا، ظاهرة الإرهاب الدولي. ولا يمكن القبول بأنها تمثِّل أخطر ما يواجه البشرية (مقارنةً بالإيدز الذي حصد عددًا أكبر من الأرواح)، ولكن نعترف بأن أيَّ بلد في العالم لا يسلم من التعرُّض لهجوم عشوائي وحشي. غير أن الإرهاب لا يمكن أن تُواجهَه دولة واحدة مهما بلغَت قوتُها، فهو يحتاج إلى عمل دائم دولي يجمع بين جهود الشرطة، والتعاون الاستخباري، وتدمير خلايا الإرهاب، وممارسة الضغط الشديد على الأنظمة التي تأوي الإرهاب. ولا يبدو النجاح التام في ذلك ممكنًا؛ فسوف تكون هناك دائمًا منظمة إرهابية ما تحمل متفجرات، وتتقدم بمطالب لا يمكن القبول بها. ولكن يجب الحدُّ من أنشطتهم إلى الدرجة التي تمكِّن الناس من الذهاب إلى أعمالهم دون خوف، وإلا فإن على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة القبول بالأوضاع المضطربة غير المنطقية. وحتى تستطيع الدول الأعضاء مقاومة الإرهاب، عليها التعاون معًا.
أخيرًا، وربما كان الأكثر أهمية، يواجه المجتمع العالمي تحديات التعامل مع الدول البائسة في القضاء على التطهير العِرقي فيها والمجاعات وغيرها من الكوارث، ومساعدة تلك البلاد على استعادة حقوقها في السيادة، وهو عملٌ ليس سهلًا على نحو ما تبيَّن من أحداث البوسنة، وغربي أفريقيا، والصومال، وأفغانستان، وأماكن أخرى من العالم، فهو يحتاج إلى عمل دائب لعدة سنوات، يواجه عدة انتكاسات. ولكن التعامل مع الدول المنهارة لا مفر منه، طالما كنَّا نشهد أعمالًا لا يمكن القبول بها، وانتهاكاتٍ لحقوق النساء والأطفال، وتردِّي الأحول البيئية، وغالبًا ما تُوفر تلك البلاد ملجأً للإرهابيين.
كل ذلك يمثِّل تحديات لدستور الأمم المتحدة الصادر في ١٩٤٥م، فمؤشرات صعود القوة السياسية في بلاد كالهند والبرازيل إلى مستوًى كبيرٍ من النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي يمثِّل تحديًا للدول الخمس الكبرى صاحبة حق الفيتو في مجلس الأمن على مدى ستة عقود خلت. فقد رأى الآباء المؤسسون أن إعطاء الدول الكبرى هذا الحقَّ يمنعها من الخروج من المنظمة الدولية أو إعاقة عمل النظام الدولي، على نحو ما حدث في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. ويصعب حرمان الهند من هذا الحق إذا فاق مجملُ إنتاجها القومي بريطانيا وفرنسا خلال العقد التالي. ولكن التغيرات التحولية التي عرضنا لها من قبل تشكِّل تحديًا لدستور عام ١٩٤٥م الذي يتخذ من الدولة محورًا له، لمجرد أن حدوث مثل تلك التحولات كانت بعيدةً عن مخيلة وتوقعات الساسة الذين اجتمعوا في بريتون وودز، ودمبارتون أوكس، ويالتا، وسان فرانسيسكو. فلم يكن هناك مكانٌ — في تلك الأيام — لظواهر مثل الإرهاب أو الاحتباس الحراري أو الدول المنهارة، وهي تحتلُّ اليوم قلبَ المسرح العالمي أمام السؤال الأساسي الذي حاولَت الدول الأعضاء في المنظمة الدولية تجنُّبَ الإجابة عليه لعقودٍ خلَت من الزمان، هو: كيف يمكن التوفيق بين الأمم المتحدة «القديمة»، والمشهد العالمي المتحول «الجديد»، حتى يمكن جعلُها فعَّالة في مواجهة المشكلات الكبرى اليوم وغدًا؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، علينا أن نقفَ على ما يقصده الناس عندما يطرحون فكرة «إصلاح الأمم المتحدة». إذا درسنا مختلفَ المقترحات الخاصة «بالإصلاح» بعناية، فسوف يتضح لنا أن الكلمة استُخدمت بثلاث طرق مختلفة، أو اتبعت ثلاثة مستويات متباينة، مما يؤدي إلى الوقوع في الحيرة.
والمفهوم الأول قد يعني «تنظيف الإصطبل»، ويُقصد به غربلة النظام، والتخلص من الوكالات ذات الاختصاصات المتداخلة، وطرْد جميع الموظفين الذين يتلقَّون رواتبَ كبيرةً وهم يقيمون على شواطئ بحيرة جينيف، وبذلك يتحقق خفض التكلفة لصالح دافعي الضرائب (وخاصة الأمريكان منهم). والحق أن الكثير من ذلك تم عملُه في العقد المنصرم تحت ضغط مطالب أعضاء الكونجرس الأمريكي، واستجابة لبعض كبار موظفي الأمم المتحدة ذوي الاتجاهات الإصلاحية. ومن الواضح أن هذا التناول للإصلاح يتسم بالسلبية، فهو يرمي إلى خفض حجم الأمم المتحدة، ولا يعطيها صلاحيات جديدة. وهذا الاتجاه الفكري مفعمٌ بالشك في مبدأ الحاكمية الدولية وما تمثِّله من تهديد لقدرات الدول على اتخاذ قرارات فردية، وحجتُهم في ذلك ما يتسم به النظام الحالي من ضعف في الكفاية لا يمكن إنكاره.
أما المفهوم الثالث للإصلاح، فيحتل موقعًا وسطًا، فهو لا يريد إضعافَ الأمم المتحدة، بل على العكس يسعى لزيادة صلاحياتها وفعالياتها، حتى يزدادَ قدرُها عند الحكومات والرأي العام الدولي. ولكن أصحاب هذا الاتجاه يُدركون الصعوبات السياسية والدستورية التي تعوق إدخالَ إصلاح جذري على ميثاق المنظمة الدولية، وينشدون إجراءَ تغييرات إضافية وعملية، على أمل إمكانية إدخال تغييرات جوهرية على الميثاق مستقبلًا في حالة نجاح تلك التغيرات الأولية. وتضم هذه المدرسة أولئك الذين يَدْعون إلى إدخال بعض التعديلات على الميثاق من الدول الأعضاء، ولكنهم يحرصون على أن تكون اقتراحاتهم عملية لا تُثير مخاوفَ أيٍّ من الحكومات الأخرى. مثل هذه الآراء (التي يؤمن بها المؤلف أيضًا) يرى فيها دعاةُ الإصلاح الجذري الافتقارَ إلى القدرة النضالية، كما تزعج دعاة «تنظيف الإصطبل» الذين يبغون تحسين صورة الأمم المتحدة. ولا يوجد طريق سهل للإصلاح يمكن السير عليه، بل هناك — دائمًا — العقباتُ والمعوقات على نحو ما كشفت عنه الدراسات الخاصة بإصلاح المنظمة الدولية فالتفاوض ليس أمرًا سهلًا.
هذه النقطة الخاصة بمختلف «أبعاد» الإصلاح الممكنة للأمم المتحدة ومدى اتسامها بالطابع العملي يمكن أن نلمسها في الجدل الدائر حول عضوية وصلاحيات مجلس الأمن. وهو الموضوع الذي يتم التركيز عليه كلما أُثيرت مسألة الحاجة إلى التغيير. هنا نرصد ثلاثة اتجاهات (مع استبعاد الفكرة غير العملية الرامية إلى تجريد أعضاء المجلس من أيِّ امتيازات خاصة): الاتجاه الأول، يرمي إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه؛ فالترتيبات التي تمَّت عام ١٩٤٥م لم تكن مثاليةً دون شك، وما كان لها أن تتحقق إذا كان المشاركون في وضع إطار المنظمة الدولية ١٩١ دولة، كما هو الحال اليوم. ولكن ذلك يرجع إلى صعوبة تمرير تعديلات جوهرية على ميثاق الأمم المتحدة هذه الأيام. وكل المقترحات الخاصة بتغيير عضوية مجلس الأمن (بزيادة عدد الأعضاء) تزيد الأمور تعقيدًا وتزيد من صعوبة أداء المجلس لمهامه. وكل ما ترتب على هذه المقترحات: احتدام الجدل، واستمرار المشكلة، واحتقان العلاقات الدبلوماسية بين بعض الدول؛ إذ يجب تجنُّب الاقتراب من عش الدبابير. ونشكُّ في أن المنصفين من الساسة والمسئولين في كلٍّ من الدول الخمس الدائمة العضوية، يميلون — في قرارة أنفسهم — إلى هذا النمط من التفكير المحافظ، حتى لو استمعنا إلى تصريحات حول الاستعداد للأخذ بفكرة إضافة بعض الأعضاء إلى مجلس الأمن.
وقد سبق أن شرحنا فكرة إبقاء الحال على ما هو عليه في صفحات سابقة؛ فالتغير الراهن في موازين القوى الدولية يجعل من تمتُّع الدول الدائمة العضوية بالامتيازات وحدها مفارقة متزايدة لا تحظى بالاحترام. فقد تحتفظ الدول الخمس الدائمة العضوية بمكانتها لعقد واحد أو عقدَين من الزمان، ولكن ما الذي يريدون تأكيده؟ طالما كانت بنيةُ القوى العالمية آخذةً في التغيير، ولا يمكن ألَّا يتركَ ذلك أثرَه على البنية الفوقية. ولهذا السبب مارسَت الكثيرُ من الحكومات التي تتطلع إلى احتلال مقعد في مجلس الأمن (والتي يصفها دبلوماسيو الأمم المتحدة بالدول «المتطلعة» إلى الانضمام إلى الدول الدائمة العضوية المتمتعة بحق الفيتو)، واللجان الدولية المتميزة، وحلقات البحث في إصلاح مجلس الأمن، مارسَت ضغوطًا هامة مؤخرًا من أجل تعديل ميثاق الأمم المتحدة. وهم يرَون توسيعَ حجم مجلس الأمن ليصل إلى ما بين ٢٣ و٢٥ عضوًا، بدلًا من تكوينه الحالي من ١٥ عضوًا. ولكن هذه الزيادة في العضوية تتضمن زيادةً في عدد الأعضاء الدائمين الذين لهم حق الفيتو، وكذلك زيادة في عدد الأعضاء المناوبين. ومن بين أسماء الدول التي رُشحَت للعضوية الدائمة: اليابان وألمانيا (باعتبارهما أكبر مساهم ثاني وثالث في ميزانية الأمم المتحدة)، وإلى جانبهما بعض الدول الصاعدة في العالم النامي؛ كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. وأحيانًا يتضمن هذا المشروع مقعدًا واحدًا للاتحاد الأوروبي كعضو دائم، على أن تشغلَه دولُ الاتحاد بالتناوب. ونتيجةً لذلك يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن تعديل مجلس الأمن على هذا النحو يُكسب المجلسَ الشرعيةَ والاحترام اللذَين افتقدهما.
هنا تبدأ التساؤلات حول مدى ترحيب الصين بحصول الهند أو اليابان على حقِّ الفيتو، وهو ما نشكُّ فيه. كما لا يعقل أن تتنازل فرنسا أو بريطانيا عن مقعدهما لصالح فكرة مقعد الاتحاد الأوروبي. تُرى، هل يضمن تناوب دول الاتحاد الأوروبي — صغيرها وكبيرها — شغل مقعد الاتحاد الأوروبي الاتساق والاستمرارية في سياسات مجلس الأمن، لو جاءت الدانمارك لستة شهور، ثم أعقبَتها اليونان، بينما تبقَى الدول الأكبر من أعضاء الاتحاد الأوروبي خارج المجلس لمدة ثلاث سنوات أو أكثر؟ وهل تقبل روسيا منْح اليابان حقَّ الفيتو؟ وعندما طرحَت ألمانيا كمرشح للعضوية الدائمة، عارضَت إيطاليا الفكرةَ بشدة، ولم تُبدِ باكستان وبعض الدول الإسلامية الأخرى ارتياحًا لفكرة تصعيد الهند. كما لم يتقبَّل جيران اليابان (غير روسيا) فكرةَ ترشيحها للعضوية الدائمة. وعارضَت المكسيك والأرجنتين النظرَ إلى البرازيل باعتبارها الممثل الإقليمي لأمريكا اللاتينية، كما امتعضَت مصر ونيجيريا من فكرة تمثيل جنوب أفريقيا للقارة السوداء (وتُثير مصر مسألة غياب تمثيل الدول العربية في العضوية الدائمة بالمجلس)، ثم هناك اعتراضات الدول الصغرى الأعضاء بالمنظمة الدولية على فكرة زيادة عدد الدول الدائمة العضوية؛ إذ يكفي ما تُسبِّبه الدول الخمس من متاعب.
وصَحِب هذه الغيرة السياسية الإقليمية أو غلَّفها تحفظاتٌ أخرى ذات حول. فقد كان من الصعب على مجلس الأمن أن يتخذ قرارًا بالحرب أو السلام مع وجود الدول الخمس الدائمة التي تُعرقل الإقدام على عمل مشترك. فإذا كانت هناك عشرُ دول قادرة على تعطيل القرارات يضاعف ذلك من صعوبة اتخاذ المجلس لقرارات تتعلق بالأزمات الدولية المستمرة. وكلما زاد عدد الدول المتمتعة بحق الفيتو، قلَّ عددُ مهام حفظ السلام (وخاصة مهام فرض السلام) التي يمكن الاتفاق عليها. فهل هذا ما يريده دعاة الإصلاح؟
لقد أدَّت هذه المجموعة من المواجهات السياسية والشكوك العملية إلى امتناع بعض الباحثين عن البحث عن طريق وسط لإصلاح مجلس الأمن. ولما كانت مقترحاتُهم ذات طابع توفيقي، فقد بدَت محيرة للمراقب الخارجي وحتى للخبراء بالمنظمة الدولية الذين يفحصون الكلمات جيدًا. وعلى سبيل المثال. قدَّمت حلقة البحث الرفيعة المستوى للعام ٢٠٠٤–٢٠٠٥م مجموعة مركبة من البدائل، كان من بينها عدمُ التعرض لامتيازات الدول الخمس الدائمة وإلا استحال عملُ أيِّ شيء مطلقًا؛ وكذلك زيادة عدد أعضاء المجلس من ١٥ عضوًا إلى ٢٤ عضوًا، على أن تُوزع مقاعد الدول المناوبة (١٩ مقعدًا) توزيعًا إقليميًّا (ستة مقاعد لأفريقيا، وعدد أقل لأوروبا لحصولها على ثلاثة مقاعد دائمة العضوية، إلخ)، ثم إضافة ثلاثة مقاعد دائمة جديدة (دون التمتع بحق الفيتو). أو ثمانية مقاعد إقليمية مدة شغل كلٍّ منها أربع سنوات إلى جانب العضوية المناوبة لمدة سنتين. وهي محاولة للخروج من المأزق: بتفادي إثارة غضب الدول الخمس الدائمة، والاستجابة للمطالبة بزيادة حجم المجلس، وإتاحة موقع خاص للقوى الإقليمية، وبذلك تتكون ثلاث درجات لعضوية مجلس الأمن. ولعل اليأس من إمكانية إدخال بعض التعديلات يدفع الجمعية العامة مستقبلًا إلى التصويت على مقترحات من هذا القبيل، قد لا تعترض عليها الدول الخمس الدائمة العضوية طالما أن امتيازاتها لم تمسَّ، ولكنَّ مثلَ هذا الإصلاح شبيهٌ بتصميم الطائرات عام ١٩١٠م، يفتقر إلى التناسق.
وهناك طرقٌ أيسر وأبسط لجعل مجلس الأمن أكثرَ تمثيلًا للواقع العالمي، وكسرًا للجمود، بالاعتراف بأن بعض الدول غير دائمة العضوية لها وضعٌ «خاص» يجعلها مؤهلةً للتصعيد إلى مرتبة أرقى. وأول هذه الطرق إدخال تعديل على الميثاق يزيد من عدد مقاعد العضوية المناوبة من عشرة مقاعد إلى ١٨ أو ١٩ مقعدًا. وبذلك يتحقق الاعتراف بما تم من زيادة عدد الدول الأعضاء خلال الأربعين عامًا الأخيرة، مع عدم اشتراط العضوية لعامين أو أربعة أعوام، بل يزاد — ببساطة– عددُ مقاعد العضوية المناوبة، وبذلك تُتاح الفرصة — بإيقاع أكبر — أمام الدول الأعضاء لدخول المجلس. والطريق الثاني تعديل المادة ٢٣ الفقرة الثانية من الميثاق التي تقضي بتحديد مدة العضوية المناوبة بعامين لإتاحة الفرصة أمام الأعضاء. ولكن بصراحة — لو قامت إحدى الدول مثل سنغافورة أو ألمانيا بتقديم خدمات جليلة لمجلس الأمن، وأراد أصدقاؤها أن يُمددوا عضويتها، فلماذا تُحرم من ذلك؟ ولندَعْ هذين التعديلَين المسالمَين يعملان في السنوات القادمة، فإذا تم تمديدُ عضوية جنوب أفريقيا (مثلًا) لفترتَين أو ثلاث فترات، فقد يزكِّي ذلك تحوُّلها إلى عضو دائم، ثم تحصل بعد ذلك على حقِّ الفيتو، فلا يبدو ذلك غريبًا في نظر الدول الخمس الدائمة العضوية، أو في نظر غيرهم من الدول الأعضاء.
وليست مواصفات هذه المقترحات التوفيقية على درجة من الأهمية، أكثر من كونها مجردَ محاولة لكسر الجمود. فإدخال تعديلَين على ميثاق الأمم المتحدة بشأن عضوية مجلس الأمن، قد يكون خطوة في الاتجاه الصحيح يمثِّل سابقة في حدِّ ذاته، ولا يمثِّل تعديلًا فجائيًّا أو حاسمًا في ضوء عالمنا المتغير. ولكن أي محاولة لتحريك دفَّة هذه السفينة الهائلة حتى لا تصطدمَ بالصخور الماثلة بعيدًا، يجب أن تحظَى بالقبول.
إن امتياز العضوية الدائمة هو أول ما يميِّز الدول الخمس، وثانيها حق الفيتو الذي يُعدُّ عاملَ فرقة بين تلك الدول. ومن الناحية النظرية يمكن أن تكون دول كبرى عضوًا بمجلس الأمن، ولكن ليس من الممكن أن يكون لها حقُّ الفيتو. ولكن هذا افتراضٌ نظري محض. ثم هناك اقتراح يذهب إلى حصول دول بعينها على العضوية الدائمة (ألمانيا، الهند، وغيرهما) دون أن يكون لها حقُّ الفيتو، وذلك في حالة توسيع مجلس الأمن، مع احتفاظ الدول الخمس بحق الفيتو وبما حصلوا عليه عام ١٩٤٥م من حقوق. ولن يؤديَ ذلك إلى إيجاد ثلاث مراتب للعضوية، وهو ما اعترضَت عليه الدول «المتطلعة»، (رغم أن الكثير منها يحرص على العضوية الدائمة وقد يقبل اتخاذ موقف لِينٍ في سبيل ذلك). كما تعترض عليه معظمُ الدول التي قد تحتلَّ المرتبة الدنيا. وهناك فكرةٌ ثالثة بائسة وساذجة، ترى ألَّا يتمَّ نقضُ أيِّ قرار بفيتو واحد، بل باثنين معًا من الدول الخمس، وهو أمر قد يكون منطقيًّا من الناحية النظرية لو زاد عددُ الأعضاء الدائمين إلى عشرة أعضاء. ولكن ليس من المتوقع أن تقبل الحكومات العصبية في واشنطون أو بكين أو موسكو أو باريس بمثل هذا الاقتراح.
وهكذا، يبدو أن الاقتراحات الخاصة بإدخال تعديلات متواضعة على حجم عضوية مجلس الأمن تحتمل الحصول على قبول واسع النطاق أكثر من غيرها من الاقتراحات، أو تُثير قدرًا أقل من الاعتراضات، طالما كانت لا تتعرَّض لامتيازات الدول الخمس الدائمة العضوية. ولعل أحسن ما يمكن عمله في هذه الظروف أن تطلبَ الجمعية العامة من الدول الخمس الموافقة على مبدأ استخدام الفيتو كملجأ أخير في القرارات الخاصة بالحرب والسلام التي تمسُّ مصالح الأمن القومي، وهو ما عبَّر عنه مؤسسو الأمم المتحدة. فإذا حظيَ ذلك الطلب بالموافقة، كان استخدام الفيتو (على سبيل المثال) ضد شخص معين متقدم لمنصب الأمين العام، يحظَى بتأييدِ عددٍ كبير من الدول، أمرًا لا يُعتدُّ به. حتى هذا يُصبح أمرًا لا يحتمل بالنسبة لبعض الدول ذات الحساسية الفائقة من بين الدول الخمس الدائمة العضوية. ولا يبقى إلا الأمل في أن تعترفَ الدول الخمس بأهمية ما بيدهم من امتياز يقتضي استخدامًا رشيدًا، وأن إساءة استخدامه تُلحق الأذى بالمنظمة الدولية وبهم. حقًّا، لقد جاء تأسيس الأمم المتحدة بميثاق يصعب تغييرُه، ونظام لمجلس الأمن وُضع عام ١٩٤٥م لقاءَ ثمنٍ باهظ.
ونظرًا لما يحيط بتعديل ميثاق الأمم المتحدة من صعوبات، اتجهَت بعضُ الجماعات الإصلاحية إلى البحث عن سُبُل أخرى لمجلس الأمن أكثر فاعلية. وقد اتجهوا جميعًا إلى قضايا حفظ السلام وصناعة الحروب التي ناقشناها في الفصل الثالث والتي ما زالت تحتلُّ مكانًا بارزًا اليوم. ولما كانت الآراء المتصلة بحفظ السلام وفرضه بالقوة تنقسم بين أولئك الذين يذهبون إلى أن الأمم المتحدة حاولَت جاهدةً أن تقدِّم الكثير في هذا المجال، ومَن يقولون إنها لم تحقق إلا القليل، فإن المقترحات الخاصة بالمستقبل لها من الخطورة مثل ما لقافلة من السيارات تتحرك وسط حقل ألغام. ومن الطبيعي أن تُركز معظم الكتابات (حتى السلبية منها) على سُبُل تحسين قدرات المجتمع الدولي على مواجهة الكوارث الإنسانية، والحروب الأهلية، وضعف وانهيار بعض الدول الأعضاء. وموضوعات اهتمامهم تتجاوز تلك التي دارَت في الأذهان عام ١٩٤٥م حول مهاجمة دولة لأخرى، لتركز على الحروب الداخلية في الدولة الواحدة، والأخطار الماثلة فيما وراء الحدود التي تتهدد السيادة الوطنية.
ومن أمثلة هذه الأجندة العملية للإصلاح، الضغط من أجل تحسين قدرة الاستخبارات على الوقاية من التهديدات، وهو من الدروس المستفادة من الأزمات التي تفجرَت في تسعينيات القرن العشرين، ويعني ذلك حاجة المنظمة الدولية إلى نظام أفضل لجمع المعلومات وتحليلها تفاديًا للكوارث وتيسيرًا لسُبُل مواجهتها. هناك — بالطبع — مصادرُ محليةٌ عديدة للمعلومات المتعلقة بالمناطق المضطربة؛ حيث تنتشر المجاعات، وتحتدم الصراعاتُ الإثنية، ومن هذه المصادر المنظمات غير الحكومية، ومنظمات حقوق الإنسان، والهيئات الكنسية، وتقارير مراسلي وكالات الأنباء العالمية، وجميعها ترتبط ببعضها البعض بالشبكة الإلكترونية الدولية (الإنترنت). والسؤال الحقيقي الآن هو مَن يكون صاحب الاختصاص (في المنظمة الدولية) الذي تتجمَّع لديه هذه المادة، ويتم تحليلها، حتى يقدِّمَ تقاريرَه للأمين العام في الوقت المناسب الذي يُتيح له إحاطة مجلس الأمن علمًا بتردِّي الأوضاع في دولة ما من الدول الأعضاء، أو في إقليم بعيد محدد؟ والإجابة على هذا السؤال هو ضرورة أن يكون للأمم المتحدة قسمُ استخبارات مركزية ضمن إدارة عمليات حفظ السلام أو إلى جانبها. ولكن ذلك قد يُثير شكوك الساسة المحافظين في أمريكا، بقدر ما يُثير الدول الأعضاء ذات النظم المستبدة التي تحتجُّ على وجود مثل هذه الإدارة الاستخبارية، خشيةَ قيامها بتجميع معلومات عن الفظائع والانتهاكات التي ترتكبها هذه النظمُ ضد المعارضين، والحجة الجاهزة عند هؤلاء وأولئك هو المساس بالسيادة الوطنية للدولة المعنية. ولكن يجب عدم الاعتداد بتلك الحجج الواهية المعوقة؛ فالحاجة ماسة إلى توفير المعلومات لدى المنظمة الدولية وتحليلها، والجهود التي بذلَت في هذا المجال لها حجيتُها، وسوف تُصبح بالضرورة مصدرًا للمعلومات في المستقبل.
وهناك درسٌ آخر مستفاد من عمليات حفظ السلام التي تمَّت خلال نحو الستة عقود، هو الخطأ المتكرر في افتراض أن مهمة استرداد الدولة المنهارة لعافيتها لن تستغرقَ إلا القليل من الوقت، وأن كلَّ ما هو مطلوب هو إرسال قوة عسكرية للقضاء على «جماعة الأشرار»، ثم تبدأ عملية إعادة بناء المجتمع، والانتخابات الديمقراطية، يلي ذلك الانسحاب برفق من الميدان، بعد تسجيل رقم جديد في رصيد النجاح. والحالات التي شهدَت انتكاسات كثيرة (تاهيتي، تيمور الشرقية، كمبوديا، غربي أفريقيا)، وهناك أمثلة جديدة من الممكن أن تشهد ذلك «أفغانستان، العراق» فالكثير من النظم التي تم إنشاؤها مؤخرًا يغلب عليه الضعف، والانقسام، ولا تلقَى بالًا لمطالب المعارضة أو لانتقادات المعارضين. وتبرز على السطح الخلافات العشائرية والدينية، ولا تكفيها المعونات والمساعدات الفنية. وعندما تنسحب القوات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية (للعمل في مواجهة أزمة أخرى عادة)، ينسحب معها الكثير من ممثلي وسائل الإعلام. وما نحتاجه هنا هو شكل من أشكال «خدمة ما بعد حل المشكلة»، وهو ما تعجز المجتمعات التي أُعيد بناؤها عن الحصول عليه عندما تقع الحروب الأهلية والتطهير العِرقي في أقاليم أخرى، ما لم تستطع أن تجدَ لنفسها مخرجًا. فإذا حدث ذلك، قد لا تُصبح أكثرَ جاذبية للمنح المقدمة من الدول الغنية التي تثقل المعونات كاهلها، والتي قد تتساءل: «ألم نَقُم بحلِّ المشكلة (مثلًا) في هاييتي؟»
وقد يجد الإصلاح المتوسط المستوى قبولًا عند الكثير من الناس. ومن المؤكد أن الحكومات والوكالات التابعة للأمم المتحدة سوف تتصارع حول العمليات والأولويات. ولكن أحدًا لا يختلف حول أهمية وجود إنذار مبكر بالأزمات. والأكثر إثارة للجدل هو كيف تُتاح للأمم المتحدة قدرةٌ على التدخل الفعلي (أي العسكري) السريع، حتى تستطيعَ مواجهة كارثة أو أعمال التصفية العِرقية، فالجدل حول ذلك لا نهاية له. فقد أدى فشل المنظمة الدولية ومجلس الأمن في إعداد قوة دولية للتدخل في المناطق المضطربة في الوقت المناسب لوقف سفك الدماء (وتُعدُّ رواندا أسوأَ مثل لذلك)، إلى الكشف عن حالة العجز التي أثارَت العديدَ من الأفكار.
ومن المعوقات الأخرى لإمكانية تكوين جيش للأمم المتحدة حالة البرانويا التي تنتاب بعض الساسة الأمريكان؛ فهم يتجاهلون حقيقة أن الولايات المتحدة تستطيع استخدامَ الفيتو ضد أي قرار يتخذه مجلس الأمن في إطار الفصلين السادس والسابع، ويُصرُّون على ضرورة إبقاء الأمم المتحدة في حالة ضعف حتى لا تهددَ السيادة الوطنية، وهم يحذِّرون من اتخاذ أيِّ خطوة تجاه تكوين جيش للأمم المتحدة، ويعتبرون ذلك عملًا عدائيًّا. وإذا وضعنا في اعتبارنا صلاحيات الكونجرس، يصبح ذلك تهديدًا حقيقيًّا. لذلك يقبع اقتراحُ تكوين جيش للأمم المتحدة في موقعٍ منزوٍ على الرف، في الوقت الحالي على الأقل، وربما تطلب الأمر إعادة النظر فيه مستقبلًا.
ومن الواضح أن هناك حاجة ماسة إلى مؤسسة عسكرية مهنية للإشراف على العمليات التي تقوم بها قواتُ الأمم المتحدة، تتولَّى القيام بالأعمال التحضيرية السابقة على إرسال القوات، وإقامة نظام استخباري لاستطلاع الأحوال المحلية في الميدان المقترح، وإقامة سلسلة من المستويات القيادية الفعالة، والتأكد من استمرار تدفُّق الإمدادات دون انقطاع، وتحديد الدور العسكري للقوات في الميدان حيثما تطلب ذلك خبرة واسعة لا تتوفر إلا للعسكريين المحترفين. هذا أمر حيوي لتحقيق النجاح على المستوى المحلي، ولكن الحاجة إلى إشراف عام (من منظور مقارن) لمراقبة العمليات وتقديم التقارير بشأنها إلى الأمين العام ومجلس الأمن، قادَت إلى إحياء فكرة استخدام لجنة الأركان العسكرية للأمم المتحدة للقيام بهذه المهمة. ولعلنا نتذكر أن هذه اللجنة ما زالت قائمة، ولكنها مجمدة منذ صراعات الحرب الباردة. ولكن مَن يقرأ المادة ٤٧ من الميثاق، يقع على النص التالي: «سوف تُشكَّل لجنة أركان عسكرية لتقديم المشورة والمساعدة لمجلس الأمن، في كل الأمور ذات الطابع العسكري التي يتطلبها المجلس.» مَن يقع على هذه المادة قد نلتمس له العذر عندما يتصور أن حلَّ هذه المشكلة ميسور؛ فالهيئة المطلوبة موجودة، ولكنها في حالة «بيات»، فلماذا لا نُوقظها من سُباتها العميق؟
هنا فكرة تقف في طريقها حواجزُ طرق ثلاثة: أولها، أن الدول التي تساهم — تقليديًّا — في قوات الأمم المتحدة (الدول الاسكندنافية — هولندا — دول أمريكا اللاتينية — دول الكومنولث البريطاني) لا ترتاح إلى وضعِ قواتها تحت قيادة لجنة أركان تسيطر عليها الدول الكبرى؛ لأن ذلك يؤدي إلى دعم امتيازات تلك الدول أكثر من ذي قبل. ثانيًا، الشعور بأن الدول الخمس الدائمة العضوية قد تستطيع التأثير على العمليات التي تقوم بها قوات الأمم المتحدة بما يخدم مصالحها الوطنية أكثر من خدمة أهداف مهام حفظ السلام، وما جاء بالميثاق، وهو موقف دول مجموعة السبع وسبعين. وخاصة أن النص الوارد في الفقرة الثانية من المادة (٤٧) تنصُّ على أن تمثيل الدول غير دائمة العضوية في لجنة الأركان العسكرية يتطلب إجراء اختبار لقدرات الأفراد على القيام بالمهام المنوطة باللجنة. وهو ما يجعل من المساهمين الكبار في قوات الأمم المتحدة — كالهند والبرازيل وغيرهم من الأعضاء — يحتلُّون المرتبة الثانية، ولا يشفع لهم سجلُّهم الحافل بالامتياز في القيام بمهام حفظ السلام أفضل من غيرهم من العسكريين في الدول النامية والمتقدمة على السواء.
والاعتراض الثالث، يأتي من بعض القوات المسلحة في الدول المتقدمة وفي طليعتها الولايات المتحدة. فلم يُبدِ الأمريكان تحمُّسًا لأيِّ ترتيبات للأركان المشتركة التي قد تضع القوات الأمريكية تحت قيادة أجنبية، مما يجعل الأهداف العسكرية للولايات المتحدة تخضع لمطالب الحلفاء. وقد بلغَت هذه الاهتمامات منتصف الطريق على يدِ روزفلت ومارشال في الحرب العالمية الثانية، ولكنها تراجعَت تمامًا بعد ذلك. وقد أثبتَت الحربان اللتان شنَّتهما أمريكا ضد العراق تحيُّزَ البنتاجون، فهو يتحرك بسرعة وحسم، كلما ابتعد عن التقيد بمستويات متعددة من المشاورات الدولية ودوائر صنع القرار. والقيام بمهام حفظ السلام أسوأ حالًا؛ لأن الخضوع لقيادة تابعة للأمم المتحدة غير مقبول تمامًا. وما يُثيره ذلك من قلق له ما يُبرره من وجهة النظر العسكرية، كما أن القلق على مستوى كفاءة الأداء له ما يُبرره أيضًا، ونفترض أن وزارات الدفاع في الدول الخمس الدائمة العضوية لديها التحفظات نفسها (وإن كانت لا تعبِّر عنه بنفس الدرجة من الحدة).
ومن الواضح أن عملًا عسكريًّا واسع النطاق — مثل الحرب على العراق — لا يمكن أن يُدارَ من مكتب في نيويورك، ولكن هذا الاستنتاج لا يساعد مجلس الأمن أو الأمانة العامة في البحث عن كيفية أداء المنظمة الدولية لمهام حفظ السلام — على اختلاف أحجامها — بصورة تضمن سلامةَ الإعداد والتنسيق. فإذا كان إحياء لجنة الأركان العسكرية مستحيلًا من الناحية السياسية، وإذا كانت أكبر دولة في العالم تسدُّ الطريق أمام إنشاء قوات دائمة للأمم المتحدة، فكيف يمكن معالجة حالات الطوارئ المستقبلية — بمثل هذا الحجم — من مركز المنظمة؟ وكيف تستطيع الدول الأعضاء الأكبر والأكثر قدرة أن تحفظَ تعهُّدَها الالتزام بالميثاق الذي جاء في مادته الأولى «التعهد باتخاذ الإجراءات الجمعية الفعالة لمنع وإزالة كلِّ الأخطار المهددة للسلام، والقضاء على كل الأعمال العدوانية؟»
الإجابة واضحة، وإن كانت يائسةً؛ فالدول الخمس الكبار، والدول القادرة على العطاء أكثر من الأخذ من المجتمع الدولي، لا بد أن تتحمل المسئوليات الكبرى التي التزموا بها قانونًا عندما انضموا إلى المنظمة الدولية. ولكن، حتى يحدث ذلك يجب أن نتجهَ وجهةً أخرى، وأن نُقرَّ بأن الإجراءات التي يمكن اتخاذها بعيدة تمامًا عن المثالية. وكما ذكرنا في الفصل الثالث، ربما كانت الاستجابة النمطية للأزمات الدولية التي تُعدُّ أفضلَ السبل لمواجهتها. فالاتجاه إلى إيجاد قالبٍ نمطيٍّ لحفظ السلام في أوائل التسعينيات — كما رأينا — من خلال «أجندة السلام» يصلح لجميع الحالات، يحصرها جميعًا في نطاق شديد الضيق؛ لأن تيمور الشرقية (مثلًا) تختلف تمامًا عن مقدونيا. ورغم أن تجارب السنوات الخمس عشرة الأخيرة خصبة، إلا أنها تُحذرنا من المواجهة النمطية للأزمات وتدعونا إلى استخدام أدوات متعددة، ومؤسسات مختلفة لمواجهةِ كلِّ أزمة باستراتيجية تُلائمها، ونشك في أن تكون الدول الخمس الكبرى قد سلكَت هذا السبيل وحدها.
-
هناك عمليات الأمم المتحدة التقليدية «الخوذات الزرقاء»، معظمُها طويلةُ المدى، تحتل — عادة — شريطًا من الأرض على خطِّ وقف إطلاق النار بين فريقين متنازعين، مع مطالبة قوات الأمم المتحدة بالحياد التام وعدم تجاوز خط وقف إطلاق النار المؤقت. فإذا عجز مندوبو الأمم المتحدة عن التوصل إلى تسوية سياسية بين أطراف النزاع، ظل أصحاب الخوذات الزرقاء في مواقعهم كما حدث في كشمير، وقبرص، ولبنان. وتأتي القوات عادةً من بلاد بعيدة ليست طرفًا في النزاع، ويتولَّى الإشراف على تلك العمليات «إدارة عمليات حفظ السلام»، وبالتالي مجلس الأمن ذاته. هذا النوع من عمليات حفظ السلام تُفضله البلاد المحايدة والبلاد متوسطة الحجم، باعتباره أقرب إلى أهداف ميثاق الأمم المتحدة. وتقل مشاركة الدول الكبرى في هذا النمط من عمليات حفظ السلام، مما يعني أن قوات الأمم المتحدة في تلك العمليات لا حول لها، ولكنهم لا يواجهون مشكلة كبرى طالما لا يتوقع منهم القيام بعمليات قتالية.
-
هناك جهود إقليمية لحفظ السلام، تشمل مجموعة من الدول المتجاورة التي فرض عليها مجلس الأمن عقوباتٍ (حسب نص المواد ٥٢–٥٤) في محاولة لاستعادة السلام والنظام، في البلاد التي تعاني الاضطرابات أو الانهيار في ذلك الجزء من العالم. مثال ذلك ما تقوم به دول ECOWAS في غربي أفريقيا من أجل تحسين الأوضاع على طول حدود ليبيريا، وغينيا، وسيراليون.
-
وهناك نمطٌ آخر من حفظ السلام كثير الحدوث هو «إقامة» حفظ السلام، وخاصة مهام فرض السلام المسندة من مجلس الأمن إلى منظمة دفاعية إقليمية (حلف)، والتي توصف بأنها تتمُّ في إطار مواد ميثاق الأمم المتحدة، ولكنها أكثرُ إثارة للجدل لأنها تتضمن أعمالًا كثيفة تقوم بها بعضُ الدول من الخمس الكبار، ولا تخضع لمراقبة أو إشراف «إدارة عمليات حفظ السلام». ومن أبرز تلك العمليات قيام حِلْف الأطلنطي بمهام فرض السلام في البلقان وأفغانستان الذي شاركَت فيه قواتٌ على درجة كبيرة من القوة والعتاد، بما في ذلك مساهمة كبيرة وحيوية من البنتاجون التي تفضل — عادة — أيَّ شيء على الإشراف المباشر للأمم المتحدة.
-
هناك عمليات قامت بها دولة من الدول الأعضاء منفردة بمباركة مجلس الأمن لوضع حدٍّ للمذابح، والصراعات العِرقية، والانهيار السياسي. ولكن «الدولة القائدة» للعملية تغطي قيامها بعملية انفرادية بإشراك بعض سرايا الجنود وقوات الشرطة من دول أخرى، وخاصة تلك التي تقع في الإقليم نفسه. من ذلك الدور الذي قامت به أستراليا في تيمور الشرقية، وبريطانيا في سيراليون، ومثل هذه العمليات من المتوقع تكرارها في المستقبل.
وفي بعض الأماكن مثل أفغانستان، من الممكن أن يعمل عددٌ من هذه الأنماط إلى جانب بعضها البعض. قد تبدو غريبةً على الورق، ولكنها تبدو مناسبةً إذا برهنَت على قدرتها على العمل الميداني المشترك. ويؤكد ذلك فكرة العزوف عن استخدام نمط محدد لحفظ السلام أو فرضه، وأن لكل حالة سياقها الخاص، وكذلك أسلوب المعالجة الخاص بها. وهذه الفكرة أكثر فعالية في الوقت الحاضر على ضوء إصرار الدول الخمس الدائمة العضوية — كالولايات المتحدة والصين — على عدم ممارسة الأمم المتحدة للسلطة والنفوذ في هذه المنطقة الحساسة من العالم. فكل الأزمات تُعرض على مجلس الأمن وفقَ نصِّ الميثاق، ولكن الظروف وحدها على الأرض، والتوازن الدقيق بين أعضاء المجلس ذاته هي التي تُملَى على المجلس ما يمكن عمله: سواء كان ذلك في صورة استجابة إقليمية، أو إسناد الدور إلى دولة واحدة «قائدة»، أو تفويض منظمة دفاعية كحِلْف الأطلنطي، أو حتى اتخاذ قرار بعد الإقدام على عمل ما، كل هذه تُصبح خيارات مقبولة.
ومثل هذه السياسة الذاتية المغرضة، تُعدُّ فشلًا ذريعًا عند مَن يناضلون من أجل توحيد دور الأمم المتحدة في حفظ السلام. فإذا عُولجَت كلُّ حالة وحدها يصبح من الصعوبة بمكان إعداد موارد نمطية (من العتاد والإمدادات) وتدريب قوات متعددة الجنسيات، ومن الممكن أن يُلقيَ ذلك بالمزيد من الأعباء على الأمانة العامة المثقلة تمامًا بالأعباء، وكذلك على مجلس الأمن ذاته. وقد يترتب على ذلك تضارُب في الأداء واتباع معايير مزدوجة. ويعني ذلك معالجةَ كلِّ كارثة بطريقة مختلفة عن غيرها، ويصبح مصيرُ الأكراد (مثلًا) أهمَّ من مصير سكان تشاد. ويبقى لإدارة عمليات حفظ السلام اختصاصُ معالجة الحالات الأقل شأنًا، بينما تختص الدول الخمس الدائمة العضوية بالعمليات ذات الأبعاد السياسية مثل أفغانستان والعراق. هذه الاستراتيجية المرنة وما لها من مزايا تؤكد ما لدول الفيتو من امتيازات، من بينها تقريرُ ما يريدون الأمم المتحدة أن تفعل، وهي نتيجة محزنة، ولكنها تُواجه البديل، وهو أن شيئًا لا يمكن عمله في الأقاليم المنكوبة. ومهما كانت المآخذ على مختلف أشكال مهام حفظ السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة فهي أفضل من لا شيء.
أخيرًا، مهما كان تحديد ومجال أعمال حفظ السلام أو فرضه الذي يُقرُّه مجلس الأمن، فمن الواضح أنه يجب توجيهُ المزيد من العناية إلى مرحلة «الانتقال» أو «التعافي» (وقد ذكرناها من قبل ولكنها تحتاج إلى المزيد من الإيضاح). هذه المرحلة هامة بالنسبة إلى سُمْعة المنظمة الدولية، كلما طال أمدُ استعادة الدولة (موضوع الأزمة) لحالتها الطبيعية، فمن الصعوبة بمكان وضْع العملية المناسبة لاستعادة الدولة لعافيتها. ومع اعترافنا بأن لكل أزمة عناصرها ومعوقاتها المختلفة، يجب أن نُقرَّ بوجود إجراءات مشتركة رغم حاجة الكثير منها إلى إيضاح. متى تصبح عملية حفظ السلام من اختصاص مؤسسة أخرى من الأمم المتحدة بدلًا من مجلس الأمن؟ من بين المرشحين لهذه الحالة البنك الدولي لقدرته على تقديم الموارد المطلوبة، وخبرته في التخطيط لاقتصاد الدولة. ولكن ربما احتاج الأمر إلى إقامة مكتب للتنسيق في كل بلد عانَت من الانهيار، طالما أن هذا العمل يفوق طاقةَ وخبرة الوكالات الأخرى الأكبر حجمًا. كذلك مَن يتولَّى الإشراف على الانتقال من المسئولية العسكرية للأمم المتحدة عن الأمن الداخلي إلى إدارة الشرطة المحلية في بلد كالكونغو (مثلًا)؟ ومَن يتحمل مسئولية العمل مع القادة المحليين والجماعات المختلفة لتخطيط وتنفيذ عملية الانتخابات، وإقرار سيادة القانون، وإقامة مؤسسات المجتمع المدني؟ ومتى تنتهي هذه المهمة؟
ومن الجليِّ أنه عندما تُشرف مهمةُ حفظ السلام أو فرض السلام على نهايتها في بلد من البلاد، تنتقل مسئولية مساعدة المجتمعات المنكوبة — عادة — من أيدي العسكريين وأدواتهم العنيفة، إلى أيدي الوكالات والمؤسسات المدنية التي تقوم بإعادة التعمير، وتقديم المساعدات الطويلة المدى. هنا يجب اتخاذ خطوتين: أولهما، أن يقوم مجلس الأمن بتفويض الأمين العام تعيينَ منسق للبلدِ المعنيِّ (يرأس مكتبًا خاصًّا لهذا الغرض)، وذلك بعد التشاور مع أعضاء المجموعة الإقليمية المعنيَّة بالجمعية العامة للأمم المتحدة، على أن يُصدر الأمين العام التعليمات إلى جميع منظمات ووكالات الأمم المتحدة للتعاون مع مكتب المنسق العام بالبلدِ المعنيِّ للعمل على استعادة ذلك البلد لسيادته الوطنية، والارتقاء بمستوى المعيشة في الدولة المنهارة. ولا يعني ذلك تلاقي جهود الوكالات والمنظمات التابعة للأمم المتحدة، وتكاتفها فحسب، بل يتضمن حشدَ الخبراء والمتخصصين بالمؤسسات التي أنشأَتها اتفاقية بريتون وودز، إضافةً إلى جهود المنظمات غير الحكومية. وقد جرَت محاولات لمثل هذا النوع من التنسيق في مرحلة إعادة التعمير، ولكن من الواضح أن التفويض الحازم الذي يُصدره مجلس الأمن يُضفي المزيد من الصلاحيات والشرعية على أيِّ برنامج لتعمير الدولة المنهارة.
وهناك قائمةٌ طويلة بالمقترحات الخاصة بتحسين مستوى عمليات حفظ وفرض السلام والاستراتيجيات الخاصة بها، ولكنْ أيٌّ من تلك المقترحات لا يحظَى بالإجماع على القبول به، ويمكن أن يقال الشيء نفسه على أيٍّ من الأفكار والمقترحات التي تتعلق بمعالجة قضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية على الصعيد العالمي. وكما رأينا من قبل، دعا الميثاق الدولَ الأعضاء أن يتعهدوا «باستخدام الآليات الدولية في ترقية الأحوال الاقتصادية للشعوب»، والعمل على إيجادِ حلٍّ «للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحية»، وهي مهامٌّ كبيرة. ومهما بلغَت تلك المهام من درجات الطموح، فهي تدخل في صميم اهتمام الجمعية العامة، التي عبرَت دائمًا عن ضيقها بتركيز المنظمة الدولية جلَّ اهتمامها على قضايا الأمن، بينما لا تنال قضايا التنمية إلا القليل من الاهتمام.
ويتخذ الجدل حول تحسين مستوى أجندات الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية طابعًا مختلفًا عن مناقشات الفيتو التي تدور في مجلس الأمن؛ لأن تلك الأجندات تخلو من بُعد «الخمسة الكبار في مواجهة الآخرين»، حتى لو كان نظامُ التصويت في المؤسسات التي أقامها اتفاقُ بريتون وودز يُحابي الدول ذات الامتيازات. ولكن ذلك لا يعني أن ذلك الجدل يفتقر إلى الاهتمام؛ فقد كان إيقاع التغير سريعًا على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والبيئية. وأصبح كوكبُنا مختلفًا من النواحي الديمغرافية والبيئية والاجتماعية والجيوبوليتيكية عن ذلك العالم الذي عاش فيه أجدادنا عام ١٩٤٥م. وكيف لا يكون ذلك، إذا تذكرنا أن سكان الأرض تضاعفوا ثلاث مرات؛ من حوالى ٢٠٠٠ مليون نسمة (١٩٥٠م) إلى ستة بلايين نسمة (عام ٢٠٠٠م)، وأن إجمالي قيمة الإنتاج تضاعفَ عشر مرات؛ من أربعة تريليونات دولار إلى أربعين تريليون دولار في الحقبة نفسها؟
وهكذا، تحوَّل الاقتصادُ العالمي والمجتمع الكوكبي، وتغيَّر بإيقاع بالغ السرعة في العقود الأخيرة على نحوٍ لم يشهده التاريخ من قبل. والسؤال الكبير الذي يعنينا هنا هو: هل تستطيع الأمم المتحدة أن تفعل في الميادين الاقتصادية والاجتماعية ما لا يستطيع فعله غيرها؟ من الواضح أن الآباء المؤسسين للأمم المتحدة (١٩٤٤–١٩٤٥م)، رأوا أن الآلية التي وضعوها ضرورية؛ لأن معظم العالم كان في حالٍ يُرثَى لها عند نهاية الحرب، وفي أمسِّ الحاجة إلى العون، فلا يمكن تحقيق إلا أقل القليل. ولذلك كان لا بد من بناء هذه المنظمة الكبرى لمواجهة الاحتياجات الراهنة (عندئذٍ)، وتأكيد أن روح الإهمال والنزعة الانعزالية التي سادَت فترة ما بين الحربين قد ولَّى زمانها، ويصبح علينا اليوم تخيُّل التفاؤل الشديد والمعنويات العالية لهؤلاء على النحو الذي كانت عليه قبل ستين عامًا (١٩٤٥م)، فقد ظنوا أن نظامًا عالميًّا جديدًا يلوح في الأفق، وأنه قد بدأ فعلًا.
ولكن توصيف المشكلات أيسر سبيلًا من البحث عن سُبُلِ حلِّها، والسببُ في ذلك سياسيٌّ في كل الأحوال. ولنأخذ مثلًا حالةَ حقل الاستقرار المالي والنقدي في العالم. من الجيد أن يُردِّد الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد مقولةَ آدم سميث من أن الرخاء يتطلَّب حكمًا صالحًا، ومالية منضبطة، وتشجيعًا للصناعة المثمرة. ولكن الساسة والشعوب غالبًا ما يتصرفون بصورة مغايرة. فالحكومات تُعالج العجز المالي برهن نفسها في الأسواق، وتصطنع لعملتها سعرًا مرتفعًا أو منخفضًا، وكأن ذلك يساعدها اقتصاديًّا على المدى البعيد، وتحمي القطاعات الاقتصادية غير المضمونة التي تفتقر إلى الكفاية (الزراعة، الصناعات الثقيلة، الأجهزة البيروقراطية القديمة)، وبذلك تعوق حركة النمو الاقتصادي العالمي. وعندما تحصل تلك الحكوماتُ على المعونات الأجنبية، فإن معظم تلك المعونات ليست مجردَ هباتٍ، ولكنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدعم الزراعي والتحول العسكري.
ولكن عدم الاكتراث بعمل الأمم المتحدة في تلك الميادين يمثِّل إخفاقًا فكريًّا وتهرُّبًا سياسيًّا؛ فمهما كانت مهمةُ الإصلاح صعبة، لا بد من المحاولة. وقد أشار دبلوماسيون وموظفون وعلماء إلى التغيرات التي لو أُخذَت مأخذَ الجدِّ لأدَّت إلى تحسين صورة الأمم المتحدة وزادَت من فعاليتها. ومن المهم ألَّا تُقدَّمَ تلك الإصلاحات المقترحة على صورة قائمة طويلة غارقة في التفاصيل، بل في صورة أفكار محددة واضحة، لديها فرصة متاحة للتطبيق.
تُرى، هل يصبح ما يصدر عن مجموعة الدول السبع أو الثماني من قرارات وتصريحات له معناه عندما تُصبح هذه المجموعة مجموعة الأربع والعشرين دولة (أو ما شابه ذلك)؟ وكيف يوفِّق أعضاءُ مجلسِ إدارةِ صندوقِ النقد الدولي الأربعةُ والعشرون سياساتِهم مع مجموعة الدول الأربع والعشرين وما بينهم من اتفاقات؟ وكيف تستطيع هذه المكونات المختلفة للإدارة الاقتصادية العالمية التوصل إلى تفاهم أوثق مع الشركات الحرة العملاقة والبنوك والمستثمرين الذين يغيرون مجتمع مطلع القرن الحادي والعشرين؟ ويعتقد السذَّج من دعاة الحرية الاقتصادية أن العالم الرأسمالي يتحرك في اتجاه مغاير عن ذلك الذي صنعَته شبهُ الاشتراكية الدولية عام ١٩٤٥م، ولكنَّ أحدًا من أذكياء المديرين بالشركات المتعددة الجنسيات الكبرى لا يعتقد أن الازدهار يمكن أن يتحقق في غيبة الاستقرار والأمن، وهم وحدهم يعرفون متى يحتاج السوق الخاص إلى مساندة الوكالات الدولية، ولكنهم لا يعرفون كيف يمكن تحقيق التوازن بين قطاع الأعمال العالمي والحاكمية الدولية، وهو ما يتطلب المزيد من التفكير والعمل من أجل تحقيقه. غير أن الظروف التي واجهَت المخططين ورجال الأعمال في ١٩٤٤–١٩٤٥م كانت أكثرَ تحديًا، وهو ما يخرج عن إطار هذا البحث.
ونقطة الضعف الرئيسية هنا هي المجلس الاقتصادي والاجتماعي الهش، فما الفائدة من وجود مؤسسة هدفها التنسيق ولكنها تعجز عن القيام به؟ وهو ما تعترف به كلُّ الدراسات الجادة عن الأمم المتحدة. ويرى التقليديون أن هذه المسألة يمكن معالجتها على الفور لو وافقَت جميعُ الدول الأعضاء على منطوق الميثاق (الفصلان التاسع والعاشر)، وقامت بتزويد المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالصلاحيات والأدوار التي حددها الميثاق. والمشروعات الأكثر راديكالية تقترح إقامة مجلس اقتصادي واجتماعي أقوى، له ما لمجلس الأمن من قدرات، أو يقترحون توزيع مهام المجلس على مجلسين أصغر حجمًا: أحدهما مجلس اقتصادي والآخر مجلس اجتماعي، ويتطلب الاقتراحان تعديلًا للميثاق. والمشكلة الأساسية التي تواجهها مثل هذه المقترحات الصادرة عن لجانٍ لها قدرها، أن أيًّا منها لا يحظَى بتأييد الدول الكبرى، فلا تلقى فرصة التعامل الإيجابي معها.
ونقطة الضعف الراهنة في المجلس الاقتصادي والاجتماعي أن الجمعية العامة عليها أن تُواجه الأمر بجدية؛ فتقوم بإلغائه أو إصلاحه. والحل الأخير قد يلقَى قبول الحكومات التي ترى في المجلس الاقتصادي والاجتماعي نقيضًا لمجلس الأمن، فهو المجلس الذي تستطيع فيه الدول الضعيفة والفقيرة أن تسمع صوتها، والمجلس الذي تقف فيه العضوية الإقليمية المناوبة نقيضًا للعضوية الدائمة في مجلس الأمن، وهو المؤسسة التي تقوم فيها العديد من اللجان بالعمل لصالح الضعفاء. أضِف إلى ذلك أن المجلس لم يفشل تمامًا في أداء مهامه، فلا أحدَ يرغب في إلغاء لجنة المخدرات أو لجنة حقوق المرأة، ثم هناك لجنة خبراء نقْل المواد الخطرة، ولجنة تصنيف الكيماويات التي لا تخلو من أهمية في عالم يتهدَّده الإرهاب البيوكيماوي المحتمل.
ويستطيع القارئ الآن أن يتبين اتجاه هذه المناقشة. ففي عالم مثالي، يصبح من اللازم إجراء تغييرات هيكلية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي وسياساته، كما أن من الضروري تغيير نمط عضوية مجلس الأمن ومهام حفظ السلام. ولكن عدم إمكانية تعديل الميثاق لا تَحُول دون عمل الكثير لتحسين الأحوال المؤسفة الحالية، وإنقاص عدد الوكالات التي تتدخل اختصاصاتُها ببعضها البعض، وحسن اختيار موظفي الأمم المتحدة من حيث الخبرة والكفاءة، والحد من نظام التناوب الإقليمي، ومراعاة الاتساق في المستويات عندما يتعلق الأمر بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والسياسات العامة للأمم المتحدة. ويسري ذلك أيضًا على الأمانة العامة.
وقد اخترنا في هذا الفصل «الحلول الوسط» فيما يتصل بالتوصيات الخاصة بتحسين مجلس الأمن، وفاعلية مهام حفظ السلام وفرضه، وصلاحيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي. وربما كانت هذه التوصيات موضعَ نقاش الحكومات كمجموعة متكاملة وليست مجزَّأة، وقد يساعد الأخذُ بها على مضيِّ قافلةِ الأمم المتحدة على الطريق.
والارتقاء بقضية حقوق الإنسان مسألةٌ تحظى بالاهتمام، وقد انتهى الفصل السادس من هذا الكتاب بإشارة معقدة، ولكن ذلك لا يرجع إلى أيِّ عيب في بنية نظام حقوق الإنسان الحالي، بل على العكس، حقَّق المجتمع العالمي تقدُّمًا في آليات العمل، وفي أبعاد رسالته في هذا الميدان. والوعي الدولي بأعمال التصفية العِرقية ارتفع اليوم عن أيِّ وقت آخر. ولكن الإحباط مردُّه إلى ما قررته المنظمات غير الحكومية من وجود الكثير من الحكومات التي لا تلتزم بالإعلان الدولي لحقوق الإنسان، وبمواثيق جينيف والاتفاقات القائمة عليها. ودون توفير الحماية لحقوق الإنسان التي تُنتهك على أيدي الحكومات الوطنية أو الأجنبية سيظل المجتمع البشري مكللًا بالعار، ولا بد من الحفاظ على الضغوط الدولية ضد انتهاكات حقوق الإنسان، والتدخل — عند الضرورة — لوقف أعمال التصفية العِرقية وفرض العقوبات على مرتكبيها عن طريق مجلس الأمن. ولكن التقدم الحقيقي في هذا المجال هو ما يتحقق في قلوب وعقول وضمائر البشرية وليس في استخدام المزيد من الآليات.
ويصدق ذلك — أيضًا — على التخلص من مشكلة الاحتباس الحراري ودمار البيئة التي نعيش فيها. وهناك الكثير من المعايير التقنية التي يمكن الاتفاق عليها، وكذلك الطرق الأنسب لتنظيم كفاح البشرية من أجل التنمية المستدامة والاستثمار في برامج الإنقاذ في هذا المجال، ولكن المعيار الأساسي يتمثل في مدى استعداد «الدول الكبرى» لفرض سياسات حازمة للحد من مسببات الإضرار بالبيئة، والمحافظة عليها. وعبارة: «الدول الكبرى» يكمن فيها لبُّ الموضوع. فلا يُجدي مطالبة الدول الصغيرة التي تجمع بين بعض الجزر أن تتخذ إجراءات ضد الاحتباس الحراري، لأن عبء ذلك يقع على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والصين، والهند، واليابان، وروسيا، والبرازيل، وبعض الدول المتفاوتة الحجم الأخرى التي تتحمل مسئوليةَ تردِّي الأحوال البيئية في كوكبنا. وهنا تقع الولايات المتحدة في بؤرة الضوء للأسف الشديد. فعندما تتخطَّى الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم والمنتجة لأكبر قدر من الغازات الملوثة للبيئة، عندما تتخطَّى القيود التي فرضَتها اتفاقياتُ كيوتو ومونتريال وغيرها، فإنها تُقدِّم مبرراتٍ للحكومات الأخرى هنا وهناك للتنصُّل من تلك القيود. اليوم، جميع الطرق في محنة البيئة تقود إلى واشنطون، فهل آنَ الأوان لاتخاذ موقف إيجابي؟
وهناك موضوع آخر على الأجندة العالمية بالغ الأهمية يتمثَّل في تحقيق التقدم في فهمنا الثقافي «للآخرين»، ومن ثَم رؤية العالم بطرق مختلفة، على الرغم من أنه ليس من الحكمة الإفراط في التعويل على اليونسكو والمؤسسات التابعة لها، على نحوِ ما فعل الآباء المؤسسون عام ١٩٤٥م، وخلفاؤهم الطموحون في السبعينيات. فقد كشفَت لنا السنوات الستون موضعَ عثرات اليونسكو (من الإفراط في التوجيهات الأيديولوجية، والبرامج ذات الأبعاد السياسية)، كما جعلَتنا نقف على المجالات التي حققَت فيها النجاح (قضايا الرياضة الدولية، والتربية، والبيئة، وتحديد المواقع التي تتصل بالتراث الإنساني، وغير ذلك من أمور). ولا تتطلب الحاجة هنا تغييرًا دستوريًّا، لكنها تحتاج إلى سياسة أرشد، واتباع أسلوب نوعي عالي المستوى في اختيار العاملين بالمنظمة لتلافي سلبيات الماضي. ومهام اليونسكو من حيث «الارتقاء بالتعاون بين الأمم من خلال التربية والعلوم والثقافة» يمكن النهوض بها عن طريق محركات الكوكبة، مثل: الشبكة الدولية للمعلومات (إنترنت)، وتبادل الطلاب، والسياحة، والتعاون العلمي، والشبكات الإعلامية، والرأسمالية العالمية. وهي ميادين لا بد أن تكون مساهمة الأمم المتحدة فيها محدودة.
تُرى، ما يمكن قوله — أخيرًا — عن الجمعية العامة؟ إنها المظهر الأقرب تصورًا من برلمان الإنسان، غير أن عجزَها واضحٌ للعيان؛ فقد منعَت من اتخاذ القرارات المتصلة بالقضايا الأمنية، واقتصر دورُها على المهام الاقتصادية والاجتماعية التي أوكلت للمؤسسات التي أنشأتها اتفاقية بريتون وودز والمنظمات الحكومية، وقيدَت بمحدودية فصل انعقادها، وقيدَت بالعديد من اللجان، والتقارير، والممارسات البيروقراطية الرسمية، وناءَت تحت ثقل ١٩١ من الدول الأعضاء (مع التسليم بافتقار أغلبيتهم إلى الكفاءة)، وهي بهذه الصفات لا تُعدُّ مؤسسة فعالة، من المكونات الأساسية للأمم المتحدة. ولا يستطيع عاقل أن يقترح إلغاءَها، على نحو ما قيل عن مجلس الوصاية أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ولكن ذلك يُعيدنا إلى السؤال الجوهري: كيف تصبح الجمعية العامة أكثر فاعلية واحترامًا؟
ولذلك، يصبح السؤال الحقيقي هو: كيف يمكن جعل الجمعية العامة أكثرَ استجابة وفاعلية، حتى لا تبدوَ في أعين المراقبين الحائرين مجردَ مكان للكلام؟ هناك عددٌ مدهش من المقترحات المتعلقة بتحسين أداء الجمعية العامة. تدافع معظمُها عن دورها كمنبر للرأي العام، وترى في اجتماعها السنوي الذي يحضره رؤساء الدول ووزراء الخارجية ضرورة حيوية للتفاهم الدولي، ولكنها تُقرُّ بما يعتري أجندتَها من سلبيات، وخاصة أن الكثير من الحكومات تعمل على تبنِّي سياسات تتلاءم مع حقائق القرن الحادي والعشرين، حتى لو كانت لتلك السياسات بريقها في سبعينيات القرن العشرين. ولذلك تذهب هذه المقترحات إلى ضرورة اختصار أجندات الجمعية العامة وإنقاص عدد اللجان التابعة لها وجعلها أكثرَ تركيزًا على القضايا الهامة، حتى يصبح أكثر استجابة لحاجات البشرية.
وقد سبق أن أشرنا إلى المقترحات الأخرى المتعلقة بزيادة فاعلية الجمعية العامة في بعض فصول هذا الكتاب. والمجموعة الأخرى من المقترحات تتعلق بتحسين العلاقة بين الجمعية العامة ومجلس الأمن، وخاصة أن هناك لجنة خاصة بالجمعية العامة عن عمليات حفظ السلام، فلماذا لا يتمُّ دعمُها لتكون ركيزةً لآلية فعالة على مستوى الجمعية العامة ومجلس الأمن؟ ومثل هذا التشاور بين مجلس الأمن والجمعية العامة يزيد من صلاحيات رئيس الجمعية العامة، وهو منصب يُشغل بالتناوب، ولكن مثل هذه الصلاحيات — لو أُتيحت — تعطي لشاغل المنصب إحساسًا بإمكانية حضور جلسات مجلس الأمن العادية والطارئة. كما أن أيَّ توثيق للصلات بين الأمانة العامة ورئيس الجمعية العامة يُتيح آلية تيسُّر إدارة الأمور.
وأخيرًا — وليس آخرًا — يجب على الجمعية العامة إعادة النظر في مسألة تمويل الأمم المتحدة التي تنوء تحت الأعباء الملقاة على عاتقها، مع ما تعانيه من صعوبات قانونية تقيِّد قدرتَها على استدرار المزيد من الدخل. وقد سبَّبت هذه الفجوة بين الغايات والوسائل، الكثيرَ من الحرج للمنظمة الدولية منذ وقت بعيد. وقد طُرحَت قبل عقد من الزمان أو يزيد فكرةُ فرضِ ضريبة على تحويلات العملة الدولية لهذا الغرض، ولكنها لم تحظَ بالقبول. رغم ما قيل في تبرير ذلك من ضرورة دعم الأمم المتحدة التي تعمل على توفير الاستقرار في العالم، وهو مطلبٌ أساسيٌّ لحسن سير الأعمال المالية والتجارية. وجاء رفض الاقتراح بشدة من جانب الساسة المحافظين في الولايات المتحدة. ولا يخالجنا الشكُّ أن المصرفيِّين الدوليِّين، وقطاع الأعمال الدولي كانوا سيقبلون بهذه الضريبة المقترحة لو تمت في مهدها.
لقد جاء هذا الفصل استجابة لصيحة: «ما العمل؟» والإجابة على هذا التساؤل أن المنظمة الدولية معقدة وضخمة — بطبيعتها — مما يجعل التوصل إلى وصفة علاجية لها أمرًا بالغَ الصعوبة. فالإصلاحات ليست محدودة. ولكن ترك الأمور على ما هي عليه من الصعوبة بمكان على ضوء حاجة البشرية إلى التعاون في إطار قانوني عالمي أفضل، كما أن محاولة تغيير أو تعديل الميثاق بصورة تُحدث تحولًا في علاقات القوة داخل المنظمة ليس أمامها أدنى فرصة للنجاح. ونحن في حاجة إلى حل وسط يحقق قدرًا من التغيرات الآن، ويفتح الباب لإمكانية تحقيق المزيد مستقبلًا.
ولا يجب أن يكون ذلك موضوعًا للخلاف، مع اتساعِ وتعدُّدِ وتشابُكِ مكونات الأمم المتحدة، لا يتصور أحدٌ أن إصلاحَ جانبٍ منها يوفِّر الحلَّ لجميع المشاكل. والواقع أن إدخال تغيير في جانب معين يدفع إلى إدخال تغييرات في جوانب أخرى. وإذا قبلَت حكوماتُ الدول الأعضاء بإصلاح الأمم المتحدة، فإن هذه الإصلاحات يجب أن تكون مفردة، لا مجموعة كاملة، وقد أكَّدَت جميعُ اللجان والتقارير على هذه الفكرة التي لها وجاهتها.
ولا شك أن عدم التغيير سوف يزيد من صعوبة عمل الأمم المتحدة، فيما عدا الوكالات المتخصصة التابعة لها، ولكن اقتراح تغيير الميثاق مستحيل في الظروف الراهنة. والطريق الوحيد للتقدم على طريق الإصلاح هو المعالجة الجزئية الواعية، مثل: زيادة حجم مجلس الأمن، وتحسين عمل مهام حفظ وفرض السلام، وقضية إهمال مجلس الوصاية، ولجنة الأركان العسكرية، وتحريك الجمود الذي يعاني منه المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو إلغاؤه، والنهوض بحقوق الإنسان، والوكالات الخاصة بالبيئة والثقافة، وإيجاد آليات للتنسيق بين مؤسسات بريتون وودز، وإعادة النظر في بناء الجمعية العامة وهيكلها، وهي قائمة لا بأس بها لو أخذ بنصفها لسارَت الأمم المتحدة في الطريق الصحيح — تدريجيًّا — إلى وضعٍ أفضلَ حالًا، وهناك حاجة ماسة للبدء بهذه الإصلاحات الآن.