التمثيل
(إذا أُزيح الستار رُؤيت عطية هانم في شرفة المنزل متجهة إلى باب الدخول (١)، ثم تقبض
على
أكرة الباب وتفتحه وتدخل، ثم تقفل الباب وراءها.)
(هي فتاة في العشرين من عمرها، بيضاء الوجه، صفراء الشعر نوعًا ما، عسلية العينين،
أسيلة الخد، صغيرة الجسم. إذا أنعمت النظر في وجهها تبينت فتاة طيبة القلب مخلصة في
قولها وفعلها، وقورًا كريمة النفس، ملابسها غالية القيمة على بساطة في قطعها وبُعد عن
التأنق، ترتدي معطفًا من الحرير الأسود، وقبعة فوقها نقاب أسود شعشاع (بيشة)، ولكنها
تكون قد أسقطته عن وجهها ساعة الدخول، ويبقى المعطف مزرَّرًا طول الفصل الأول لا يبدو
من
تحته شيء، اللهم إلا ما يبدو من القبة، وهو صدر فستان أحمر. يشعر الناظر من رؤيتها ماشيةً
ساعة الدخول ومن حياةٍ في نغمة صوتها وهي تتكلم بعد ذلك أن في فؤادها عاطفةَ فرحٍ ينعش
جميع حواسها وجوارحها، أما فيما عدا ذلك فإنها في أكثر وجوه الرواية بادية
الهدوء.)
عطية
(تقف بعد الباب الذي دخلت منه بخطوةٍ أو اثنتين وتتلفت في
المكان)
:
ليس هنا أحد. (تصفِّق) يا أهل البيت! يا أهل
الله! (تتقدم قليلًا نحو المائدة) زهيرة
هانم! زهيرة! أختي! أتكون قد ذهبت إليَّ في مصر! هذا عيب مصر الجديدة (تتمشى نحو الباب الثالث وهي تتكلم) يسافر إليها
الإنسان من مصر القديمة، فإذا لم يجد مَن يقصده اضطُر أن يسافر كل هذه المسافة
عائدًا (تنادي) بشير أغا! بشير أغا! أظنه لم
يأتِ بعد، زهيرة هانم!
زهيرة
(من أعلى)
:
مَن الذي ينادي؟
عطية
:
أنا عطية، أين أنت يا أختي؟ (تذهب إلى عتبة السلم
وتقف ممسكة بالدرابزين رافعة وجهها إلى أعلى.)
زهيرة
:
اصعدي إليَّ.
عطية
:
ألا تنزلين؟ (تظل رافعة وجهها إلى
أعلى.)
زهيرة
:
إني أريد أن أدخل الحمام.
عطية
:
دعي الحمام إلى وقتٍ آخر، انزلي (تترك التطلع إلى
فوق) انزلي، عندي لك خبر يَسُرُّ (ثم
تعود فتنظر إلى أعلى) تعالي، انزلي. إني تعبت من المشي ولا أقدر
أن أصعد كل هذا الدَّرج.
زهيرة
:
طيب.
عطية
(تذهب إلى المرآة تقف أمامها وتصلح من شعرها ثم تجلس على
الكرسي الثالث)
:
يا سلام! كم أنا تعبة!
زهيرة
(تنزل على الدَّرج وهي لابسة قميصًا من المرمر الثمين به نقوش
مفرغة في قبته، وفي قدمها خفان ثمينان وشعرها مرسل على كتفيها، وهي امرأة في
الخامسة والعشرين من عمرها، وسط في الجسم، بيضاء البشرة سوداء الشعر، ذات عينين
قويتين تدلان في مجموعهما على أنها امرأة متزنة التفكير شديدة الاعتماد على
نفسها، حية متنبهة. إذا نزلت على الدَّرج أطلت من الدرابزين لترى أختها)
:
أهلًا وسهلًا (فإذا نزلت إلى آخر الدَّرَج انعطفت على
يمينها وتقدَّمت إلى أختها، فتنهض عطية عن الكرسي وتتقدم إليها
خطوة) أهلًا وسهلًا! (تتعانقان.)
عطية
:
أهلًا بك، أوحشتني! (تجلس على المقعد الذي تحت
السلم.)
زهيرة
(تتناول الكرسي الثالث من جوار المائدة بيدها اليسرى وهي
متجهة إلى المقعد وتجلس أمام الصينية الصفراء)
:
كيف صحتك الآن يا عطية؟
عطية
:
الحمد لله، أحسن كثيرًا.
زهيرة
:
كيف أهل السراي؟
عطية
:
كلهم بخير يسلمون عليك، كيف حال بابا بشير أغا؟
زهيرة
:
إنه بخير دائمًا.
عطية
:
أراك استبقيته في منزلك مدة طويلة، أما آن أن يعود إلى السراي؟
زهيرة
:
إني لا أستبقيه على الرغم منه.
عطية
:
ولكني سمعتهم يقولون ويتقوَّلون حتى ضاق بهم ذرعي.
زهيرة
(بتهكم)
:
يظنون أني أستبقيه عندي حتى يموت في بيتي فأستولي على ما وراءه، لا يا ستي
لا، الله الغني. (تنهض عن الكرسي وتذهب إلى المرآة
تصلح من شعرها) صدقيني أني لا أريد بقاءه عندي يومًا واحدًا، لقد
أصبح كثير الانتقاد والكلام الفارغ.
عطية
:
لماذا؟ (تنهض هي أيضًا متجهة صوب
المنضد.)
زهيرة
(تعود حتى تجلس على الكرسي الثالث)
:
إنه يريد أن يجعل عليَّ هنا — حتى بعد ما تزوجت ومرت عليَّ خمس سنين — ما كان
له علينا من السلطة أيام كان يعلمنا النحو ويضربنا بالخيزرانة إذا نصبنا الفاعل
ورفعنا المفعول.
عطية
(تضحك)
:
إنه بمثابة أب لنا يا أختي، وهو يخاف علينا، ويتمنى لنا كل خير.
زهيرة
(بقليلٍ من الكدر)
:
ولكنه أفرط في هذه الأيام، لا لا، لقد حان الوقت الذي يعود فيه إلى
السراي.
عطية
:
لا بأس، هذا حسن. سآخذه معي عند عودتي إذا شئت، ولكن (تذهب إلى الكرسي الأول) كيف أصبح كثير
الانتقاد؟ أظن أنه يتدخَّل بينك وبين علي بك ويساعده عليك؟
زهيرة
(تصمت هنيهة)
:
وأكثر من ذلك.
عطية
:
ألا تزالين في شقاقٍ مع علي بك؟
زهيرة
:
إن الشقاق لا ينقطع، بل أصبحت أتمنى الفراق منه، ومع ذلك …
عطية
:
الفراق؟! كفى الله الشر!
زهيرة
:
لقد أصبح ثقيل الظل على نفسي هذه الأيام.
عطية
(بدهشةٍ واستنكار)
:
علي بك ثقيل الظل! علي بك! ما عهدته كذلك أبدًا.
زهيرة
:
لقد تمادى هذه الأيام، وأخذ يقول كلامًا وقحًا يلبسه ثوب المزاح والضحك،
ولكني أعرف أنه يجدُّ ويعني كل ما يقول، بل وأكثر من ذلك: يتعمد أن
يؤلمني.
عطية
:
عجيب! وهل هناك داعٍ إلى هذا الإيلام؟
زهيرة
:
لا أدري يا أختي سببًا لذلك، لقد أصبحت رؤيته تؤذيني.
عطية
:
لم تذكري إلى الآن شيئًا معينًا من أعماله معك.
زهيرة
:
اسكتي، اسكتي.
عطية
:
كيف؟
زهيرة
:
هذا البيت ليس إلا بنسيون في نظر علي بك، لا يأتي إليه إلا ليأكل وينام. وإذا
كان لديه وقت فراغ دخل مكتبته وأقفلها عليه ليقرأ ملفات القضايا، أو يكتب
مذكرات لا تنتهي، وما أنا ولا مَن معي في البيت إلا نزلاء مثله لا علاقة له بنا
ولا لنا به إلا «نهاركم سعيد، نهاركم مبارك، ليلتكم سعيدة، قهوة، هل عندكم غدا؟
هل عندكم عشا؟ أين حقيبة أوراقي؟» أما أننا رجل وامرأة مثل خلق الله فقد
انتهى.
عطية
:
لم أعهده هكذا أبدًا، ماذا جرى؟ ربما أغضبه منك شيء.
زهيرة
:
مني أنا؟ أنا؟ لماذا؟ اسكتي، اسكتي. أنا في جحيم! أنا في جهنم الحمرا! إنه
كما عهدت يسمع كلامي وهو هادئ ساكن كأبي الهول، ينظر إليَّ بعينَي مستهين، وترين
على شفتيه علامة الازدراء. ثم إذا زاد غيظي منه وأمسكت بتلابيب ثوبه ضحك وهزل،
ونطق بجملته التي حفظها في هذه الأيام كالببغاء. يقول: يا زهيرة أنا لا ألومك
على صراخك، لست أنت التي تصرخين، إنما الذي يصرخ هو الولد.
عطية
(بدهشة)
:
الذي يصرخ هو الولد! أي ولد هذا؟
زهيرة
:
لا أدري، إنه كثير الألغاز.
عطية
:
لعله يعني أنك متألمة بسبب تأخر الخلفة.
زهيرة
:
من يدري؟ أيمكن أن تفهمي له قصدًا! ومع ذلك فإنني كلما قلت له: إني لا أشتهي
الخلفة، ولا يهمني أن أعيش كذلك، بل إذا عشت بدون ولد كنت أسعد وأهنأ، وإني
إنما أرجو أن يعاملني معاملة الزوجة ويترك محاماته ومكتبه قليلًا من أجلي، ولا
سيما وهو في المنزل، قال وهو يراضيني: لا تغضبي، إني سأجيء إليك مبكرًا كل يوم،
وسأكون كما تحبين.
عطية
:
طيب (تجلس على الكرسي الأول).
زهيرة
:
وقد يصدق يومًا أو ثلاثة ثم ترجع ريمة لعادتها القديمة.
عطية
:
هذا أمر عجيب ولكن …
زهيرة
(مقاطعة)
:
وترينني يا أختي في غاية الضيق، ولا أطيق أن تقع عيني عليه.
عطية
:
هوِّني عليك يا أختي، كل الرجال هكذا. مَن منهم يستطيع أن ينصرف عن عمله أو
يهمله من أجل زوجته؟ بل إنه إنما يشتغل في الحقيقة من أجلها. الذي أراه يا أختي
أن تعوِّدي نفسك هذه الحال ولا تكثري من التفكير فيه.
زهيرة
:
والله أنا لا أفكر فيه أبدًا، لقد زال حبه من قلبي دفعة واحدة، وما دام أنه
لا يهتم بي، ويريد أن يتركني فريدة كالزهرة التي تنبت في الصحراء (تشير بيدها) تحيا وتموت ولا يراها أحد، فإني
سأبحث عمن يشتهي شمَّ عبيري.
عطية
(بابتسام إنكاري)
:
وي! وي!
زهيرة
:
ألا تصدقين؟ إني أقول لك الحق.
عطية
:
أي حق هذا؟ أتجرئين؟
زهيرة
:
هه (تهكمًا) أجرؤ؟ لقد انتهيت من ذلك، بل
وجدت الذي يحبني ويموت فيَّ غرامًا.
عطية
:
إليكِ عني! لسنا ممن كُتب عليهن هذا يا زهيرة.
زهيرة
(بكدر)
:
اسكتي من فضلك، ماذا تعرفين أنت من الدنيا؟ يجب أن تقلعي عن هذه العبارات
الأزهرية. «كُتِب»، «قدَر»! أنت كنت شبه أغا في السراي ولا تزالين كذلك. ولو كان
في الإسلام رهبانية لكنت أحسن رئيسة دير في الدنيا (تضحك هي وعطية) أما أنا فما كنت كذلك، وقد عرفت الآن شيئًا
كثيرًا.
عطية
:
آه! هذا الذي من أجله تريدين أن يرجع بشير أغا إلى السراي.
زهيرة
:
وهل يهمني بشير أغا هذا؟
عطية
(بتهكم)
:
ومَن هو هذا الذي وجدته؟
زهيرة
:
واحد …
عطية
:
ومَن هو هذا الواحد؟
زهيرة
:
ما لكِ به؟
عطية
:
أريد أن أعرفه؛ لأهنئك به على الأقل!
زهيرة
:
أنت مجنونة! كيف أخبرك عنه؟
عطية
:
سيعرفه الناس عما قريب، فلماذا تخفينه عني؟
زهيرة
:
كيف؟
عطية
:
لا بد أن ينكشف أمركما يومًا من الأيام.
زهيرة
:
ليس هذا ممن ينكشف أمره، ومع ذلك سأبذل جهدي حتى أتزوج منه.
عطية
(تنهض مزدرية)
:
أنتِ ذات مشروعات فارغة (تتمشى متلكئة صوب باب
الدخول ويداها على خاصرتيها، ثم تنظر إلى الفضاء من خلال الزجاج)
دعينا من هذا الكلام (تنعطف على يسارها تنظر إلى
الجدار الذي بين البابين الأول والثاني فتجد صورة علي بك معلقة)
كلامك اليوم ثقيل على أذني (تنظر إلى صورة علي بك
وتطرقها بظهر يدها فيُسمع صوت النقر على زجاج إطار الصورة) أتجدين
أشرف من هذا الرجل أو أحسن؟ من نحن في النساء حتى نستحق هذا الرجل؟ لا حسب لنا
ولا نسب، ولا قيمة لنا في الواقع، ثم لا نحمد الله على أن لنا مثل هذا الرجل
العظيم.
زهيرة
:
ماذا يهمني شرفه ومجده إذا لم أكن أحبه؟ أنا أريد رجلًا، لا شجرة نسبه ولا
براءة رُتَبه.
عطية
(تلتفت)
:
يا ليت لي رجلًا مثله أو نصفه!
زهيرة
:
سأخليه لك فخذيه هنيئًا مريئًا.
عطية
:
لا قدَّر الله! لا قدَّر الله! إنك والله لتقاتلين كلَّ مَن تنظر إليه أو إلى صورته
كما كنت أنظر الآن.
زهيرة
:
أنت تظنين ذلك.
عطية
(تنعطف على يمينها نحو الباب الثالث)
:
صورة جديدة للدكتور، إنها بديعة جدًّا (تنظر صامتة
مدة طويلة، ثم تتنفس تنفُّس الاضطراب وظهرها إلى أختها).
زهيرة
:
ذكَّرتني، أين خليل بك يا ترى؟ لي ثلاثة أيام لم أرَه.
عطية
(تعود إلى كرسيها بسرعة وتجلس)
:
كنت عند أخته خديجة هانم صباح اليوم فرأيته هناك، لم يكن قد ذهب بعدُ إلى
عيادته حين وصلت.
زهيرة
:
أقابلته؟
عطية
:
كيف أقابله؟ ليس من عادته أن يقابلني.
زهيرة
:
عجبي منك! أما كان يعودك في السراي وأنت مريضة؟!
عطية
:
بلى، ولكن المرض عذر شرعي. وقد زال والحمد لله، فلم يَعد له حق في مقابلتي،
ولا يليق بكرامتي أن أقابله. ماذا جرى في الدنيا؟
زهيرة
:
تحسنين صنعًا، هذا أليق بكرامة عذراء مثلك.
عطية
:
الحمد لله على الإسلام يا أختي، لمَّا كنت عند خديجة هانم اليوم أفهمتني أنه
يود أن يفاتحك أنت وعلي بك في شأن زواجه مني.
زهيرة
(بدهشة)
:
منك؟!
عطية
:
أجل!
زهيرة
(باضطرابٍ ظاهر)
:
أهذا هو الخبر السار الذي جئتني به؟ (تنهض.)
عطية
(بدهشةٍ قليلة)
:
نعم، ألا يسرُّك أن أتزوج؟
زهيرة
:
إنك لا تزالين صغيرة (تمشي نحو المقعد وتعبث
بالأواني التي على الصينية ترتِّبها).
عطية
:
صغيرة! ها ها، إني ناهزت العشرين، وغيرنا يتزوج قبل هذه السن بسنوات.
زهيرة
:
خطأ، ولذلك فإن الست الكبيرة جعلت لي الحق عليك حتى تتجاوزي سن العشرين، وإلا
فلا يكون لك نصيب في ريعِ وقْفها (تفتح علبة السجائر
التي على الصينية، وتتناول منها واحدة وتشعلها وتجلس على المقعد وهي
تدخِّن).
عطية
:
لا إنكار في ذلك، هل أنا أتزوج بغير رضاك، مهما كانت الأحوال؟ أنت أختي وأمي،
ليس لي في الدنيا سواك وبابا بشير أغا.
زهيرة
:
أنا لا آبَى عليك أن تتزوجي، هذا يوم مناي. وكنت أشتهي ذلك من زمنٍ بعيد؛ لأن
المرحومة الست الكبيرة جعلت لي حق التجاوز إذا رأيتُ فيه مصلحة.
عطية
:
فماذا حدث الآن؟
زهيرة
:
أنا لا أريد لك الدكتور خليل زوجًا.
عطية
:
لماذا؟
زهيرة
:
لأنه في الواقع رجل فقير، إنه ابن عم علي بك، نعم، ولكنه لم يرث من أبيه مثل
ما سيكون لعلي بك بعد وفاة أبيه، وعيادته في مصر قليلة الإيراد.
عطية
:
كيف يكون فقيرًا رجل تعصمه عن السؤال حصة لا بأس بها في إيراد وقف أبيه، وله
عمله وعيادته، نعم، إنها قليلة الدخل، ولكنها حديثة العهد. ألم يفتحها منذ
ثلاثة أشهر! ومع ذلك فإني لا أريد عيشة البذخ ولا أحبها. إنها تنافي طبعي، بل
لعمري إني لأشعر أن البذخ سبيل الشقاء والبغي، أنا أريد عشًّا، كوخًا صغيرًا
أعيش فيه أنا وزوجي، وأنا كفيلة بجعله عش السعادة.
زهيرة
:
هذا كلام كل بَلهاء.
عطية
:
إنه شاب متعلم، ذو عمل شريف منتج وكفى، والطبيب في نظري من أسعد الناس حالًا؛
لأنه يجد رزقه في كل مكان، كما أن حصتي في ريع وقف المرحومة الست الكبيرة
تصوننا عن السؤال عند الحاجة، وربما كان فيها ما يساعده في هذه الأيام على
توطيد عمله وتهيئة مستقبله.
زهيرة
(بحزم)
:
أنا لا أزوجك باختياري طبيبًا أبدًا.
عطية
:
لست أجد لهذا الرفض سببًا إلا أنك تضيعين عليَّ فرصةً قلما تظفر بها فتاة
مقطوعة مثلي عن الدنيا، إن في استطاعته أن يتزوج من أكبر بيوت البلد وأرقى
بناتها، وفي اعتقادي أنه يتنزَّل كثيرًا بطلب الاقتران بي.
زهيرة
:
إن عمله يحتم عليه أن يقضي الليل والنهار خارج منزله، وكيف تطيقين
هذا؟
عطية
:
هكذا كل رجل يشتغل في الأعمال الحرة، أليس علي بك كذلك؟
زهيرة
:
بلى، وهذا ما كرَّهني في الدنيا وجعل حياتي كلها شقاء. لا لا، لا أريد أن أوقعك
في مثل ما أنا فيه، وإلا فما معنى وصية الست الكبيرة!
عطية
:
سأعوِّد نفسي عِشرة الطبيب كغيري من زوجات الأطباء، على أن مَن كان زوجها رجلًا
ظريفًا كخليل بك يجب عليها أن تشتري اللحظة معه بالشيء الكثير.
زهيرة
(بتشبثٍ وعناد)
:
لك رأيك، ولكني لا أقر هذا الزواج بحالٍ من الأحوال. (تنهض بعد أن تطفئ السيجارة وتمشي صوب عتبة
السُّلم) لا تذكريه بعد اليوم على لسانك.
عطية
:
أأنت تجدِّين؟
زهيرة
:
أجل.
عطية
:
أليس لي أن أسأل عن السبب؟
زهيرة
(تمسك بعود الدرابزين وتصعد)
:
لقد ذكرت لك السبب، بيْد أن عندي أسبابًا أخرى كثيرة لا أستطيع أن أبوح لك
بها؛ فقد أخبرني عنه علي بك شيئًا كثيرًا (تصعد ثلاث
درجات).
عطية
:
وما هذا؟
زهيرة
(تصعد درجة أخرى)
:
شيء لا يليق أن تسمعه فتاة، هلمي نصعد، إني أريد أن أغتسل، وأمشط شعري
(تصعد درجات أخرى حتى تصل إلى
البسطة).
عطية
(تنهض عن كرسيها)
:
لماذا أصعد؟
زهيرة
:
أتظلين وحدك؟ بشير أغا في القاهرة، ذهب ليحصِّل أجرة منزله، وربما لا يعود
قبل العصر (تصعد وهي تتكلم) ومع ذلك، على
هواك. ادخلي المكتبة إذا شئت حتى أعود إليك، ولكن لا تشغلي نفسك بأمرٍ لا فائدة
منه! (تختفي.)
(تظل عطية مطرقة الرأس ثم تمسح دمعها بمنديلها؛ إذ تسحبه من بين شفتي الحقيبة وهي
جالسة على كرسيها وظهرها إلى باب الدخول (١) وتضع كفَّيها على عينيها والمنديل في يدها
اليسرى وتبكي، ولكن لا يُسمع صوت شهيقها، وعندئذٍ يفتح بشير أغا الباب الأول ويدخل ويقف
ممسكًا بأكرة الباب، وهو رجل حبشي ذو سمرة مستحبة ووسامة ظاهرة، في الخامسة والستين من
عمره، لطيف الطلعة، نظيف الملبس بادي الوقار. يكون في يده اليمنى القابضة على الأكرة
عصا وفي اليسرى كتاب وجريدة، وإذ يرى فتاةً جالسة إلى المائدة في حالة هم وتفكير يميل
برأسه ويتمعن ثم يشعر كأنه يتبيَّن ظهر عطية، فيتقدم نصف خطوة أخرى ويقفل الباب من ورائه
وهو يقول لنفسه بصوتٍ متسائل خافت): عطية؟! (عطية ترفع رأسها بلطف وتلتفت عن يسارها،
وإذ
ترى بشير أغا تجهش بالبكاء.)
بشير
:
عطية! (يتقدم مسرعًا إليها ويضع أطراف أصابع يمناه
الممسكة بالعصا على كتفها، وتكون العصا إذ ذاك محمولة على ظهر
الكرسي) ما بك يا ابنتي؟
عطية
(تنهض ببطء وهي مطرقة الرأس، وتخرج مبتعدة عن الكرسي صوب
أدنى المسرح قليلًا، ثم تتناول يمناه فتقبِّلها والعصا فيها، ثم ترجع إلى الوراء
بظهرها منحرفة إلى اليسار)
:
لا شيء (وتمسح دموعها بمنديلها الذي في يدها
اليسرى).
بشير
(يجلس على الكرسي الذي كانت عليه عطية ويتجه إليها)
:
لا شيء! لا يمكن أن يكون بكاؤك بلا سبب، هلم خبريني. اجلسي (مشيرًا إلى الكرسي الثالث الذي أمامه) متى كنتِ
تخفين أمورك عني يا بنيتي العزيزة؟! (يضع الكتاب
والجريدة على المائدة، وتظل العصا في يده اليمنى، وينظر إليها
متمعنًا.)
عطية
(تميل نحو الكرسي الثالث وتضع يدها على أعلى ظهره)
:
لا شيء.
بشير
:
بل تعالي هنا بجانبي (مشيرًا إلى الكرسي الثاني
الأوسط الذي في مواجهة الجمهور) لا بد أن تخبريني.
عطية
(تنعطف من وراء الكرسي الثالث إلى الكرسي الأوسط
وتجلس)
:
مسألة بسيطة بيني وبين أختي.
بشير
:
وأين هي؟
عطية
:
صعدت الآن إلى الحمَّام.
بشير
(يصمت قليلًا)
:
أين كنت بالأمس؟
عطية
:
في السراي.
بشير
:
واليوم، في السراي أيضًا؟
عطية
:
لا، زرت خديجة هانم في الصباح، ثم جئت إلى مصر الجديدة بعد ذلك.
بشير
:
أنا كنت عند خديجة هانم في الصباح. كيف لم أرَك؟
عطية
:
وصلت بعد انصرافك بقليل.
بشير
:
ها، انهضي يا بنيتي، هلم اغسلي وجهك، لا يليق بك أن تبكي، تعالي (يضع عصاه في يساره ويأخذها من يدها ويذهب بها إلى الباب
الرابع) ادخلي اغسلي وجهك، سأحضر لك منشفة نظيفة (تخرج عطية من الباب الرابع، ويعود بشير إلى الوسط وهو
يتكلم) إنها لا تريد أن تخبرني، ولكني أعرف السبب، لا بأس (يتناول الكتاب والجريدة عن المائدة ويخرج من الباب
الثالث).
(وإذا بالدكتور خليل قد فتح باب الدخول (١) على حذر وأخذ ينظر
في المكان.)
خليل
(لنفسه)
:
خالٍ على عادته من حسن الحظ.
(وخليل فتًى في السابعة والعشرين من عمره، رشيق القوام حلو الطلعة، ظاهر أنه خفيف
الروح، وهو رجل مسماح، يعطي لكل شيء وزنًا، فلا يستطيع القطع باطمئنان وحزم. إذا دخل
يتقدم إلى المائدة ويتطلع إلى أعلى ثم يقول لنفسه): أين تكون زهيرة هانم يا ترى؟ (يذهب
إلى الباب الثاني يفتحه بحذر) لا أحد. (يقفله ويذهب إلى عتبة السُّلم) أأصعد؟ لا لا،
لا
يليق أن يتسرع الإنسان في مثل هذه الأمور. (يتقدم نحو المنضد ويميل على الصينية وينحني
على علبة السجائر ويتناول سيجارة ويشعلها ويجلس هناك ويضع طربوشه بجانبه على المقعد،
ثم
ينظر أمامه ويتناول صورة معلَّقة بجوار المقعد وينظر فيها.)
(هنا تبدو عطية هانم آتية من باب الغرفة الرابعة تمسح وجهها بمنديلها ولا ترى خليلًا
لانشغالها بذلك، وإذ يلمحها خليل ينظر إليها من فوق الصورة التي في يده ويبتسم فرحًا
برؤيتها، وإذ تزيح عطية هانم المنديل عن وجهها تلتفت نحو المرآة وتصلح شعرها ثم تميل
نحو المائدة، عندئذٍ تتبين خليلًا فتقف تنظر إليه بهتة جامدة ثم تنصرف على عجل صوب عتبة
السلم وقد غطت وجهها بطرف كمها.)
عطية
:
وي!
خليل
:
سبحان الخلاق العظيم!
عطية
:
وا خجلي (تصعد السلم هادئة حتى
تختفي).
خليل
(يطفئ السيجارة في المنفضة ويتركها ثم ينهض يعلق الصورة حيث
كانت، ويمشي حتى يصل إلى المائدة ويراقب صعودها دَرَج السلم خلسة)
:
ليس في الدنيا أجمل من هذا ولا أكرم، هذي عروسي النبيلة! أجل ولا تردُّد
(ثم يصمت).
(يفتح بشير أغا مصراع الباب الثالث ويدخل ومعه المنشفة دون
الكتاب والعصا، وإذ يرى خليل بك يحييه مؤاخذًا.)
بشير
:
نهارك سعيد يا خليل بك.
خليل
(يُؤخذ)
:
نهارك سعيد يا بشير أغا. متى عُدت من القاهرة؟
بشير
:
منذ قليل. ولكن متى حضرت أنت؟
خليل
:
منذ هنيهة.
بشير
:
هل دققت الجرس؟ إني لم أسمعه.
خليل
:
لا داعيَ إلى ذلك يا عم بشير أغا، إنه لا يدخل هنا إنسان غريب عن
المنزل.
بشير
:
صدقت، ولكن ربما كان في الدار قوم غرباء عنك أو … شبه غرباء.
خليل
:
لا بأس بذلك، أنا طبيب، وشهادة الطبيب مثل جواز المرور يا عم بشير.
بشير
:
إلا في البلد الذي أكون فيه متصرفًا يا دكتور.
خليل
(يضحك)
:
الحمد لله على حسن العاقبة على كل حال.
بشير
(بشيءٍ من الاستياء)
:
هل يسمح الدكتور أن يتفضل بدخول غرفة المكتبة؟ (يشير إلى الباب الثاني.)
خليل
:
لماذا؟ هذا المكان ألطف وأرق من المكتبة.
بشير
:
لكنَّ هنا حريمًا.
خليل
:
مَن؟
بشير
:
حريم!
خليل
:
عطية هانم؟
بشير
:
نعم، أريد إخلاء الطريق لها، إنها الآن محبوسة في هذه الغرفة لا تستطيع
الخروج منها لأنك هنا.
خليل
:
لقد خرجت منها بسلامٍ يا بشير أغا، ولم تدرِ أني في المنزل إلا وهي في منتصف
السلم فاطمئن (مبتسمًا).
بشير
:
كيف ذلك يا سيدي؟
خليل
:
كنت تحت السلم جالسًا على هذا المقعد جلوس القط الأنيس، والظاهر أنها زعمتني
إحدى الوسائد (يضحك).
بشير
:
لو أنك دققت الجرس لتنبهت أنا إلى ذلك ولم يحدث ما حدث.
خليل
:
وماذا حدث لا سمح الله؟ (يضحك) أعوذ بالله
منكم (يجلس على الكرسي الأول).
بشير
:
لا بد أنك ضايقتها بنظراتك يا سيدي.
خليل
:
إني لا أضايق العذارى بنظراتي يا عم بشير أغا (يضحك) هذا طعن يعاقبك عليه القانون (يلتفت إلى بشير وبشير واقف لدى الكرسي) ها ها ها، إذا جاء علي
بك فإني سأوكله في رفع قضية يطالبك فيها بتعويض عظيم، ها ها ها (يُخرِج علبة سجاير فضية ويقدمها مفتوحة لبشير
أغا) تفضل.
بشير
(يأخذ السيجارة وهو يتكلم)
:
لو فطن علي بك لرفع عليك أنت قضية يطالبك فيها بتعويض إن كان في الدنيا
إنصاف.
خليل
:
ها ها ها (يأخذ سيجارة من علبته ويقفلها ويُخرِج علبة
الثقاب ويشعل عودًا ويقدِّمه لإشعال سيجارة بشير أغا ويشعل سيجارته هو أيضًا
وهو يقول) ولمَ يا عم بشير أغا؟ (ينهض من
خجله وارتباكه ويُحضِر منفضة عن الصينية ويضعها على المائدة ويعود فيجلس على
الكرسي الأول.)
بشير
(يدخن ويجلس على الكرسي المقابل وقد وضع المنشفة على الكرسي
الأوسط)
:
أنت أدرى يا سيدي (ينظر إلى الدخان وهو
يتصاعد).
خليل
:
لو كنت أدري لدفعت هذا التعويض من زمن بعيد!
بشير
(بجد)
:
كيف تستبيح لنفسك يا دكتور أن تزور ابن عمك في غيبته؟
خليل
(يتلفت حوله ثم يهدأ ويتكلم بصوتٍ أهدأ من صوت حديثه الأول
وإن كان مضطربًا فيه)
:
جئت أعود مريضًا هنا وعرَّجت، أفي ذلك شيء يُنتقد؟
بشير
:
كيف لا يا دكتور؟
خليل
:
نحن أخوة يا عم بشير، أليس علي بك ابن عمي؟
بشير
:
بلى، ولكن زوجته ليست بنت عمك، ولا أنت من محارمها.
خليل
(بمزيد الاهتمام)
:
أراك تجدُّ يا عم بشير.
بشير
:
كيف لا يا سيدي الدكتور!
خليل
:
هذه أول مرة جئت فيها هذا المنزل؟
بشير
:
كلا يا سيدي، وهذا ما يسوءني.
خليل
:
لماذا يسوءك، أتجد فرقًا بين منزلي ومنزل ابن عمي يا بشير أغا؟
بشير
:
أجد فرقًا عظيمًا يا سيدي.
خليل
:
علي بك لا يجد ما تجد أنت، بل إنه ليأتي منزلي في أي وقتٍ من أوقات الليل أو
النهار، سواء أكنت في المنزل أم لم أكن، ولا سيما يوم يضطره عمله إلى الرجوع
إلى مكتبه بعد الظهر مبكرًا ليقابل أرباب القضايا مثلًا، فإنه يستبعد مصر
الجديدة فيقصد إلى منزلي من فوره وهو لا يتوهم ولا أنا (ينهض) أن هناك فرقًا.
بشير
:
ولكنه لا يجد هناك زوجة لك كما تجد، أو أختًا لزوجة كما وجدت.
خليل
:
إنه يجد شقيقتي.
بشير
:
يجد ابنة عمه، بل يجد أخته. إنهما أخوان في الرضاع كما تعلم، وأنت لا تغار
على أختك كما تغار على زوجتك. سبحان الله!
خليل
:
دع عنك هذا يا عم بشير، هذه أفكار الحزب القديم وقد مات منذ ثلاثين عامًا
والحمد لله، ها ها ها.
بشير
:
ولكني حي يا سيدي.
خليل
(بغضب)
:
وماذا تجد في زيارتي هذه من العيب؟ هذا شيء غريب جدًّا.
بشير
:
سبحان ربي! أجد على الأقل أنها شغلتك عن الالتفات إلى عملك، وأنت في مقتبل
العمر. كما أنها أدَّت بابنتي زهيرة هانم إلى النفور من زوجها علي بك لأنك
أفسدتها بلهوك ومرحك.
خليل
:
لهوي ومَرَحي!
بشير
:
لقد أصبحت مشغولة بك.
خليل
:
مشغولة بي!
بشير
:
وأنت مشغولًا بها، وأخشى سوء العاقبة يا سيدي.
خليل
:
حقًّا إني أحبها، ولكنه حب أخ لأخته كما تعلم.
بشير
:
لقد كانت هذه حجة سيدي المرحوم الباشا يوم أحب زوجة ابن خاله فريد باشا، ثم
اتضح أنه كان يعشقها، وكاد الأمر يؤدي بالرجلين إلى ضرب الرصاص.
خليل
:
ولكنك يا عم بشير سيئ الحكم عليَّ، أنت تعرف أن تربيتي وأخلاقي وعلاقاتي
الخاصة بعلي بك …
بشير
(يقاطعه ويتكلم بصوت المقتنع الذي يرى أن رأيه لا يحتمل
تعديلًا)
:
خليل بك ولدي، لا تؤاخذني. التربية والآداب اللطيفة والعلاقة الأهلية أو غير
الأهلية لا أثر لها في تربية القلب وعلاقاته، إنها لا تغيِّر الفطرة. كلا يا
بني، إن الإنسان مسيَّر في مسائل القلب بدافع فطري حلو شهي يسوقه إلى العشق من
حيث لا يدري، ولذلك منعوا اختلاط الرجال بالنساء إلا إذا كانوا محارم، بل إن من
الناس مَن يمنع اختلاط المحارم أيضًا. ولعمري إنهم لعلى صواب، ولا سيما في هذا
الزمان الفاسد.
خليل
:
ها ها ها، ما رأيت قبل الآن أغا فيلسوفًا.
بشير
:
لست فيلسوفًا يا سيدي، وإنما هذا كلام عادي يقوله كل إنسان، أكلما سمعتم مني
كلمة صحيحة استكثرتموها عليَّ؟ عجبي لكم! كلكم تستغربون أني أكلمكم هكذا،
لماذا؟ ألأني خصيٌّ؟ سبحان الله! ما علاقة هذا بما أتكلم فيه؟ لو كنتم متعلمين
حقيقة لعرفتم أن هذه البلاد قد حكمها وحكم أصقاعها ألف خصيٍّ وألف أسود فيما
مضى، وكم كان قائد جيوشها من الخصيان السود أو البيض! ومَن تكون أنت يا دكتور لو
لم تتعلم الطب؟ (يبرز شفتيه قليلًا) أفندي
عادي. ومَن تكون لو لم تتعلم مطلقًا؟ لا شيء، مثل الخادم حسن سواء بسواء، ولا
مؤاخذة.
خليل
:
صحيح والله صحيح.
بشير
:
أنا تعلمت وقرأت، ولولا هذا لبقيت كأكثر الأغوات وغير الأغوات، أنت قرأت
علمًا، وأنا قرأت أدبًا ودينًا. واليوم لي خمس وستون سنة أو تزيد قضيت منها
خمسين سنة بين التعلم في الأزهر وتعليم كل جواري السراي وبناتها من عهد المرحوم
الباشا الكبير، ومنهن زهيرة هانم وعطية هانم في آخر هذه الأيام السوداء. يا ألله،
ما أشد عجبي منكم!
خليل
:
معذرة يا عم بشير، أنا لا أقصد أن أنتقص قدْرك أبدًا.
بشير
(بجد)
:
والآن يا بني أريد منك وعدًا تخلص فيه، هو أن تقطع صلتك الشديدة بزهيرة
هانم.
خليل
(متضايقًا ثم مندفعًا)
:
قد كان هذا معقولًا لو لم يكن لي مأرب شريف من وراء صلتي هذه بزهيرة هانم يا
عم بشير، إن هواي غير موجَّه إليها.
بشير
:
إلى مَن إذن؟
خليل
:
إلى عطية هانم.
بشير
:
إلى عطية هانم؟
خليل
:
أجل وربي.
بشير
:
ولكني أراك قد جاوزت المدى يا دكتور.
خليل
:
الحقيقة أنني أصبحت أرى زهيرة هانم بمثابة أخت أو أم بعد ما صح عليه عزمي من
زواجي من عطية هانم، وأنت تعرف أني لا أطيق أن تكون حياتي كلها ملاقاة
مرضى يا
عم بشير (ينهض ويتمشى) أما يجوز
لي أن أزور أهلي (يتقدم وراء بشير أغا ويضع يده اليسرى على كتفه وبشير جالس)
وأقربائي وأهل التي أشتهي زواجها، ولا سيما إذا كان هذا الزواج معلقًا على
إرادتهم بشرطٍ، الإخلال به محفوف بكل مكروه؟
بشير
:
إذا كان حقًّا فإني أهنئك يا سيدي الدكتور بهذه الفكرة؛ لأنك إذا تزوجت حفظت
نصف دينك، فإذا كانت الزوجة صالحة مثل عطية هانم حفظتْ هي عليك النصف
الآخر.
خليل
(بسماحة ولطف يمشي عنه إلى زاوية المائدة الواقعة بين
الكرسي الأول الأوسط)
:
هنا أخطأ الفيلسوف ولا مؤاخذة.
بشير
(بدهشة)
:
لماذا؟
خليل
:
لأن الزواج لا يدوم اغتباط المرء به زمانًا طويلًا، وربما أدَّى إلى الشقاء
وضياع الدين كله يا عم بشير، ها ها.
بشير
(بتغيظٍ وتعجُّب)
:
لماذا؟
خليل
(ينظر في وجه بشير أغا ثم يرفع رأسه كأنه يتكلم كلام
الواثق)
:
لأنه في نظري أمرٌ غير فطري.
بشير
:
غير فطري! إذن فما هذه الزوجيات؟
خليل
:
نُظُم مصطنعة وأوضاع مزوَّرة أصبحت عادة مرعية.
بشير
:
نُظُم مصطنعة وأوضاع مزورة؟! الناس على هذه الحال من عهد سيدنا آدم يا
دكتور.
خليل
(ضاحكًا)
:
وماذا في ذلك؟ الناس مكذوب عليهم من عهد سيدك آدم يا عم بشير.
بشير
(باستياء)
:
أستغفر الله! أستغفر الله! أأنت كذلك يا دكتور؟
خليل
(بسرعة وهو يضحك)
:
لا لا، لا والله يا عم بشير، هذا مزاح. إنني بالطبع رجل متدين، ولكني حسبتك
من الفلاسفة حقيقةً فأخت أهذي هذيانهم.
بشير
:
آمنت بالله ورسوله.
خليل
:
وماذا يهمك أنت يا عم بشير أغا (يضحك) أن
يكون الزواج فطريًّا أو غير فطري.
بشير
(بجد)
:
تهمني عطية هانم وزهيرة هانم على الأقل يا دكتور، أتريد أن يعيش الناس في
سفاح؟!
خليل
:
حاشا لله يا عم بشير، حاشا لله!
بشير
:
أنت إذن لا تريد الزواج من عطية هانم وإنما أنت تخادع، إنك تعشق هذه الفاجرة
زهيرة وهي تعشقك، وما قصة زواجك من عطية هانم إلا ستار للخيانة، ولكي …
خليل
:
أسأت إليَّ يا عم بشير، أسأت وتربة أبي! إني أحب عطية هانم حبًّا خالصًا،
وأتمنى أن أعقد عليها الساعة إذا استطعت، ولكني لا أملك المهر لسوء حظي؛ لأني
لم أَعُد من إنجلترا إلا منذ أشهر قليلة، والعيادة حديثة العهد، وإيراد الوقف لم
يجب بعدُ.
بشير
:
ولماذا كلمتني اليوم خديجة هانم في شأن زواجك من عطية إذا لم تكن
مستعدًّا؟
خليل
:
إني أنا الذي كلَّفتها بهذا؛ فقد بلغني كما بلغها أن عطية هانم مطلوبة لخاطب من
أقرباء السراي، فأردت أن أحول دون هذا، ولقد جئت اليوم في الحقيقة لألتمس من
علي بك ومن زهيرة هانم على الأخص أن تعدني بها دون ذلك الخاطب حتى ييسرها الله
في وقتٍ قريب، ولكني أخشى مع ذلك أن ترفض زهيرة هانم رجائي لأنها سيئة الظن بكل
طبيب، هذه قصة حالي والله على ما أقول شهيد.
بشير
:
الحمد لله على ذلك، لقد اطمأن قلبي الآن. مبارك إن شاء الله، أنا أفاتح زهيرة
هانم وعلي بك في الأمر سريعًا، وأنا كفيل بموافقتهما (ينهض) ما لزهيرة هانم لم تأتِ؟
خليل
:
إنك لم تشأ أن تعلنها بحضوري.
بشير
:
إنها في الحمَّام على ما أعلم (ينادي) زهيرة
هانم (سكوت ثم يصفق وإذ لا يرد عليه أحد
ينادي) زهيرة هانم.
زهيرة
(من أعلى)
:
أفندم.
بشير
:
الدكتور خليل بك شرَّف.
زهيرة
:
خليل بك؟ أهلًا وسهلًا، بونجور يا دكتور.
خليل
:
بونجور يا زهيرة هانم.
زهيرة
:
سأنزل على الفور، خمس دقائق (تنادي) بشير
أغا!
بشير
:
أفندم (يُسمع صوت أقدام على سطح
المسرح).
زهيرة
(من أعلى)
:
أخلِ الطريقَ واصحبِ الهانم إلى المترو أو المنيل إذا شئت (يكون كلامها من ابتداء علمها بوجود خليل لغاية انتهاء
حديثها مع بشير مسموعًا بشكلٍ واضح لحضورها إلى الشرفة العليا بالدور
الأعلى تنزل منها إلى البهو).
خليل
:
إذن فأنا أخلي الطريق، أين أذهب؟
بشير
:
حيث شئت يا دكتور، ادخل غرفة المكتبة.
خليل
:
أنا لا أطيق الحبس، سأختفي في الحديقة. أيرضيك هذا؟ (يضحك خارجًا من الباب الأول.)
بشير
(لا يضحك لانشغاله بأمر هذا الإخلاء)
:
لا بأس، تفضلي يا عطية هانم (لنفسه وظهره متجه إلى
السُّلم) إنها تريد أن تخلي الجو لها، ترد أختها إلى مصر القديمة في
الظهر ولا تستبقيها حتى تتغدى معها، لن أمكِّنها من ذلك.
(تنزل عطية هانم على دَرَج السُّلم ووجهها مكشوف وهي بادية الهم،
فإذا وصلت إلى البسطة تتلفت في المكان بلطفٍ كأنما تبحث عن خليل بك. وبشير أغا واقف
ينظر إليها بعينَي متفحِّص حزين، فإذا وصلت إلى آخرِ الدَّرَج خاطبها.)
بشير
:
سرِّي عنك، سيفرِّج الله عنك عما قريب. ويحي! ويحي! تبكين يا عطية وأنا
موجود.
عطية
(وهي على آخر الدرج)
:
إنك لن تراني في هذا المنزل بعد اليوم.
بشير
:
لماذا؟ (يسير بها صوب المائدة من
يسار.)
عطية
(تصلح رأس ملاءتها وبرقعها)
:
لأن أختي لا تريد لي ذلك.
بشير
:
لماذا؟ ماذا حدث؟
عطية
:
أنا عثرة في طريقها.
بشير
:
أية طريق؟
عطية
:
طريق زواجها من خليل بك.
بشير
(دهشًا)
:
زواجها من خليل بك! أليست متزوجة؟!
عطية
:
إنها تريد أن تحمل علي بك على طلاقها.
بشير
:
أهي قالت لك ذلك؟ (عطية لا ترد) خبريني،
لماذا لا تتكلمين؟
عطية
:
أجل هكذا قالت لي، هيا بنا (تميل نحو الباب
الثالث).
بشير
:
انتظري قليلًا، ليس هذا بالأمر اليسير. هذا شيء جديد لم يكن في الحسبان
(يتكئ على ظهر الكرسي ثم يسكت ويفكر)
تالله لا أدري ماذا أصاب زهيرة في عقلها ودينها (بسرعة) دعيها تمنِّي نفسها ما تريد وتشتهي، ما كل مأمول يتحقق
(يسكت ثم يميل على عطية ويُسِرُّ إليها في
أذنها) إنه يريدك أنت لا هي، وقد أتى اليوم بمحض اختياره ليخطبك
إلى أختك وعلي بك رسميًّا.
عطية
:
قد تكون خطبته كما قالت زهيرة دريئةً وستارًا (تنظر
إليه متطلعة).
بشير
:
لا لا، لقد أقسم لي بقبر أبيه أنه يحبك حبًّا خالصًا، وأنه يرجو أن نمهله حتى
يستعد للعقد؛ إذ أبلغته أخته خديجة هانم ما كان من أمر ذلك البك الذي جاءنا منذ
أسبوع يتكلم في شأنك لولده. ويتمنَّى خليل بك لشدة حرصه عليك أن يستطيع العقد
عليك اليوم، هذه كلماته بنصِّها على ما أذكر. ولا شك عندي يا بنية في صدقها، إن
للصدق نغمةً وانسجامًا لا تجدينهما في الكذب والاحتيال.
عطية
(تغض من طرفها)
:
ستمنعه أختي وترفض رجاءه، ألم أقل لك إنها تريد أن تتزوج منه، وما دام أمري
في يدها …
بشير
:
هذا شأني، هذا شأني. أمَا وربي لأفضحن الأمر إذا هي رفضت، ولأنتقمن لك منها
ومنه إن كان ما تقولين حقًّا.
عطية
:
لا، لا يا أبي. لا يُصِبْه من أجلي أذًى (تنظر
إليه) إني أحبه يا أبي، أحبه.
بشير
:
تحبينه؟
عطية
:
أجل يا أبي، وهو يحبني، يحبني حقًّا. أنا أعرف ذلك حق المعرفة.
بشير
:
تعرفين أنه يحبك؟
عطية
:
أجل يا أبي.
بشير
:
من أخته خديجة هانم؟
عطية
:
بل منه بالذات يا أبي.
بشير
:
متى كان ذلك؟
عطية
:
منذ شهرين، منذ كنت مريضة بالحمى وهو يعالجني.
بشير
:
ماذا قال لك؟
عطية
:
أعفني يا أبي، أعفني، أنا أعلم أنه يحبني وكفى.
بشير
:
ولكني أريد أن أعرف، قولي يا بنيتي العزيزة أتخشينني؟
عطية
:
قال لي وقد أفقت من غيبوبة الحمى: أما آنَ أن تعرفي مَن ينظر إلى وجهك يا عطية
ويراقب آيات الجمال تعود إليه؟ فقلت وأنا مغمضة العين أشرعهما بالجهد حياءً
وسعادة: أنت الدكتور خليل بك. فابتسم وردَّ قائلًا: فأنت إذن لا تعرفين، أنت لا
تزالين في غيبوبة الحمى. فعجبت لكلامه، وقلت: ألست الدكتور خليل بك؟ فأشرق وجهه
وطرب، ونظر إليَّ بعينين أحسست أنهما تصبان في قلبي شؤبوبًا متدفقًا من السحر
وغبطة النعيم. وقال: إن اسمي عذب من فمك، ولكنك بعدُ لا تعرفين مَن أنا.
بشير
:
يا ألله!
عطية
:
ولقد خُيِّل إليَّ بعد ذلك أني في غيبوبة حقيقة لأني أحسست أني في عالم غير هذا
العالم، أو أني في حلم طويل صاغته الملائكة من مجالي الفردوس، وكأني أقول له فمن
أنت إذن؟ وكأنه يقول لي: أنا مَن أنتِ عروسه عما قريب.
بشير
:
بإذن الله.
عطية
:
أسرَّها ثم نهض واختفى، وبقيت في تلك الغيبوبة ساعة أو تزيد ذكرتُ فيها يُتمي
ووحدتي وانقطاعي عن الأهل في هذه الدنيا، وأني وجدت في وحشة حياتي أخًا وحبيبًا
وزوجًا. فبكيت يا أبي، أجل بكيت فرحًا واغتباطًا وشكرًا لله (بشير يتأثر).
ولكن خيَّب ظني اليوم ما رأيت، تهدمت آمالي وتبددت أمانيَّ وأحلام صوَّرتها
بيتًا وبستانًا وأولادًا وزوجًا محبًّا ومحبوبًا، رأيت بيني وبينه حائلًا لم
تضعه يده ولا علمَ له به، بل وضعته يد أختي التي أعددتها للدهر!
بشير
:
يا ألله!
عطية
:
أبي بشير! اجمع بيننا بحق بنوَّتي عليك وحبك لابنتك المسكينة عطية (تبكي وهي متطلعة إليه ثم تسقط على ركبة بشير أغا وتجهش
بالبكاء).
بشير
(يمسح دموعها ويربت على كتفها)
:
انهضي يا بنيتي، انهضي، سأفعل كل ما فيه رضاك وإصلاح الحال (ينهضان ممسكًا بيدها اليمنى ثم يسير بها صوب الباب
الثالث) يا ألله من نزق الشباب وغواية الشيطان! (يخرجان من الباب الثالث.)
(يخلو المسرح ربع دقيقة يُسمع في أثنائها وقع أقدام زهيرة على
شرفة الدور الأعلى ثم على الفخذ العليا من السلم، ثم تلوح وهي نازلة على الدرج
المنظور وهي لابسة فستانًا أحمر زاهيًا ومتحلية بالجواهر.)
زهيرة
(تكون وسط السلم تنادي)
:
خليل! (وإذ لا يرد عليها أحد تطل من فوق الدرابزين
وتنادي مرة أخرى) خليل! (تسرع في نزولها على الدَّرَج وتذهب من فورها إلى الباب
الثاني وتفتحه وتطل، ثم تقفله وتخرج إلى الشرفة وتنادي) خليل!
(تعود.)
خليل
(من تحت الشرفة)
:
هالو.
زهيرة
:
تعالَ (تتمشى إلى منتصف المسرح ثم تلتفت صوب الباب
فتراه في الشرفة وتقول) أين أنت؟
خليل
(يدخل من باب (١) وإذ يراها في جلوتها التي نزلت بها يقف بعد
الباب بخطوة أو اثنتين وقفة إعجاب)
:
ما هذا الجمال الرائع يا زهيرة؟! أنت فتنة للعين والقلب. (يدنو منها وتدنو منه ويمد ذراعيه للسلام بكلتا يديه، وإذ
تدنو منه يهم أن يحتضنها ولكنها تمنع نفسها إغراء له، فيعود إلى حالته وقد
أمسك كلٌّ منهما بيدي صاحبه) إنني في انتظار هذا القوام الفاتن منذ
ساعة.
زهيرة
:
أين أنت منذ ثلاثة أيام؟ إنك أصبحت مشغول القلب عنا.
خليل
:
كيف يُشغل القلب عن مثل هذا الجمال يا زهيرة؟ أم أنك لا تعرفين ما لك على قلبي
من سلطانٍ مبين؟
زهيرة
(تجلس على الكرسي الأول وتكلمه وهو واقف ويداها في
يديه)
:
ولماذا لم تأتِ أمس ولا أول من أمس؟
خليل
:
بالرغم مني والله يا زهيرة، يعلم الله أني لا أشتاق مجلسًا غير مجلسك، ولا
أحب حديثًا أكثر من حديثك، بل لعمري إني لأشتهي أن أقضي الليل والنهار
معك.
زهيرة
:
فما منعك عنا هذه الأيام؟
خليل
(يترك يديها)
:
لم أعد أستطيع أن أتردد عليك كعهدي بالأمس؛ فقد علمت أن بشير أغا يكره هذا
مني ومنك. واليوم أفهمني أنه يراني غريبًا عنك وعن منزلك.
زهيرة
(تنظر إليه مستفسرة)
:
كيف؟ أهو حادثك اليوم في شيء؟
خليل
:
لقد كشف عما في قلبه صراحة، وأفهمني أنه يرتاب في علاقتنا.
زهيرة
:
صحيح؟
خليل
:
ورجا مني أن أقطع صلتي بك (زهيرة تصمت)
أراكِ سكت!
زهيرة
:
هذا ما قاله لي ذات يوم، ولكن لا يَعْنِكَ أمره. إنه لا يستطيع أن يكشف لنا
سرًّا، ومع ذلك فإني سأرده إلى السراي.
خليل
(يصمت قليلًا)
:
إنك إن تفعلي ذلك أيقن أنك تبعدينه عمدًا، ولن يصبر على ذلك، وقد يؤذينا من
حيث يريد الإصلاح.
زهيرة
(تنهض وهو ينتحي قليلًا إلى يمين المسرح)
:
إذن فماذا نفعل؟ (تذهب إلى الكرسي الأوسط وتقف
وراءه ممسكة بظهره في مواجهة الجمهور.)
خليل
(يهز أكتافه بلطف ويدنو من الكرسي الذي كانت جالسة عليه،
ويجلس ثم يتكئ على المائدة ويسند رأسه)
:
آه يا زهيرة، لا أعلم. إني أتمنى أن أراك في كل وقت ولكني لا أطيق أن أجيء
إلى هذا المنزل بعد اليوم، بل لقد صممت على ذلك فعلًا.
زهيرة
:
إذن فليكن لقاؤنا في غير هذا المكان، لقد قال لي هذا بشير أغا نفسه.
(يُفتح الباب الثالث ويدخل بشير أغا مضطربًا، ولكنه يظل
ممسكًا بالمصراع يهزه من الاضطراب والكدر، وإذ رأياه التفتت إليه زهيرة مذعورة
ثم مغمضة لا تتحرك من موقفها إلا خطوتين نحو باب الدخول، أما خليل فينهض ويدور
حول المائدة حتى يصل إلى جانبها الأيسر بالنسبة للمتفرج ماثلًا صوب باب غرفة
(٤) وهو في حالة اضطراب وخجل.)
زهيرة
(بغضب)
:
ما بك يا عم بشير؟
بشير
:
أنا لم أقل لك قابليه في هذا المكان ولا غيره، لماذا تحرِّفين الكلام يا
ابنتي؟ حرام عليك، حرام والله! كيف أشير عليك أن تؤذيني في نفسي وشرفي! كيف
أخون فيك أمانة سيدتي الكبيرة، أو أخادع ولدي علي بك! أوَأحتمل (يدنو من المائدة ويتكئ عليها) أن أرى كيف
تتدهور ابنة لي ربيتها خمسة عشر عامًا، وعلَّمتها أصول دينها وحقائق دنياها!
أوَأطيق أن يُقال عني يوم ينكشف سرك، ويظهر هذا الغرام الفاسد للأقرباء والبعداء
إنني كنت أغمض العين على ما أرى؟!
زهيرة
:
لقد أصبحت سليط اللسان يا عم بشير أغا.
بشير
:
أنت التي تدفعينني إلى القول صراحة، لقد طالما نهيتك عن رأيك هذا، وطالما
نصحتك فلم تنتصحي ولم ترعوي. ولولا أني مسئول عنك أمام الله ونفسي وروح من قضوا
ما رأيت مني بعض هذا.
زهيرة
:
ولكنك أصبحت قليل الرعاية لي، ليس هذا من علائم المحبة الوالدية.
بشير
:
لو كنت قليل الرعاية أو لو كنت رجلًا أحمق لا يبتغي الإصلاح، أو لو كنت أريد
بك سوءًا لا خيرًا لنبَّهت علي بك إلى ما أرى.
خليل
:
إنك أبوها يا بشير أغا، محال أن تفعل هذا.
بشير
:
رعايتي لك لا تكون كما تريدين، إني بارٌّ بك وبسادتي وسادتك، أما أنت فقد
انتزع الله البِرَّ من قلبك لغايةٍ لا نعلمها، خنت عهدي وعهد الست الكبيرة في نفسك
وفي أختك، واليوم تخونين عهد زوجك وتخونين عهد هذا الفتى المسكين، دخل عليك
أخًا ونسيبًا، فشئت إلا أن يكون عاشقًا وخائنًا لابن عمه وصديقه وأخيه.
خليل
:
ما هذا الكلام يا عم بشير؟
بشير
:
تالله لا أجد عليه لومًا، إنما اللوم والذنب عليك. إنما هو عصفور تنظر إليه
أفعى، فلا يدري كيف الخلاص إلا أن يسلِّم أمره إلى الهلاك، ولو أخليته الآن
لانصرف عنك من فوره إلى سواكِ، أطلقيه يا بنيتي واتقي الله فيه، لا تفسديه على
نفسه وعلى الدنيا. دعي هذا الفتى لأنثى سواك، ودعْ أنت هذه الأنثى لزوجها، والله
إنها لكاذبة فيما تدعي من حبك، ووالله إنك أيضًا لكاذب مخادع، ولكنها شهوة
حاضرة وغلمة طافرة علقتها عليك.
زهيرة
(بحدة)
:
أنت رجل وقح قليل الحياء (تتركه داخلة في الغرفة
الثانية).
خليل
(ينادي)
:
زهيرة هانم، زهيرة (يمشي نحوها) ما هذا؟
لا يليق أن تُغضِبي بشير أغا مهما آلمك بكلامه، إنه أبوك يا زهيرة، ووالله إنك لا
تجدين أحنَّ عليك منه. تعالي، تعالي (يدخل عليها في
الغرفة الثانية ويتكلم وهو هناك) هلم انهضي، لا، لا يليق
هذا. زهيرة أوه!
بشير
(يقف مكانه متألمًا مضطربًا، ثم يندفع إلى الباب الثاني
ويقف بجواره)
:
إنه ليحزنك هذا الكلام، بل يقتلك لأنه يكشف له سريرتك التي لا يدركها، ويزيح
الستار عن قصدك منه، وهو غير ما تريدين أن يظن. ويحزنك أن أريك أية هاوية
تريدين أن تتردي فيها أنت وهذا الفتى، ولكني أعلن وأنذر أني عزمت أن أهدم حياتي
بيدي قبل أن تهدميها أنت على رأسي، وسأكون وقحًا حقًّا، وقليل الحياء حقًّا،
ولي أسوة فيمن قال: «عليَّ وعلى أعدائي يا رب» (يتراجع).
خليل
(يأتي من الغرفة مغضبًا)
:
إنك تتكلم كمن رأى علينا سوءًا. كفى، كفى. لن آتي هنا بعد اليوم إكرامًا
لخاطرك يا عم بشير (يخرج من الباب الأول مغضبًا عاري
الرأس).
زهيرة
(تأتي من الغرفة الثانية مهتاجة وتواجه بشير)
:
إذا لم تعجبك هذه العيشة فارجع إلى السراي، وافعل ما تشاء، أنا لا أبالي
بتهديدك ولا وعيدك. هيا اخرج على الفور والْحَقْ بالبلهاء، إنك والله لتنيلني
منتهى القصد إذا هدمت هذا البيت على من فيه.
بشير
(بعد صمت)
:
تطردينني من بيتك! تقولين لي أخرج! لي أنا! أبوك! (يضطرب.)
زهيرة
:
لا شأن لك معي، ولا حاجة لي بك، ارجع إلى السراي.
بشير
(يقف مضطربًا متهدج الصدر، يحاول الكلام فتسبقه العبرات)
:
أرجع
إلى السراي، أرجع إلى السراي، سأرجع إلى السراي. ليس في ذلك أذًى لي، ولا أنا
طالب منك إحسانًا لبقائي هنا، إني غني عنك وعن السراي أيضًا، ولكني سأرجع على
الفور. فطيبي نفسًا، وافعلي بنفسك ما تشائين (تخنقه
العَبرات) ها أنا ذا خارج (بصوت أبح وينظر
إلى أعلى) أشهدك اللهم أني بلغت، أشهدك أني بلغت، سلام يا ابنتي
(يتقدم نحو الباب الثالث) الوداع الوداع
(يُخرِج منديله ويمسح دموعه وهو يبكي ويخرج من
الباب الثالث على مهل).
(ثم يُسدل الستار على الفصل الأول بهدوء.)