المنظر
عين منظر الفصل الأول
(يُرى باب الدخول مفتوحًا عند إزاحة الستار، وزهيرة في الشرفة تطل في
اتجاه سلمها، ثم تلفت متمشية إلى سياجها كأنها تبحث عن شيء، ثم إذ لا تجد بغيتها تعود
إلى الشرفة داخلة المسرح ومتجهة إلى زر الجرس المدلى من ثريا المائدة، وتظل ممسكة به
تدقه فيُسمع له صوت بعيد مستمر فتتركه وتجلس على الكرسي (١) وقد وضعت ساقًا على ساق،
واتجهت عينها إلى الشرفة، وهي في حالة قلق نفساني.)
زهيرة
:
لا أثر له في الحديقة، أين ذهب يا تُرى! لا يمكن أن يكون قد عاد إلى القاهرة
عاري الرأس، إن طربوشه لا يزال على المقعد (تقبض على
زر الجرس وتدقه فيُسمع له صوت بعيد مرة أخرى) لماذا لا يجيء
الخادم؟! آه! إنه ذهب يحمل أمتعة بشير أغا إلى المترو. لا بأس، لا بد أن يعود
خليل حين يتبين أنه نسي طربوشه هنا (تنهض وتذهب إلى
المقعد وتأخذ الطربوش عنه وتنظر فيه ثم تشمه) آه (ثم تقبِّله قبلة طويلة وتسير به عائدة إلى باب الدخول،
وتهم بالخروج فتسمع صوت أقدام صاعدة فتعود بسرعة إلى المائدة، وتجلس على
الكرسي الأوسط وتضع الطربوش على المائدة).
(يُرى خليل صاعدًا في السلم وماشيًا في الشرفة متجهًا إلى باب
الدخول، ويدخل وهو صامت عليه شيء من الكدر والوجوم، ويتقدم نحو المائدة فإذا وصل
إليها وقف ومد يده ليأخذ الطربوش، فتسبقه زهيرة وتأخذه في يدها وتطوِّح بذراعها وراء
ظهرها.)
زهيرة
:
لماذا؟
خليل
:
هاتي الطربوش.
زهيرة
(متطلعة إليه)
:
اجلس.
خليل
:
أريد أن أرجع إلى القاهرة.
زهيرة
:
بحثت عنك في الحديقة، وفي كل مكان فلم أقف لك على أثر، فقلت لا بد أن تكون
خرجت لتركب المترو عائدًا.
خليل
:
هو كذلك (لا يزال مادًّا يده).
زهيرة
:
عاري الرأس!
خليل
:
لم أعرف أني كذلك حتى جلست في العربة ورأيت صورتي في مرآتها، أعطني
الطربوش.
زهيرة
(تناوله الطربوش)
:
تفضل (يتناوله منها ويلبسه وهي تنظر إليه
متفحصة) اجلس.
خليل
:
لا لا، لا بد لي من العودة إلى القاهرة على الفور.
زهيرة
(بلا اعتداد)
:
لماذا؟
خليل
:
لا أدري، أشعر بضيقٍ شديد.
زهيرة
:
وأنا، ألا ترى أني على مثل حالك؟ (سكوت)
كيف تتركني على هذه الحال! إنك إذن لا تحبني.
خليل
(وهو متجه إلى الجمهور ومستند بظهره إلى المائدة)
:
كيف تقولين هذا يا زهيرة؟
زهيرة
:
محال.
خليل
:
أنت قاسية الحكم يا زهيرة.
زهيرة
:
وأنت قاسي القلب يا خليل.
خليل
:
كلا والله، ولكنَّ بي ضيقًا شديدًا وأخشى أن أقر شيئًا لا يكون فيه إلا الضرر.
إذا كانت نفسي في حيرة من أمري قبل أن أرى وجه بشير أغا، فكيف بي الآن وقد
رأيته وسمعت كلماته، وفيها كما رأيت تهديد صريح، إني لا أطيق أن تحف الشكوك من
حولنا.
زهيرة
:
لا تعبأ به، إنه لا يجرؤ أن يفشي لنا سرًّا. أمَا سمعت ما كان يقول؟ لقد
تحديته أن يهدم هذا البيت على مَن فيه كما أوعد وأنذر، فانهدَّ هو وتهدم وراح
يبكي فقدان سلاحه الذي شهره في وجهي.
خليل
:
ولكن رجوعه إلى السراي يستدعي السؤال، وقد تبدر من فمه كلمة يذهب أهل السراي
في تأويلها كل مذهب، وأراك يا زهيرة لم تحسني صنعًا.
زهيرة
:
إني رأيته قد آذاك بكلماته، ورأيتك لم تطقه، وخفت ألا أراك بعد اليوم، فغضبت
وكان ما كان.
خليل
:
ولكني أرى أن أفارق هذه الدار، بل مصر بأجمعها، مدةً من الزمن، سنة أو سنتين حتى
أصرف عنك ظن السوء وعني. إني لا أطيق أن يتوجَّس ابن عمي أن بيني وبين امرأته …
زهيرة
(تقاطعه)
:
إذن فأنت لا تحبني.
خليل
:
لِمَ؟
زهيرة
:
لا والله!
خليل
:
كيف تقولين هذا؟
زهيرة
:
تريد أن تتركني في الشقاء عامين.
خليل
:
والله ما أردت ذلك، وإنما أرى دواء الحالة ألا يرى أحدنا صاحبه، ولا يجتمع به
حتى تهدأ ثائرة بشير أغا، بل لعمري لقد أصبحت أحس كأنما الناس كلهم عرفوا سر
الهوى بيننا (يذهب إلى الكرسي الثالث ويجلس
مفكرًا).
زهيرة
(تنهض وتذهب إليه مارة وراء الكرسي الأوسط)
:
هبْ أنك فعلت ذلك، غبت عامين أو أكثر أو أقل ثم عُدت إلى مصر، أتهجرني يومئذٍ
ويموت الحب في قلبك يا خليل؟
خليل
:
كيف يموت حبي إياك يا زهيرة؟ (تنهض ويلتفت إليها وهي
تميل عنه صوب الباب الرابع فيلتفت وراءها.)
زهيرة
:
لعمري لا يطاوعك قلبك، بل لا بد أن تعود إليَّ لتراني أو لتزور قبري يا
خليل.
خليل
:
أنت تجرحين قلبي يا زهيرة بهذه الكلمات.
زهيرة
:
أفلا يكون مجيئك إليَّ مريبًا؟ وتكون إذ ذاك راغبًا في دفع الريبة عنك وعني
كما ترغب الآن؟ وربما رأيت دواء الحالة أن تفارقني عامين آخرين، وهكذا حتى
ينقضي العمر بين الشوق والفراق؟
خليل
(سكوت قليل)
:
هذا صحيح.
زهيرة
:
إذن فلماذا الفراق؟
خليل
:
ألم أقل لك إن رأيي لا يُعوَّل عليه الآن، إن الضيق يُخيِّل إليَّ … (يجلس على الكرسي الذي كان عليه ويتكئ بمرفقه على المائدة
ويسند صدغه على راحة يده اليسرى.)
زهيرة
:
وكيف تتركني على هذه الحال وتمضي إلى القاهرة؟ أتهون عليك زهيرة يا خليل؟
(تذهب إليه وتحادثه كذلك وتميل عليه في آخر
كلامها.)
خليل
:
ما كان صوابًا ما أردت (يرفع وجهه إليها وهو
جالس).
زهيرة
:
إذن فقبِّلني (تميل نحوه وتقبِّله هي).
خليل
(يمد ذراعه إلى أعلى ويتناول رأسها ويقبِّلها قبلةً
طويلة)
:
ما أسعدني!
زهيرة
:
قل إنك تحبني.
خليل
:
أحبك يا زهيرة، أنت كل مناي، أنت كل حياتي (يميل
بوجهه عنها) ولعمري إني لأتمنى الآن (ناظرًا إليها) لو أستطيع حملك بين ذراعيَّ، ثم أسير بك إلى منأًى
من الأرض، ولو في الجبال، أقضي به بقية أيامي معك كالطير في الخلاء بعيدًا عن
قوانين هذا العالم وأحكامه.
زهيرة
(تميل نحو المقعد وهي ناظرة إلى خليل)
:
ولماذا لا تفعل؟ إن الحب لا يعرف القانون.
خليل
(يعتدل في جلوسه ويتجه إليها ويتكلم بأسف)
:
أجل، وكذلك القانون لا يعرف الحب، أليس للزوج على زوجته ألف حق؟
زهيرة
(تذهب إلى المقعد وتجلس وتحاسبه)
:
أكنت تشتهي لو أنني كنت لك يا خليل؟
خليل
:
كيف تسألينني هذا السؤال يا زهيرة؟
زهيرة
:
ماذا تعني؟
خليل
:
إنك كمن يعرض الوردة العتيقة الجميلة في غلاف من الشوك.
زهيرة
:
من يطلب الوردة لا يبالي بشوكها.
خليل
:
أخشى أن يدمي الشوك أنامل اليد فلا تستطيع تناولها.
زهيرة
:
وهل تنتظر حتى يزول الشوك من تلقاء نفسه أم يجب أن تلتمس الحيلة في
اجتنابه؟
خليل
:
هذا ما يجب أن نفكر فيه.
زهيرة
:
نعم.
خليل
:
ولكن هل ترين علي بك ينزل عنك بهذه السرعة؟
زهيرة
:
ليس لك شأن في هذا، سأدبِّر الأمر بنفسي.
خليل
(سكوت)
:
ولكن إذا حدث فيجب ألا نشرع في شيء يومئذٍ حتى ينقضي عام أو شبه عام لكي لا
تحف الشكوك من حولنا يا زهيرة. إني لأراه أمرًا رهيبًا.
زهيرة
:
لك ذلك، نصبر عامين أو ثلاثة بل عشرة إذا شئت. تعالَ، تعالَ. (تذهب إليه) قبِّلني (تمسك بوجهه وتقبِّله في فمه وتطيل القُبلة ويقبِّلها هو أيضًا ثم يرفع رأسه
عنها) والآن عدني ألا تفكر في غيري أو تشغل بالك بسواي.
خليل
(ينظر إليها متمعنًا)
:
ما حاجتك بالوعد مني يا زهيرة، وأنا لا أملك نفسي؟ لقد انتزعت إرادتي مني يوم
رأيتك وأصبحتُ كأنما أنا قطعة منك.
زهيرة
:
ومع ذلك فقد حادثتَ أختك خديجة هانم في شأن أختي عطية!
خليل
:
عطية! كيف؟ (يميل عليها ويتكلم بسرعة وهو ذاهب إلى
الكرسي الأول) إني أحبك أنت يا زهيرة، ولكنني رأيت أختي تلمِّح لي
من طرف خفي باشتهار علاقتنا، فلم أجد لي بدًّا من أن أقول لها إني أريد
عطية.
زهيرة
:
أحسنت، كذلك قلت أنا لعطية اليوم.
خليل
(بشيءٍ من التأثر)
:
يا ألله! أحادثتك في هذا الشأن؟ ماذا قالت لك؟
زهيرة
:
كانت في الصباح عند أختك، ألم تعلم ذلك؟
خليل
:
لا وربي.
زهيرة
:
لقد أفهمتها خديجة هانم أنك تريد الاقتران بها.
خليل
:
يا ألله!
زهيرة
:
وقد جاءتني هذه الحمقاء تسر إليَّ هذه البشرى، فأفهمتها أني لا أوافق على هذا
الاقتران، وقلت فيك ما لا يُقال.
خليل
(متأثرًا غائب اللبِّ)
:
مسكينة هذه الفتاة (يتذكر) لقد كانت راقدة
في سريرها.
زهيرة
:
ما هذا؟ شاقتك الذكرى؟
خليل
(يلتفت إليها منكرًا)
:
أية ذكرى؟ إني إنما أتذكر سوء حالتها أيام المرض، أيسوءك أن أرثى لمصاب الناس؟
(ينهض عن كرسيه ويذهب متمشيًا في المسرح ثم يعود
إلى الكرسي الثالث ويمسك ظهره منحنيًا ثم يتكئ بساعديه
عليه.)
زهيرة
(تذهب إلى الكرسي الأول)
:
أجل، إني لا أطيق أن تذكرها أمامي أبدًا.
خليل
:
لماذا؟
زهيرة
(تجلس على الكرسي الأول)
:
إني شديدة الغيرة.
خليل
:
ها ها (يترك الكرسي ويدور من وراء المائدة ذاهبًا
إليها، وهي على الكرسي الأول، ويضع يده اليسرى على ظهر كرسيها واليد اليمنى
متكئة على المائدة) حتى ولو عرض ذكرها في غير مقام الحب؟ (يميل بوجهه حتى يحاذي وجهها.)
زهيرة
(تنظر إليه مبتسمة)
:
حتى ولو عرض. إني أكره كل مَن تتعلق بك أوهامها (تبعد وجهها عنه وهي ناظرة إليه نظرة إغراء).
خليل
(مازحًا ويتراجع ويمشي صوب عتبة السلم)
:
لا يصح أن تكوني قاسية القلب حتى على أختك يا زهيرة.
زهيرة
:
لا تقل أختي، إن الحب لا يعرف أختًا ولا أمًّا، أفهمت؟ (تنهض وتمشي صوب المرآة وتنظر فيها.)
خليل
(متظاهرًا أنه غير جاد في سؤاله)
:
فما قولك لو أنني كنت أجدُّ اليوم مع عمي بشير؟
زهيرة
(وقد بلغت المرآة وظهرها إليه ملتفتة قليلًا نحوه)
:
متى كان ذلك؟
خليل
(يمسك بظهر الكرسي الأول)
:
قبل أن تنزلي.
زهيرة
:
ماذا حدث؟
خليل
(ناظرًا إلى مقعد الكرسي أحيانًا ومشرعًا نظره أحيانًا أخرى
في الفضاء ومرة أخرى إليها، وهي مشغولة بإصلاح شعرها أمام المرآة)
:
لما ضيَّق عليَّ الخناق وصارحني بسوء الظن حتى لم أجد لي مخرجًا تورطت، فقلت
له إني إنما أتردد عليك طالبًا أن تتجاوزي عما اشترطت المرحومة الست الكبيرة في
زواج عطية هانم.
زهيرة
(تعود خطوتين وهي غاضبة، ثم تقف تحادثه محذرة مشيرة
بسبابتها)
:
حذار، حذار أن يأتي ذكرها على لسانك بعد اليوم، إنك تؤلمني بهذا
الحديث.
خليل
:
إذا ساءك هذا فإني أعدك …
(هنا يدخل علي بك من الباب الأول وهو يصفر وفي يده محفظة أوراق
صفراء الجلد وعصا، فإذا رأياه اضطربا.)
علي
:
خليل بك؟ مرحبًا، مرحبًا، أنت هنا؟ ما شككت في ذلك (يتقدم من خليل ويسلِّم عليه ويعود إلى مناط العصي فيعلق عليه المحفظة
والعصا).
خليل
:
أهلًا وسهلًا.
علي
(يعود عن مناط العصي)
:
بونجور يا زهيرة هانم.
زهيرة
:
بونجور (تذهب نحو المقعد).
علي
(يذهب إلى الكرسي الأوسط)
:
ما بك يا خليل؟ أراك واجمًا!
خليل
(مضطربًا)
:
أنا!
علي
:
وأنت يا زهيرة هانم، لماذا أرى على وجهيكما أثر الاضطراب؟ ماذا حدث؟ إني سمعت
صوت زهيرة هانم غاضبة. هذا الصوت أعرفه ولو كانت في برج بابل، وسمعتك تعدها
متذللًا على غير عادتك. مَن المسيء فيكما يا تُرى؟ أنت أم هي؟
خليل
:
زهيرة هانم لا تسيء إلى إنسانٍ قط.
علي
:
فما سر هذا كله إذن؟ (يجلس على الكرسي الأوسط وقد
بدا على وجهه شيء من الكدر) أتخفيان عني أمرًا لا يصح أن
أعرفه؟
زهيرة
:
إنه لا يريد أن ينتصح (تجلس على
المقعد).
علي
(لزهيرة)
:
كيف ذلك؟ ألا تزالين تؤنبينه على ما يبلغك عنه؟ مسكين يا خليل، متهم من كل
جانب، واليوم قالت لي خديجة هانم …
خليل
:
هل كنت عندها اليوم؟
علي
:
أجل، خرجت من المحكمة اليوم مبكرًا، ورأيت منزلكم قريبًا مني فذهبت وشربت
القهوة معها، وقد تدخلنا في شأنك على صورةٍ تنكرونها أنتم يا تلاميذ
إنجلترا.
خليل
:
ماذا قالت لك عني؟
علي
:
هي ترى أنه يجب عليك أن تتزوج وتترك عيشة العزوبة؛ لأنه يبلغها عنك شيء
كثير.
خليل
:
ليت شعري لماذا يتهمني بالسوء كلُّ مَن يعرفني، حين أني والله رجل مستقيم؟
علي
:
كل أعزب متهم، ولقد والله قلت لها كما أقول لزهيرة دائمًا: لا تصدقي أقوال
الناس عن خليل. إنه دائم المرح ليس إلا، لا تجدينه جادًّا يومًا من
الأيام.
خليل
(يضحك)
:
هذا طعن في صورة دفاع.
علي
:
شيء أخف من شيء، ولكن (لزهيرة) ماذا يبلغك
أنت اليوم عنه؟
زهيرة
:
لا شيء.
علي
:
لا شيء! إذن فأنتما تخفيان عني أمرًا، لا يمكن أن يكون هذا الوجوم والغضب
لغير سبب.
خليل
:
إنه في الحقيقة لغير سبب وجيه.
علي
:
ما هو؟
خليل
:
سلْها هي.
زهيرة
:
كان يحادثني في شأن عطية هانم (تظهر على خليل علائم
الارتياح).
علي
:
هذا ما قدَّرت وربي.
زهيرة
:
يريد أن يحملني كرهًا على الموافقة على زواجه منها.
خليل
:
وهل كفرت في هذا الطلب بحياة أبيك حتى لا تترك في جعبتها كلمة ذم لم
تقلها؟
علي
:
وأنتِ لا تريدين ذلك؟
خليل
:
إنها تراني أسوأ الرجال.
زهيرة
:
محال أن أوافق على زواجها منه.
علي
:
هذا غريب جدًّا، أتريدين أن نتركها عانسًا؟
خليل
:
اسمع يا أخي: إياك أن تجعل لسيدةٍ وصاية على أخرى، إنها تسيء استعمال السلطة
التي تكون في يدها؛ لأنها لم تتعود هذه السلطة.
علي
(إلى زهيرة)
:
إذن فإن هذه الصداقة العظيمة لخليل بك وهذه المراقبة الشديدة لأفعاله
والانتقاد المرُّ الذي ينهال على رأسه، وهذه الأصناف الشهية من الطعام التي
تطهينها بيديك اللطيفتين يوم يتكرم …
خليل
:
العفو.
علي
(مستمرًّا)
:
بزيارتنا لم تكن أحبولة لاصطياده لأختك عطية هانم على غير عادة الأخوات
والأمهات؟
زهيرة
:
أنا أحب خليلًا لمرحه وعبثه، ولكني لا أريد لأختي زوجًا مثله، ولا
مؤاخذة.
خليل
:
تحبني لأني تياترو كُميدي فودفيل، تشهده مرة بعد أخرى، وتدفع ثمن تذكرة
الدخول راضية، ولكنها إذا عادت إلى منزلها أخذت تذمه وتذم الممثلين والمؤلف
معًا.
علي
:
ها ها ها، مسكين يا خليل! هكذا حال الدنيا يا بني، أكاذيب في أكاذيب.
خليل
:
انظر يا سيدي، انظر، هي تحب ما ترى أختها تكرهه، وأؤكد لك أن عطية هانم يمكن …
بل إنها تحبني أكثر من حب زهيرة هانم إياي، ها ها.
علي
:
ليس لك حق يا زهيرة في رفض خليل، كلا لست معك. هل تجدين لأختك خيرًا منه؟
واحد دكتور، متعلم في أوروبا وعنده إيراد لا بأس به، وأختك مَن هي؟ فتاة متعلمة
كما تقولين، ولكن أي تعلُّم هذا! وعندها ٢٥ جنيهًا إيراد وقف سنوي، نعم، ولكن هذا
ليس بشيء كثير. والله إني أستكثر الرجل المتعلم على أية امرأة في
الدنيا.
خليل
:
ها ها ها (متشيعًا) معلوم!
علي
:
الرجل يقضي ٢٠ سنة أو أكثر يتعلم ويهذِّب نفسه ويُعِدُّ مستقبله ويبلغ أقصى
الدرجات، ثم تأتي امرأة تعرف القراءة والكتابة أو لا تعرف وبعض كلام فارغ
يسمونه تعليمًا، تأخذه وتتنعم بعلمه وأدبه وخبرته واقتداره ومستقبله ومركزه لله
في لله. إن الرجال مغبونون جدًّا، كلا، كلا، أنا لا أوافقك، ارميها عليه حسب
هذا الأحمق أن يرضى بالزواج في هذه الأيام (خليل
يضحك).
زهيرة
(بتغيُّظ)
:
ومن أنت، ومن هو، ومن كل الرجال في الدنيا بالقياس إلى المرأة!
علي
:
يا عيني!
زهيرة
:
المرأة سيدة العالم لا الرجل، والرجل الذي يقضي ٢٠ سنة في تعلُّم وتدرُّب، إنما
يعد نفسه لخدمتها، وإلا فإنه لا ينالها.
خليل
:
الله! الله!
زهيرة
:
معلوم، هذا الذي جعلك تراني …
علي
(يقاطعها)
:
في عرضك، دعينا من قصتي وقصتك، ودعينا في عطية هانم وخليل، إنها لا تأباه، بل
تريده، ولا يصحُّ أن تكوني عثرة في سبيلها.
زهيرة
:
أهي قالت لك ذلك؟
علي
:
ألا بد أن تقوله لي! لقد رأيت ذلك في عينيها غير مرة عرضًا في الحديث، وقد
علمت من خديجة هانم اليوم أنها فاتحتها في الموضوع فارتاحت تمام
الارتياح.
خليل
:
يعني أني رجل «فالصو»، هذه مطاعن ورب الكعبة، خذ مذكرة بذلك يا حضرة المحامي،
سب علني وقذف يعاقب عليه القانون بموجب المادة ١٩٢٠ ها ها (علي يضحك).
زهيرة
(تضحك)
:
أنا لا أقول إلا الحق ولو على نفسي.
علي
:
وعطية أتعرف أنك لا توافقين؟
زهيرة
:
نعم، ولكنها فتاة بلهاء، ولا يصح استشارتها في أمر كهذا، إني أكبر منها سنًّا
ولي حق الوصاية عليها حتى تبلغ العشرين.
علي
:
لقد بلغَتْها من زمنٍ بعيد.
زهيرة
:
إنها لم تتمها بعد.
علي
:
انتهت الوصاية عليها يا ستي من يوم أن حطت رجلها في العشرين، الحساب بالعربي
لا بالأفرنجي يا هانم. هذا هو الشيء الفريد الذي بقي للعربي وأهل العربي في
مصر.
زهيرة
:
من يقول هذا؟
خليل
:
المحامي.
زهيرة
:
لا رأي لمحامٍ كهذا عندي؟
علي
:
ها ها ها، أأحضر لك ابن عابدين؟
خليل
:
علينا به من فضلك، عجِّل.
زهيرة
:
ولا ابن شاهين.
خليل
:
ماذا نحضر لك إذن؟
علي
:
عسكري.
(الكل يضحكون.)
خليل
:
نحن في زمنٍ عجيب يا علي بك، كلنا يسعى لأن يكون للفتاة حق اختيار زوجها،
وزهيرة هانم وهي متعلمة على كل لون حتى في مدارس الإفرنج هي وأختها تأبى عليها
ذلك.
علي
:
لأن عمَّك بشير ملأ دماغها بآرائه وأفكاره من سن السابعة إلى سن
العشرين.
خليل
:
وعطية هانم كذلك؟
علي
:
وعطية هانم كذلك، بل وأكثر من ذلك. إنها خليفة بشير أغا، وأكبر تلاميذه
وحوارييه (يضحك).
خليل
(يضحك)
:
إذن فلنترك عوضنا على الله، إني أكره هذا الصنف من النساء.
زهيرة
:
هذا الذي من أجله لا أريد مثلك زوجًا لأختي، إنها فتاة مسكينة بلهاء، وأنت
رجل شرير. وقد دللت على ذلك بلسانك الآن (خليل
يضحك).
علي
:
ولكنك لم ترفضي الدكتور من قبل لهذا السبب، إنك رفضته لشيءٍ آخر، فما هو هذا
الشيء الآخر السابق؟
زهيرة
:
مثل أختي لا تطيق معاشرة زوج يضطره عمله كطبيب أن يفارقها في الصباح، ثم لا
يأتي إلا في الظهر أو بعده كهذه الساعة مثلًا ليتغدى وينام مثلًا.
علي
(متشيعًا)
:
مثلًا.
زهيرة
:
ويعود بعد ذلك إلى عيادته ثم يبقى فيها إلى الساعة الثامنة، وقد يأتي منزله
للعشاء فقط إن لم يكن على موعد مع واحد، أو واحدة، أو يخلق له مريضًا يقول إنه
اضطر لعيادته في الساعة التاسعة؛ فإن جاء بعد ذلك تعشَّى وقال إنه لا بد له من
الرياضة، ولا تستطيع أن تقول كلمة لأن الرياضة واجبة في الطب! فإذا جاء منتصف
الليل كانت نائمة، وهكذا …
علي
:
ها ها ها، كأنك تقولين إنك أيضًا لا تطيقين عشرتي، لأن الذي ذكرت عن خليل هو
ما أفعله أنا بالضبط في أكثر الأحيان.
زهيرة
:
هو كذلك، ولكن هذا لم يعد يهمني.
علي
:
هذه هي صرخة الولد يا زهيرة عنك وعنها، ها ها ها.
خليل
:
ها ها ها، صرخة من؟
زهيرة
:
أعُدت إلى مزاحك الثقيل؟
علي
:
ولكن من يدريك؟ لعل أختك أهدأ منك أعصابًا يا زهيرة؟ ها ها ها.
زهيرة
(بغضبٍ)
:
ما رأيت في الناس مثلك …
علي
:
لعمري إن أختك لا يمكن أن تعتب على خليل هذا العتاب، إنها من طينة
أخرى.
زهيرة
:
كل النساء من طينة واحدة، كيف تطيق المرأة في الدنيا أن تقضي يومها كله وحدها
في انتظار زوجها!
خليل
:
هذا درس لك يا عم علي.
علي
:
ليتني لم أسأل ولم أبحث، إن الدرس الذي تلقيه زهيرة هانم عليَّ كل يوم من
أقسى الدروس.
خليل
:
ها ها ها، برافو والله.
زهيرة
(تتحرك في كرسيها متجهة إليهما)
:
إن المرأة لا ترضى بزواجها من رجل …
علي
:
مِن هذه المادة يا خليل بك … (إلى زهيرة)
نعم.
زهيرة
:
اسمع، المرأة لا ترضى بزواجها من رجل إلا وفي مخيلتها أنها تتزوج رجلًا أولًا
وآخرًا.
خليل
:
ارمي!
زهيرة
:
ما لكم تهزءون بالكلام، والله إن المرأة لأقرب منكم إلى الفطرة في كل
أحوالها. أنتم أيها الرجال، رجال هذه الأيام مكذوبون على النساء، وإنما أنتم
تدافعون عن أنفسكم بالهجوم.
خليل
:
والله إنك تقولين حقًّا يا زهيرة هانم.
علي
:
زيدينا، بارك الله في جمعية تحرير المرأة! (لخليل) ألا تدري أن زهيرة هانم من خطيباتها المفوهات؟
خليل
:
أعرف ذلك لسوء حظي، ها ها ها.
زهيرة
(تزورُّ عنهما مزدرية)
:
أنتم أيها الأذكياء عميٌ عن الحقيقة في هذه الدنيا، أو متعامون.
علي
:
كيف ذلك؟
خليل
:
نريد أن نفهم.
زهيرة
(ملتفتة إليهما وتكلمهما باندفاع)
:
إنكم تكلمونني اليوم بصراحة غريبة، وبلا أقل تحشُّم، بل أراكم آذيتموني بالحديث
وجرحتم إحساسي احتماءً وراء أدب السيدة وحيائها.
خليل
:
لا نقصد ذلك مطلقًا، مَن يجرؤ على هذا؟ معاذ الله!
علي
:
انظر يا سيدي، هكذا رأيها معي تجعل المخالفة جنحة والجنحة جناية.
خليل
:
والله إننا نمزح يا زهيرة هانم.
علي
:
ومع ذلك، هبي أنه صراحة منا وقول نعبِّر به عما في نفوسنا بغير كلفة.
زهيرة
:
إذن فلأصارحكم أنا أيضًا وظُنوا ما تشاءون.
علي
:
تفضلي وعليك الأمان.
خليل
:
أمرنا لله.
زهيرة
:
اسمعوا نصيحتي، ثم ارموها في البحر.
علي
:
ويلاه! ما هذه النصيحة؟
زهيرة
:
عندي أنه يجب على الرجل في هذه الأيام التي تنكرت فيها الدنيا بأحوال المدنية
أن يجعل للعنصر الفطري من نفسه أول مقام كما تجعل المرأة، وإلا كان الشقاء
حليفه طول الحياة.
علي
:
كيف يكون ذلك؟
زهيرة
:
أولًا، تكرهه زوجته فتشقى حياته المنزلية وغير المنزلية. ثانيًا، يكرهه
المجتمع وربي، أجل يكرهه، فلا يكون له من طيبات الحياة فيه نصيب، اسمعوا وانظروا
وابحثوا.
علي
:
مرحى مرحى يا زهيرة، إنك تتكلمين كلام الفلاسفة.
زهيرة
(بتهكم)
:
صحيح!
علي
:
والله إني أجدُّ.
خليل
:
مرحى! مرحى لبشير أغا والمدارس المصرية والأسكولات الأفرنجية.
زهيرة
:
بل لكم أنتم، أنتم الذين تعلموننا هذا الكلام وتلجئوننا إليه.
علي
:
لا يعلمك إياه أحد والله، إنما هي صرخة الولد، ها ها ها. لكنها اليوم صرخة
حادة بالغة.
خليل
:
ها ها ها، إنك فرَّجت همي.
زهيرة
(تنهض)
:
بالله خبروني يا أهل الفهم والمحاماة والطب والكلام الفارغ الذي تموِّهون به
على الناس وأنتم أغبياء جهلاء، في أي شيء تقضي الزوجة يومها إذا لم تكن راضية
عن زوجها، ولم يكن لها من الارتياح إلى أمسه ما يملأ قلبها حبًّا له واشتياقًا
إليه وانشغالًا عن الحاضر بالغائب؟
علي
:
تنام، ها ها ها.
زهيرة
:
تنام!
خليل
:
لا تستطيع النئوم أن تظل في الفراش أكثر من عشر ساعات.
زهيرة
:
أنت طبيب وتعرف ذلك بالدقة، لا مؤاخذة.
خليل
:
ها ها ها، تقرأ الروايات والقصص.
زهيرة
:
والله لو قرأتها لزاد صراخها بما تثير هذه الروايات من كوامن دائها.
علي
:
هذه صرخة الولد بعينها، ها ها.
زهيرة
(باحتدادٍ وسرعة كأنما تغيظه)
:
أجل صرخة الولد، ما معنى الزواج إذا لم يكن للولد، إن للمرأة مهمة في الحياة
تحفزها من حيث لا تدري إلى تحقيقها، ولكنكم تتجاهلونها وتعاملون النساء على
ضدها صراحةً فتشقونهن وتشقون أنفسكم أيضًا.
علي
(وهو يضحك)
:
زهيرة هانم تريد أن يعيش الرجل مع امرأته طول حياته كما كان أول شهر أو أول
عام من زواجه، فهي لا تحبه إلا إذا كان كذلك، ومن يستطيع هذا يا حضرة الطبيب
النطاسي البارع.
(خليل يضحك.)
زهيرة
:
هذا كلام صحيح، ولكنك مبالغ.
علي
:
ما يقدر على القدرة إلا رب القدرة، ألا يصح أن يُحسب للسأم حساب؟
زهيرة
:
إذن، فهذا الزواج خطأ وكذب، وما كان يصح أن يكون هناك زواج إذا كان لا بد أن
يسأمه الإنسان، أو يجد منه شقاء عظيمًا.
خليل
:
فيلسوفة ورب الكعبة.
علي
:
كذب! أفي ذلك شك؟ ولكنه ضروري أكثر من الصدق وأنفع. كم في هذه الدنيا من
أكاذيب صريحة، ليس في الأرض مِن مفكر منطقي إلا وهو يرى أنها زور وتدليس، ومع
ذلك فهي لازمة يعاقب المجتمع مَن لا يقول بصدقها ويؤمن بها ويعمل عليها. هذه
الأكاذيب تتطلبها المصلحة العامة العاجلة؛ ولذلك تنفق عليها الأمم من الأموال
ما لا تنفق على الصدق، بل إن أهلها، أهل هذه الأكاذيب ليكرَّمون في الدنيا أعظم
تكريم، ممن يعلمون أنهم كاذبون مدلسون، وتُعطى لهم ألقاب عريضة وأوسمة موشحة
ومرتبات ضخمة هي في عين الرجل البصير أشبه شيء بالرشى، ثم تكون لهم يوم الوفاة
مواكب رسمية ذات درجات في التكريم، وقد تكون لهم بعد ذلك مدافن تُزار أو تماثيل
تُقام، ولا يكون بعض ذلك لرجل يقول كلمة الحق الكبرى.
خليل
:
يا للعجب!
علي
:
بل إنه ليُحْرم طيبات العيش في الدنيا ويُرمى في الحياة بالجنون، يهينونه
ويسجنونه أو ينفونه عن الديار، ويسدُّون عليه المسالك، وربما أحرقوه في الدنيا أو
قطعوا لسانه إزراءً به وإخناءً عليه وتكذيبًا لصدقه الناصع، كل هذا من أجل
المصلحة العامة العاجلة التي يشق تحقيقها بدون هذه الأكاذيب. والزواج يا سيدتي
من هذه الأكاذيب الضرورية، الأكاذيب النافعة المحترمة.
زهيرة
:
أنا لا تهمني هذه المصلحة العامة، ولا تهمني الدنيا بأجمعها إذا كانت
أكاذيبها النافعة تشقيني، أتريدني أن أشقى من أجل غيري! نفسي أولًا وبعدي
الطوفان (تنهض وتذهب إلى المقعد وتجلس
عليه).
علي
:
أنت تُشقِين نفسك بهذه الآراء، إن المصلحة منه أكبر من الضرر الذي يشكوه كل
متزوج.
خليل
:
حاذر.
علي
:
ما عداي بالطبع، ها ها ها.
زهيرة
:
وهل أنت متزوج! أنت صاحب منزل فقط تأوي إليه فتجد فيه امرأة.
علي
:
لا تخشيْ بأسًا، إني سأعلِّم خليل بك كيف يعيش مع زوجته.
زهيرة
:
أنت تعلِّمه! علِّم نفسك.
علي
:
المسألة بسيطة جدًّا، خليل بك طبيب، ويعرف مواد الأقرباذين كلها «صَم»، فما
عليه إلا أن يعطيها ليلة الدخلة دواء بسيطًا يعرف أنه يُضعِف العصب، فإنها إذا
أخذته أصبحت عاقلة رشيدة وسكنت في أحشائها خلية النحل.
زهيرة
:
أنت رجل قليل الحياء مجنون (تنهض وتتمشَّى صوب
السُّلم).
علي
:
ها ها ها.
خليل
:
ها ها ها، تعالي يا زهيرة هانم (ينهض ويذهب إلى
عتبة السلم).
زهيرة
(صاعدة السلم)
:
أنا لا أطيق البقاء في مجلس رجل مجنون.
علي
:
تعالي، تعالي (يجلس على الكرسي الذي كان جالسًا
عليه خليل) احمدي ربك، ليس من السهل أن تجدي مجنونًا يعفو عنك
مثلي، مِن الناس مَن يدفع أجرة لرؤيةِ فصلٍ مثل هذا.
خليل
(يلتفت لعلي)
:
لقد تكدرت، لماذا قلت هذه الكلمة؟
علي
(باشمئزاز)
:
ماذا تريد مني هذه المرأة؟ هل خُلق الرجل ليكون ملهًى للزوجة ليس إلا؟! أليس
للرجل حق في أن يسعى للعيش (ينهض ويتمشى وقد يقف
يخاطب خليل) من أين تأكل وآكل وأعيش، والدنيا كما تعلم صماء خرساء
قاسية القلب، لا تعفو ولا ترحم؟
خليل
:
أي والله.
علي
:
يبدو لي يا أخي أننا أشقينا أنفسنا بهذه المدنية، زدنا الحياة فيها تكاليف
ومطالب بتوشيجها، والمبالغة في التماس النعيم من كل عرض منها، فزدناها شقاوة
وزدنا أنفسنا حرمانًا، ولكنها المرأة سبب كل ذلك.
خليل
:
كيف؟
علي
:
هي التي دفعت الرجل إلى تهيئة أسباب الرفاهية لها فخلق لها هذه المدنية،
وأنهك نفسه في مرضاتها، وحرَم نفسه الراحة من أجلها، ومع ذلك فهي تطلب إليه أن
يجدَ من وقته الضيِّق فرصة واسعة للهوها، ومن صحته وقلبه المنهك متعة لها، وإذا قصَّر
في ذلك فالويل له منها.
خليل
:
صحيح والله.
علي
:
كان يجب على المصريين أن يُخرِجوا المرأة معهم تعمل في الدنيا كما كانت تعمل في
بيتها، وكما يعمل الرجال، لتنشغل هي أيضًا عن الرجال يومًا ما. فلا تكون المرأة
على مثل حال زهيرة من الصخب، لو كان لها عمل أو لو كانت ذات شغل ولو في الأعمال
الخيرية وأعمال الإصلاح الضرورية لمدنيتنا، كما يفعل نساء طبقتنا في أوروبا
التي نقلِّدها لوجدت مشغلةً وملهًى ولذَّةً أيضًا، ولكنا لا نفعل ذلك لأننا كذابون في
مدنيتنا، كذابون في أقوالنا وأفعالنا، كذابون في كل شيء. لا انسجام ولا تواصل
ولا ارتباط بين تفاصيل حياتنا الموحدة.
خليل
:
حقٌّ، حقٌّ والله.
علي
:
لست أجد في مصر أصدق ولا أسعد من الفلَّاح، إنه يشتغل، وامرأته تشتغل، وأمه
تشتغل ولو في حراسة الفراخ والبيت. أما المرأة الحضرية فقد صرفناها عن العمل في
البيت باسم المدنية والرقي، ثم لم نعطِ لها عملًا فكانت عالة على الرجل، يا ليت
أبي ما أرسلني إلى المدارس! يا ليته أخذني معه إلى عزْبته أزرع الأرض وأجني
ثمرها بيدي، إذن لوجدت لامرأتي عملًا. ما هذا العلم الذي يضحك به منا؟ كذب هو
أيضًا وكلام فارغ، ماذا نعرف نحن من العلم؟ وماذا يعرف سوانا؟ قطرة من بحر.
وإذا وجدت متعلمًا لم تجد اتصالًا بين علمه ونفسه، لا أثر له في تكوين خُلُق له
أو عادة أو فكرة، ولا هو زادنا صحة ولا منفعة.
خليل
:
ما هذا الكلام؟
علي
:
لم أجدني خيرًا من أبي وأمي في شيء، صحته سليمة وعصبه قوي هادئ وسعادته
موفورة، وسيعيشان من بعدي أؤكد لك، أما أنا فقد كادت أعصابي تتحلل من فرط العمل
في المكتب والمحاكم. ثقْ يا خليل أن الإنسان لم يُخلَق إلا ليكون حيوانًا، وأن
الذي رُكِّب فيه من العصب ليس إلا لخدمة جسمانه: لحْمه وعظْمه وجِلده، أما أن تأخذ من
عصبك للتفكير والدرس والاختراع والاجتهاد الذهني للمحافظة على مدنية المرأة
فلا؛ ولذلك فإننا نموت عادة قبل غيرنا، والرجل قبل المرأة.
خليل
:
هذا كله صحيح، ولكن أتدري أنها تقول حقًّا؟
علي
:
نعم، لا شك في ذلك. هكذا قلت: ولكن الحق شيء وإحقاقه شيءٌ آخر، إنها كمن يطلب
دَينًا من معسر. هي التي أفسدت الدنيا على نفسها فلتتحمل وزْر ما فعلت، سأظل على
ما أنا عليه، ولا يهمني بعد ذلك ما يكون.
خليل
:
خبِّرني، أأنت لا تحبها؟
علي
:
أعفني من الجواب.
خليل
:
أراك تعزُّها كثيرًا.
علي
:
المعزَّة غير الحب، لا تسرف في الألفاظ ولا تستهن بها وإلا أدت بك إلى خطأ
النتيجة والعقيدة معًا.
خليل
:
صدقت، ألا تحترمها؟
علي
:
ما هذا الاحترام؟ إني لأرعى إحساسها كزوجة، ولها عندي مودة اعتدتها ورحمة
أيضًا، هذا كل ما هنالك، وهو شيء عظيم جدًّا لا سيما في الزوجية، أما الحب فكيف
يكون بين رجل وامرأة عاشا في الزوجية خمس سنين! هذا محال. إن المودة والأدب
والذوق الذي تراه بين رجل وامرأة أهدأ منَّا عصبًا يسميه الناس الحب خطأ، فإن لم
يكن بد إلا أن أعبِّر على هذا الوصف فأنا أحبُّها جدًّا.
خليل
:
ولكنك مهتم بأعمالك، مشغول عنها انشغالًا تامًّا.
علي
:
لا تصدِّق ذلك، إنها سئمتني أو أخذ السَّأم يتطرَّق إلى قلبها مثلي، وهذا طبيعي،
وأقسم لو أنني استطعت أن أقيِّد نفسي فلا أبارح مجلسها في هذا العصر الذي لا
يستطيع الإنسان فيه أن يجد ما يأكله إذا هو لم يتحرَّك ولم يعمل، لزاد سأمُها مني.
إنها لا تجدني ولن تجدني كما كنت في بدء الزواج ولا أنا، مع أنني لو تزوجت
غيرها لم يكن بغيرها هذي في الأيام الأولى إلا ما كان بزهيرة أول عهدي بها من
الهيام بي والتعلُّق بأهدابي، ثم تصبح كزهيرة سواء بسواء.
خليل
:
كلامك يذعرني.
علي
:
هذه نتيجة العنصر الكاذب في الزواج، وعندي أن كل شقاء تراه في الزواج ولا
تعرف سببه ليس إلا نتيجة هذه النقطة الضعيفة في الزواج؛ لأن الفطرة تغلب كل
شيء، فإذا غالبتها فإنها لا تلبث أن تثور دفينة، ثم تخرج من جهة أخرى لم تكن
تحتسبها، مثل نار الشمس في جوف الأرض تخمدها جلدتها وجنادلها، ثم لا تلبث أن
تسمع لها زلزالًا، ثم تنظر فإذا جبل قد انفجر وتهدَّم وخرجت منه نار وحمم يُخبِّران
أن الفطرة أغلب.
خليل
:
وي وي! إنك تذعرني، لقد أمَّلت من الزواج خيرًا وسعادة، ولذلك …
علي
:
مَن قال إن الزواج ضمين السعادة؟! (متكدرًا) من قال ذلك؟! أجاءكم وحي به؟! أم أن بينكم وبين ملائكة
الأرض وعفاريت السماء عهدًا بذلك ووعدًا؟!
خليل
(يضحك)
:
كيف؟
علي
:
إنكم لمَّا رأيتم في الزواج شيئًا لذيذًا دونه كل لذة حسبتموه سعادة، وأخذتم
تنشرون هذه الأكذوبة بين الناس، حتى أطمعتموهم في شيء غير موجود، فلما تزوجوا
ولم يجدوه انقلبوا على أنفسهم، وقالوا إن الزواج الذي عقدناه كان خطأ في شيءٍ
من أساسه. وكلما زاد الإنسان تحدُّثًا بهذا الخطأ وشكايةً منه كما يفعلون هذه
الأيام، زاد شقاؤه وجلب على المرأة المسكينة، أو جلبت المرأة على الرجل المسكين،
كلَّ المصائب.
خليل
:
كفى كفى، تُبْتُ، هاتِ يدك، لن أتزوج!
علي
:
الزواج سعادة! هذه مغالطة وتكليف للزواج بما لا يطيق وما لا يعرف، اسمع يا
سيدي: ليس الزواج إلا عقد تنافع، ليس إلا شركة كما تفتح دكانة أنت وآخر، لا
يبقى عليه إلا دوام الرغبة في الانتفاع به، وداعيه كما تعلم داعي الرغبة في
استبقاء الجنس، فإن الإنسان كما علمت يا حضرة البيولوجي المحترم مدفوع إلى ذلك
من حيث لا يدري، أي بالفطرة، والناس يريدون معرفة الأنساب في هذه الدنيا
لاعتبارات كثيرة.
خليل
:
إذن فهو كما قلت لأختي خديجة: أذًى لا بد منه.
علي
:
أذًى لا بد منه، أجلْ، دفعًا لأذًى أكبر منه. وإذا كانت الزوجة هادئة العصب
رشيدة، وكانت تربيتها سليمة من المؤثرات الكشافة، وكان الزوج كما قالت زهيرة
رجلًا أولًا وآخرًا، ثم لم يكن ضعيفًا عن حمايتها وتحصيل رزقها ورزقه، وكان له
منها ولد أو أولاد، وكان قادرًا على الإنفاق عليهم وتأهيلهم للعيش في الزمن
الذي خُلقوا له، وكانا يعرفان طرائق حُسن العِشرة، بصيرين بأحوال السلم في البيت،
وكانت الزوجة امرأة أولًا وآخرًا، فكيف لا يكون الزواج هنيئًا!
خليل
:
صحيح.
علي
:
لاحظ أني أقول هنيئًا.
خليل
:
مفهوم. مفهوم.
علي
:
يعني لا أقول سعيدًا، السعادة شيء آخر. ولذلك تراني شديد الرغبة في أن يكون
لي ولد منها أو ولدان، مع أني أعلم أن ليس لي مصلحة من ذلك، ولكن حصول الولد
مَهْدَأة لها نوعًا ما ومشغلة. أما تَنبُّه عصبها وحياة العطالة الأبدية التي هي
فيها بسبب هذه المدنية العصرية المفتعلة والتقليد السطحي فلا حيلة لي فيه،
ولكني أرجو أن ينصلح أمرها بعد الولد. ولذلك أهنئك يا خليل بك بما عزمت عليه من
الزواج بعطية هانم لأنها فتاة طيبة هادئة العصب، «خام» كما يقولون، تركية
التربية والفكر، كرَّاهة لأساليب مدنية الشوارع، ولكني أوصيك ألا تجري معها في
بحابح اللامسئولية كما فعلت أنا؛ حتى لا تنبِّه أعصابها الراقدة، بل اجعل لها
عملًا تعمله في البيت وحتِّمه برفقٍ تأمنْ ما أنا فيه الآن من الشقاء بزهيرة،
لعمري إنه يجب أن يعملوا على تعليم الرجال والنساء في المدارس فن الزواج، كما
يُعلَّمون فن إدارة الشركات، ولا يتركون الأمر فوضى للجاهلين، ويجب أن يجعلوا شغل
المرأة ركنًا في دوام الزوجية، إهماله يُوجِب الطلاق مع البراءة من
الحقوق.
خليل
:
إني رجعت عن عزمي يا صديقي، لا أتزوج ولو شنقوني؛ إن هذا الزواج مسئولية
كبرى، أنا لا أريد من الزواج إلا الاستئناس والسرور.
علي
:
تُحسِن صنعًا إذا استطعت، ولكنك لن تستطيع. لقد كان هذا قول كل مَن عرفت من
أصحابي.
خليل
:
إلا أنا؛ فقد تبيَّن لي أنه شقاء لا أكثر ولا أقل.
علي
:
ومع ذلك فإنك ستتزوج.
خليل
:
كيف؟!
علي
:
من حيث لا تدري، هذا أمر فطري. أنت مدفوع إليه؛ لأن الزواج غير الشرعي ليس
إلا زواجًا على كل حال، ومع ذلك فإنك ستأخذ تفكِّر في أمرك وينتهي بك الحال إلى
زواج شرعي يحبِّبه إليك كرامة المخطوبة ونَسبُها والمظنون من أدبها وتربيتها، وألف
اعتبارٍ آخر. ومع هذا كله فالزواج يانصيب.
خليل
:
يانصيب حقيقة.
علي
:
وعطية هذي ورقة رابحة مؤكدة في يد مَن لا يعرفها، فخُذْها واهنأ بها قبل ألا تجد
مثلها. أنت تعرف هذه الفتاة حق المعرفة، وأنا أعرفها أيضًا، كلانا يعرف حقيقة
نفسها، فإن كنت تأبى إلا أن تهرب من فتاة لا ذنب لها إلا أنها كانت في مثار
البحث، وتلجأ إلى مَن لا تعرف على يد الخُطَّاب …
خليل
:
الخُطَّاب!
علي
:
دعِ الخُطَّاب، هبْ أنك ترى غيرها بعينيك كأن تكون ممن يطرقن باب عيادتك، فإنها لا
تظهر لك حقيقة أمرها، هذا شيء عادي. انظر إلى نفسك، إنك معي غيرك في بيتك. وأنت
في بيتك غيرك في عيادتك، وهلم جرًّا.
خليل
:
مفهوم.
علي
:
يعني أن الإنسان تتغير مظاهر خُلُقه بتغيُّر البيئة والمجتمع واختلاف الزمان
والمكان والعاطفة، بل لعمري إنه لتتغير أخلاقه بتغيُّر ألوان ملابسه وقِطَعها،
والفتاة المرشحة للزواج تخفي نفسها عنك أكثر من سواك. تخفي كل عيب فيخفي حقيقة
حتى عن نفسها ذاتها، وتُظهِر كلَّ ما تظن أنه حَسَن، هذا أيضًا أمر فطري، وليس للناظر
إلا الظاهر.
خليل
:
أنت تذعرني يا علي بك.
علي
:
كيف! إني أبصِّرك، اسمع نصيحتي، لا تتردد، خذ عطية على الفور. ألا
تحبها؟
خليل
:
لا أنكر أني أعزها جدًّا كما تقول.
علي
:
ستعزُّها بعد الزواج، أما الآن فإنك تحبها. ومع ذلك فقد أخبرتني خديجة هانم
برأيك في عطية.
خليل
:
أفكِّر، إنني الآن خالي الوطاب.
علي
:
إذا كان الأمر موقوفًا على المهر فإنك إذن راغب.
خليل
:
أنا أتمنى ذلك، ولكن دعْ لي فرصة للتفكير.
علي
(ينهض)
:
الظاهر أنك خرمان، تعالَ نفكِّر على المائدة.
خليل
(يظل في مجلسه)
:
حقًّا ولكن …
علي
:
ماذا! ألم تَجُع بعدُ؟ لقد كادت تدق الثالثة.
خليل
:
بلى، ولكن ألا تصالح زهيرة هانم؟ (ينهض.)
علي
:
لماذا؟
خليل
:
كيف نجلس على المائدة وهي مغضبة؟
علي
:
إنها تكره مجالستي على المائدة.
خليل
:
تكرهه!
علي
:
تقول إنها سبقتني، أو إنها لا تستطيع.
خليل
:
لا لا، لا يليق ذلك، اذهب وهاتها إكرامًا لخاطري، أنا لا أطيق أن أجلس على
المائدة وهي مهملة هكذا.
علي
:
لا بأس (يصعد السلم إليها).
خليل
(يتمشى في المكان)
:
لعمري لقد قال حقًّا، لن أتزوج، سأظل هكذا: لي ألف زوجة وزوجة، أنا أتزوج!
لا أريد، لا أريد.
(هنا يفتح بشير أغا الباب
ويدخل.)
بشير
:
فماذا تريد إذن؟
خليل
(يُؤخذ)
:
آه رجعت يا عم بشير؟ أحسنت، لا يليق بك أن تترك زهيرة هانم أبدًا.
بشير
:
لماذا لم تذهب إلى القاهرة؟
خليل
:
نسيت طربوشي، وعُدت لآخذه فاستبقتني زهيرة هانم بالرغم مني، وجاء علي
بك.
بشير
:
أما أنا فلم أنسَ طربوشي، وبقيت بالرغم منها حتى أقابل علي بك وأرى نهاية هذا
الأمر.
خليل
:
أَخْفِت الصوت يا عم بشير، أتريد فضيحتي لدى ابن عمي؟
بشير
:
ماذا تنفعني فضيحة أمرك؟ إني أريد أن تبقي على الرجل زوجته.
خليل
:
لك ذلك يا عم بشير، هذا ما عوَّلت عليه والله.
بشير
:
وأن تُتِمَّ ما جئت لأجله.
خليل
:
وما هو؟
بشير
:
زواجك من عطية هانم كما أخبرتني.
خليل
:
زواجي!
بشير
:
أجل.
خليل
:
كيف يمكن هذا الآن يا عم بشير؟ لقد حادثت علي بك في الأمر واتفقنا على
التأجيل، إني منتظر موعد تحصيل إيراد الوقف لأتم كل شيء.
بشير
:
ألا يمنعك إلا المهر؟
خليل
:
بلى ورب الكعبة يا عمي بشير.
بشير
:
أنا أدفع المهر من جيبي، أنا عندي ألفان من الجنيهات مما اجتمع لي في حياتي
ومن إيراد ملكي الضئيل الذي سأتركه لعطية هانم وحدها، أجل وحدها، ولا يحزنني أن
أنزل عن المال لك ولعطية من اليوم حبًّا في إصلاح الحال إن كنتَ صادقًا.
خليل
(يسكت)
:
أختها لم ترضَ بالزواج.
بشير
:
سترضى الآن، وإلا فلن تموت عطية وحدها.
خليل
:
يا إلهي!
بشير
:
أتتردد بعد ذلك في قبول ما أعرضه عليك؟
خليل
:
كيف أتردَّد يا عم بشير؟ ولكنك لم تَدَعْ لي فرصة لشكرك، دعني أستفيق قليلًا
ليكون جوابي …
بشير
(بشيءٍ من الاستهانة والاستصغار لخليل)
:
لماذا أنتظر الجواب من مثلك! والله لولا أنها أحبتك ما رضيت بك زوجًا لها،
أأنت ذو رأي! بل الرأي ما أُمرتَ به وما أُعد لك. ولقد أعددت كل شيء فلم يبقَ إلا
إعلانه أو إعلان الفضيحة الكبرى (يفتتح الباب
ويتكلم) يا شيخ إسماعيل.
إسماعيل
(من الخارج)
:
نعم.
بشير
:
اسمع: هل قبِلت يا دكتور خليل بك أن تتزوج من عطية هانم بنت مصطفى أغا الجبجي
على مَهْر المِثْل المعروف بسنة الله ورسوله.
خليل
:
نعم نعم، وقد وكَّلتك عني في كل شيء.
بشير
:
هل اطمأن بالك يا شيخ إسماعيل؟
إسماعيل
:
نعم.
بشير
:
إذن فأتنا بالأوراق على عَجَل، عندك كل البيانات في الورقة التي كتبتها
لك.
خليل
:
وعطية هانم، هل وافقت؟
بشير
(يترك مصراع الباب الثالث فيعود إلى أصله، ويرجع إلى يساره
صوب الكرسي الموضوع بين المائدة والباب الرابع)
:
هذا تدبيري وشأني (يجلس)، ومع ذلك فأنت
تعلم أنها موافقة من ساعة أن أخبرتها أنت في السراي وهي مريضة، أنها
عروسك.
خليل
:
وا خجلي!
بشير
:
وقد جاءت اليوم هنا تسرُّ البشرى إلى أختها، فأبيتما أنت وهذه الطائشة إلا أن
تكسرا فؤادها وتردَّاها ذليلة النفس كاسفة البال، خجلة من نفسها.
خليل
:
ما أشد جرمي يا عمي بشير أغا! والله أنا ما أردت هذا ولا كنت إلا صادق القول
والضمير. بالله كيف أمحو من نفسها أثر ما فعلت وأستغفرها؟
بشير
:
لقد قمتُ عنك بهذا.
خليل
:
شكرًا لك يا عم بشير، ما أكثر فضلك عليَّ.
بشير
:
أجل وربي استرضيتها واستغفرتها، لقد أصبحت على يقين أن أختها تفتري عليك وأنك
مظلوم مثلها، وأن من حفاظ العهد والمروءة ألا تتركك وتمضي إلى القاهرة، وأن كل
هذه التدبيرات التي أقوم بها إنما تجري بعلمك وإرشادك ورجائك حتى يحضر علي بك
ويتم كل شيء على يديه بِرًّا بما تعاقدت القلوب عليه من قبل، فهي تضحي بنفسها
وبعلاقتها بأختها وبكرامتها أيضًا من أجلك أنت؛ ثقةً منها أنها تجد أخًا مكان
الأخت، وهذا أول مظاهر الزوجية المناصرة، وإلا فما كانت تُساق في هذا الظرف كما
سقتها يا خليل.
خليل
:
وا خجلي! ما أشد نبل نفسها وأصغر نفسي!
بشير
:
لا يا بني، لا، لستَ صغيرَ النفْس، وإلا فما كنتُ سعيتُ في الجمع بينكما، إنك على
جانب الإسراف في الحياء، وهو أقبح صفات الرجولة. الحياء في الحق ضَعف ونقيصة من
شأنه أن يُوقِع الإنسان فيما لا تقره نفسه الكريمة، ولكنه أمر يزول بالتحذير،
وتنبيه صاحبه إلى وجه المضرة منه. وأنت يا بني شاب في مقتبل الشباب، عشت بعيدًا
عن الدنيا التي أنت منها، دنيا المسلمين والإسلام، وغُذيت شيئًا من لِبَأ الفوضى
التي يسمونها حرية، ووجدت هنا ما أغراك على المضيِّ في سبيلك ذلك، فكان منك ما
كان، ولكنك يا بني لا تزال رَخْصًا، وأرى نفسك الدفينة تنضح بخير هو معينها،
ووجدت أن زواجك من عطية كفيل بردِّك إلى الصواب وإصلاح حالك، وفيه كما تعلم إصلاح
لابنتي الأخرى صاحبة هذه الدار، وردٌّ للسعادة والطمأنينة التي غمرتنا.
خليل
:
شكرًا لك يا عم بشير، شكرًا، لو كان غيرك يعالج الأمر لما وجد إلا البتر
دواء، ولا رأى إلا الحرمان جزاء، ولكنك كنت من الأبرار أهل الحكمة والرحمة معًا
(يتناول يد بشير أغا ويقبِّلها، وبشير يستغفر
الله) تالله لا أدري كيف أمحو هذه الذكرى من فؤادي حتى أملك أن
أقابل عطية هانم طاهرًا نقيًّا كما كنت.
بشير
:
اجزِها عليه ذِكرًا ورعاية، وكن لها زوجًا صالحًا وأبًا، واعلم يا خليل أني
أهدي إليك درةً لم تلد الأصداف خيرًا منها ولا أنقى.
خليل
:
ما لي بشكرك يدان (يتناول يد بشير أغا مفاجأة
ويقبِّلها مرتين).
بشير
:
أستغفر الله، أستغفر الله.
خليل
:
إنك تعطيني السعادة كلها.
بشير
(يقبِّله)
:
أرجو لك حياة سعيدة، والآن … (يصفِّق) علي بك!
(لا يرد أحد) علي بك!
علي
(تُسمع خطواته ماشيًا بالدور الأعلى يرُدُّ)
:
نعم يا عم بشير أغا.
بشير
:
تفضل يا علي بك.
علي
:
ضروري الآن؟
بشير
:
إني أريدك الآن أنت وزهيرة هانم لأمرٍ مهم.
علي
:
حاضر (ينزل على الدرج) تعالي يا زهيرة
هانم.
بشير
(ينتظر قليلًا حتى يصل علي بك إلى الدرجات الأخيرة)
:
تفضَّل (يتنحى متجهًا إلى الكرسي الأول فيقف ونصف
ظهره إلى علي بك والنصف الآخر في مواجهة الجمهور).
علي
:
ماذا حدث يا عم بشير؟
(تكون زهيرة هانم قد وصلت إلى البسطة وهي نازلة على مهل وتنظر
إلى خليل نظرة اضطراب وجزع، وهو ينظر إليها مطمئنًا بابتسامة.)
بشير
:
اسمعوا، خليل بك أتى اليوم طالبًا الاقتران بابنتي عطية هانم، وأنا موافق،
وهي موافقة، وسعادتك موافق أيضًا، وأخته خديجة هانم موافقة كذلك، إلا زهيرة
هانم، لماذا؟
زهيرة
(تتنفس تنفُّس الخشية)
:
إني راعيت مصلحتها الحقيقية، لكن إذا كانت تريده وهو يريدها فما لي في الأمر
شيء، نعم إنها لم تتم العشرين، ولكني …
بشير
:
ماذا؟
علي
:
إذا سلخت من العشرين يومًا واحدًا عُدت في العشرين.
زهيرة
:
ولكنها دون العشرين فعلًا.
علي
:
بل في العشرين فعلًا، وقد توسطتها، وقد قلت لك إن الحساب بالعربي، والمرحومة
الست الكبيرة لم تشترط التمام. ومع ذلك فإنا لا ندري لماذا لا توافقين حتى ولو
كانت في الثامنة عشرة ما دام أن رضاك ينفي شرط الواقفة!
بشير
:
لا أدري السر في هذا!
زهيرة
:
لقد قلت لكم إني لا أمانع إذا كانت توافق وخليل بك يريد.
بشير
:
ألست تريد عطية هانم زوجةً لك يا خليل بك؟
علي
:
يريد ويشتهي ويتمنى ويقبِّل الأيدي والأرجل أيضًا، أليس كذلك؟
خليل
(يضحك)
:
هو كذلك، ولكني كنت أريد أن أتمهل، ولكن عمي بشير أغا لم يرَ ضرورة لهذا
التمهُّل.
زهيرة
:
كيف؟ ليس الأمر في يده. أين المهر؟ أم الناس تتزوج من غير مهر مثل
الإنجليز؟
علي
:
والله لو عملوا مثل الإنجليز لتزوجت كل البنات في هذا العام، ولكن صحيح أين
المهر يا خليل بك؟
خليل
:
سلوا عمي بشير أغا.
بشير
:
قبضته من خليل بك.
علي
:
تحيا الصناديق الصندلية والأكياس الحريرية الملونة، وكم كان هذا
المهر؟
زهيرة
:
مهر أختي لا يكون إلا …
بشير
:
مثلك تمامًا مع مراعاة سعر القِطَع في هذه الأيام.
علي
(يضحك)
:
مرحى، ليحيى العدل (يضحك) يعني كم؟
بشير
:
٣٠٠ جنيه مقدمة و١٥٠ مؤخرة و١٠٠ جنيه للنيشان.
علي
:
ولماذا لم تدفع عني المهر لزهيرة هانم كما دفعت لعطية هانم عن خليل؟
خليل
:
ناس لها بخت يا علي بك.
علي
:
ها ها ها، لا بد من رفع قضية. هذا أمر يوجب الغيرة، وماذا تريد منا أن نفعل
الآن؟
بشير
:
فعلت كل شيء يا سيدي وانتهى الأمر، لم أرَ دواء لهذا الاضطراب وهذه التحكمات
القاسية التي لا طعم لها إلا أن أعقد لهما، فهما الآن زوجان بسنة الله
ورسوله.
علي
(بدهشة)
:
عقدت لهما؟
زهيرة
(تضطرب)
:
عقدت لهما؟
بشير
:
أجل.
علي
:
متى كان ذلك؟
بشير
:
وأنتم تتجادلون هل توافق زهيرة هانم أم لا توافق!
علي
(علي وخليل يضحكان)
:
والله لقد أنصفت. أكثر أمور الدنيا ومشاكلها لا تستحق كل ما يعطون لها من
الأهمية والخطورة، ويكفي لحلها أن يُقدِم الإنسان على حلها من أقرب طريق
وأبسطه.
بشير
:
هذا ما فعلت، ولذلك لم يبقَ إلا أن تُوقِّع حضرتك (مشيرًا إلى خليل بك) على الوثيقة بصفة كونك الزوج السعيد
وحضرتهما شاهدين.
زهيرة
:
ولكن لا يصح أن يعمل شيء وهي غير موجودة، هل سمع أحد بزواجٍ هكذا، أم أنها
أعطتك توكيلًا؟!
علي
:
مرحى لزهيرة هانم، امرأة المحامي محامية، ها ها، يجب أن يبطل هذا الزواج أو
نأخذ حصتنا في توزيع الصدقات، ها ها (وخليل
يضحك).
بشير
:
لم تعطني توكيلًا يا سيدتي لأنها … موجودة.
علي
:
موجودة!
بشير
:
أجل (يلتفت إلى زهيرة هانم ويخاطبها وهي في حالة
اضطرابٍ شديد تحاول إخفاءه) لم أشأ أن أصحبها إلى المترو، لأنها
مخطوبة وأمرها لم يكن قد بُتَّ فيه بعد. ولم أشأ أن أرجع إلى السراي لأعلمهم
بالخبر أو لأخفيه فيطول الشرح والتأويل، ولا سيما لأن علي بك لم يكن قد حضر،
ورأيه في الأمر ذو وزن عظيم جدًّا، بل رأيه هو الكل في الكل، فلما تسمَّعت على
عادتي للخير، للخير دائمًا لا للشر، ورأيت أنه موافق، وهذا ما لم يكن عندي فيه
شك؛ لأنه رجلٌ عاقل …
علي
(مقاطعًا)
:
شكرًا على هذا الإطراء، ولكن عشرة جنيهات خير من هذا كله، ما علينا، ماذا
فعلت؟
بشير
:
أرسلت حسن الفرَّاش في طلب جارنا الشيخ إسماعيل المأذون، وتم كل شيء بحضور
الزوجين.
علي
:
ها ها ها (وخليل يضحك وزهيرة تضحك ساخرة)
وهل هي الآن هنا؟ (مشيرًا إلى الباب
الثالث.)
بشير
:
أجل أجل، في الغرفة المقابلة.
علي
:
فلأذهب إليها لأبارك لها وأهنيها (يخرج من الباب
الثالث).
زهيرة
:
هذه رواية من رواياتك يا خليل، أنت أمير الناس في الصياغة والتأليف.
خليل
:
أنا أمير الناس في الصياغة والتأليف، أم عمي بشير أغا؟
بشير
:
الدنيا كلها روايات، كلها محزن ومؤلم. ولقد كان في استطاعتي أن أجعل خاتمتها
الدمار والويل والنحيب، ولكن بالحق، كما أردت أن تجعلي خاتمتي بالباطل، ولكني
ترفقت بأشخاص روايتي وبقرائها وشهودها فجعلتها مفرحة ما دمت أستطيع أن أبلغ
غاية القصد بما فعلت.
علي
(يعود)
:
الأستاذ بشير أغا يخطب؟ سبحان الأول يا أستاذ!
بشير
:
لقد بح صوتي يا سيدي (يخرج من الباب الثالث
عَجِلًا).
علي
:
مبارك يا خليل بك مبارك، ما رأيت عطية هانم في مثل ما رأيتها الآن من جمال،
هنيئًا لك وألف هنيئًا (يسلِّم عليه).
خليل
:
شكرًا لك، ها …
علي
:
ألا تباركين لأختك؟ ما هذا يا زهيرة! أنت صلبة الدماغ، ماذا فعلت البنت حتى
تعامليها هذه المعاملة القاسية؟ أم كنت تريدين أن تكوني أنت العروس؟
زهيرة
:
من يدري؟
علي
:
محال، لا فراق إلا بالخناق، إلا إذا كنتِ عازمة على خنقي قبل الأوان، ها
ها.
زهيرة
:
هذا ما سأفعله حتمًا.
علي
:
مؤكد إذا بلغت صرخة الطفل أوجها، ها ها. (وخليل
يضحك) ولكني سأعمل على تلافي هذا الأمر، إن حوادث الزواج تنعش
النفس ها ها (يدخل بشير أغا ومعه دفتر كبير ويقدمه
إلى خليل).
بشير
(يضع الدفتر على المائدة)
:
تفضل يا خليل بك، أين قلمك الأمريكاني؟ ضع إمضاءك هنا (مشيرًا إلى إحدى القسائم) لقد كتبنا كل شيء ولم
يبقَ إلا التوقيع.
خليل
(يُخرِج قلمه من جيبه)
:
ها هو ذا (ينزع غطاء القلم ويثبته في
أسفله) أين أوقِّع؟
بشير
:
هنا (مشيرًا إلى إحدى القسائم).
علي
:
ألا تعرف أين توقِّع؟ ما هذا! (ينهض إليه)
ألم يسبق لك أن تزوجت؟
خليل
:
كثيرًا، ولكن عمري ما وقَّعت على عقد أبدًا (يضحك).
علي
(يضحك ويضحك خليل ثم ينظر علي بك في الدفتر فيرى إمضاء
عليه)
:
لقد سبقتك عطية هانم إلى التوقيع، أبشِرْ بالخير يا
خليل. سيكون لها السبق عليك في كل شيء!
بشير
:
إن شاء الله، وهنا أيضًا (مشيرًا إلى القسيمة
الثانية).
خليل
:
وهنا أيضًا (يوقِّع).
علي
:
عروس بلا نفقة! أين كان هذا الحظ مخبوءًا؟
خليل
:
في صناديق عمي بشير أغا، ها ها ها.
بشير
:
وهنا أيضًا (يشير إلى القسيمة
الثالثة).
خليل
:
وهنا أيضًا (يوقِّع ويشتغل بشير أغا
بالتجفيف).
زهيرة
:
يظهر أن الحظ في الدنيا لا يأتي إلا لأقلهم استحقاقًا له.
خليل
:
أدعو الله إذن أن يزيدني قلة استحقاق وعدم جدارة ليزيد حظي من الدنيا.
بشير
(لعلي بك)
:
خذ وقِّع.
علي
:
هذا مؤكد، ولهذا فإني … (يتناول القلم ولكنه منشغل
بالكلام.)
خليل
:
ماذا؟
علي
:
في غاية المحظوظية (ينطق بآخر الحرف أي بالتاء
المربوطة ثالثة الحروف تقليدًا للأتراك).
بشير
:
تعالي يا زهيرة هانم وقِّعي.
زهيرة
:
لا شأن لي في هذا.
بشير
:
بل إن شهادتك لا تنفع، سأشهد أنا والأسطى خير الله.
علي
:
مبارك يا زهيرة هانم، مبارك يا بشير أغا.
بشير
:
الآن قد ارتاح قلبي (يذهب إلى الباب الثالث
ويفتحه) مبارك يا عطية هانم، أحضرها يا علي بك.
علي
:
أنا؟ ليحضرها عروسها أو فلنحضرها جميعًا. هلم.
خليل
:
هذا حسن.
علي
:
تعالي يا زهيرة هانم (زهيرة لا تتحرك)، ما
هذا؟
زهيرة
:
إنها خالفت إرادتي.
علي
:
هذا عناد متعمد، انهضي.
زهيرة
:
لا أنهض.
بشير
:
تعالَ يا علي بك، لندخل نحن جميعًا.
علي
:
لا بأس (يتدافعون لدى الباب الثالث
ويخرجون).
زهيرة
:
آه لقد ضاع عليَّ خليل، ضاع (تسكت)، ولكنه
في يدي. سيكون زوجي على أي حال. ماذا تهم هذه الورقات؟ إنها تعرف أني أحبه، وقد
تزوجته بالرغم مني، فلا حق لها عليَّ، إنه زوجي قبْلها. وَيْحي! إنهم آتون! لا
أطيق البقاء. لا أحتمل رؤيتها. ولكن ذهابي فضيحة.
علي
(يدخل)
:
تعالوا هنا، تعالوا هنا. دعونا نتمتع بكم، إن أمامكم أعوامًا طويلة، ما أسعد
هذا اليوم!
زهيرة
:
لأنك تريد شقاءها.
علي
:
كلا، كلا لن تكون إلا سعيدة، إنها أهدأ منك عصبًا، وأقل تطلعًا إلى ما وراء
جدران البيت، وستكون سعيدة لأنها كذلك.
زهيرة
:
سنرى.
علي
:
تعالوا (يدخلون ومعهم عطية هانم بجانب خليل ولكنها
منقَّبة بالبيشة) مبارك يا عطية هانم (عطية لا ترد) إنها لا ترد، مبارك أنت يا خليل بك.
خليل
:
الله يبارك فيكم.
بشير
:
خذي يا عطية، خذي يا ابنتي. هذا مهرك ٣٥٠ جنيهًا ذهبًا لأجل السُّنَّة مع فرق
الكمبيو ذهبًا لأني أكره الورق، وهذا هديتي ٣٥٠ جنيهًا أخرى، وقد رأيت أن تكون
هي أيضًا ذهبًا.
عطية
(تقبِّل يديه)
:
شكرًا لك يا أبي، شكرًا.
بشير
:
اجعليها لزينتك، أما جهازك فخُذْ يا خليل بك.
خليل
:
ماذا؟
بشير
:
ألف جنيه.
خليل
:
ألف جنيه!
بشير
:
ورقًا.
خليل
:
ورقًا أو غير ورق، الله!
بشير
:
جهِّز ما تشاء، هذا ما وعدتك.
خليل
:
كتَّر خيرك يا عم بشير، كتَّر خيرك (يقبِّل يد بشير أغا
ووجهه أيضًا).
علي
:
معلوم معلوم، وجهك الآن مثل القمر. مثل عطية هانم، تمام تمام، وأحسن وأحسن
(الجميع يضحكون).
خليل
:
والله، لا قدرة لي على شكرك.
علي
:
وأنا يا عم بشير أغا، أليس لي نصيب في هذه المبرَّات؟
بشير
:
هذا كله من أجلك أنت يا سيِّدي!