مِفتاح شخصيته
تقدمت الإشارة إلى قصة الشبه القريب بين خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب في ملامح الوجه وطول القامة، وأنهما كانا من التقارب بحيث يشتبه الأمر على قصير النظر وهو يتكلم إليهما، فيخاطب عمر بن الخطاب وهو يظن أنه يخاطب خالد بن الوليد.
ويلوح لمن يقرأ سيرة الرجلين أنَّ الشبه بينهما يتعدى الملامح والقامة إلى معالم الشخصية وطبائع القوة النفسية، فكلاهما يجوز أن يقال فيه إنه «جندي» بالفطرة وإنَّ «مفتاح شخصيه» هو السليقة الجندية، فإذا أحضرنا في أخلادنا كلمة «الجندي» أو الجندي المطبوع لم نجد في ابن الخطاب ولا في ابن الوليد صفة لا تحتويها هذه الكلمة في معنًى من معانيها …
وبين الرجلين فارق لا خفاء به في الخلق والتفكير.
لكنه فارق لا يخرج بهما من نطاق هذه الطبيعة، فكلاهما جندي مطبوع على الخلائق الجندية، ولكن ابن الخطاب تغلب عليه، من مزاج الجندي، ناحيته الروحية أو ناحية الضمير، وابن الوليد تغلب عليه، من هذا المزاج نفسه، ناحية الحيوية أو ناحية البنيان والتركيب …
وأصح من هذا أن نقول: إنَّ عمر كان جنديًّا في أخلاقه الوازعة الحاكمة، وإنَّ خالدًا كان جنديًّا في أخلاقه الدافعة الهاجمة. وفي الجنود، كما لا يخفى، هذه الأخلاق وهذه الأخلاق.
ولا ريب أنَّ هذا الفارق بين الفاروق وسيف الله إنما هو قبل كل شيء فارق بين نفسين، أو بين رجلين، أو بين «شخصيتين».
لكن هذا لا يمنع أن يكون في الوقت نفسه فارقًا بين «قبيلتين»وبين أسرتين وبين نشأتين … فإن الفوارق بين بني عدي قبيلة عمر وبين بني مخزوم قبيلة خالد لخليقة أن تتجه بالمزاج المتقارب وجهتين متباينتين …
فبنو عدي — آل عمر — كانوا في الجاهلية أهل تحكيم ومعرفة بالفصل في الخصومات وقد ذاقوا، كما قلنا في «عبقرية عمر»، «طعم الظلم من أقربائهم بني عبد شمس، وكانوا أشداء في الحرب يسمونهم لعقة الدم، ولكنهم غلبوا على أمرهم لقلة عددهم بالقياس إلى عدد أقربائهم … فاستقر فيهم بغض القوي المظلوم للظلم وحبه للعدل الذي مارسوه ودربوا عليه …»
أما بنو مخزوم — آل خالد — فكانوا على خلاف ذلك أهل حرب وسطوة وأصحاب ثراء ورخاء، وكانوا في الجاهلية موكلين بالخيل والسلاح، معتزين بالعتاد التليد، والعدة والعديد.
وكان ثراؤهم يُملي لهم في أسباب الترف والنعيم كما تُملي لهم فيه مَزِيَّة أخرى من المزايا التي تكلفها للقبيلة عزة السلطان وطول العهد بالحضارة والرئاسة … وتلك المزية هي جمال النساء.
فقد كان يقال: إنَّ «المخزوميات» رياحين العرب.
وكان في رجالهم ذلك الغزل الذي أخرج منهم شاعره الأول عمر بن أبي ربيعة، بل أخرج منهم غَزَلِيِّن ظرفاء حتى في النساء والأتقياء …
جاء في كتاب الأغاني عن أبي السائب المخزومي: «أنه كان رجلًا صالحًا زاهدًا متقللًا يصوم الدهر، وكان أرق خلق الله وأشدهم غزلًا، فوجه ابنه يومًا يأتيه بما يفطر عليه، فأبطأ الغلام إلى العتمة، فلما جاء قال له: يا عدو نفسه، ما أخرك إلى هذا الوقت؟ قال: جزت بباب بني فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته. فقال: هات يا بني، فوالله لئن كنت أحسنت لأحبونك ولئن كنت أسأت لأضربنك، فاندفع يغني بشعر كثير:
فلم يزل يغنيه إلى نصف الليل، فقالت له زوجته: قد انتصف الليل وما أفطرنا. قال لها: أنت طالق إن كان فطورنا غيره. فلم يزل يغنيه إلى السحر. فلما كان السحر قالت زوجته: هذا السحر وما أفطرنا، فقال: أنت طالق إن كان سحورنا غيره، فلما أصبح قال لابنه: خذ جبتي هذه وأعطني خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما. فقال له: يا أبت أنت شيخ وأنا شاب. وأنا قوي على البرد منك. قال: يا بني … ما ترك صوتك هذا للبرد عليَّ سبيلًا ما حييت.»
واطرح كل ما في هذه القصة من المبالغة والإغراق تَبقَ منها بقية كافية لبيان مكان الغزل من نساك بني مخزوم، فضلًا عن الشعراء والظرفاء.
وندع القبيلة إلى الأسرة فيتراءى لنا في النظرة الأولى ذلك الاختلاف الذي لا بد منه بين معيشة الخطاب ومعيشة الوليد، أو بين معيشة الرجل الكادح لنفسه الخشن في ملمسه، وبين معيشة الرجل المترف الفخور بالمال والبنين والجاه المكين.
لكنه مع هذا فرق في المعيشة لا يتغلغل إلى بواطن الطباع، إنما الفرق المتغلغل إلى بواطن الطباع، بل إلى أعمق أعماقها، وهو فرق البنية العصبية بين أبناء الخطاب وأبناء الوليد.
فمن أوصاف أبناء الوليد عامة ينكشف لنا «قلق عصبي» في هذه الأسرة قد تطرف جد التطرف في أفراد منها، واعتدل بعض الاعتدال في آخرين …
فعمارة بن الوليد هو الذي بلغ منه الاضطراب أن يراود امرأة في محضر زوجها، وأن يجترئ على حرم النجاشي بالمغازلة، ثم يجترئ بالتحدث عن هذه المغازلة حديث الفخر والمباهاة، ثم ينطلق مع الأوابد في الآجام بفعل السواحر كما قيل، وهو قول لا يخفى مدلوله في لغة العصر الحديث …
وذُكر عن خالد كما ذكر عن أخيه الوليد أنه كان يتفزغ في نومه. فذاك أثر من آثار «أعصاب الأسرة» كلها على ما هو واضح من جملة المشاهدات في أبنائها، وإن كان يجمح بهم في حين ويكبح في حين …
وقد كان خالد يغضب فينقَعُ لونُه كما جاء في كتب الفتوح من حديث المغاضبة بينه وبين أبي عبيدة بعد تسليم دمشق ومصالحة أهلها، وقد كانت علة المغاضبة أنَّ أبا عبيدة يحسب التسليم صلحًا، وخالدًا يحسبه غلبًا يحق فيه على المغلوب جزاء السبي والاغتنام والقصاص …
وكانت في خالد حدة يملكها أو تملكه آونة بعد آونة، وفي القليل الذي بلغنا إشارة إلى الكثير الذي لم يبلغنا. فقد غاضب أبا عبيدة وغاضب عبد الرحمن بن عوف وغاضب عمار بن ياسر. وقال له عمار وقد سمع منه ما ساءه: «لقد هممت ألا أكلمك أبدًا» فأصلح بينهما النبي — عليه السلام — وهو يقول لخالد: «يا خالد … مالك ولعمار … رجل من أهل الجنة قد شهد بدرًا.» ثم يقول لعمار: «إنَّ خالدًا يا عمار سيف من سيوف الله على الكفار.»
فهذا الفارق بين الأسرتين، وذلك الفارق بين القبيلتين، مفسران صالحان لاختلاف لوني «الجندية» في شخصية الرجلين العظيمين. عمر إلى الجندية الموزوعة وخالد إلى الجندية المدفوعة، وعمر إلى الشظف المختار وخالد إلى المتاع المباح.
ولا يرد إلينا العجب بعد هذا أن يكون شعور خالد بالمرأة هو شعوره ذاك الذي أهدفه للملاحظة والمؤاخذة مرات، وجعل من مؤاخذيه أرغب الناس في عذره والثناء عليه، ونعني به الخليفة الصديق.
وقد كان هذا الشعور لازمه ما يلازم أبناء الثراء من حب الرفاهية وبهجة الحياة، فلم يفرغ من الحرب قط إلا انقلب منها إلى واد ظليل في صحبة زوج محببة إليه، فقضى في وادي الوبر باليمامة أيام الدعة بين زوجيه بنت مجاعة وبنت المنهال، وقضى في دومة الجندل أيام الهدأة بين الوقائع في صحبة ابنه الجودي الحسناء، واستطاب المقام بحمص بعد العزل وآثره على المقام بالحجاز، وأغضب الفاروق؛ لأنه «كان يدخل الحمام فيتدلك بعد النورة بثخين معجون بخمر» فلما لامه الفاروق في ذلك قال: إنا قتلناها فعادت غسولًا غير خمر، ثم قال يخاطب عمر:
وفي كل أولئك هو سليل حق لبني مخزوم ولبيت الوليد، وترجمان صدق لتلك البنية العصبية المتفززة التي تجنح به إلى المتعة في أيام الدعة كما تجنح به إلى البطش في مقام الجلاد والعناد، وتفسر لنا الجندي الذي تميل به القوة الحيوية تارة إلى لقاء الحسان وتارة إلى لقاء الأقران.
وهو نفسه قد أبان عن طويته كلها غير عامد حين قال: «ما ليلة يهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب أو أُبشر فيها بغلام أحب إليَّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو، فعليكم بالجهاد …»
فالحرب عنده اشتهاء، والعروس عنده غاية المتاع …
والحرب في رأيه حسناء تُشتهى أبدًا ولا تشيب كصاحبة الزبيدي التي تكون مبدئها «فتية تسعى بزينتها لكل جهول» ثم تصبح:
وأيّا كانت متعته بالمرأة الحسناء أو بالمقام الوثير، فهي متعة القوي اليقظان وليست بمتعة الضعيف المستنيم.
هي متعة المسافر الذي يستريح إلى الواحة؛ لينفض عنه الجهد ويتزود منها لجهد جديد، وليست متعة المتهافت الذي يتوق إلى مهاد الراحة لينغمس فيها ويستكين إليها ولا يفيق من سكرتها.
بل هو يحب المتعة؛ لأنه يحب الجهاد، فإذا طالت عافها وبرم بها واحتواها، وأنف أن يقنع بها ويستمرئها … فلم يطق سنة واحدة بالحيرة بين حروب فارس وحروب الروم، وسماها «سنة نساء»؛ لأنها كانت راحة من العناء، مع أنها كانت راحة المتربص المتوفز، وكانت راحة يتخللها وثبات وضربات من هنا وهناك …
وهكذا كان يأخذ من المتعة بأيسر المقادير، ليأخذ من الشدة والبأس بأوفر المقادير …
لأن طبيعته القوية هيأته للشدة وبأس قبل كل شيء، وما بقي من الطبيعة للرياضة فقد أتمته الرياضة بعزيمة الجبابرة التي لا تلين. باستمراء ما لا مراءة فيه من طعام وشراب، ويأكل الضب وشرب السم ومطاولة الركوب أيامًا بعد أيام …
لا جرم يكون أكبر الأسى لتلك النفس في ساعة الموت أنها تموت على الفراش أو على حد قوله كما يموت البعير: «لقد طلبت القتل في مَظانِّه، فلم يُقدَّرْ لي إلَّا أن أموت على فراشي … ولقيت الزحوف وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء …»
وأقرب شيء أن يلاحظ في سيرة خالد — من نشأته إلى وفاته — أنَّ هذا الولع كله بالحرب لم يكن ولعًا بالشر والسوء، ولا ولعًا بالضغينة والبغضاء. فكانت عداوته كلها عداوات جندي مقاتل، ولم تكن عداوات مضطغن آثم … ولم يعرف قط عنه أنه حمل الضغينة لأحد من الناس، ولو أنه اضطغن على أحد لكان أحق الناس أن يضطغن عليه عمر بن الخطاب؛ لأنه عزله وشطر ماله وأبقاه في العزلة سنوات، ولكنه لم يعمل عملًا واحدًا ولم يقل كلمة واحدة تدل على ضغن عليه. وقد سامحه والتمس له المعذرة وعلم أنه قد أراد وجه الله بما حاسبه عليه، وكان أشد ما قاله فيه: «الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إليَّ من عمر، والحمد لله الذي ولَّى عمر وكان أبغض إليَّ من أبي بكر ثم ألزمني حبه»، وربما ذكره وهو غاضب فسماه «الأعيسر بن أم شملة» فكانت هذه الكلمة أدل على التحبب منها على الكراهة، ولاحت كأنها كلمة المغلوب في لعبة لا في غرض عظيم يقعد ويقيم …
وقد يمكن كثيرًا أن تتسع هوة البعد بين الولع بالحرب والولع بالشر والضغينة، وإنها لأولى أن تتسع بينهما حيث تكون الحرب ميدان التضحية والفداء في سبيل الغيرة القومية أو في سبيل الإيمان والضمير، وحيث يكون الرجل قد تربى على مراسها وطبع في نفسه على مزاج يألف القتال ولا ينفر منه. وليس في المجتمعات الإنسانية التي تصبح الحرب فيها ضرورة من ضرورات الحياة والشرف باعث إلى النفرة من القتال، ولن تزال القدرة على الحرب شرفًا وشجاعة إلى آخر الزمان، ما دام في بني الإنسان من يحمل السلاح للعدوان والبغي والتلصص والمراء، فيتقيه بنو الإنسان بمن يحمل السلاح للحق والعقيدة والإنصاف.
وعلى كثرة من قتل خالد في حروبه لم يكن يقتل أحدًا قط وهو يشك في صواب قتله وإن أخطأ وجه الصواب، فالقتلى الذين طاحت بهم سيوف الجلادين بأمره في «نهر الدم» كانوا يستحقون عنده القتل قربانًا إلى الله وجزاء لهم على عناد الشرك والإصرار.
أما إذا شك في صوابه فهو يستكثر المساءة إلى رجل واحد فضلًا عن الجحافل والقبائل، ويسبق إلى الرفق رجلًا كأبي عبيدة عرف طوال حياته بالرفق والرحمة والأناة. فيقول له وقد تناول رجلًا بشيء: «إني لم أرد أن أغضبك، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنَّ أشد الناس عذابًا يوم القيامة أشد الناس عذابًا للناس في الدنيا».»
فهو مطبوع على عداء الجندي المقاتل وليس بالمطبوع على عداء الدسيسة والشر في صغائر العيش وسفاسف الأمور.
كذلك لا يفهم من ولعه بالحرب على هذه الصفة أنه كان مبتلى بذلك الولع الأهوج الذي يبتلى به من لا يعقلون هجومًا إلا كهجوم الريح أو فرارًا إلا كفرار الحيوان.
فقد كان يقدم عن علم بمواضع الإقدام؛ ولذلك لم ينهزم قط وهو مسئول عن الهزيمة … وإنما هزم في حنين مرة واحدة وهو مسئول عن اليوم كله كما قدمناه.
أما إذا وجب التراجع، فالشجاعة كل الشجاعة عنده أن يؤمن بهذه الحقيقة وأن يدبر أمر التراجع بعد ذلك على النحو الذي يصون الكرامة ويصون الدماء، ويكون المخدوع المغلوب فيه هو الذي أمكن التراجع من بين يديه، وقد كان في وسعه أن يبطش بالمتراجعين جميعًا قبل أن يفلتوا من أوهاقه المطبقة عليهم.
هذه هي الجندية البصيرة بمزاياها في الكفة الراجحة والكفة المرجوحة أو هذه هي الجندية الغالبة أبدًا وهي في إقدام أو في إحجام.
ولقد كادت هذه الطبيعة الجندية أن تحيط بكل ما رزق من طبيعة حيَّة. فمن أقواله: إنَّ الجهاد شغلني عن تعلم القرآن، أو قراءة كثير من القرآن …
وعذره في ذلك حين قال ذلك المقام أنه لم يقض في ملازمة النبي غير أوقات جد قصار؛ لأنه شغل السنوات الثلاث التي قضاها مع النبي بعد إسلامه وهو بين السرايا والغزوات.
وقد كان يخطب ويكتب ويقول الأبيات من الشعر والرجز على مثال ما قدمناه، ولكنها الخطب والكتب التي يستطيعها العربي الفصيح الناشئ في كنف الفصحاء، ثم هي كلها ملحقة بوظيفة الجندية فيه فإذا قال كلمة أو كتب سطرًا فكان يكتب بحسام لا بيراع.
كتب إلى مرازبة فارس فقال: «الحمد لله الذي فض ملككم وأذل عزمكم، فإذا أتاكم كتابي هذا فابعثوا إليَّ الرهن واعتقدوا منا الذمة وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو لأسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا …»
وخطب في المسلمين وقد تهيبوا طروق المفازة من العراق إلى الشام فقال: «لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أنَّ المعونة تأتي على قدر النية، والأجر على قدر الحسنة، وأنَّ المسلم لا ينبغي له أن يكترث لشيء فيه مع معونة الله له.»
ويسمع الكلمة فيردها بالجواب المسكت كأنه يتلقى ضربة سيف بضربة سيف، كما قال حين سمع صائحًا في المعسكر يصيح: «ما أكثر الروم وأقل المسلمين.»
فلم يكن أسرع منه إلى أن يقول: «بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين: إنَّ الجيوش إنما تكثر بالنصر وتقل بالخذلان.»
فكل كلمة منه فإنما هي ضربة سيف في صورة حروف ونبرات.
ومن الملاحظات الجديرة باستقراء علم النفس أنه على التشابه بينه وبين عمر كان في عمر جانب فكاهة وإن كانت خشنة غليظة، ولم يكن فيه هو مثل هذا الجانب في عمله أو كلامه.
وقد كان الأدنى إلى الظن — عند النظرة الأولى — أن تنمو الفكاهة مع الرجل الذي نشأ في مهد اليسار ولا تنمو مع الرجل الذي نشأ على العسر أو اليسر القليل.
لكنها النظرة الأولى ولا تتعداها …
لأن الإعسار في الواقع أعون على الفكاهة من اليسار. ومن هنا كان ولع الناس بالفكاهة في أيام الحروب وأزمات الشدة ومظالم الاستبداد، كأنها ضرب من التعويض والمقابلة ولا غرابة في ذلك حيث ننظر إلى منشأ الفكاهة في جملتها، فهي على أكثرها وليدة المفارقة بين الحالات وليست وليدة الموافقة الموائمة، وما أكثر المفارقات في حياة المعسرين.
ولعلنا نبلغ مقطع القول في هذه الملاحظة حين نقول: إنَّ الموسر أقدر على التسلية والمعسر أقدر على الفكاهة. وبين التسلية والفكاهة فرق غير مجهول. رحم الله خالدًا … إنه كان جنديًّا وكفى!
لكنه قد عوض في جانبه الواحد عن جوانب عدة في الآخرين؛ لأنه قد رزق الجندية في طرازها الأول، ورزق منها وحده ما يكفي عشرة من جنود التاريخ المبرزين.