نهاية من صنع القدر
قضى خالد بقية أيامه بعد عزله في مدينة حمص — زهاء سنوات أربع — لم يفارقها قليلًا إلا ليعود إليها.
وعاش هناك بين أهله وولده وهم كثيرون.
وكأنما كانت للموت ضريبة مقضية على هذا القائد الكبير يطالبه بها في حربه وسلمه حيث كان. فمات من أولاده نحو أربعين في سنة الطاعون.
ولم تروَ لنا كلمة قالها خالد في موت هؤلاء الأبناء الكثيرين، وهو الرجل الذي كان التبشير بغلام عنده فرحًا من أكبر أفراح الحياة. فكأنما ألِفَ وجه الموت لطول ما واجهه من قريب. فهو لا يلقاه أبدًا لقاء غريب مريب …
•••
وتعقب الموت أبناءه الذين بقوا بعد الطاعون وأشهرهم المهاجر من حزب علي وعبد الرحمن من حزب معاوية … فمات المهاجر في صفين ومات عبد الرحمن مسمومًا على ما قيل؛ لأنه رشح للخلافة قبل أن يرشح يزيد بن معاوية لولاية العهد فسقاه معاوية السم على يد الطبيب بن أثال …
وما هي إلا فترة حتى انقرضت ذرية هذا القائد الكبير — صاحب الموت والقدر — فورث دورهم بالمدينة أحد أبناء أخيه.
وانتهت حياة خالد — رضي الله عنه — نهايتها العجيبة، بين سنة إحدى وعشرين واثنتين وعشرين.
والنهاية العجيبة لحياة مثله أن يموت على فراشه — كما قال — بعد أن شهد نيفًا وخمسين زحفًا في نجد والحجاز والعراق والشام، ولم يبق في جسمه مصح من كثرة الجراح.
وليس هذا كل ما في موته من «غير المألوف» أو غير المنظور، فإنه مات ولم يجاوز الخامسة والخمسين على أرجح تقدير. وليست هي بالسن التي تنتهي بها الحياة بغير مرض شديد، فإن كان قد ألم به مرض عارض غير مميت في جملة أطواره فلعله قد أتم ما بدأه الحزن على الأبناء، والفتور من الراحة، وذلك الاضطراب الذي كان يفزعه في نومه وينتقع منه لونه إذا غضب أو ثار.
ولم يوجد في بيته عند موته غير فرسه وغلامه وسلاح وقفه للجهاد في سبيل الله. فلما بلغ ذلك عمر قال: رحم الله أبا سليمان كان على غير ما ظنناه به … ونكس مرارًا وهو يسترجع كلما رفع رأسه، ثم قال: كان والله سدادًا لنحور العدو ميمون النقيبة.
•••
وقد كان حزن عمر عليه حزن قريب وحزن مسلم وحزن خليفة. قال لأمه: عزمت عليك ألا تبيتي حتى تسودي يديك من الخضاب.
واجتمع بنات عمه يبكين فقيل لعمر: «أرسل إليهن فانههن. فقال دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة. على مثل أبي سليمان تبكي البواكي.»
ولما سُئل عمرُ أن يعهد بعد موته قال: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح ثم وليته ثم قدمت على ربي فقال لي: لم استخلفته على أمة محمد؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: لكل أمة أمين وإنَّ أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، ولو أدركت خالدًا ثم وليته ثم قدمت على ربي فقال لي: من استخلفت على أمة محمد؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول لخالد: سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين …
ولعمري، إنَّ «سيف الله» قد استحق هذه التزكية وهو في الغمد كما استحقها وهو مشهور.
فليست سنوات العزلة بأخف السنوات وزنًا في سيرة خالد بن الوليد.
إنَّ الحوادث قد وعظته بها فاتعظ في صبر وأناة. فلم يغلبه لسانه ولم يغلبه هواه، ولم يتحرك لكيد ولا لشغب ولا لمذمة ولا لوقيعة، ولو شاء بعض ذلك لكان له مطمع فيه، وهو الرجل الذي طبقت شهرته آفاق المسلمين وغير المسلمين.
نعم، إنه لا فتنة وابن الخطاب حي كما قال، وإنَّ الفتنة إنما تخشى «إذا كان الناس بذي بليٍّ» أو في معرض الفرقة والنزاع وعصيان الأئمة أو انقطاع الإمام.
ولكن إدراك هذا وحده مفخرة من المفاخر، وليس كل إدراك كهذا الإدراك بالذي يغلب الهوى ويقمع النزوات.
فلا جرم يرشح الفاروق خالدًا للخلافة كما رشح لها أبا عبيدة، ولا جرم يعرف سيف الله في الغمد كما عرفه وهو في يمين البطل الجسور. فإن يكن خالد مخشيَّ المزاحمة على الخلافة في ظن من الظنون فليس هو بمخشيٍّ عليها وقد وصلت إليه معهودًا إليه خالصة من الزحام، وقد استحقها بعد أكبر مستحقيها وريض لها سنوات تجرد فيها من سورة الشباب وبعد ما بينه وبين نشأة الجاهلية، وقرب ما بينه وبين الله.
•••
لقد مات — نصير الموت — مطمئنًّا إلى نهاية حياته، لا يكره منها إلا أنها انتهت به على فراشه.
ولكننا — أبناء آدم — نكره كثيرًا ما يكون من حقنا أن نتمناه. وما كان لخالد أمنية قد بقيت له في ميدان الكفاح يتمناها. لقد عرفه الناس حق عرفانه وهو الكريم الشجاع، ولم يبق له إلا أن يعرفوه في ميدان العزلة وهو الشجاع الصبور …
وقد عرفوه على هذه الصفة في ميدان حمص — ميدان السلم والتسليم — خير عرفان وأجدره بماضيه العظيم وتاريخه الخالد المقيم.