العزْل
يستحق الرجل أن يسمَّى بطلًا من أبطال التاريخ إذا كان له «دور تاريخي» يقضيه ويتسم بملامحه ودواعيه …
وآية انقضاء ذلك الدور أن يبلغ البطل من الأعمال المقدورة له قمتها العليا التي لا قمة وراءها، وأنه يعدو هذا الدور فإذا هو مفتئت على الآخرين ممن لهم حق مثل حقه في أدوار التاريخ، أو يعدوه إلى أعمال يغني فيها الآخرون مثل غنائه، وتدخل في باب من السعي والدراية غير بابه.
وقد بلغ خالد في معركة اليرموك قمته العليا التي لا مرتقى بعدها لراق: قمع فتنة الردة، وضرب دولة الأكاسرة ضربته الدامغة، ووحد قيادة المسلمين في حرب الرومان فصدهم إلى ما وراء حدودهم، وخلت ميادين الشام بعدها من أعمال يصح أن تسمَّى بالأعمال الخالدية. فهي بين حصار أو مراوغة أو تسليم، وإنما يراد خالد لتحطيم قوى الأعداء التي تعز على التحطيم.
ففي مرج الروم، كان هو وأبو عبيدة ينازلهما قائدان رومانيان هما جونس وتوذر كما سماه خالد، فتسلل توذر تحت الليل ليفاجئ الجيش العربي عند دمشق بقيادة يزيد بن أبي سفيان ويأخذ جيوش المسلمين على غرة متفرقين. فاتفق خالد وأبو عبيدة على تعقبه ومفاجأته من خلفه قبل أن يفاجئ يزيد بن أبي سفيان فأوقعاه في الفخ الذي نصبه، ولم يرجع خالد إلى أبي عبيدة إلا وتوذر مقتول وجيشه مبدد كما قال:
وفي قنسرين حصر خالد الرومان المحتمين بحصونها فطاولوا وأبرموه. فقال لهم محنقًا: «لو كنتم في السحاب لحَمَلَنَا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا» وأبَى أن يصالحهم بعد ذلك إلا على تخريب المدينة ودك حصونها، فختمت بذلك ضرباته الخالديات …
ولكنه كان قبل مرج الروم وقنسرين قد وفَّى «دوره التاريخي» أكمل وفاء، فلو فاته هذان العملان لما نقص من مجده شيء ولا تغير مجرى الحوادث في أعقاب هزيمة الرومان.
•••
أما سائر الميادين فقد تولاها قواد آخرون ففُتحت بقية فارس، وفتحت مصر وشطر من إفريقية الشمالية، وكتبت بذلك «أدوار تاريخية» أخرى للمثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص والنعمان بن مقرن وعمرو بن العاص، ورجال غيرهم يساوونهم أو يقلون عنهم في المقدرة ولا يقلون عنهم في المقصد والنية، وكل زيادة في عمل خالد لا تضيف إليه مجدًا فوق مجده، وتنقص ولا ريب من عمل هؤلاء، وتحرم الإسلام أيديًا كثيرة تعمل له وتدفع عنه، وليس هو بمستغنٍ عن تلك الأيدي الكثيرة بيد واحدة، بالغًا ما بلغ بها الرجحان والاستعلاء.
قلنا في أول هذا الفصل إنَّ انقضاء «الدور التاريخي» لبطل من الأبطال له آيات تدل عليه، ومنها أن يعدو دوره إلى أعمال يغني فيها الآخرون مثل غنائه وتدخل في باب من السعي والدراية غير بابه، ونزيد على هذا أنَّ غناء الآخرين في هذا خيرًا من غنائه لهو أولى أن يدل على انقضاء دوره وانتقاله إلى من هو أحق به وأخلق.
وفي ميدان الشام — بعد معركة اليرموك — كان أبو عبيدة بن الجراح أحق بالموقف الجديد من خالد بن الوليد؛ لأنه موقف التسليم والمسالمة واستلال الحقود وضمد الجراح وتقريب القلوب، وفي جميع أولئك يتسع المجال لهوادة أبي عبيدة ويضيق بضربات خالد … فأبو عبيدة يسرع إلى المسالمة إذا فتحت له أبوابها، ولا يبطئ عن الحرب إذا وجبت عليه أسبابها، فإن كانت بالمسالمة جدوى فذاك، وإن كان يوم الضربات الخالديات فهي لديه يرمى بها في مراميها، وإنما يكون العمل الأول هنا لمن يسالمهم ويتقبل التسليم، ويكون العمل التابع له لمن يرفع سوط النقمة على الذين يلجون في العداء كأهل قنسرين، فلا يسلمون إلا بتخريب الديار ودك الحصون.
ولا جرم كان أبناء الأمصار يتسامعون بحلم أبي عبيدة فيقبلون على التسليم إليه ويؤثرون خطابهم له على خطابهم لغيره، وكان خالد يرضى بهذا حينًا ويسخط منه حينًا، كما سخط عند تسليم دمشق ووساطة أبي عبيدة في العفو عن أهلها. فإنه كان يحسبهم مغلوبين عنوة فيعاقبون بالسبي والقصاص ولا يبسط لهم مهاد العذر والموادعة، ولولا أنه لا يغدر بعهد عاهدهم به أبو عبيدة لما كان لهم من شرط عنده غير شرط على أهل قنسرين.
فصواب التاريخ وصواب ابن الخطاب قد تلاقيا ههنا بإسناد الأمر إلى أبي عبيدة بن الجراح في أوانه المقدور، وإن كان تلاقيًا لم يجرِ على قصد مرسوم.
•••
تولى الفاروق الخلافة بعد الصديق عليهما الرضوان …
ورأْي الفاروق في أبي عبيدة بن الجراح معروف. فقد كان لا يعدل به أحدًا من الصحابة الأولين، وقد همَّ بترشيحه للخلافة بعد وفاة النبي — عليه السلام — وقال وهو يجود بنفسه: إنه لو كان حيًا لعهد إليه ولم يلجأ إلى مجلس الشورى الذي وكل إليه أمر انتخاب الخليفة بعده.
وتحدث عمرو بن العاص مرة إلى الفاروق في رئاسة الجيوش الموجهة إلى الشام، فأجابه في مقال صريح: «… أنه ليس على أبي عبيدة أمير، ولأبو عبيدة عندنا أفضل منزلة منك وأقدم سابقة، والنبي — عليه السلام — قال فيه: أبو عبيدة أمين هذه الأمة.»
وكما عُرف رأي الفاروق في أبي عبيدة عرف كذلك رأيه في سابقة الإسلام والغزو على الإجمال، فإنه خالف الصديق في التسوية بين أنصباء المسلمين كافة يوم أخذ الصديق في توزيع الأرزاق والأنفال، وجعل للرجل نصيبًا يختلف باختلاف سابقته في الإسلام والجهاد؛ لأنه «لا يجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه، ولا يسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف.»
فإقامة أبي عبيدة على ولاية الشام وقيادة جيوشها حادث لا غرابة فيه من الفاروق ولا ينتظر منه غيره، وبخاصة حين تكون إمارة خالد بن الوليد بغير تأمير من الخليفة الأول، إنما هي اتفاق على تقسيم القيادة بين الأمراء يومًا بعد يوم.
•••
وبهذه المثابة تكون ولاية أبي عبيدة سنة عمرية معروفة ولا يبلغ منها أن تكون «قضية» بين الفاروق وخالد على الصورة التي هول بها بعض المؤرخين واتخذوا منها محورًا للجدال والتنقيب عن الأسباب والأقوال.
وإذا نحن تجاوزنا النظر إلى الموضوع من جانب هذه السنة العمرية، فولاية أبي عبيدة كانت في اعتقادنا أصلح الولايات للشام في تلك المرحلة التي انتهت إليها الحرب بين المسلمين والروم.
فما نظن أحدًا تفوته حاجة الشام في مثل تلك المرحلة التي انتهت فيها بطشة الحرب الكبرى، وبدأت فيها ممهدات السلم والحكم والمصالحة، وهذه مهمة والٍ يُحسن الحرب ويحسن التوجيه إليها في مناسباتها، وليست مهمة قائد عسكري يجري الأمر على سنة السطوة العسكرية، ويكون عملة الأكبر تحطيم قوى الأعداء في ضربة طاحنة، ثم يلاحقهم متى شاء بالمطاردة والتضييق والإحراج، كما كان دأب خالد في بطشاته التي لا تبقي بعدها بقية لغير الإجهاز.
وإذ تكون هذه هي المهمة المطلوبة بعد معركة اليرموك، فلا خلاف في أي الرجلين أولى بالولاية عند ذلك؛ أبو عبيدة بن الجراح أو خالد بن الوليد، سواء أكان الخليفة على رأي الفاروق أم كان على غير هذا الرأي في أمين الأمة وفي سوابق الإسلام والجهاد.
•••
ونمى إلى الفاروق بعد ذلك أنَّ خالدًا وعياضًا أغارا على بلاد الروم ورجعا منها بغنائم وأسلاب، وأنَّ الأشعث بن قيس قصد خالدًا ومدحه فأجازه بعشرة آلاف درهم، وأجاز آخرين من «ذوي البأس وذوي الشرف وذوي اللسان».
فعظم هذا البذل على الفاروق وكتب إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدًا ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمهم من أين أجاز الأشعث، هل من مال الله أم من ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنه من إصابة أصابها فقد أقر بالخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأمر أبا عبيدة أن يعزله على كل حال وأن يضم إليه عمله — وكان يومئذ يُولَى أمور قنسرين — وأن يقاسمه ماله نصفين …
فصدع أبو عبيدة بالأمر، وجمع الناس وجلس على المنبر، ودعا بخالد فسأله: يا خالد … أمن مالك أجزت عشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يُجب وأبو عبيدة يعيد السؤال مرة بعد مرة، فوثب إليه بلال مؤذن النبي — عليه السلام — وقال له: إنَّ أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ثم تناول عمامته ونفضها وعقله بها وخالد لا يمنعه، وسأله: ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟ فقال: لا، بل من مالي، فأطلقه وعممه بيده وهو يقول: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.
ثم قوسم ماله حتى بقيت نعلاه، فقال أبو عبيدة: إنَّ هذا لا يصلح إلا بهذا فقال خالد: أجل، ما أنا بالذي أعصي أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك.
ولما علم خالد بعزله، ذهب إلى قنسرين فخطب أهل عمله وودعهم ثم ذهب إلى حمص فخطب أهلها وودعهم وقال في بعض خطبه: «إنَّ أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية وعسلا عزلني وآثر بها غيري» فنهض له رجل من السامعين فقال: صبرًا أيها الأمير، فإنها الفتنة. فما تردد خالد أن قال: أما وابن الخطاب حي فلا.
ثم قصد إلى المدينة فلقي الفاروق فقال له: «لقد شكوتك إلى المسلمين. وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر …» فسأله الفاروق: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان. ما زاد على الستين ألفًا فلك «فزادت عشرون ألفًا فضمها إلى بيت المال، ثم قال له: يا خالد، والله إنك عليَّ لكريم، وإنك إليَّ لحبيب، ولن تعاتبني بعد على شيء» وأرسل إلى الأمصار يأمر الولاة أن يعلنوا فيها باسمه: «إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا عن خيانة، ولكن الناس فتنوا به فخشيت أن يُوكَلُوا إليه ويبتلوا، وألا يكونوا بعرض فتنة.»
•••
تلك قصة خالد والفاروق …
وهي قصة تؤلم وتؤسف، إلا أنَّ الألم والأسف فيها من فعل الضرورة التي لا محيد عنها، وليسا من فعل خالد ولا فعل الفاروق …
ومن الحق للرجلين العظيمين أن نفهم هذه القصة على حقيقتها المبرأة من الخلط والجهالة؛ لأن فهمها على حقيقتها موصول بتقدير الحالة كلها وموصول بتقدير الخليفة العادل وتقدير القائد الكبير.
وأبعد شيء عن هذه الحقيقة أن يكون عزل خالد لضغينة في نفس عمر أو لتلك المنافسة التي تستحكم بين الأشباه والنظراء، أو لغير سبب من تلك الأسباب التي كان عمر يحاسب بها جميع القادة والولاة …
وأسخف من هذه الظنون أن يسبق إلى الوهم — كما سبق إلى وهم بعض المؤرخين — أنَّ عمر قد عزل خالدًا لبغضاء قديمة مرجعها إلى الصراع بينهما في أيام الصبا، وأنَّ خالدًا صرع عمر وكسر ساقه فلم يزل بقية حياته واجدًا عليه …
وأجهل الناس بخلائق عمر من يجمح به الوهم إلى ظن من هذه الظنون فليس بين رجال التاريخ جميعًا من هو أصعب تخطئة من عمر بن الخطاب؛ لأنه ليس بينهم جميعًا من هو أشد حسابًا لنفسه ومراجعة لنياته منه، وأغلب الظن عندنا أنه لو أحس في نفسه نية ذَحْلٍ أو ثأر قديم لكان أثر هذا الإحساس أن يؤجل عزل خالد ولا يعجل به مخافة من خدعة نفسه وتضليل هواه.
فالحق أنَّ حساب عمر لخالد لم يخالف قط حسابه لجميع ولاته … فكذلك صنع بعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص، وكذلك صنع بكل والٍ أحصى ماله فظهرت فيه الزيادة، وقد عزل زياد بن أبيه ثم قال إنه عزله «لأنه كره أن يحمل على الناس فضل عقله» وكان يحسب أنه قادر على أن يسوق العرب بعصاه لو أنه من قريش، ولقد تبين بعد أنه من قريش.
•••
وكانت سياسة عمر مع الولاة جميعًا أن يراجعوه في الأموال، وبذلك أشار على أبي بكر فوافاه الحساب من كل والٍ إلا خالدًا أبى وأغلظ له في الجواب حيث قال: «إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك.»
فلما بويع عمر كتب إلى خالد أن يراجعه في حساب المال وألا يعطي شاة ولا بعيرًا إلا بأمره، فأحاله إلى ما جرى به العمل قبله، فلم يطقها عمر وقال: «ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه.»
هذا إلى الخلاف بين سنن عمر في سياسة الناس وتصريف الشئون وسنن خالد التي طبع عليها. فعمر كان يحب الأناة قبل القتل والقتال ومن ثم كان إنكاره لمقتل بني جذيمة ومقتل مالك بن نويرة، وعفوه عن أسرى السواد خلافًا لما صنع بهم خالد في معركة «أليس» أو «نهر الدم» كما سميت بعد ذلك. وقد حرم عمر «قيس بن سليط» أن يقود جيشًا هو كفء لقيادته قائلًا له: «لولا أنك رجل عجِلٌ في الحرب لوليتك هذا الجيش، والحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث.»
وإذا كان عمر قد أوجس من عقل زياد بن أبيه وهو مجهول النسب، فالفتنة باسم خالد أعظم وأخطر، إنه لعظيم النزعة إلى الاستقلال، وإنه لمن بني مخزوم وهم أقوى قبائل قريش منفردين، وله صهر في سائر القبائل والبطون ولأبنائه أخوال في بني تميم وبني حنيفة، ولشهرته سحر في نفوس الناس يفعل الأعاجيب، وللزهو مكان من طباع خالد يحسب حسابه ولا ينساه الخليفة المسئول عن عواقب الأمور في دولة الإسلام فقبل أن يقهر خالد دولة الأكاسرة ودولة القياصرة رجع إلى المدينة يومًا فإذا هو يغرز في عمامته السهام ويدخل المسجد بدرع قتال … فبعد غلبته على الأكاسرة والقياصرة وشيوع ذكره في الأمصار، ماذا يجرى لو وهن الحكم يومًا بعد «ابن الخطاب»؟
أما و«ابن الخطاب» حيّ فلا. كما قال خالد. ولكن ابن الخطاب لا يدوم، والعواقب لا تنكشف، وعزل خالد نقص يعوضه قادة آخرون من حقهم أن يعملوا كما عمل، ومن أثرهم أن يثوب الناس إلى العقيدة وحدها فلا يحسبوا أنَّ النصر رهين برجل واحد لا يرتهن بغيره.
•••
أما الاحتمال الآخر — إن حدث — فالخطر فيه عظيم والموازنة بينه وبين كل عاقبة يعقبها عزل خالد لا مجال فيها لتردد طويل.
وهذا كله فضلًا عن مرد العزل إلى القسطاس الذي يرد إليه حساب جميع القواد والولاة، ولم يفت ذلك خالدًا بعد هدوء الغضب والمثوبة إلى الرأي، فقال في مرض وفاته لأبي الدرداء: «قد كنت وجَدْتُ عليه في نفسي في أمور لمَّا تدبرتها في مرضي هذا وحضرني من الله حاضر عرفت أنَّ عمر كان يريد الله بكل ما فعل، كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث إليَّ من يقاسمني مالي حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل، فرأيته فعل ذلك بغيري من أهل السابقة ومن شهد بدرًا، وكان يغلظ عليَّ وكانت غلظته على غيري نحوًا من غلظته عليَّ، وكنت أدل عليه بقرابة فرأيته لا يبالي قريبًا ولا لوم لائم في غير الله. فذلك الذي أذهب ما كنت أجِد عليه، وكان يكثر عليَّ عنده وما كان ذلك إلا على النظر — كنت في حرب ومكابدة وكنت شاهدًا وكان غائبًا فكنت أعطي على ذلك، فخالفه ذلك من أمري.»
ولقد توفى رحمة الله وهو يجعل وصيته وتركته وإنفاذ عهده إلى عمر بن الخطاب …
ونحن اليوم ننظر إلى القصة بعين التاريخ فنرى — كما أسلفنا — أنَّ الفاروق إنما ختم دورًا ختمه القدر وانقضت به الحوادث. فلم يكن بعد القمة التي ارتفع إليها خالد في ضربته لدولة الرومان مرتقى لراق ولعل مجده الباذخ قد كانت تعوزه قمة من نوع غير تلك القمم التي تسنم فيها صعدا من غلبته على طليحة ومسيلمة إلى غلبته على القياصرة والأكاسرة: تلك هي قمة التجمل والإخلاد إلى الواجب الأليم يوم عزله. فهي والله لمما يحسب له إلى جانب قممه البواذخ، قمم العظيم الظافر الجسور … وأين — لولا عزله — كنا نبصر بينها قمة العظيم الصابر المطيع؟