مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية
ليست حياة الأمة الناهضة الساعية إلى استقلالها بالحياة السهلة الهينة، ولا مسيرها إلى غايتها المجيدة بالنزهة الجميلة بين الحدائق والبساتين في سنا رونق الساعات الذهبية، وعلى شجا ترتيل النغمات الشهية، ولكنها حرب طاحنة ضروس، وجهاد شاق في أوعر المسالك وأضيق المآزق، ولا تزال مثل هذه الأمة تتنقل في تاريخ نهضتها من طور إلى طور، وتتحول عن دور إلى دور، وكل أدوارها وأطوارها صعب شديد وإن تفاوتت في درجة الشدة والصعوبة تبعًا لتغير الظروف والأحوال، على أنها لا تلبث أن تصل يومًا ما إلى ذلك الدور الذي يصح لنا بحق أن نسميه عُقدة العُقد، وعقبة العقبات، والباب الموصد، والغل المُحكَم حيث يُخيل للمرء أنه ليس ثمة من مَنْفذ ولا مخلِّص ولا مستروح ولا متنفس، وأن متن الرجاء قد انبتر، وظهر السعي قد انبت وانحسر، وأن ملائكة العون والمَدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وأن القلم الأعلى قد سجل حكم الشقاء على الأمة في صحيفة الأبد.
مثل هذه الأزمة العصيبة والساعة السوداء لم تكَد تخلو منها سِيَر الأمم الناهضة أثناء حركاتها الثورية، وقد أصيبت بها الحركة المصرية الحالية في أول ديسمبر سنة ١٩٢١ وذلك حينما رمتنا السياسة الإنكليزية بمشروع كرزن، ومذكرة اللورد النبي الإيضاحية التي شفع بها ذلك المشروع.
لقد كان لتلك المذكرة الإيضاحية أسوأ وقْع في نفوس الشعب عامة، وآلم أثر في قلوبه، وأشد صدمة لآماله ومطامحه، وأدمى طعنة لعزته وكبريائه؛ ذلك أن الشعب المصري بعدما أتته دعوة المفاوضة من جانب الحكومة الإنكليزية في أجمل شكل وأحسن صيغة، مال إلى حسن الظن بتلك الحكومة، وقال في نفسه: «لا يبعد أن هذه الدولة الجبارة قد اهتدت أخيرًا إلى أن أقصد السُّبل، وأنجع الوسائل إلى حل مشكلتنا وتسوية مسألتنا هي سياسة الصراحة والوضوح، والأخذ بمبدأ العدالة والحق بعد ما تبين لها فشل سياسة الختل والخديعة.» وبناءً على ذلك فاوضت مصر إنكلترا على لسان وفدها الرسمي الذي كان يرأسه دولة الرئيس الخطير عدلي يكن باشا، فكيف كانت نتيجة المفاوضات؟ كيف كانت نتيجة ما ادعاه الإنكليز من سياسة الصداقة والوداد والمحابة والمصافاة والعمل على توطيد دعائم السلام ونشر أعلامه؟ كانت هذه النتيجة هي قطع المفاوضات من جانب وفدنا الرسمي بما شرفه وشرف الأمة جمعاء، وإعلان إنكلترا تلك المذكرة الإيضاحية المصرحة — بما لا يتفق مع ما ادعاه القوم من الميل إلى المسالمة والمصافاة، والنية على توطيد دعائم السلام ونشر أعلامه — من مظاهر الاستعباد الذي ليس دونه استعباد، وآيات الاستبداد الذي ليس وراءه استبداد. كانت نتيجة ذلك هي تلك المذكرة التي صورونا فيها بصورة شنيعة مُنْكَرَة؛ تبريرًا لما أعدوه لنا من أغلال الرِّق ونير العبودية، حتى قالوا إنهم يرون من واجباتهم حماية عرش سلطاننا، وحماية بعضنا من بعضنا كأنما الشعب المصري قد بلغ من همجيته وانحطاطه أنه صار عدو نفسه، وهي لعمري نقيصة يبرأ منها إلى الله أشد الأمم همجية وانحطاطًا. كانت النتيجة أنهم لم يكتفوا بإعلان ذلك المشروع البغيض حتى كلفونا أن نرضاه ونقره بعدما علموا وعلم العالم أجمع رغباتنا ومطالبنا، واطلعوا على برنامج وفدنا. كانت النتيجة — وذلك أشنع فصولها وأنكر أركانها — أنهم أنذرونا وهددونا بتنفيذ مشروعهم على الكره منا، وعلى الرغم من أنوفنا بالقسر والقوة.
من أجل ذلك كله، نقول إن يوم ٣ ديسمبر الذي أُعلنت فيه هذه المذكرة الممقوتة كان أعصب يوم في تاريخ الحركة المصرية.
ما كان أكذب آمال الأمة المصرية يوم غرتها من مواعيد الإنكليز في الدعوة إلى المفاوضات لمحات السراب وبارقات الخلب! سحابات أبخرة الأباطيل تنقشها بأجمل الألوان كف الخديعة الخاتلة! ما أجملها في عين ناظرٍ يشيمها بلحظ الغرور! وما أروحها لقلبٍ ساعٍ يهرع نحوها بسرعة الصب المفتون! وما أفرغها في النهاية! وما أخلاها من كل فائدة وطائل!
كيف خبت كواكب الأمل المشرقة، واكفهر وجه السماء، وأنذرتنا من جانب الأفق طوالع النحس؟ فهل كان الرجاء انقطع بتة؟ وهل ضاع الأمل آخر الأبد؟ كلا، إنما أُرجئ الأمل وسُوِّف الرجاء. لم يُمحَ الأمل ولم يُزَل، وإنه وايم الله بطبيعته غير قابل للمحو والزوال، وهو العنصر الأبدي في طبيعة الإنسان، وهو القاعدة التي يقوم عليها كيانه، وهو ميراث الإنسان وذخيرته الوحيدة حين تُسلب منه سائر الذخائر. أَوَ لَمْ يُسمِّ الفلاسفة والحكماء هذه الدار الفانية التي يسكنها الإنسان «دار الأمل»؟
ما أقسى تقلبات الصروف السياسية بهذه الأمة المصرية المجيدة! وكيف لا يزال مصباح الأمل يستدرجها على سنا شعاعه البرَّاق في أوعار السياسية العسوف وفي صعابها وأوعاثها! وكيف لا يزل يومئ إليها أن تتتبع شبحه المتلون في تلك المجاهل والمعاسف، مشرقًا عليها تارةً بابتسامة العطف والتشجيع، وتارةً متأججًا متوهجًا بلهيب النذير والتحذير؟! ولكنه باقٍ أمام عينها في جميع الحالات، وعلى كل التقلبات، لا يخبو مصباحه، ولا يخمد لماحه — حتى في أشد حالات اليأس والقنوط. وما هو اليأس، وما معناه؟ وهل اليأس سوى نوع من الأمل؟ وهل كان فرط اليأس وغلواؤه إلا مقياسًا لمبلغ ما فينا من قوة وحياة ومقياسًا أيضًا لمقدار حقنا في الأمل والرجاء؟ وهل ترى دخان اليأس مهما اشتد سواده إلا مصيبًا يومًا ما من روح الله، ومن همة الشعب جذوة صدق، وجمرة حق تشعله ضرامًا وهاجًا يملأ الأرض والسماء بضيائه؟
لا خوف على الأمة المصرية الكريمة مما أصابها من شديد الحزن لأسوأ ما حل بها أثناء جهادها المجيد — أعني لتلك المذكرة الإيضاحية التي مست صميم كرامتها، وجرحت كبرياءها وعزتها، وسخرت من مُقدس أمانيها ومطالبها — لا خوف على الأمة المصرية مما أصابها من حزن وكمد في سبيل جهادها. بل لا خوف على الأمم عامةً ولا على الأفراد من الحزن الشريف والكمد المجيد؛ فإن نيران مثل هذا الحزن لهي خير بوتقة لتصفية جوهر النفس وتنقية معدن الروح، وهي أقوى أداة لإشعال الهمم وإلهاب العزائم حتى تندفع في سبيل جهادها الشريف بإضعاف ما بها من قوة وَحِدَّة. فلتغتبط الأمة بأحزانها في سبيل قضيتها، أوَ ليس ذلك الحزن مقياسًا لمبلغ ما عندها من شعور وإحساس ومن مقدرة وكفاءة، بل من غلبة وظفر وانتصار؟ ألا إن حزن الأمة المجاهدة ما هو إلا صورة معكوسة لمقدار ما لها من عِزَّة وشرفٍ ونُبل؟ فلتغتبط الأمة المصرية الكريمة بأحزانها، ولتبتهج بأشجانها، ولتجعلها مصدر همة وعزم ومضاء.
ولتوقن أن هذا الاستعباد الإنكليزي إنما هو أُبطولة وأُكذوبة، وكل أُكذوبة فإلى الزوال مصيرها مهما امتدت بها العصور وتراخت بها الأزمان. بذلك قضت نواميس الطبيعة، وحكمة هذا النظام المقدس، فإنه لا دوام للباطل؛ بل إن الحق ذاته لا يدوم على صورة واحدة، ولا بد له أن يُغير صورته ويُبدل شكله وصيغته من آنٍ إلى آن، حيث يُخلق خلقًا ثانيًا ويُولَد من جديد. أما الأكاذيب — وعلى الأخص أُكذوبة استعباد الأمم والأفراد التي خلقها الله حُرةً طليقة — فلقد سُجِّلَ عليها حكم الإعدام منذ الأزل في صحيفة الأقدار، فهي تسير بطيئًا أو سريعًا إلى ساعتها المحدودة — إلى حينها المحتوم، وحتفها المحموم، والسِّرُّ في ذلك أن هذه الحياة لا يمكن أن تقوم على أساس الباطل، وهذا الإنسان (الذي هو صورة الله في الأرض، مهما شابت قداسة روحه شوائب الخبائث والدناءات) لا يمكن أن يقوم على أساس من الكذب والضلال، ولكن السياسة — تنفيذ لمآربها الأنانية وأغراضها الاستعمارية — تجهل ذلك أو تتجاهله، وليس بنافعها هذا الجهل أو التجاهل إزاء ناموس الطبيعة العادلة وسُنة الله الحكيمة، واستبدادها العقيم مقضي عليه بالفشل، محكوم عليه بالفناء مهما طال أجله وتراخت مدته.
لقد يُخيل إلى زمرة الساسة والاستعماريين أن استمرار سياسة الظلم والجور في أرض الله بلا قامع ولا مبيد، وتمادي دولة الاستبداد والاستعباد دون أن يصدر ويُنفذ عليها ما تستحقه من حكم العدالة الإلهية؛ دليل على خلو هذا العالم الأرضي من قانون العدل والإنصاف، ولكنهم في ذلك مخطئون غافلون، فإن حكم العدالة الإلهية في هذه الحياة الدنيا قد يُؤجَّل اليوم واليومين بل القرن والقرنين، ولكنه حقيقة مؤكدة لا ريب فيها ولا مناص منها، حقيقة محتومة كالحياة نفسها وكالموت ذاته. ولا جرم، فإنك إن أنعمت النظر في زوبعة الحياة الدنيا — تلك الزوبعة المضطربة العاصفة الهوجاء البادية لعينك كأنها كلها هرج ومرج وتشويش واختلاط — وجدت أنه في أعماق أعماقها يستقر، وينطق إله منصف عادل، وألفيت أن روح هذه الدنيا إنما هي الحق والعدالة. فهذه الحقيقة الهائلة التي ما برحت منذ كان الإنسان تبدو لعينه ناصعة باهرة — سواء كان مُسْلِمًا أو كتابيًّا أو بوذيًّا أو وثنيًّا، وسواء سكن قصور باريز أو غابات أمريكا أو زمهرير القطب أو سعير الاستواء — هذه الحقيقة الهائلة إذا جهلها الساسة فقد جهلوا كل شيء، وقد باعد الله بينهم وبين النجاح كما باعد بين الأرض والسماء، وأنَّى لهم بالنجاح وقد ظلوا يناوئون ويعادون ناموس الطبيعة وروح الوجود، ويكافحون الكون أجمع في معركة لن يخرجوا منها إلا مثقلين بأفدح أعباء الهزيمة والخسران.
ألا إن في كل شيء خيرًا؛ وقد كان للأمة المصرية في تلك المذكرة الإيضاحية خير وإن بدا متلفعًا برداء وهاج من لهيب الألم وضرام الحزن المتسعر. لقد كانت الأمة أُصيبت من قبل ذلك بِشر ما يصيب الأمم الناهضة المجاهدة من العلل والأدواء — أعني بداء الانقسام والتحزب — وكان ذلك الداء الخبيث قد فشا في جسدها، ونقض من أسباب ائتلافها وتماسكها، وفصم من عُرى اتحادها وتضافرها، وهدد كيانها بالتهدم والانحلال، وكاد يمسها في صميم نفسها، ويذهب بما قد ملأ قلبها من روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فما هو إلا أن لطمتها السياسة الإنكليزية تلك اللطمة القاسية، وطعنتها تلك الطعنة الدامية حتى أفاقت من سكرتها، وهبَّت من رقدتها، ونفضت عن أعطافها غبار الفتور الذي كان جللها به ريح الشقاق والنزاع، كما يَنفض الأسد الهصور غبار الكسل عن لبده — ثم تحركت ونشطت كأنما قد أفعم قلوب ملايينها العديدة روح واحدة لا تقبل الانقسام والتجزئة، وأعلنت بلسانٍ واحد وبصوتٍ واحد يملأ الفضاء الرحب، ويهز هيكل الأرض من أعمق جذورها ودعائمها، ويصدع أديم السماء «أنها حية يقظة متحفزة ناهضة.»
أجابت مصر على المذكرة الإيضاحية بذلك الجواب المفحِم الحاسم — أعني بما كانت أعلنته قبل ذلك على لسان جماعة الكونتننتال حين شعرت بما أضمره لها الإنكليز من الشر وسوء النية — أجابت بذلك القرار الذي كان الموحي به في الحقيقة هو روح مصر المنبثة في فضائها، الطائفة في جوها، المرفوفة على مضاجع أهليها وعلى سوامرهم وأنديتهم، الحائمة على مهود أطفالها وأكنان عجائزها وشيوخها — على الأجنة في بطون أمهاتها وعلى الأموات في بطون أجداثها — الحدبة العطوف على أمانيها وآمالها، الحذرة القلقة المشفِقة على ماضيها ومستقبلها.
بهذا الجواب المفحم الحاسم أجابت مصر إنكلترا بلسانٍ واحد، وصوتٍ واحد — علت من نبراته صيحة الإنسانية المتألمة، وتأججت في هزاته جمرة الوطنية المحتدمة، وما أعظم صوت الأمم والشعوب وما أقواه وما أقهر سلطانه وما أشد وقعه! أَلَمْ ترَ إلى صرخة الشعب الواجد الغضبان كيف تصم أذن الظالم وتقرع حبة فؤاده، بل كيف تكاد تشل خلجات روحه، وتكاد تحرق زهرة الحياة في مغارس نفسه ووجدانه؟!
قال توماس كارليل في كتابه «الثورة الفرنسية»: «ما أجلَّ صوت الجماعات وما أخطره! صوت غرائزهم التي هي أصدق من خواطرهم وأفكارهم، أما إن هذا الصوت لأجلُّ وأخطر ما يصادفه الإنسان بين تلك الأصوات والأشباح التي يتكون منها هذا العالم الزمني؟! فكل مَنْ يجرأ على منافضة هذا الصوت ومقاومته فقد خرج بنفسه عن دائرة الزمان، وعن حدود نواميسه وشرائعه.»
أعلنت الأمة المقاطعة، وأعلنت وجوب الإضراب عن تأليف الوزارة تأييدًا لمبدأ عدم الاشتراك مع الإنكليز في حكم البلاد وإدارة شئونها؛ إذ كان في ذلك الاشتراك دليل على الرضى بما يسومنا الإنكليز من خطة الذل والخسف والهوان. أعلنت ذلك الأمة المصرية، وتمسكت به أشد تمسك، ولم تسمح لنفسها فيه بهوادة ولا لين ولا تساهل، وحصنت نفسها بأمنع دروع الإصرار والتصميم والإباء والمعاندة، وتمسكت إنكلترا من الجهة الأخرى بخطتها أشد تمسك، وأظهرت أن مشروعها الأخير هو القضاء الفصل، والحكم النهائي الذي لا يقبل تغييرًا ولا تبديلًا ولا نقضًا ولا إبرامًا. وكذلك انفرجت مسافة الخلاف بين الطرفين واستحكمت حلقاته، وبلغت المشادة والمعاندة أقصاها، وأظلم ما بين الأمتين، وجف بينهما الثرى، وعظم الخطب، واستفحل الداء.
وهنا دخلت الأمة المصرية في أصعب أدوار حركتها الجهادية، وأشد أزماتها، وأفظع ساعاتها؛ ذلك الدور الذي سميناه في بدء كلامنا عُقدة العُقد، وعقبة العقبات، والباب الموصد، والغل المحكم حيث خُيل للمرء أنه ليس ثمة من منفذ ولا مخلِّص، وأن متن الرجاء قد انبتر، وظهر السعي قد انحسر، وأن ملائكة العون والمَدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وقد سُجِّلَ على الأمة الكريمة حكم الشقاء في صحيفة الأبد.
هنا جاء على الأمة المصرية أشنع أدوار حركتها الجهادية، واسودَّ الأفق وحجبت نور السماء سحائب النحس، فماذا نصنع؟ وكيف نواجه هذا الكارث؟ وكيف نُعِد العُدَد، ونجهز آلات الدفاع، ونشحذ سلاح الهجوم؟ وأي عُدد لدينا، وأي آلات، وأي أسلحة؟ دروع الصبر والجَلَد، وسلاح السكينة، وعُدَة الأمل والرجاء، ونِعمَ الدروع والآلات والأسلحة، «لا أقول ذلك هازئًا ولا ساخرًا معاذ الله، وقد أوضحت آنفًا أن استبداد الظالم أُكذوبة، وأنه كسائر الأكاذيب مقضي عليه بالفشل، محكوم عليه بالإعدام في النهاية، وأن صوت الأمة المظلومة أقوى صوت في العالم، وأن مآل الحق أن يتغلَّب على الباطل، وأن الأمل ميراث الإنسان وذخيرته، وأن الدنيا اسمها دار الأمل.» أجل، لا أقول ذلك هازئًا ولا ساخرًا، ولكني أقول: إن هذه الأسلحة السلبية إن أحرزت النصر والظفر لم يجئ ذلك إلا بطيئًا، وليس النصر البطيء بأحسن أنواع النصر، وليس الفرح بالمتاع الآجل البعيد — الذي قد لا تُمنِّي نفسك بأن تراه لا أنت ولا أعقابك ولا أعقاب أعقابك — كالفرح بالمتاع الذي يُزف إليك عاجلًا، تلبس جميل زينته، وترشف عذب ريقته.
أقول: لا مشاحة في أن ذلك الدور كان أشنع أدوار قضيتنا، وتلك الساعة كانت أسود ساعات حركتنا. وحق لنا إذ ذاك أن نحار ونبهت وأن نأسى ونحزن، وحق لنا أن ندور بأعيننا بين أبناء أمتنا المجيدة فنفتش في نخبة رجالها وصفوة أبطالها عن رجل نرمي به هذا الحادث الجسيم، وننقب عن بطل نصدم به هذا الكارث العظيم.
إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع الإنساني وعِلله تخلق أيضًا أدوية هذه العلل والأدواء، والطبيعة التي تُوجِد آفات الحياة الإنسانية تُوجِد أيضًا وسائل إبادة هذه الآفات؛ وذلك لأن الطبيعة أساسها العدل، وروحها النظام، وغايتها الصلاح والنمو الحسن والرُّقي. فإن هي خلقت الأدواء والعِلل والآفات فلم تقصد بذلك إلى الفساد والخراب ولا إلى الفشل والفوضى (وإن ظهرت تلك العِلل والآفات في دورها الأول بمظهر الفساد والفوضى) ولكنها تقصد إلى الصلاح والنظام والرُّقي في النهاية، وإنما هذه العِلل والآفات — مع ضررها المؤقت وشرها الزائل — عمليات ضرورية لا بد للمجتمع من اجتيازها في طريق نموه ورُقيه — هلا نظرت إلى أوراق الشجر وأجزاء النبات حين تعصف بها الرياح الهوج فتسقط وتذبل، ثم تعفن وتبلى وتنحل؛ فيُخيل إليك أنها فسدت وماتت — ولا موت ولا فساد في الطبيعة — ولكن هذا الذي يُخيل إليك بلًى وفسادًا إنما هو عملية انتقال من حال إلى أحسن منها، فلا تلبث هذه المواد النباتية أن تستعيد حياتها وتجدد بهجتها، وقد تستحيل بعد عِدة من هذه العمليات الأليمة المحزنة في ظاهرها إلى صنف أجود وأحسن، سُنة التحسن والتقدم وقانون النشوء والارتقاء الذي هو روح الطبيعة وعملها وغايتها.
نقول: إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع تخلق أيضًا أدوية هذه الأدواء، والطبيعة التي توجِد آفات الإنسانية توجِد أيضًا مهلكات هذه الآفات. وإذا اشتد الجدب صاب الغيث، وإذا أربد الغيم بدده شعاع الشمس، وإذا تكاثرت المصائب على أشخاص المأساة الأبرياء فوق المسرح وتكاثفت الأرزاء، وأخذ الموت بالكظم وبلغت الروح التراقي — ظهر على المسرح من حيث لا يُرجى ولا يُنتظر بطل الرواية؛ فغيَّر مجرى الحوادث وحول منهج الكوارث؛ فجلى دُجى الخطب، وأشرق على الأبرياء بنور الصفو والخير والسعادة.
وكذلك لما ادلهمت مأساة السياسة على مسرح الحياة المصرية، وانتهت هذه المأساة بفضل المذكرة الإيضاحية إلى أزمة الأزمات وعُقدة العُقد — كما أسلفنا — وعَظُمَ الكرب واستفحل الداء؛ ظهر على المسرح لإبادة الشقاء وإسداء الخير والصفاء، بطل الرواية المصرية الحالية؛ عبد الخالق ثروت باشا.
إن العناية الأزلية لما بصرت بتناهي البلاء في هذا البلد الأمين، وبلوغ الشقاء والكرب أقصاه نثرت كنانتها بين يديها، ثم فتشت عيدانها فوجدت ثروت أَمَرَّها عودًا، وأصلبها معجمًا فرمت به الحادث الجلل والمحنة النكراء.
أي ثروت! أيها الرجل القوي المتين؛ ماذا أمامك من العُقد والمشاكل والأزمات والمعضلات؟! أُمة مظلومة مهضومة واجدة على الظَّلَمَة، غضبى على الجَوَرَة، يتأجج صدرها بركانًا، ويتقد في ألحاظها لهيب ما انطوت عليه الجوانح من نار الحنق المكتومة، وتقذف السماء بصيحات احتجاجها على الجبابرة، وبصرخات نقمتها. أُمة تختمر في أفئدتها عوامل الهياج، وتُفرَخ في نفوسها جراثيم الفتنة، ويعب عباب غيظها، ويزخر تيار غضبها، وتجيش أعماق روحها بدوافع الثورة. أمامك خضم زاخر يُنذر مسامعك من أعماقه نشيش غليان الطغيان، وأزيز فوران الطوفان. أمامك في أفق البلاد المظلم المربد آيات العاصفة، وأمارات الزوبعة يُنذر مسامعك من لدنها دوي قصفها مخوفًا مرهوبًا، وأمامك من الجهة الأخرى الدولة القوية المخيمة على أرجاء المعمورة، الممسكة بأطراف العالم، المالئة الأرض بمدافعها والبحر بأساطيلها والجو بمناطيدها — جبارة متكبرة طاغية، مُصِرَّة على تنفيذ إرادتها ضد أوامر العاطفة والإنسانية ونواميس الحق والعدالة وعلى الرغم من الأقضية والأقدار، مصممة أبَّاءة، مطرقة كالأفعوان والحية الرقشاء، لا تؤثر فيها الرُّقى والتعاويذ، قاسية جامدة صماء كالقَدَر أو كالموت.
وفوق هذا وذاك، أمامك من أُمتك الفئة ذات الأهواء والأغراض الذين لا يريدونك، ولا يحبون أن يكون على يديك انفراج الأزمة وحل المعضلة وزوال النقمة وحلول النعمة، الباذلون أقصى الجهد في العمل على تنحيتك عن مواطن المجد ومواقف الفخار.
أي ثروت! أيها الرجل الجَلْد المكين! ما أحرج مركزك وأصعب موقفك! فبحقك ماذا أنت صانع وسط هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة؟ وأنت قائم بينها منفردًا وحيدًا كالجبل الباذخ تعصف الزوابع الهوجاء حول هامته الشماء فلا تُحرِّك من سكينتها ولا تستخف من رزانتها، وتثور الزلازل حول أساسه فلا تُزعزِع من ثباته، وقد سمت قمته العلياء فوق سُحب الأهواء والأغراض وضباب الحزازات الشخصية والإحن الأنانية، وواجهت شمس الحقيقة الساطعة والنزاهة الخالصة.
تقدم ثروت باشا إلى أُمته فصرح لها أنه لن يقبل الوزارة حتى تُجاب له شروط فيها رضى الأمة، ووفاء بأقصى ما يصح أن تطمح إليه في هذا الدور من قضيتها؛ تلك الشروط هي إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام، وتأسيس برلمان تكون حكومة البلاد مسئولة أمامه، وحصر مشاكل الخلاف بين الأمتين في أربع نقاط يتولى تسويتها البرلمان المصري بعد إنشائه مع الحكومة البريطانية، وإزاء هذه الحقوق المستردة لا تعطي مصر إنكلترا أدنى شيء ولا تتقيد لها بشرط ما.
تقدم ثروت باشا إلى الحكومة الإنكليزية بهذه الشروط العظيمة، وشدد كل التشدد في طلبها، وأكد لها أنه لن يتنازل البتة عن شيء منها، وأنه لن يتولى الوزارة إلا بعد إجابة شروطه هذه بحذافيرها.
كيف تقبل هذه الشروط الجسيمة، وتجيب هذه المطالب العظيمة، وترضخ لهذا الحكم الهائل؛ إنكلترا سيدة البحار وأقوى دول العالم؟ وأين ذهبت جيوشها وأساطيلها وسلطانها الباسط جناحيه على المشرق والمغرب؟ بل أين ذهب كبرياؤها وجبروتها وشرهها الاستعماري؟
تصعَّبت إنكلترا في أول الأمر كما هو المنتظر وتمنعت، وفي ذلك المشقة العظمى والصعوبة الكبرى.
وأما مصر فلم تكد تصدق نبأ هذه الشروط والمطالب، وحسبته حلمًا من الأحلام؛ اعتقادًا منها أنه يكاد أن يكون من المستحيلات قبول إنكلترا مثل هذه الشروط الجسيمة. (لقد كان الوفد المصري من قبل ذلك لا يطمع في أكثر من أن تعطيه الحكومة الإنكليزية قبل دخوله معها في المفاوضات مجرد وعد بإلغاء الحماية أثناء التفاوض)، ولا تنسَ أُولِي الأغراض والأهواء والإحن والحزازات الذين مع فرط استعظامهم هذه الشروط واعتبارها كالأحلام أخذوا يرجفون بأن الأمر ليس بالجد، وإنما ألاعيب سياسية، يقصدون بذلك إلى ترويج سوء الظن بدولة الوزير الجليل، ويبثون في الأمة من روح التشاؤم ما يثبط الهمم ويفل العزائم.
بين هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة انبرى الرجل الكفء الضليع يكد ويعمل، مضاءً في تؤدة، منصلتًا في أناة، صارمًا في رفق، جريئًا في حزمٍ؛ والأمة المصرية والأمة الإنكليزية وأوروبا والعالم أجمع ينظر إليه نظرة إعجاب وإكبار، ويشرئب لاستطلاع نتيجة عمله العظيم، واستكشاف غاية شوطه الخطير وشأوه الرائع، كأنهم يرمقون عطارد أو المشتري أثناء سيرته المشرقة الزاهرة، ودورته المتألقة الباهرة.
وقف العالم ينظر إلى ثروت باشا أثناء تلك الفترة الحرجة العصيبة، تلك الفترة التي باتت تتمخض السياسة أثناءها عن ميلاد مستقبل أمة، لا يُعلم أيجيء موفورًا نضجًا تامًّا، أم مبتورًا منقوصًا مشوهًا، أم ما هو شر من هذا؛ يولد ميتًا؟
وقف العالم ينظر إلى هذا المخاض السياسي الهائل يرقب نتيجته بقلوب خافقة، حتى كاد يُخيل إلى المرء أن الرياح والأعاصير ذاتها قد حبست أنفاسها والأفلاك شأوها، وأن الزمن نفسه وقف مبهوتًا يتأمل.
أراك أيها الوزير الخطير في بحر السياسة البعيد الغور، العسوف الموج، العصوف الأعاصير والأنواء تُسيِّر سفينة الوطنية تتنكب بها مكامن الصخور والمهالك، وتتنحى بها مسالك الأمن والسلامة، تُدير دفتها بيدٍ مباركة ميمونة رائدها التوفيق والنجاح تكمن في أساريرها أسرار الحذق والمهارة، تؤم بالسفينة النفيسة ساحل الفوز والنجاة.
وأراك في بيداء السياسة المخوفة تقود الشعب الكريم خارجًا به من نير عبودية الجبابرة، مجتازًا به تيه الأضاليل السياسية، تؤم بالقافلة أفق الاستقلال وفضاء الحرية الرحيب.
وأراك من فوق زوبعة السياسة الثائرة، وفوضى العناصر المتنافرة تصفق جناحي نسر ساكن الجأش ثابت الجنان، تُصرِّف أعنة الحوادث، وتُدبِّر أزمة الشئون كأنك الملك الحارس الأمين كلما ازدادت الحوادث اضطرابًا ازداد سكينة وهدوءًا.
وأراك حين تفاوض ساسة الإنكليز تعلو عليهم في حومة الخطاب وميدان المحاجة بسليقتك الفائقة وسجيتك الغلَّابة، وبعقلك الراجح، وبشخصيتك الفتانة الخلابة التي هي خلاصة مجموع ما فيك من غرائز وشيم وطبائع، وكأنك حين تناقشهم قد اتخذ سلطان الإقناع عرشه بين شفتيك، وكمن هاروت تحت لسانك حتى تتركهم من إعجاب وإكبار يقولون فيك ما قاله نابليون الأول حين صادف شاعر الألمان العظيم «جيتا»: «هاكم رجل مستكمل الرجولة.» وما قاله أحد الساسة الإنكليز في المغفور له الشيخ محمد عبده: «لقد حقَّ لمصر أن تفخر بمثل هذا الرجل، فإن أمة تُخرج مثله لخليقة أن تفلح.»
في تلك الزوبعة السياسية الثائرة، وفي ذلك الجو المتلبد بالغيوم، وفي مضطرب تلك العوامل المتدافعة والعناصر المتكافحة مضى ثروت في سعيه المجيد كالصارم المصقول، والكوكب المشبوب يعمل ويكد ليل نهار كأنه ينبوع قوة لا ينفد، وشعلة حريق تأبى أن تُطفأ وتخمُد، تملأ فضاء البلاد رونقًا ونورًا. أجل، إن مقدرة هذا الرجل الهُمام على العمل والكد لا تُحد ولا تُحصر ولا يكاد يُصدق بها الذهن، وليس يدري سوى مَنْ عاشره عظم ما قد تستطيعه القوة البشرية من العمل ومقدار ما تستثمره من جليل الفوائد في يوم واحد، إن ساعة هذا الرجل العظيم كعام غيره وشهره كدهره.
وكل هذه الأعمال الجسام يُنجزها ثروت باشا في أتم سكينة وصمت، ألا حيا الله دولة الصمت وخلد ملكه وسلطانه! ولا حيا الله الجلبة والضوضاء والصخب!
قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «ما أعظم الرجل الصامت وما أجلَّ مقداره! أرأيت إذا أجلت بصرك في هذا العالم اللجب الصخاب، وفي كلماته الخالية من المعاني، وفي أعماله الخاوية من الفوائد، أفلا يَلَذ لك أن تتعشق جمال الصمت وجلاله؟ أفلا يلذ لك أن تتغنَّى بمحامد الرجال الصامتين ذوي الفضل والكرم والمروءة، العاملين في سكوت، الجادين في خشوع وتواضع، البانين صروح الحضارة والمدنية دون أن تجلجل بأسمائهم وألقابهم أبواق المجلات وطبول الجرائد؟ ألا إن أمة تخلو من أمثال هؤلاء أو يقل منهم نصيبها لخليقة أن تختل حالها، ويسوء مآلها، ويكون مثلها كمثل غابة خلت من الجذور والأصول واستحالت كلها ورقًا وفروعًا، فهي لا تلبث أن تذبل وتموت؟ لنا الويل والثكل إن كان كل عتادنا وذخيرتنا هو ما لدينا من الكلام والطنطنة والأشياء التي نعرضها على الملأ، ونرفعها لأعين المتفرجين والنَظَّارَة. ألا فقدس الله عالم الصمت! إنه لأسمى مقامًا من الكواكب وأعمق غورًا من عالم الموت! وإنه وحده هو النبيل والعظيم والجليل، وكل ما عداه حقير ضئيل تافه! فلتلزم أمتنا فضيلة الصمت ولتعتصم بها، ولتدع غيرها من الأمم المولعة بالجلبة والضوضاء وحب التظاهر تصيح في كل موقف، وتملأ الدنيا صياحًا بكل صغيرة وكبيرة من شئونها، وتجعل بلادها مسرحًا ترقص عليه وتلعب على مرأى ومسمع من المتفرجين والنَظَّارَة، فأمثال هذه الأمم المتظاهرة الصخابة ستصبح عاجلًا أو آجلًا غابات بلا جذور ولا أصول، مآلها الذبول والموت. ألا ما أقدس الصمت! إنه مُستمَد من ملكوت السماء! انظر إلى الدوحة العظيمة في الغابة تجدها قد لبثت ألف عام تنمو في أتم صمت وسكينة، فمتى تسمع صوتها؟ لا تسمع ذلك إلا حينما يجيئها الحطاب في نهاية الألف عام بفأسه ليقطعها، حينئذ تُسمعك الدوحة صوتها، حينئذ تعلن الدوحة عن نفسها بتلك الصرخة الشديدة — صرخة الفناء والموت — صوت انصداعها وانقصامها. فهل أسمعتك الدوحة صوتها ساعة البذر والغرس المبارك حين نُثرت بذرتها من حجور بعض الرياح الميمونة؟ هل أسمعتك صوتها ساعة اكتست حُلل الورق النضر ووشي الزهر المفوف؟ (وما كان أمتعها ساعة وأملأها بالأفراح والمسار) كلا، لم تُسمعك الدوحة صوتها في تلك الأوقات الهنيئة، ولم تنبس بحرفٍ واحد إعلانًا لهذه الحوادث المفرحة، إنما أسمعتك صوتها ساعة المصاب والفجيعة؛ ساعة الموت والفناء.»
وهكذا رأينا ثروت وسط الزوبعة السياسية يكد ويعمل في أتم سكينة وصمت، لا ثرثرة ولا افتخار ولا دعوى، ولا إضاعة للوقت الثمين في المجادلات العقيمة المجدبة وخوض النظريات الخيالية المستحيلة، ولا في الشقشقة الهدارة والجلجلة الطنانة، ولكنه وقَف مجهوداته العظيمة على الكد الدائب وحصر هممه الجسيمة في العمل المتواصل، وبارك الله في الأعمال إنها أجلُّ وأعظم من الأقوال! ألا إنما الأعمال المملوءة بالروح حافلة بالحياة جياشة بمادتها الغزيرة الزاخرة. الأعمال طافحة بالحياة الصامتة التي هي برغم صمتها حقيقة مقرَّرة واقعة، حاضرة الخير، حاصلة الأرباح والفوائد، والأعمال تزكو وتنمو كالشجر المبارك الثمار، وهي تُعمر فراغ الوقت، وتملأ فضاء الزمان، وتكسوه خُضرة ونُضرة.
ثروت باشا لا يميل بطبعه إلى الجدل والثرثرة، ولا إلى المباهاة والمفاخرة، ولا إلى الإعلان عن كفاءاته ومواهبه. فإذا كان دور الكلام والاسترسال في ميادين النظريات المستحيلة والمشروعات الخيالية، والمباهاة بأساليب المنطق الأجوف الفارغ المؤدي إلى غير نتيجة، وبتفويق سهامه الطائشة التي قصاراها أن تزل من فوق سطوح الحقائق المتينة القاسية دون أن تصيب أكبادها — وتنزلق من فوق أديم الحقائق الخشنة الجافية دون أن تنفذ إلى صميمها — فتسقط تلك السهام متعثرة خائبة عن أجساد الحقائق، وتبقى الحقائق بعد ذلك على حالها لم تُذلل ولا تُمتلك، ولم يُقبض على أزمتها؛ تواجهك — كما كانت من قبل — مُرة أليمة قاسية، قد نفدت الجعب والكنائن دون أن تؤثر فيها مثقال ذرة، وكأنما لم نصنع شيئًا، وكأنما انتهينا من حيث ابتدأنا. أقول إذ كان هذا الدور — دور الكلام والخيالات والمستحيلات — رأيت ثروت باشا قد اعتزل الميدان، لا عن مَلال ويأس، ولكن تحيُّنًا للفرصة وتحفُّزًا للوثبة، ثم ربض في مكمنه، وخدر في غيله سمير أفكاره وأنيس وحدته.
ولكن إذا جاء دور العمل وواجهتنا الحقيقة المُرة الأليمة، وتبادر الرجال لتذليل هذه الحقيقة، وفك معضلتها، وللأخذ بناصيتها، والقبض على زمامها واستثمارها لمنفعة البلاد وصالح الأوطان، ورأيت رجال النظريات المستحيلة والمنطق الأجوف يرسلون سهامه الطائشة على هيكل تلك الحقيقة فتزل من فوق سطحها، وتنزلق عن أديمها الأملس الذي كأنه جلدة الأفعى، وكذلك تستمر أفعى الحقيقة سائرة في طريقها سليمة مصححة كأهدأ ما كانت وأنعم بالًا — إذا كان هذا هو قصارى زمرة الخياليين المتشدقين ذوي المنطق الأجوف — ثم جاء دور ثروت باشا رأيت ذلك الرجل العملي قد هاجم أفعى الحقيقة وساورها، وقبض على ناصيتها وأخذ بكظمها، وطفق يعالجها أشد علاج، ويصارعها أعنف صراع — ليرى أهو أم هي أشد بأسًا وأصعب مراسًا — يجالدها ويكافحها بقوة جنانه؛ أعني بقوة جَلَدَه ومثابرته، في أمل ورجاء، بل في استيئاس واستماتة وصبر لا ينفد وإيمان عميق وذكاء متوقد.
كل هذه القوى العقلية والخُلقية تبرز من مكامنها حينما يصارع ثروت باشا (أو غيره من عظماء رجال العمل) أُفعوان الحقيقة، وفي هذه المعركة وحدها — وعند هذا الصراع فقط — يمكننا أن نقيس مقدار همة الرجل، ونزن مبلغ كفاءته وقدرته.
العمل وحده عنوان الفضل وآية القدرة، ومسبار غور الرجل، ومقياس عمقه، وعلى صحائف الأعمال يلوح في سطور من النور بيان ما يكمن في صدور الرجال من كنوز الفضل والحكمة والأدب والنُّهى، ومن ذخائر الصبر والجَلَد والجِد والمثابرة والحزم والعزم والإخلاص والأمانة وصحة النظر ونفاذ البصيرة والحذق والبراعة. أجل، كل ما ينطوي عليه الرجل من قوة يلوح متلألئًا في أحرف من النار والنور على صحيفة عمله. أوَ ليس العمل الجِدي المخلص هو أن يواجه الرجل الطبيعة ونواميسها الأبدية فيعالجها ويمارسها ليُسيِّرها في سبيل مقاصده وأغراضه؟ وعلى قدر فهمه لأسرارها ومطابقته لقوانينها يكون مبلغ فوزه ونجاحه، وهي الطبيعة تُصدر على الرجل وعلى كفاءته حكمها حسب ما تراه من أسلوبه في معالجتها ومسايرتها؛ إذ تقول في حكمها على الرجل هذا مبلغ ما وجدت فيه من فضلٍ وكفاءة — هذا القدر لا أكثر ولا أقل — هذا مبلغ ما فيه من قدرةٍ على فهم أسراري والائتلاف معي ومجاراتي والسير على منهاجي ومراعاة شرائعي ونواميسي، وعلى حسب هذا كان نجاحه أو خيبته وسعادته أو شقوته كما ترى وتشاهد.
مصر في أشد أزمات جهادها، وأضيق مآزقه (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) أصبحت بأَمَسِّ حاجة إلى رجل العمل الدائب والكد الشديد والمجهودات الهائلة. لقد جربت من قبل ذلك اللجب والضوضاء والصياح والصراخ، وجربت الشقاشق الهدارة والجلاجل الطنانة، وجربت طواحين الهواء والألعاب النارية التي تملأ الجو طنينًا ودويًّا، وألاهيبَ وهاجة، وشُعلًا براقة تساور السماء وتلامس الجوزاء، ثم تسقط رمادًا وتتبدد هباءً، جربت هذا وذاك فلم يُغنها فتيلًا ولا قطميرًا، وإن كان أفادها تلك الحقيقة الخطيرة، وهي أن الكلام في موضع العمل عبث باطل، وأن النزاع والشقاق في مقام التضامن والاتحاد ضلال مُبِين، وأن الصياح وحده هواء يذهب في الهواء، وأن السبح في بحار الخيال يؤدي إلى ساحل الخيال الذي إذا أرسيت لديه وجدته ضبابًا ينقشع من تحت قدمك، وهباءً يفر من بنانك، وليس يؤدي إلى ساحل الحقيقة المادية الصلبة التي تحصل في ملكك، وتقع في حوزتك.
لما جربت مصر هذه الوسائل الكلامية، واستنفدت ما هيأت لها معامل الحناجر، ومصانع الأجهزة التنفسية من بارود الصراخ والهتاف، وقنابل «يسقط ويحيى»، فألفت كل هذا، لم يُغنِ ولم يُثمر، ووقفت حائرة مبهوتة إزاء الحقيقة المُرة، وإزاء لغز السياسة، بل لغز الحياة المعضِل المعقد الذي أبى أن ينحل على الرغم مما صبت على أُم رأسه من بارودها الهتافي وقنابلها «الإسقاطية الإحيائية». تحننت عليها الطبيعة، ورق لها فؤادها الكبير، وتقدمت لعونها وإمدادها، وقالت لها: استريحي هنيهة، واختارت لحل اللغز وفك المعضلة رجل العمل والدأب والحزم والعزم والحجى والدهاء: عبد الخالق ثروت.
وكذلك الطبيعة السمحة السخية ما كانت لتضن على الشعب المجاهد بالرجل العظيم عند الحاجة إليه، ولا يزال كلما ارتطمت الأمة المجاهدة في المأزق الضنك والزحلوقة الزل أسرعت الطبيعة إلى إسعافها فساقت إليها رجل الساعة، وبطل الميدان، فلا يلبث أن يقيل عثرتها، ويأخذ بيدها، ويهديها سواء السبيل؛ ذلك دأب الطبيعة وديدنها الذي لن تعدل عنه إلا إذا كانت قد أرادت بهذا العالم الأرضي الخراب السريع والدمار العاجل.
ولما اختارت لحل اللغز وفك المعضل رجل الجِد والعمل ثروت باشا، ودفعت به في جوف الزوبعة — كما أوضحنا آنفًا — وفي وسط العوامل المتنازعة، والقوى المتدافعة، والعناصر المتكافحة المتلاطمة ارتاح لذلك العقلاء، واستبشروا وقالوا: «أما والله، ما كانت قط زوبعة فوضى فرمى الله في جوفها بروح النظام ممثلة في رجل حازم، إلا بدأت فيها حركة مباركة نحو ائتلاف العناصر المتنافرة، والتوفيق بين القوى المتضاربة، واستبقاء النافع، وإسقاط الضار من الأسباب والعوامل — حتى ترى الفوضى سائرة إلى النظام، والثورة إلى الهدوء، والضجيج إلى السكينة، وتبصر مكان الجدب والعقم الإنتاج والإثمار — فتوقن بحسن المآل والعاقبة»، ولا جرم. فما من فوضى تقيم في وسطها روحًا عالية نبيلة إلا آلت إلى النظام والخير والفلاح بفضل ذلك. هذا، وإن الطبيعة تحب النظام، وتبغض الفوضى ولا تطيقها ولا تحتملها، ولا تصبر عليها إلا ريثما تهيئ لها روحًا سامية تعالج بها شرها، وتزيل خطرها، وهذا الكوكب الأرضي النبيل المقدس الذي نعيش فيه ونتقلب، مهما طال صبره على مروجي الهرج والفوضى، فهو في النهاية لا يطيقهم، ولا يلبث أن يريح نفسه منهم، وهذا من أشد ضرورات العالم إذ كانت سُنته الصلاح والرقي، وكانت مادة الخير فيه أكثر من مادة الشر، وكان الحق فيه متغلبًا على الباطل.
وأي خير في الفوضى إلا إذا أصبحت تتجه نحو النظام، وأي بركة في الثورات السياسية إلا إذا تولى المصلحون تنظيمها برسم الخطط والبرامج العملية.
أي ثروت، أيها الرجل الحازم البصير! لقد قذفت بك الطبيعة في مضلة السياسة وتيهها، وفي مجاهلها ومهالكها، حيث اشتبهت المسالك، وأُشكلت المناهج، وخفيت وجوه الرشاد، وخبت مصابيح الهداية، فانظر ما أنت صانع، وأي السُّبل تسلك، وأي الوجوه تنتحي. ألا فاعلمن أن راكب الصعاب وولاج المآزق مثلك إذا تشعبت في وجهه السُّبل، ووقف ينظر أيها يسلك إلى غرضه الأسمى، فلقد يوجد أمامه بلا شك بين هذه السُّبل منهج واحد هو أقصدها وأهداها، منهج يكون سلوكه في ذلك الظرف وتلك الآونة أحق ما يأتيه وأصوب ما يصنعه، منهج واحد إذا أُتيح له سلوكه طوعًا أو كَرهًا كان الحازم البصير والأريب الداهية، كان الرجل المكتمل الرجولة الموفق إلى ما يرضي الرجال والآلهة، المساير لأنظمة الطبيعة ونواميسها الغامضة الخفية، فالطبيعة والكون أجمع يرحب بمثل هذا الرجل ويهتف له: «مرحى، بورك فيك وفي عملك»، ثم يكون اليُمن رائده والنجاح حليفه. فهل أنت يا أيها الرجل النبيل والوزير الجليل مستبين بين ما يواجهك في تيه السياسة ومضاتها، وفي مجاهلها ومهالكها من متشعب الطرق والسُّبل، ذلك المنهج القويم الأوحد فسالكه إلى قصدك الأنبل وغرضك الأسمى — النُّجح والفلاح — إلى ضالة الوطن المبتغاة وبغيته المرتجاة وأمنيته المشتهاة؛ إلى الحرية والاستقلال؟ سنرى ذلك قريبًا.
سنراك وقد قذفت بك الطبيعة وسط زوبعة السياسة الهوجاء وعواملها المتنازعة وعناصرها المتكافحة؛ تؤلف بما أوتيت من عزم وحزم بين هذه القوى المتمردة الطاغية، وبين هذه النزعات المتضادة المتعادية — ترد شواردها وتكبح جوامحها — آونة بسوط بأسك وسطوتك، ولكنه بأس الحازم المتدبر المتلهف على مصلحة بلاده، وسطوة المنصف العادل الحدب على منفعتها، وآونة بكف لِينك الغريزي المغروس في طبيعتك ورقتك الفطرية المركبة في سجيتك. دأبك ذلك إلى أن تعنو لك عاصفة السياسة الهوجاء فترتد الفوضى نظامًا، والزوبعة نسيمًا، والحرب سلامًا. إنك وإن كان قد كُتِبَ لك بحكم الظروف والأحوال أن تعمل وسط الزوابع السياسية والثورات الوطنية — وسط ما يصح لنا أن نسميه نوعًا ما من الفوضى — فإنك بطبعك ونحيزتك رجل نظام لا رجل فوضى، وتلك طبيعة العظماء كافة، كلهم مجبول على حب النظام؛ بل كلهم النظام مجسدًا، وكذلك الرجل العظيم إنما هو رسول النظام في هذا العالم. (وكذلك مما يجب أن يكون شيمة كل إنسان يحمل الصورة الآدمية). أوَ ليس كل عمل من أعمال الإنسان في هذه الحياة هو «رد الفوضى إلى النظام»؟ أوَ ليس كل ذي حرفة وصناعة موكل في هذه الدنيا أن يجمع المواد الطبيعية المبعثرة في أنحاء الكون، المشتتة في أرجاء الوجود، المتباينة جوهرًا، المتنافرة صفات وطباعًا، فلا يزال يوفق بينها ويؤلف حتى يضم شتاتها، ويجمع بددها، ويفرغ تفاريقها في قالبٍ محكم بديع عجيب الصنع محدود بالقواعد الهندسية والحسابية؟ كلنا مولودون بفطرتنا أعداءً للفوضى عشاقًا للنظام، هذه مزية البشر عمومًا، وهي في الرجل العظيم أضعاف أضعافها في الرجل العادي.
النظام يقتضي الشدة ويتطلب الصرامة أحيانًا، وهذا بلا شك نوع من الحذر والإشفاق على المصلحة العامة. وفي هذه الظروف الضرورية يصبح اسم «الشدة والصرامة» غير منطبق تمام الانطباق على المعنى الحقيقي لما يتبعه الرجل الحازم من خطته الصارمة الشديدة التي يكون أحق بها وأولى، وأقرب إلى معناها الحقيقي أن تسمى «رقة معكوسة» و«عطفًا مقلوبًا»، إذ كان باعثها الحقيقي هو العطف والرقة، والحنان والشفقة، وكما أن الطبيعة تنجز أعمالها وتنتج نتائجها، آنًا بالنسيم اللطيف وآونة بالإعصار العنيف، وتارةً بالجدول السلسل وأخرى بالسيل الجارف، فكذلك الرجل المصلح — الذي هو شعبة من الطبيعة وفلذة من كبدها — يُحدِث آثاره النافعة ومآثره الجليلة باللين تارة وبالشدة أخرى، كالطبيب الحاذق يداوي بالعسل وبالصَّابِ، وربما أزال السم بالسم، وشفى الداء بالداء.
نقول: لما أُعضل على الأمة المصرية لغز السياسة المعقد واعتاص حله، ولم تفلح فيه سهام المنطق الأجوف وزخارف الآمال وأخاديع الأماني، ولم توفق إلى حله طمحات الأوهام، وسبحات الخيال، والاستناد على النظريات المستحيلة، والاحتجاج بالافتراضات الوهمية معززة بقذائف «الهتاف» والقنابل «الإسقاطية الإحيائية»، تقدم إلى معالجة هذا اللغز المعضل العويص رجل الحقيقة والجِد والعمل عبد الخالق ثروت، ووقفت مصر وإنكلترا أو العالم أجمع ينظر إليه نظرة العجب والدهشة؛ ليرى ما هو صانع إزاء ذلك المُشكِل المعضل.
وقف رجل العمل والذكاء والدهاء أمام ذلك اللغز المخوَّف، وكأنا بذلك اللغز يخاطب الرجل العظيم قائلًا له: «أتفقه معنى هذه الساعة العصيبة؟ أتفهم لغز الحياة في هذه العقبة الكئود والموقف الحَرِج؟ إن الآلهة تواجهك بسؤالٍ معجز ولغزٍ معضل، فهل عندك جوابه وهل لديك حله؟»
قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «لقد جاء في أساطير الأولين أن جِنِّية كانت تربض على قارعة الطريق للمارة، تواجه كل عابر بأحجيتها الصعبة ولغزها العويص، فإذا استطاع حله مر سالمًا آمنًا في سربه، وإلا أهلكته وأوردته حتفه، ويزعمون أن هذه الجِنِّية كان لها وجه حورية حسناء وصدرها الناهد وأعطافها اللينة، ولكن بدنها الغض الرشيق ينتهي بعجيزة لبؤة ضارية ومخالب سبعة عادية.
وكذلك الحياة هي كتلك الجِنِّية لا فرق ولا خلاف؛ فالحياة تواجهك بجمال حورية وحُسنها الفردوسي الذي معناه النظام البديع والحكمة العالية والخضوع لقانون العقل الأزلي السرمدي، ولكن فيها مع ذلك عنفًا وطغيانًا وظلمةً وهلاكًا — أحق أن تُسمى آفات جهنمية — وهذه الحياة أو الطبيعة لا تزال — كتلك الجِنِّية — تلقي على كل إنسان يعبر سبيلها بصوتٍ رقيق رخيم هذا السؤال الخطير المرعب: أتفهم معنى هذا اليوم الذي أنت فيه؟ أتفقه مغزى هذه الساعة؟ أتدري أي مشكلة تواجهك وكيف تحلها؟ وأي سبيل تسلك إلى ذلك؟
أجل، إن الحياة أو الطبيعة أو الوجود أو القَدَر — كيفما سميت هذه الحقيقة الهائلة التي لا يُستطاع تسميتها — والتي نعيش في وسطها ونجاهد — لهي حورية فردوسية وعروس سماوية، وربح وغنيمة للأريب اللبيب، والذكي الألمعي الذي يستطيع أن يتفهم أسرارها، ويحل لغزها، ويتبع قوانينها، ويصدع بأوامرها، وهي جِنِّية فتاكة وشيطانة مهلكة لمن لا يفعل كذلك ولا يستطيعه، فافهم أسرارها وحِل لغزها تسلم وتغنم.
أما إذا لم تُعنَ بذلك ولم تأبه له، ومضيت في سبيلك دون أن تحل ذلك اللغز، وتجيب ذلك السؤال، فستحله لك جِنِّية الحياة وشيطانة الطبيعة، ستحله لك بمخالبها وتجيبك ببراثنها وأنيابها الحادة، ثم لن تصادف فيها سوى لبؤة ضارية وسبعة عادية وحية رقشاء، أبَّاءة صماء، لا تسمع دعاك، ولا ترق لشكواك، ولا تلين لرقاك.»
تقدم رجل الحقيقة والجِد والعمل إلى العُقدة الصعبة والمُشكِل المعضل بعدما أعجز أهل الخيالات والأوهام وطلاب المعجز والمستحيل، وقف ثروت باشا على قارعة السبيل، وواجهته شيطانة السياسة بلغزها العويص وطالبته بالحل والجواب، فهل هو مخطئ أو مصيب؟ هل هو مُعرِّض نفسه وبلاده لمخالبها وأنيابها أو مشيع منها بنظرة الرضى وابتسامة الارتياح إلى منهج التوفيق وسبيل النجاح؟ سنرى ذلك قريبًا، سنرى رجلًا ليس بأسير خيالات وأوهام، ولا متعلقًا بأذيال الخوارق والمستحيلات، ولكن رجل الحقيقة والواقع، رجل الممكن والجائز، رجل الغريزة الصادقة والبديهة الحافلة والبصيرة النافذة، رجلًا يسلط شعاع عينه الثاقبة على المُشكِل والمعضل فيبدد عنه ظلمات الشكوك وغيوم الريب والشبهات — كما تسلط العدسة البلورية طائفة الأشعة على الأشباح فتجلوها في أسطع مظهر من الوضوح والبيان — رجلًا ينفذ بنور بصيرته إلى أكناه الأمور وجواهر الأشياء وأكباد الحقائق حتى يقهرها ويمتلكها آخذًا بنواصيها قابضًا على أعنتها — وذلك بفضل ما فاق به غيره من رجاحة العقل وصدق العزيمة وقوة الروح؛ ذلك رجل لا ينظر إلى الدنيا ومشكلاتها بمنظار النظريات والقياسات، ولكن بعينٍ مجردة نافذة البصر ساطعة الشعاع كشافة اللمحات، رجل الإخلاص العميق، والغيرة الملتهبة، والقلب الذكي المتأجج، والروح الحي المتوهج.
سنرى رجلًا مطويًّا على غريزة الاهتداء إلى سِرِّ الحقيقة وجوهرها أينما كان، رجلًا قد ثبت قدمه على أساس الحقيقة الوطيد الراسخ، رجلًا يستطيع أن يتبين بصادق نظره ونافذ بصره، من خلال التعاقيد والارتباكات، لُباب الشيء وجوهره، فيعمد نحو ذلك، ويسدد إليه خطواته. لقد روي عن نابليون الأول أنه لما كان أمين قصره يعرض عليه يومًا ما استجده في القصر من فرشٍ وأثاث — وقد جعل هذا الأمين يطري هذه الأمتعة والأدوات، ويثني على صُناعها، ويقول إنها قد جمعت إلى جودة الصنف ونفاسته رُخص القيمة وقلة النفقة — لبث نابليون أثناء تلك الأقوال المسهبة والخُطب المستفيضة صامتًا لا ينبس بحرفٍ واحد، ولكنه بعد نهاية هذا الكلام المطول أمر أمين القصر أن يجيئه بمقص، ثم عمد إلى هدابة ذهبية من هداب إحدى الستائر فقصها وطواها في جيبه وانصرف، وبعد مضي أيام قلائل أبرز الهدابة من جيبه في الفرصة المناسبة فعرضها على منجد القصر الذي كان صنعها، فارتاع ذلك الصانع التعس وأُرعدت فرائصه: لقد كانت تلك الهدابة مغشوشة؛ لم تكن ذهبًا كما زعم ولكن صفيحًا! هذه النادرة على تفاهتها تبين ماهية طبيعة الرجل وعنصر خلقه، تبين أنه رجل عمل لا كلام، وأن غريزة نفسه الصادقة تدفع به إلى كبد الحقيقة مباشرةً ضاربًا صفحًا عما يحيط بها ويحجبها من الأقاويل والأراجيف ومن الشكوك والشبهات، كذلك كان نابليون الأول، وكذلك كان غيره من رجال الحقيقة والجِد والعمل، وكذلك نرى عبد الخالق ثروت.
هذا الرجل العظيم — ثروت باشا — يعرف بغريزته الصادقة كنه ما يحيط به من الظروف والأحوال، وماهية الأسباب والوسائل التي يستخدمها، ويتذرع بها إلى بلوغ غرضه، ويعرف كذلك درجة قوته ومبلغ قدرته، وأين تقعان من غايته وبغيته، يعرف النسبة بين كفاءته وبين ما يكتنفه من الظروف وما يستعمله من الوسائل، وهذا لا يتأتى بالنظر السطحي ولا باللمحات المتقطعة، ولكن بطوفان من نور البصيرة يغمر الأمر المبهم من جميع جوانبه وأركانه — بفضل العين الثاقبة والذهن المتوقد — وكذلك على مقدار فهم الرجل لحقيقة الموقف يكون حُسن كفايته وبلاءه. فهل هو يستطيع أن يجمع الشتات ويؤلف الشوارد وينفث في الخليط المشوش روح النظام والتنسيق؟ هل يستطيع الرجل أن يقول في غياهب الشك وظلمات الشبهة: «فليكن نور» فيكون النور؟ هل يستطيع أن يخلق من عالم السديم والفوضى دنيا منظمة منسقة؟ ستكون قدرته على ذلك بحسب ما يحتويه قلبه من النور والضياء، وسنرى قريبًا مبلغ نصيب الوزير الجليل من هذه الميزة العظمى، ميزة الملائكة وهِبة الآلهة.
ذلك النور والضياء في فؤاد ذلك الرجل الألمعي — عبد الخالق ثروت باشا — هو مصدر ما يمتاز به من خلال النُّبل والكرم والهمة والمروءة والوطنية الملتهبة وخصال الصبر والجَلَد والحِلم والرفق والتسامح.
ألا فقدس الله نور القلب وضياءه! أليس ذلك هو الذي يجلو لك ما يستكن في ضمائر الأشياء من روح النظام والائتلاف؟ أليس ذلك هو الذي يوضح لك مغازي الطبيعة ومقاصدها وما قد تخفيه تحت قشورها الخشنة ومظاهرها الكريهة من المعاني الموسيقية؟ (فإنه ليس من شيء كائن في هذا الوجود إلا يستكن في أعماق جوفه معنى موسيقي؛ أي روح نظامية تكون قوامه ومساكه وعماده وملاكه وبغيرها لا يتماسك ولا يكون). فنور القلب أو العين الثاقبة في عظماء الرجال عامةً وفي ثروت باشا خاصةً هي التي تهديه في زوبعة السياسة الثائرة — بآفاتها ومكارهها — إلى مواطن الخير والمنفعة والصالح، فيستخلص من المُنكَر معروفًا، ومن المُر حُلوًا، ومن السم درياقًا كما سنرى قريبًا.
لقد تقدمت أيها الوزير النبيل لعملك الجليل وسط أطلال صرح الاستقلال المتهدم وأنقاضه المبعثرة، وأمامك الخصم العنيد يحاول مقاومتك ومناهضتك بهدم ما تشيد وتقويض ما تبني، وحولك البناءون من بني وطنك: منهم المسعف المسعد الحاضر المَدد والمعونة، ومنهم المتباطئ والمتلكئ والواني والمتهاون. فمصاعبك جمة ومتاعبك شاقة — أحجار وجلامد صلبة صماء تتأبى وتتعسر، ورجال تتأفف وتتضجر، وأمور متناقضة، وشئون متضاربة، وظروف عاتية متمردة — فلتقهرن هذه جمعاء ولتتغلَّبن عليها إن قدرت، وإنك على أمثالها لقادر.
إن المصاعب والآفات والمتاعب والعثرات قريبة ظاهرة مجابهة تتلقاك لدى كل خطوة — وإن عون الطبيعة ومَددها وإسعافها (وإن كان في النهاية مؤكدًا مضمونًا) لمستتر مختبئ، فاستثره من مكامنه ونقِّب على خفاياه بالصبر الجميل وبالجَلَد والعزم والإخلاص — بقوة رجولتك ومضاء همتك، تغلَّب على كل عقبة وصعوبة، وحاول بكل ما أُوتيت من حولٍ وطولٍ أن تشيد من هذه الأنقاض المبعثرة المشوشة صرح الاستقلال التام لبلادك؛ راسخ القواعد، موطد الأركان، منيع الجوانب، شامخ الذرى.
لبث الوزير الجليل عبد الخالق ثروت باشا ثلاثة أشهر طويلة يدافع عن حمى بلاده، ويذود عن حياضها، ويكافح عن حقوقها، ويناضل إزاء ألد الخصوم وأعتاها وأشدها استبدادًا وجبروتًا، ويطالب بتحقيق مطالب الوطن العزيز وأمانيه الكبيرة. ثلاثة أشهر جاهد فيها جهاد مشمر معتزم مستبسل في سبيل الحق، مقدمًا أصدق مثال على روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فكيف كانت نتيجة مساعيه وثمرة مجهوداته؟
في نهاية هذه الأشهر الثلاثة أذعنت لشروطه وأجابت مطالبه أقوى دول العالم، فأعلنت في ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢ إلغاء الحماية عن القُطر المصري، وأعلنت استقلاله التام، وأن يكون للبلاد دستور وحكومة مسئولة.
جزاك الله أيها الرجل العظيم عن البلاد وأهلها أكرم الجزاء، وقدرها على القيام بواجب الشكر نحوك.