التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام
وكذلك في غرة شهر مارس سنة ١٩٢٢ خطت مصر أفسح خطوة وأيمنها نحو غايتها المقصودة، وأمنيتها المنشودة، فصدعت عن نفسها أغلال الاستبداد الأجنبي، وتخلصت من ربقة الحكم البريطاني، ووضعت قدمها على قارعة طريق النجاة والسلامة، وبرزت من ظُلمة سجن العبودية إلى فضاء الاستقلال الطلق الرحيب، وإلى جوه المُشرِق المستنير، وتنسمت أولى نسمات الحرية، تلك النسمات الغضة المنعشة التي هي غذاء الأنفُس ومادة الأرواح وحياة الحياة؛ إذ كانت هي الشرط الأول لنهضة الأمم من وهدة التقهقر والانحطاط، والحجر الأساسي لبناء صرح المجد والعلاء، وكانت مفتاح باب النعمة والثراء والرغد والرخاء، وسُلَّم الرُّقي إلى أسمى درجات المدنية والحضارة والحياة السامية النبيلة.
- (١)
حماية المواصلات البريطانية داخل حدود القُطر المصري.
- (٢)
حماية الأقليات والأجانب.
- (٣)
الدفاع عن مصر ضد كل اعتداء أجنبي.
- (٤)
مسألة السودان.
فهذه المسائل الأربعة يُنظر في تسويتها وحلها بواسطة مفاوضات مستقبلة تدور بين الحكومة الإنكليزية، وبين البرلمان المصري الذي يكون هو وحده صاحب الحق في تحديد موعد هذه المفاوضات، والشروع فيها حسب ميله ومشيئته الحرة المطلقة، وفي مقابل هذه الفوائد الجمة والغنائم العظيمة التي استخلصها عبد الخالق ثروت باشا لمصلحة بلاده من يد الخصم الألد المعاند، لم يبذل دولة الرئيس الأجلُّ لذلك الخصم أدنى ثمن في صورة شرط أو تعهد أو قيد، بل احتاز للوطن هذه الثمرات المباركة غُنْمًا بلا غرم، وطعمةً سائغة هنية، وعربونًا لما سوف تستوفيه مصر على يد برلمانها في المفاوضات المقبلة من موفور الحقوق ومستكمل المطالب.
كل ذلك نالته مصر بمعونة الله العلي الأكبر جلَّ شأنه، وبهمة ملكها المعظم وفضل مساعيه الجليلة، ومجهوداته العظيمة محتذيًا في ذلك حذو آبائه الأقيال الأماجد، وأجداده الصيَّد الصناديد، جاريًا على سننهم الأغر الأوضح ومنهاجهم الأنبل الأشرف، متبدرًا غاية من المجد والسناء تقع من دونها سابحات الآمال وطامحات الأماني، وتنحسر عن شأوها المديد أحث مطايا الحمد وأوحى سوابق الثناء والشكر، أدام الله سلطانه، ودعم بالعز بنيانه، ووطد بالعدل أسسه وأركانه، وأيَّد بالفتح المبين صولجانه، وأفسح في بحبوحة النعيم أرجاءه، وأخفق في رياح النصر لواءه، وجعل عهده الميمون مراد خصب عميم، ومرتع عز مقيم، وفاتحة خير للبلاد لا تجف على الزمان أخلافه، ولا يجمد على الحقب والأجيال هطاله ووكافه، إنه سميع النداء مجيب الدعاء.
نالت مصر كل هذه الفوائد والغنائم بفضل الله عز وجل، وبفضل ملكها المعظم — أدام الله عِزَّه وخلد ملكه — وبفضل الوزير الأجلِّ عبد الخالق ثروت باشا الذي رد إلى البلاد — بفضل حكمته وحزمه ومثابرته وجهاده — أوفر قسط من حقوقها المسلوبة — (وأنه على استرداد الباقي لمعتزم دءوب) — والذي محا ما كان أصاب كرامة الأوطان من وصمة «المذكرة الإيضاحية»، وأسى ما كانت أحدثته في أديم تلك الكرامة من ندوب وجراح، دون أن يقيد البلاد بإعطاء أدنى مقابل من شرط أو تعهد.
وبفضل مجهودات الشعب المصري ذاته الذي ما قصَّر في المطالبة بكامل حقوقه، ولا فرَّط ولا ونى ولا تبلد، والذي أظهر في الساعة العصيبة والمحنة النكراء (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) من ضم الصفوف، وتوحيد الكلمة ما شد أزر الوزير الجليل ثروت باشا وأيَّده، وكان من ورائه حصنًا حصينًا في مناهضة الخصم، وكهفًا منيعًا، وعُروةً وثقى.
وكذلك في أول مارس ١٩٢٢ هبَّ على مصر من نفحات رضوان الله نسيم الاستقلال، وحيا مسامعها من موسيقى النظام الأبدي نغمات الحرية المطربة الشجية، فحيا الله في الأيام ذلك اليوم الأغر المحجل، وقدَّس الله في الساعات تلك الساعة السعيدة الزهراء: ساعة هبط علينا البشير يحمل إلينا صحيفة السعادة الخالدة مُمَسكة بأذكى من شذى العطر، مصقولة الطراز بأبهى من سنا الفجر، وأي ساعة أجلَّ وأعظم، وأحق بالتحميد والتمجيد من ساعة تنطلق فيها الروح الإنسانية بعد طول أسر واحتباس من قيود الرِّق، وأغلال الخسف والعسف فتنهض وتنبعث — ولو غشيها أثناء ذلك شيء من الدهشة والارتباك والحيرة — وتنشط من عقالها حالفة بالذي خلقها وسوَّاها لتكونن حرة ولتبقين طليقة! الحرية وما أدراك ما الحرية؟ هي جوهر الروح، وعنصر النفس وملاكها الذي لا تقوم بغيره، وقوامها الذي لا تصح ولا تَسلَم إلا به، وهي البُغية والطُّلبة التي لا تزال تنزع إليها الروح من أعماق أعماقها، وتشرئب وتطمح، وتصيح مفصحة أو معجمة، مُبيِّنة أو مجمجمة تطالب بها السالب المغتصب، مناوئة منابذة، ولو هددها بما في الأرض والسماء من قوة، وهي التي في سبيلها وحدها يبذل بنو الإنسان، بحكمة أو بلا حكمة، كل كد وعناء ومجهود وجهاد، ويغشون كل ملحمة ومعترك، ويقاسون كل ألم وكربة وبلاء. أجل، ما أجلَّ تلك الساعة وما أعظمها! ساعة تنسم الأمة أنفاس الحرية المنعشة، ساعة يبدو للقافلة المكدودة الظمأى خُضرة الروضة العشيبة وسط القفرة الجرداء، ويقر أعينها رفيف أيكها النضر في وقدة الهاجرة ولفحة الرمضاء.
لما قبلت إنكلترا شروط ثروت باشا وأجابت مطالبه انفكت الأزمة الوزارية، ورأى ذلك الوزير الجليل أنه لا بأس عليه في تلك الظروف الحسنة من قبول الوزارة، وحينذاك رأت جلالة الملك أن تسند إليه الرياسة، فلبى دعوة مليكه المعظم تلبية مسرع إلى طاعته، صادع بأمره، محتملًا في سبيل خدمة البلاد أعباء تلك المهمة الشاقة. ثم اختار دولة الرئيس للوزارات المختلفة رجالًا هم — صفوة أبناء الأمة ونخبتها، وعتادها في الأزمات والشدائد، وذُخرها في الملمات والعظائم — من كل فاضل كفؤ وحازم، بصير مديد الشأو، رحب الذراع، بعيد الهمة، وحسبُك أن يكون بينهم رجل كصاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا، ذلك الفذ النابغة، الذكي الألمعي الذي كأنما تتوقد بين جبينه كواكب الفلك ومصابيح الحلك، ذلك المشهود له بدقة الذهن وصفاء القريحة، لا يطيش له في حومة النضال سهم، ولا يخبو له في ظلمة الشكوك نجم، وقد طالما عجمته الحوادث، وعركته الكوارث، فألفته صلد الصفاة، جَلد الحصاة، لا تحل حبوته، ولا تفل عزمته، وكم دفعت به خطوب السياسة في المآزق والمضايق، فما راعنا إلا خروجه منها ظافرًا وادع القلب وضاء الجبين، وكفاه نُبلًا وشرفًا أنه كان موضع اختيار الرئيس الأجلِّ، وأنه ما زال موطن ثقته واعتماده.
وحسبُك أيضًا أن يكون من بين من اصطفى الرئيس أيضًا صاحب المعالي مصطفى ماهر باشا، وهو ذلك الرجل الجَلد القدير على العمل الناهض بأعبائه مهما كدت وفدحت، وكم له من موقفٍ في ميادين الأعمال الجسام أظهر فيه الحكمة مقرونة بالصرامة والتؤدة مشفوعة بالعزم والمضاء، وقد أحسن الرئيس كل الإحسان في اختيار مثل هذا الشهم الهُمام لوزارة المعارف؛ لأنها أحوج الوزارات إلى عميد ينفحها بروحٍ من عنده، ويبعث في كيانها تيارًا ملتهبًا من «بطارية» ذهنه المتقد، وجذوةً حامية من مرجل حميته المحتدمة، وماذا عسانا بعد أن نقول في رجل رآه الرئيس أهلًا لما ناط به من ذلك العمل الجليل والمنصب العظيم.
كذلك تألفت الوزارة باختيار ثروت باشا من رجال أكفاء سبقت لهم في خدمة البلاد أيادٍ بيضاء، ومآثر غراء، تجلَّى فيها إخلاصهم وصدق وطنيتهم في حذق وبراعة، وقد تبوأ أولئك الوزراء مناصبهم في وزاراتهم المختلفة حيث أخذوا بالمبدأ السياسي الجديد — مبدأ الانفراد بالعمل والاستئثار بالسلطة — فقبضوا على أزمة الحكم وتسلموا مقاليده، وحققوا معاني ذلك المبدأ الجديد وأغراضه تحقيقًا تامًّا لا يقبل شكًّا ولا ريبة؛ فأصبح الموظف الإنكليزي مهما علت درجته مرءوسًا للوزير مرغمًا أن يخضع لإرادته ويصدع بأمره، وليس رئيسًا مستبدًّا مطلق السلطة متحكمًا في جميع من حوله يأمر وينهى لا ناقض لحكمه ولا راد لكلمته، وربما استبد على الوزير نفسه، واغتصب سلطته، وأخضعه لمشيئته ورغبته — كما شوهد كثيرًا في العهد السالف — فها نحن أولاء أصبحنا نرى بعينٍ قريرة جذلى كبار رجالات الإنكليز يتقلص ظل سلطانهم عن منصات الحكم داخل بلادنا، ويُطوى بساط نفوذهم عن دوائر حكومتنا، وينملس شبح صولتهم المرهوبة ويزول عن أبصارنا، ويحل محل هذا كله سلطة وزرائنا — أهل جلدتنا وأبناء آبائنا، وإخواننا في الله والوطنية، وشركائنا في السراء والضراء — الواردين معنا حياض المناعم والمكاره، والشاربين بالكأس التي بها نشرب إن علقمًا وإن شهدًا، ورفاقنا في قافلة الجهاد وزملائنا في سفينة الأقدار، السائرين معنا إلى الهلاك أو النجاة، إلى الموت أو الحياة، المقرونة أسماؤهم إلى أسمائنا في سجل القضاء الأزلي، المخبوء لهم من القَسم والحظوظ مثل ما خُبئ لنا في خزانة الغيب ومستودع المجهول، الجاري لنا ولهم بالسعود والنحوس نجم واحد في فلك واحد. فليس من المعقول ولا من الجائز قياسًا أو فرضًا، ولا مما يسوغ في الضمائر أو يمر على الخواطر أن إخواننا الوزراء — مَنْ تجيش عروقهم بدمائنا وتنبض قلوبهم على دقات قلوبنا — ينزلون إلا على إرادتنا، أو يتوخون سوى أغراضنا ومقاصدنا، ولا سيما في هذا العهد المبارك، وفي هذا الدور المتقدم من قضيتنا، وبعدما أعلن الإنكليز رسميًّا إلغاء الحماية والاعتراف بسيادة مصر في الخارج وفي الداخل، فكان في ذلك أوضح برهان على ما عدلت إليه وعوَّلت عليه الحكومة الإنكليزية من صحة العزم وصدق النية على عدم التعرض لإدارة مصر الداخلية، والحيلولة بينها وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية.
أجل، إن الوزارة الحالية لا تألو جهدًا ولا تدخر وسعًا في استرضاء الأمة والنزول عن حكمها، وإن قامت العقبات والعثرات مؤقتًا دون قيامها بإبلاغ الأمة كل رغباتها وجميع مشتهياتها، ولكن الوقت كفيل أن يبرهن للشعب على أن ما يؤجل الآن من أمانيه وبُغياته — بحكم الظروف القهرية الناشئة عن حالة الانتقال والتطور السياسي — لن تلبث الوزارة أن تعمل على قضائه وتحقيقه في الحين المناسب متى تراخت الأزمة، وانفسح المجال، وتيسرت الظروف المسعدة المؤاتية، وفي سبيل تيسير هذه الظروف، وإرخاء تلك الأزمة، واستعجال ذاك الحين المناسب تبذل الوزارة الآن أقصى الجهد وتخطو أفسح الخُطى.
فها هي قد تسلمت — كما أسفلنا — مقاليد العمل، وقبضت على أعنة السلطنة فنحَّت المستشار المالي عن حضور جلسات مجلس الوزراء — كما هو معروف — وتخلصت من معظم وكلاء الوزارات ومستشاريها الإنكليز، واستبدلت بهم وكلاء وطنيين، وها نحن أولاء لا يكاد يمر بنا برهة من الزمن إلا رأينا بعض كبار الموظفين الإنكليز يعتزل منصبه في الحكومة المصرية فيُعَيَّن مكانه مصري من أبناء البلاد، وها نحن نرى الوزراء المصريين قد ملكوا نواصي الشئون والأحوال، وأمسكوا بدفة المسائل والأعمال في وزاراتهم المختلفة؛ فأحاطوا علمًا بكل دقيقة وخطيرة، ولم يغادروا صغيرة ولا كبيرة، ومن ذا الذي لم يطلع في الجرائد السَيَّارة على قرار صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا بهذا الشأن وفي ذلك الصدد، ذلك القرار الحاسم الجازم الذي أماط كل لثام، وجلى كل شك وشبهة عن هذا الأمر الخطير، فلم يدع مجالًا للنقد ولا موضعًا للاعتراض.
هذه كلها من فوائد العهد الجديد، ومن ثمرات الفوز السياسي المُبِين الذي أحرزته البلاد بمعونة الله عز وجل، وبفضل جِدها ومجهودها وهمتها وتضحيتها — وعلى الأخص بما أظهرت من الاتحاد والتضامن (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) والقيام في وجه الخصم الألد المعاند متساندة متعاضدة كأنها روح واحدة في جسدٍ واحد — وبفضل مجهودات وزيرها الأجلِّ ومهارته وحنكته السياسية وكفاءته النادرة؛ فهو الذي استطاع أن يتخذ من صدق موقف الأمة وقوة تضامنها أحسن وسيلة، وأضمن ذريعة إلى إقناع الخصم واستمالته والتأثير في أعصابه حتى أمكنه أن يستخلص للبلاد من قبضته ما استخلصه من تلك الفوائد الجمة والغنائم العظيمة.
ولكن كيف كان موقف الأمة إزاء هذا التغير السياسي العظيم، وبماذا استقبلوا هذا العهد الجديد، وماذا كانت آراؤهم فيما قد تأتَّى للبلاد من تلك الفوائد والغنائم؟
انقسمت الأمة — بهذه المناسبة وفي هذا الموقف — من حيث الظنون والآراء شيعًا بِددًا وطرائق قِدَدًا، فمنهم المستبشر المتفائل الفرِح الجذلان بما نالته البلاد من ذلك الغنْم العظيم وإن وقع دون أقصى غاية البُغية والمراد، وتقاصر عن أبعد مرامي المقصود والمرغوب، ولم يسمُ إلى ما تطمح إليه الأمة من الاستقلال التام بأكمل معانيه وفي أسمى مراقيه وأسنى مجالِيه. فهذا الفريق من أهل البلاد يعتقد أن هذه المرحلة الأخيرة فوز صريح وربح حاصل، وأنها بلا أدنى جدال خطوة إلى الإمام، وخطوة واسعة قد قربتنا من الغاية المقصودة شوطًا بعيدًا وشأوًا مديدًا، وحسنت موقفنا، وحصنت مركزنا، ورفعتنا من وهدة ضعف وحضيض مهانة كنا فيه تحت مدفعية الخصم نصلى نيران سطوته، ولهيب صولته، لا نستطيع له مطاولة ولا مصاولة — فرفعتنا هذه الخطوة إلى ربوة عِزَة ومنعة، وهضبة حصانة وقوة أصبحنا بها أُولِي قدرة على مناهضة ذلك الخصم ومناجزته، وأقدر على مواصلة سعينا إلى أمنيتنا المنشودة، أعني الاستقلال التام المُطلَق من كل قيد، المجرد من كل شائبة — أَوَ لَمْ يصبح هذا الغنْم الذي استفدناه أخيرًا أقوى سبب، وأمتن وسيلة نستطيع أن نتذرع بها إلى إحراز الفوز الأتم والنجاح الأكمل، أعني تحديد الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى، ونقصها وتلطيفها بما لا يتعارض مع استقلالنا ولا يضيره إلى أن يحين الوقت للعدول عنها، وإطراحها فتخلص مصر الخلاص التام من كل قيد من هذا القبيل وخلافه.
هذا فريق التفاؤل والتيمن الذي هو في الحقيقة أقرب من غيره إلى الصواب والمعقول؛ لأن جميع ما يحيط بالمسألة من شواهد الظروف وقرائن الأحوال تصدق رأيهم وتؤيد حجتهم، وثمة فريق آخر يناقض الفريق الأول في رأيه ومذهبه، فهو لا يثق ببريطانيا على الإطلاق، بل يُفضل ترك الحالة معلقة — حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا — على قبول ما هو معروض الآن على مصر؛ محتجًا لمذهبه هذا بأن الإنكليز ما برحوا منذ بدء احتلالهم هذا القُطر يُمنون أهله بأباطيل المواعيد وأضاليل الأماني، فإذا استسلمنا إلى وعودهم هذه المرَّة أيضًا فقد تضعف العزائم، وتتخدر الأعصاب، ويتأخر سير القضية إلى غرضها الأسمى، ومرادها الأقصى، وفي هذا البلاء والشر كله.
ونحن نعترض على هذا الفريق ومذهبه بأن إنكلترا اليوم ليست بإنكلترا الأمس؛ لقد علمتها الحوادث والخطوب أن أمم الشرق وشعوبه الواقعة تحت سيطرتها ليست بالرمم البالية المقبورة في مدافن الدثور والعفاء، ولا هي بالخُشُب المُسنَدة الملقاة في زوايا الإهمال والنسيان رهائن العجز والتبلد والخمود والجمود. لقد كانت إنكلترا تحسب أن الأمة المصرية وسائر أمم الشرق لم تشارك الشعوب الغربية المهضومة فيما أحدثته الحرب الكبرى في صميم كيانها من تلك الثورة الفكرية، والغليان السياسي الذي استحث حركتها العادية وسيرها المألوف في سبيل الرُّقي الطبيعي التدريجي نحو الغاية المحتوم عليها بلوغها — ولو ببطء وتريث وبعد تعطيلات العقبات والعراقيل — بحكم السُّنن الكونية والنواميس الطبيعية. فإنكلترا بالرغم من اعترافها للشعوب الغربية الصغرى بما أحدثته فيها الحرب الكبرى من الثورة الفكرية السياسية، وبالرغم من إذعانها لحكم هذه الثورة — أعني لحكم السُّنن الكونية والنواميس الطبيعية — تغافلت عن مصر في بادئ الأمر وتعامت، ولم تحسب لها حسابًا في باب النهوض والتحفز، فلم تلقِ لمصر بدلو يوم ألقت الشعوب الغربية بدلائها في مناهل المؤتمرات، ولا أجالت لمصر قدحًا ولا سهمًا يوم أجالت الشعوب الغربية سهامها وقداحها في قُرعة السياسة على موائد المقامرة الدولية، لم تطرح إنكلترا مسألة مصر — ولا سمحت لمصر أن تطرحها بنفسها — في ميزان التسوية يوم طرحت مسائل الأمم الغربية في ذلك القسطاس الحكيم.
فماذا كانت النتيجة والعاقبة؟ نتيجة الغفلة والتفريط وعاقبة من لا يحسب للأمر حسابه ولا يتدبر عواقبه — كانت النتيجة مفاجأة الغافل المغتر بما لا يتوقع من الخطب الجسيم والحادث الجلل الذي ما برح يختمر ويتكون — أيام غفلته وغروره — في طي الخفاء حتى ظهر له حين انقشاع عمايته، وانجلاء غمرته بارزًا جهيرًا شنيعًا بشعًا جهمًا متنكرًا يحملق إليه بعين الحقيقة المستعرة جمرًا وشررًا.
كانت النتيجة استيقاظ بريطانيا من رقدتها الطويلة بلطمة قاسية من كف الحقيقة المُرة الأليمة حين استوفت هذه الحقيقة نموها واستكملت نضجها، ودرجت من منشئها ومربَاها إلى ميدان العالم ومعترك الحياة؛ لتؤثر أثرها، وتؤدي وظيفتها.
كانت النتيجة أن مصر المهضومة المستضعفة — التي لم تحسب بريطانيا حسابها ولم تأخذ منها حذرها — ثارت ثورتها المعروفة في مارس ١٩١٩، وهبَّت في وجه بريطانيا هبَّة الأسد المسلسل صدع قيوده وأغلاله ووثب يطالب المغتصب بحقوقه المهضومة المسلوبة.
عند ذلك أفاقت بريطانيا لأول مرة من غفلتها بالنسبة للمسألة المصرية، وصحت من سكرتها، وأقبلت على القضية المصرية تتأملها بعين الحذر والاهتمام المَشُوب بشيء من الخشية والرهبة، ولا جرم، فلقد راعها من عجيب تطور الأمة المصرية، وعظيم نهضتها وطفرتها ما راع «أهل الكهف» إذ هبَّوا من رقادهم، فهالهم ما هالهم من تغير حال الدنيا وتبدل الشئون والمشاهد، وكان بعد ذلك ما كان من محاولة بريطانيا المَرة بعد المرة تسوية القضية المصرية بوسائل شتى؛ إحداها «لجنة ملنر» التي فشلت في مهمتها بفضل إجماع المصريين قاطبةً، وتوحيد كلمتهم على مقاطعتها أشد مقاطعة وأقصاها، حتى أوصدوا في وجهها كل باب للمناقشة والمفاوضة، بل قطعوا منها كل أمل في ذلك، وكل هذا تأييدًا للوفد المصري الذي كان إذ ذاك وكيل الأمة المُفوَّض ومندوبها الذي لم ترتضِ سواه مندوبًا ووكيلًا.
وهنا يجدر بنا أن ننوه بما كان من سلوك ثروت باشا في تلك الآونة الدقيقة، وكيف كان موقفه إزاء لجنة ملنر، وبماذا أشار عليها؟
قابل ثروت باشا في ذلك الحين اللجنة المذكورة منفردًا (كما قابلها عدلي باشا منفردًا) لا مقابلة راغب في مفاوضتها — حاشا لوطنيته الشماء أن تفعل ذلك — ولكن مقابلة من أحب أن يُبلغها جواب الشعب الصريح، واعتقاده الصحيح مُعبِّرًا عن جنانه، ناطقًا بلسانه، فأنبأها بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الشعب المصري — أن المصريين قاطبةً قد أصروا على أن لا يكون لهم مع اللجنة شأن ما، وأن لا يدخلوا معها في مناقشة أو مباحثة؛ ذلك لأن لهم وفدًا يمثلهم أصدق تمثيل وأصحه، فهم لا يرضون غيره محاميًا عن القضية، ولا يثقون بمفاوضٍ سواه كائنًا مَنْ كان.
هذه المأثرة الجليلة من مآثر ثروت باشا — الدالة على ما ينطوي عليه فؤاد الرجل الكبير من صدق الوطنية وروح التضحية — أقل ما يُؤْثَر من عظيم مآثره وجسيم مفاخره، وأدنى ما يُذكر من مساعيه الجليلة في سبيل خير البلاد وصالحها، ولكنا رأينا أن نوردها هنا تذكرةً لمن نسي، وتعريفًا لمن لم يعرف. فليعلم الناس أن وطنية ثروت باشا ليست وليدة اليوم ولا بنت الأمس، بل هي عريقة فيه متأصلة منذ أدلى به عالم الخفاء إلى عالم الوجود، منذ:
وكذلك كل رجل عظيم لا تكون فيه الوطنية مجرد عادة يعتادها، أو خَصلة يتحلى بها، أو أداة يتذرع بها إلى شيء من مقاصده وأغراضه، بل تكون فيه غريزة غلَّابة، وطبيعة مسيطرة على جميع مشاعره ومداركه ونزعاته وعواطفه وشهواته، تكون مزاج دمه وأساس كيانه، والجوهر الذي صيغت منه نفسه، والعنصر الذي صُوِّرت منه روحه.
قلنا: إن بريطانيا لما أفاقت من سكرتها بالنسبة للمسألة المصرية، ولما قشعت يد القَدَر عن بصرها ما كان ران عليه من غشاوة الغفلة والغرور، وعن قلبها ما كان قد غشيه من حُجب القسوة والجبروت فأصاخت إلى صوت مصر المتصاعد إلى عرش الله، وأصغت إلى نداء مصر المالئ ما بين الأرض والسماء، وقد أدركت أن مصر لا تقل عن نظائرها من الشعوب الأوروبية شعورًا بعزَّتها وكرامتها، وعرفانًا بقدرها وقيمتها، وإدلالًا بسالف مجدها وعظمتها، وأنها لا تنحط في درج المدنية والحضارة عن مقام تلك الأمم، ولا تهبط في سُلَّم الرُّقي الأدبي والاجتماعي عن منزلة تلك الشعوب. لما أدركت بريطانيا كل هذا، وجَبَهتها الحقيقة صلبة خشنة كالصخر الصماء، أرادت استرضاء الأمة المصرية، وحاولت بلوغ ذلك بتسوية قضيتها المرة بعد المرة بوسائلَ شتى منها «لجنة ملنر» — التي ذكرنا ما كان من فشلها بفضل إجماع المصريين على مقاطعتها بأقصى الشدة، وبتنفيذهم هذه النية بحد بجِد وعزيمة وصرامة كانت ولا تزال موضع إعجاب العالم بأسره — وكان من تلك الوسائل أيضًا دعوة بريطانيا الأمة المصرية إلى مفاوضتها: أولًا: على لسان الوفد المصري (بصفة غير رسمية)، وثانيًا: على لسان الوفد الرسمي (بصفة رسمية طبعًا).
ليس غرضنا ههنا أن نأتي على تاريخ تينك المفاوضتين، ولا أن ندخل في تفاصيلهما — بل لم نذكرهما هنا بقصد تناولهما بالبحث والنقد — وإنما ألجأنا إلى التنويه بهما محاولتنا إقناع الفريق المتشائم المتطير المبالغ في إساءة الظن ببريطانيا أن إنكلترا اليوم — التي تدعو بنفسها مصر، وتمد يدها إليها للدخول معها في المفاوضة لاسترضائها وتسوية قضيتها — هي خلاف إنكلترا الأمس العاتية المتغطرسة التي كانت لا تسمع النداء ولا تصيخ لدعاء.
فلهذا الفريق المتشائم المتطير، الشديد الارتياب في صحة مواعيد بريطانيا وفي حُسن نيتها، لمصر على أن لا يزال مدى الدهر يعتقد فيها مطل الوعود وختل العهود والسخرية من مطالبنا الوطنية وأمانينا القومية. نقول إن بريطانيا اليوم بالنسبة لقضيتنا غيرها بالأمس، وأنها تقف منا الساعة موقفًا لم تَقِفه من قبل، فلقد أيقظناها من رقادها، ونبهناها إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن مصر أيضًا أمة كغيرها من الأمم الغربية، وأنها تعرف مثلها معاني الحرية والاستقلال، وتصبو إلى أخذ مكانها بين دول العالم المجيدة وممالكه العظيمة، وتتوق إلى الصعود في مراقي المدنية السامية لاعتلاء ذروة العز، وتسنم غارب المجد والسؤدد، وأنها كسائر الأمم الغربية الناهضة لها قلب يجيش بأذكى جمرات الحمية، وأحمى مراجل الوطنية، ولها جانب صعب أبيٍّ ينفر بها عن مواطن الخسف والضيم، وأنف حمي يأبى لها النزول على العسف والرغم. أجل، لقد فتحنا عين بريطانيا بعد طول غموض إلى أن مصر كمثيلاتها من أمم الغرب لا تصبر على اغتصاب حقوقها، واستلاب تراث أسلافها، وأنها تُقدِّر قيمة الحرية حق قدرها، وتعرف أنها الجوهرة الثمينة، والدُّرَّة اليتيمة التي من أجلها تخوض غمرات الخطوب، وتغامس حومات المحن والكروب: فإما تهلك وتفنى في خضم الجهاد، وإما تظفر بتلك الدُّرَّة اليتيمة فتردها إلى موضعها من إكليل مجد البلاد وتعيدها إلى نصابها من تاج حسبها المجيد وعِزَّها التليد. لقد عَلَّمنا بريطانيا أنه ليس للغرب أن يفخر على الشرق زاعمًا أنه أوفر نصيبًا منه في مزايا النهوض والتقدم، وأنه أذكى منه قلبًا، وأنبل روحًا، وأصفى جوهرًا وأكرم عنصرًا. لقد عَلَّمنا بريطانيا أنه لا شرق ثمة ولا غرب إذا هبَّت الأمة من سُباتها تطالب بحقها المهضوم، وتحاول استرداد الحرية والاستقلال، لا شرق ولا غرب إذا زخر عباب الحياة في فؤاد مثل هذه الأمة وثار موجه، وجاش تياره في أعماق روحها المضطربة، ثم دفعتها رياح الوطنية العاتية إلى الموت أو الحياة. أجل، في مثل هذه الساعة الخطيرة تُمحى من بين صفات الإنسان الطبيعية تلك الصفة الاصطلاحية الصناعية — أعني «شرقيًّا» و«غربيًّا» — وتسقط عن هيكل الإنسان المقدس تلك «الماركة» المُعلقة عليه تعليقًا، غير المتأصلة في جوهر الروح النقي الأصلي المستمد هو وسائر أرواح البشر من مادة الروح الكلي وينبوعه الأبدي.
لا شيء في الكون ميت، وما نخاله ونسميه ميتًا إنما هو في الحقيقة في حالة استحالة وتغيُّر، تعتمل قواه الكامنة وتفتعل على نظام معكوس. فالورقة الذابلة رهينة البِلَى والعفن لا تزال تكمن فيها القوة، وإلا فكيف كان يتأتى لها أن تتعفن؟ ألا إنما الكون بحذافيره ليس سوى مجموعة غير محدودة من القوى المختلطة الممتزجة — تُعد بالآلاف والملايين — من الجاذبية الجمادية إلى الفكر والشعور والإرادة — حرية الذهن المطلقة تكتنفها وتحدق بها ضرورات الطبيعة المحتمة — وفي خليط هذه القوى الهائل العظيم لا شيء يهمد أو ينام لحظة، بل كلها لا تزال أبد الآبدين يقظة فعالة.
فأما ذلك الشيء الجامد الهامد المنعزل عن دوامة هذه الحركة الأبدية فذلك ما لن تجده، ولن تراه في أي أنحاء هذا الوجود البتة، مهما فتشت ونقبت في سلسلة الكائنات من الجبل الصوان المستمر في حركة البِلَى البطيء منذ بدء الخليقة — إلى السحابة السارية، إلى الإنسان الحي، إلى أقل فعلة من أفعاله وأدنى كلمة من أقواله. أجل، إن الكلمة إذا خرجت من فم القائل مضت كالسهم النافذ، لا ماحي لأثرها، وأشد منها وأقوى الفعلة الواقعة. أَوَ لَمْ يَتَغنَّ لنا الشاعر «بندار» قديمًا بحكمته المأثورة: «إن الآلهة أنفسها لتعجز أن تمحو أثر الفعلة المفعولة.» لقد صدق بندار، فإن هذه متى فُعِلت بقيت على الأبد الآبد مفعولة؛ أي دائمة المفعول والأثر — بقيت مسترسلة في فضاء الزمن اللانهائي — وسواء لبثت ظاهرة لنا بادية، أو مستترة خافية، فستبقى فعالة تزكو أبدًا وتنمو عنصرًا جديدًا لا يفنى ولا ينعدم في غضون مزيج الكائنات اللانهائي. بل ماذا تحسب هذا المزيج اللانهائي ذاته الذي نسميه «الكون»؟ أتراه سوى فعلة أو مجموعة من الأفعال أو القوى؟ أتراه سوى مجموعة حية (يعجز الحساب عن جمعها وحصرها في جداوله وإن بدت لعينك مكتوبة على صفحة الزمن) مجموعة حية لهذه الثلاثة الآتية: كل ما فُعِلَ، وكل ما يُفعل، وكل ما سوف يُفعل.
فاعلم — علمت الخير — أن ذلك الكون الذي تراه إنما هو فعلة، هو النتيجة والمظهر لقوة مبذولة، هو البحر العديم السواحل الذي من ينابيعه تنفجر القوة، والذي في عباب حومته تجيش وتموج القوة زخارة منسقة منتظمة، فسيحة كاللانهاية، عميقة كاللابداية، جميلة مخوفة حسناء روعاء، غير مُدركة ولا مفهومة. فهذا اللج الزاخر الذي لم يبرح يجيش ويُرغِي ويُزبِد من وراء الأفلاك ومن قبل بداية الزمن، ولم يزل يموج من حولك — بل أنت نفسك جزء منه في هذه النقطة من الفضاء، وفي هذه الدقيقة من الزمن — هذا هو ما يسميه الإنسان «الكون» و«الوجود».
وكذلك الحياة البشرية وكل ما فيها لا يزال في حركة دائمة، وفي فعل وتفاعل متطورًا من حالٍ إلى حال، ومن شكلٍ إلى شكل بتأثير نواميس نافذة محتومة نحو غاية محدودة ونتيجة لازمة، ونحن بني البشر، ألا ترى كيف نظل منغمسين مغمورين في أعماق سريرة الزمن وفي ظلمات لغزه العويص؟ ولا جرم، فنحن أبناء الزمن وسلالته — ومن الزمن حِيكت أنسجتنا، ودُبِغَ أديمنا، وصيغت صورنا وأشكالنا — وعلينا وعلى كل ما نملك أو نبصر أو نفعل قد كتب الزمن شعاره وحكمه: لا قرار في موضع ولا دوام على حال، سِر إلى غايتك، وامضِ قُدُمًا إلى قسمتك.
- (١)
قومة مصر في وجه بريطانيا في مارس ١٩١٩.
- (٢)
مقاطعة لجنة ملنر.
- (٣)
قطع الوفد الرسمي الذي كان يرأسه دولة الوزير العظيم عدلي يكن باشا للمفاوضات المصرية-الإنكليزية، وما أعقب ذلك من التئام الصدع وائتلاف الشمل بين الأحزاب المصرية بعد طول تنابذ وتنازع، ثم انضمام الصفوف وقيام الأمة قومة سلمية بأساليب الدفاع السلبية، ولا ينسَ أحد أن صاحب الفضل الأعظم في هذه الوثبة الثالثة والصدمة الأخيرة (أشد الثلاث وقعًا وأبلغها أثرًا ومفعولًا)، وأعظم مسبب لها، بل أساسها ومصدرها هو ذلك الرجل الخطير والبطل الكبير صاحب الدولة عدلي يكن باشا.
وماذا عسانا نقول في مدح ذلك البطل المجيد عدلي يكن؟ وأين تقع رائحات الحمد وغادياته، وسابحات الثناء وسارياته، من رفيع مقامه في ذروة المجد الشامخ، وذؤابة الحسب الباسق الباذخ؟! ماذا عسانا نقول في رجل حمَّلته الأمة أمانتها فأحسن الحمل والأداء، وزجت به في حومة النضال عن حقوقها فأجاد الذود وصدق البلاء؟! أَوَ لَمْ يدفع عدلي بحرِّ وجهه الكريم ما أرادت بريطانيا أن ترمي به وجه الأمة المصرية من آيات الخسف والهوان ممثلة في ذلك المشروع الذي رفضه هذا الهُمام فكفى بذلك أمته غضاضة مناقشة المشروع والنظر فيه؟ أَوَ لَمْ تبعث به مصر في تلك المفاوضة نائبًا عنها وممثلًا فكان خير عنوان على ما لها من نُبل وكرم، وأنفة وشمم، وشرف رفيع، وعِزٍّ منيع؟ أَوَ لَمْ تكن طلعته الوضاءة البلجاء، وغرته الوضاحة الزهراء، صفحة صدق تتألق بنور الأمانة والإخلاص، ويسطع في جنباتها رونق اليقين والإيمان، ويترقرق ماء الحياة والعفة والنزاهة؟ أَوَ لَمْ يقرأ الإنكليز أنفسهم في أسارير جبينه الأغر سطور الحزم والعزم، والحلم والرفق، والحكمة والحذق، والمضاء والدهاء؟
ألَم ينتشل عدلي باشا الشعب المصري الكريم من وهدة الضعف والفتور التي كان ألقاه فيها دعاة التخاذل والتواكل، وبُغاة التفرقة والانقسام؟ أَلَمْ يستنقذ عدلي باشا أمته المجيدة من حضيض التواني، والاسترخاء الذي كان أهبطه فيه تجار الفشل والهزيمة ومروجو إشاعات السوء عن الوفد الرسمي، الذي أثبتت مآثره وحسناته أنه كأكرم وأنبل من انتدبت أمة للمطالبة بحقوقها والدفاع عن قضيتها، والذي سجل له التاريخ أشرف صور الفضل وأسنى آيات الوفاء في أمجد فصوله وأنصع صحائفه؟ أَلَمْ يُبيض عدلي باشا وجه أمته بما أحرز لها من النصر الباهر بموقف الشمم والإباء والعِزَّة والكبرياء الذي وقفه إزاء خصمها الألد وقرنها العنيد؟ أَلَمْ يُفهم الإنكليز أن الذي يرفض مشروعهم بمنتهى الأنفة والنخوة والإباء هو الأمة المصرية بأسرها ممثلة من شخصه الكريم في مرآتها الحاكية مجموع نزعاتها ورغباتها وأمانيها وعواطفها، وفي لسان حالها الناطق بأخفى ما يجنه ضميرها وأدق ما يكمن في خبايا سريرتها؟ أَلَمْ يكن في إفهامه الإنكليز هذه الحقيقة وتقريرها في أذهانهم ما رفع من مقام الأمة المصرية في عيونهم بعدما أسقط منه ظهورها في أنكر مظاهر التفرقة والانقسام؟ أَلَمْ يكن في مجيد عمله هذا ما أعاد إلى قلوب الإنكليز تلك الهيبة والخشية التي كانت أوجدتها ثمة الأمة المصرية بفضل ما أظهرت في بدء حركتها من روح التضامن والاتحاد والتضافر؟ أَوَ لَمْ يُشرف عدلي بموقفه العظيم ومأثرته الكبرى أمته العزيزة، ويعلي قدرها، ويرفع رأسها بين سائر شعوب العالم؟ أَلَمْ يقر عينها ويشرح صدرها؟ أَلَمْ يبعث فيها نشوة العِزَة وحميا الزهو ويرنح أعطافها بهزة التيه والخيلاء؟ أَلَمْ يزودها في تلك الساعة العصيبة والأزمة الكاربة والمحنة النكراء — في أظلم أدوار القضية وأوعر مراحلها حين خبت كواكب الأمل، ودجت غياهب التشاؤم — في تلك الآونة الصعبة التي بدأنا بذكرها هذا الكتاب، وسميناها عُقدة العُقد، وعقبة العقبات — نقول في تلك الكربة الكاربة والشدة الحازبة — أَلَمْ يزود عدلي باشا أمته من أسباب التأييد والتشجيع — مما نفثه فيها من روح الحمية والنخوة والعزة والإباء — بأجمل السلوى وأحسن العزاء عما رمتها به الأقدار من كوارث الظلم والاستبداد، وبأقوى الوسائل لاستنهاض همتها واستثارة عزمتها لاستئناف السعي في سبيل الجهاد ومواصلة السير إلى غاية المأمول والمراد؟
وكذلك في سبيل الحق والحرية نفر عدلي يكن تلك النفرة الشماء، وصاح تلك الصيحة التي صدم بهولها مسامع بريطانيا صدمة أيقظتها ثالث مرة من غفلتها، وفتحت عينها إلى تلك الحقيقة الكبرى وهي أن مصر — بالرغم مما أصابها مؤقتًا من تخاذل أبنائها وتنابذهم — لا تزال مصرَّة على نيل حقوقها المسلوبة، مصممة جادة، معتزمة غير وانية ولا فاترة، وأنها كغيرها من الشعوب الغربية مندفعة بحكم السُّنن الكونية والنُّظم الطبيعية في سبيل النهوض والتقدم لأخذ المكان المقدَّر لها أزليًّا في مراقي الحياة؟
كذلك في سبيل الحق والحرية صاح عدلي يكن صيحته التي استرعى بها مسامع أمته، وأيقظها من غمرة التشاحن والتطاحن إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن كل نزاع بين أبناء الأمة هو غرم عليها، مغنم للخصم الذي يراه خير فرصة لإضعافها ونهك قواها بتوسيع الخرق بينها، وهدم كيان وحدتها، وتمزيق صفوفها، ورد سهامها الموجهة إلى شخصه في نحرها هي، وتحويل مجهوداتها المبذولة ضده في مصلحتها ضد نفسها بالضرر الجسيم عليها. أجل، لقد نبه عدلي بصيحته الشديدة أمته العزيزة إلى كل هذا وأكثر، فجمع بذلك كلمتها وألَّف شملها، ورأب صدعها، وشد أزرها، وراش لنهضتها جناحًا من همته الحثيثة بعدما هاض النزاع الحزبي جناحها، وحفزها بريح عزمته الشديدة بعدما أركد الشقاق الداخلي رياحها، وآنسها بقوة روحه العظيمة في وحشة تلك الترهات السياسية الختالة بسراب الغرور والخديعة، وعزاها عن خيبة آمالها في وفاء بريطانيا وحُسن نيتها.
كل هذا صنعه لأمته عدلي يكن، ذلك البطل القوي الذي لن يجد التاريخ بُدًّا من أن يسجل له هذا الفضل على بلاده، ولا من وضعه في مصاف الأبطال منقذي شعوبهم ومحرري أوطانهم أمثال شمشون، إلا أنهم تغلَّبوا على دليلة «الختل والخديعة» فلم تستطع قهرهم وإذلالهم.
كل هذا صنعه عدلي لأمته، ولا عجب فإنه عظيم، وبقوة الرجل العظيم وحوله تُدعم أرض الله وتُوطد أركانها، وبهمة الرجل العظيم ونجدته يُثل عرش الظلم ويُشاد صرح العدالة، وينجاب غيهب الباطل، ويسطع نور الحق، وبمكارم خيمه ومحامد شيمه ترق حاشية الزمان، ويخضر عوده ويورق، ويخضل روضه بندى الخير ويترقرق، ويشرق صحوه بسنا الصفاء ويتألق. حياك الله عدلي يكن! لقد طاب في كنفك العيش واحلولى، وافتر عنك مبسم الدهر وتلالا، وقد حسُنت بك الدنيا ومَلُحت وتأرجت بعبير ذكرك ونُفحت، وقد شربنا بك ماء الحياة كوثرًا، ونشقنا نسيمها عنبرًا، وانتجعنا غيثها ثَجَّاجًا، وتوسدنا جنابها أنيق الروض مبهاجًا. فجزاك الله أحسن الجزاء عن أربعة عشر مليونًا من عباده رفعت بالعز هامهم، وثبَت في مدحضة المعترك العنيف أقدامهم، وطهرت صحيفة أعراضهم من كل شائبة ووصمة، ونقيت أديم أحسابهم من كل ريبة وتهمة، وبعد، فإن مأثرتك هذه الجُلى التي حاولنا عبثًا توفيتها حقها من الحمد والشكر ليست لعمرك أخرى مآثرك، ولن تكون بحالٍ ما خاتمة مساعيك ومفاخرك. يأبى لك ذلك فرط حبك لبلادك، وعطفك وحنانك على أبنائها الذين هم أبناؤك البررة، وصدق وطنيتك العميقة، وحميتك العريقة، وشدة إخلاصك لوطنك وتفانيك في خدمته والتذاذك بتضحية الأعز والأنفس في سبيله، وارتياحك إلى ركوب الصعاب، واقتحام العقاب، واعتساف الأوعار، ومغامسة الأهوال والأخطار من أجل الدفاع عنه، وصيانة حوزته وحماية بيضته. نقول: لم تنتهِ بعد مساعيك في صالح البلاد، ولم تترك المسرح لغير رجعة، معاذ الله أن يكون ذلك، ومعاذ همتك البعيدة وشيمتك المجيدة، وحاشا لعزتك الشماء، وحميتك الذكية الروعاء أن ترى على سكونك هذا إلا خفَّاق الجوانح على وطنك راجف الأحشاء. فما كانت روحك الكبيرة السامية، ونفسك الجياشة المتوقدة لتسكن في هذه الآونة إلا تأهُّبًا للحركة، وتحفزًا للوثوب، وانكماشًا للكرة إلى الميدان متى أهابت بك النوب والخطوب. بل أراك في عزلتك الراهنة لا تزال ينبوع أمل وقوة لمواطنيك، تنفث فيهم روح اليقين والثقة والرجاء كأنك زورق النجاة، لا يبرح باعثًا يرد الطمأنينة في ركب السفينة مهما طغى الموج من حولهم واصطخبت الأنواء.
هذه كلمة حق، ونفثة صدق أرفعها إليك يا صاحب الدولة في عزلتك السياسية، أُعبر بها عما يضمره لك ويعلنه من آيات الحب والولاء أهل وطنك أجمعين الذين لم يبقَ فيهم — بعد موقفك المشهور ومقام دفاعك المأثور في قضيتهم المقدسة — غامط لحقك العظيم، مُنكر لفضلك العميم، إلا جاحد عريق في الجحود، يحمل مكان قلبه أصم جلمود، سقيم الطبع، مريض الذوق، ينكر من علة ضوء الصباح، ومن آفة حلاوة العذب القراح، وما أحسب أن مثل هذا المخلوق يوجد بين مجموع الشعب حماه الله من أمثاله، وصان أديمه النقي من وصمة خِلاله، وما أراني بعد يا صاحب الدولة قادرًا على الوفاء لك بواجب الشكر، وليس يفي لك بهذا إلا صلوات المليك في السور.
نرجع إلى ما كنا فيه من أمر انقسام الأمة في الرأي والمذهب إلى قسمين إزاء تصريح إنكلترا العظيم الشأن بإلغاء الحماية، والاعتراف لمصر باستقلالها التام، وأن تكون ذات سيادة في الداخل وفي الخارج، وذات برلمان ووزارة مسئولة أمام البرلمان، وحصر الخلاف بين المملكتين في النقط الأربع المعروفة، وإعطاء الحق لمصر في بدئها مفاوضات مستقبلة تدخل فيها مع إنكلترا — مزودة بسلاح الاستقلال، مطلقة من قيد الحماية — لكي تسوي مع بريطانيا في تلك المفاوضات المقبلة قضية بلادها التسوية التامة، وكل هذه المغانم والأرباح والمزايا نالتها مصر دون أن تدفع فيها ثمنًا من تقيد أو تعهد أيًّا كان.
نقول: إزاء هذا الحادث الجليل انقسمت الأمة من حيث الرأي والمذهب إلى فريقين؛ فريق التيمن والتفاؤل، وفريق التطير والتشاؤم، وقد ذكرنا أن هذا الأخير قد بنى تشاؤمه على ما يزعمه من سوء عقيدته في بريطانيا وجرأتها على خفر الذمم ونقض العهود وإخلاف العهود، وقد حاولنا في الصفحات السابقة أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم هي غير إنكلترا الأمس، وأن تعدد الثورات والاضطرابات أثناء السنوات الأخيرة في ولاياتها ومستعمراتها قد أثبت لها بأنصع البراهين والأدلة؛ أن الأمم والشعوب ليست أشباحًا ولا تماثيل تتصرف فيها كيفما شاءت وشاء لها روح الاستبداد والمطامع الاستعمارية، ولكنها نفوس وأرواح كأخواتها ساكنات البلدان الغربية والممالك الأوروبية مستمدة مثلها من روح الله وينبوع القوة الأزلية، وأنها بذور الله قد غرسها في أرضه منطوية على جوهر الحياة وعناصر النمو والتفرع والسمو في جو الله إلى حيث تنسم في الفضاء الرحب أنفاس الله — أعني نسمات الحرية والاستقلال — وأنها كسائر البذور والأغراس لا بد أن تزكو وتكبر وتبلغ غاية نضجها، وتسمو إلى درجة الارتفاع المُقدرة لها أزليًّا بسُنة الطبيعة السارية وحكمها النافذ، وبحكم ما انطوت عليه من عوامل الإنبات والنمو والارتفاع، وعلى حسب نصيبها من تلك العوامل. أجل، لا بد لها — باعتبارها بذورًا غُرست في أرض الله — أن تنمو وتسمو، أو تذبل وتعفن لتُستأصل أو تُنشر من أجداثها وتعود إلى حياة ثانية وسيرة جديدة — على حسب ما يكمن فيها من عناصر القوة أو الضعف، ومن عوامل الرُّقي أو الانحطاط — هذا أو ذاك لا بد أن تفعله تلك البذور والأغراس (أو تلك الأمم والشعوب) بحكم النواميس الزمنية، والقوانين الكونية سواء أرادت بريطانيا أَو لَمْ تُرِد، وسواء سرها ذلك أو ساءها. هذه إرادة الطبيعة التي تأبى إلا تنفيذ إرادتها أحبت بريطانيا أو كرهت، ورضيت بريطانيا أو رفضت، كأنما بريطانيا — بأساطيلها ومدافعها وورشها ومعاملها وولاياتها ومستعمراتها — شيء تافه حقير في نظر الطبيعة، أو كأنها ليست موجودة، ولم توجد ولم تكن.
حاولنا في الصفحات السابقة أن نثبت لفريق التطير والتشاؤم — المعدوم الثقة في بريطانيا، المملوء رعبًا ووجلًا من ألاعيبها وخِدعها — أن بريطانيا قد آمنت بحقيقة تطور الأمم الشرقية، وصدق نيتها على المضاء في سبيل الجهاد لإحراز حقوقها المسلوبة مهما كلفها ذلك. حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أن الحرب الكبرى قد خلقت في العالم جوًّا اجتماعيًّا جديدًا، مملوءًا بعوامل جديدة كان من شأنها أن أبرزت في سطور من النور والنار تلك المبادئ التي حسبها العالم جديدة — وإنها لقديمة قِدم الدهر والطبيعة ذاتها — والتي كان قد حجب سطورها — كثيرًا أو قليلًا — ما كان قد ركبها من غبار الفتور والتواني وحب الدعة والراحة والتراخي، أعني تلك المبادئ التي راجت وسادت بعد الهدنة كالقول بتحرير الشعوب وتفويض الأمم في حكم ذاتها وتقرير مصيرها.
حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أن الحرب الكبرى خلقت هذا الجو الجديد المملوء بهذه المبادئ الجديدة القديمة، وأن هذا الجو وهذه المبادئ قد نبهت من همم الأمم والشعوب المظلومة، وشحذت من عزماتها، واستحثت ما يكمن فيها من حركة التطور الطبيعي والنمو الغريزي، فكان ما كان مما شاهده العالم، وأربك بريطانيا وأزعج خاطرها من تلك الثورات والاضطرابات في ولاياتها ومستعمراتها وتوابعها المختلفة.
حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أنَّا — كبعض تلك الشعوب التي هبَّت في وجه بريطانيا تطالبها برد حقوقها المسلوبة — قد صدمنا بريطانيا ثلاث صدمات عنيفة: «حركة عام ١٩١٩»، و«مقاطعة لجنة ملنر»، و«قطع الوفد الرسمي للمفاوضات»، أيقظنا بها بريطانيا من غفلتها أو تغافلها، وزعزعنا بها أساس طمأنينتها وهدوئها، وأرجفنا بها قلبها، وبدلناها بالأمن حذرًا، وبالاستهانة استعظامًا، وبالوقار خفةً، وبالاطمئنان وجلًا.
وبذلك استطعنا أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم ليست إنكلترا الأمس، وأنه باعتبارها أمة تفهم وتعقل، وتعرف الخير من الشر والتمر من الجمر، وتشارك سائر خلق الله — حتى الأطفال والحيوانات — في الغريزة المشترك فيها كل الخلائق، والتي عليها مدار الحياة ونظام الكون، والتي لولاها ما حملت قدم جسمًا ولا احتوى جسم روحًا — أعني غريزة النفور من الأذى والهروب منه إلى الخير — نقول إنه باعتبار بريطانيا هكذا، وبالنظر إليها في هذه الصورة الطبيعية الحقيقية — بالعين المجردة عن الأهواء، المتتبعة مهابط الحق ومواقع آثاره أين كان وكيفما كان — لا يسعنا إلا أن نراها قد غيرت من سياستها وبدلت من خطتها، وأنها قد وقفت اليوم لنا موقفًا خلاف موقفها بالأمس (لا يمكن أن يكون أسوأ من الموقف السالف، بل أحسن بلا نزاع وأفضل). ولما كنا نحن المصريين الذين استطعنا بقوتنا وحكمتنا أن نغير موقف بريطانيا معنا، ونحوله عن حالة إلى أحسن منها — ولو قليلًا — فليس يستحيل علينا ولا يتعذر ولا يبعد — بفضل اتحادنا وتضافرنا على الجهاد المستمر الدائب — أن نزحزحها شيئًا فشيئًا إلى مواقف أخرى أحسن لنا فأحسن؛ حتى نُقِفها أخيرًا عند حدها، ونقيمها في مشعب الحق، ومقطع السداد والصواب، ومفصل الإنصاف والعدالة، وحينئذ نبلغ المراد وننال الغاية.
على أننا لو سلمنا جدلًا بوجوب إساءة النية ببريطانيا، فأي ضرر علينا في قبول «إعلان إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام»؟ في قبول منحة الله لنا، بل منحة كدِّنا واجتهادنا، وثمرة ما بذرناه في مزرعة الجهاد من بذور هي عرق جباهنا، ودفع دمائنا وأفلاذ أكبادنا. أي ضرر علينا في قبول هذه الهِبة الإلهية والانتفاع بها جهد طاقتنا، وبقدر ما فيها من خير وبركة؟ أي ضرر علينا في اتخاذها عمادًا لنا ودرعًا وسلاحًا نضيفه إلى ما لدينا من الأسلحة؛ ليكون ذلك أقوى لنا على مناهضة الخصم ومغالبته؟
أليس الأجدر بنا والأضمن لخيرنا وفلاحنا أن ننظر إلى هذا الاستقلال في أول أدواره كباكورة أعمالنا المجيدة وبادرة مجهوداتنا الشديدة، وأنه مولود نهضتنا العظيمة الذي ما برح يتكون في أحشائها أزمان الحمل العسيرة، وأنه نتاج وطنيتنا المقدسة التي جعلت تتمخض عنه تمخض البحر عن دُرِّه ومرجانه، والكنز عن تِبره وعِقيانه حتى إذا ألقى به الحظ في حجورنا ذُخرًا نفيسًا، وثمرةً مباركة كان من أوجب الواجب علينا أن نبتهل لله شكرًا، ونرحب به ونهلل تحيةً لطلعته، واستبشارًا بغرته قائلين مع الشاعر:
ما لنا لا نطرب ونفرح بهذا المولود الجديد؟! ما لنا لا نحمد الله عليه ونحوطه بالنفوس والنفائس، ثم نعمل على تربيته وإنمائه، وترقيته وإعلائه حتى يبلغ أشده، ويستكمل قوته وأيده؟!
هذا الاستقلال الوليد إنما هو جذوة مقدسة اقتدحتها يد الشعب بزناد الكد والجهاد، واستثارتها معاول الكفاح والجِلاد من صخرة الجبروت والاستبداد. فما لنا لا نحوط هذه الجذوة المقدسة؟ وما لنا لا نُشبها ونذكيها بأنفاس هممنا الصادقة، ورياح عزماتنا الثاقبة حتى يتلهب سناها، ويسطع شعاعها فيُخرج البلاد وأهلها من ظُلمة الرِّق إلى ضياء الحرية؟!
إن استقلالنا في هذا الدور الأول ليس سوى هلال الحرية في أولى منازله، فما لنا لا ننتظر به النمو والزيادة؟! وما لنا لا نرقب له الكمال والتمام؟! وما لنا لا نقول مع الشاعر:
ومع الآخر:
وهَبونا لم ندرك الغاية، أفلم نضع أقدامنا على فاتحة السبيل المؤدية بالمثابرة والمصابرة إلى الغاية؟ أَلَمْ نملك اليوم فوهة المسلك الواضح المستضيء بعد طول تخبط في الأوعار والدياجي؟ أَلَمْ يعثر الغريق بين طفوه في غمرة الكرب ورسوبه على لوح النجاة — ولو ضعيفًا — وعلى عود السلامة — ولو ضئيلًا؟ أَوَ لَمْ تخرج السفينة من منطقة الخوف والخطر وإن لم يزل بينها وبين الساحل عباب وغمار يحتاج خوضها واقتحامها إلى احتمال المشاق والمتاعب؟
يقول الفريق المتشائم إن بريطانيا تضمر لنا في سريرتها خفايا وتَكن لنا دفائن وخبايا. فهَبْ ذلك من الجائز، فلماذا لا ننتفع بالثمرة الواقعة، ثم نحذر المضرة المتوقعة؟ وهل يجوز في عقل أن ترفض الوردة من يد مهديها مخافة أن يهديك الشوكة يومًا ما؟ أو ترد الكأس الروية إلى كف مديرها وساقيها خشية أن يدير عليك فيما بعد حنظلًا وعلقمًا؟ أليس قياسًا على هذا يحق لنا أن نرفض سواكب الغيث من السماء لما يُحتمل من إرسالها للصواعق علينا يومًا ما؟ وأن نغمض أبصارنا في وجه الأفق رافضين أشعة الشمس الضاحكة لما يتوقع يومًا ما من عبوسه لنا بظُلمة الضباب والغيم؟ فماذا تكون حال أبناء البشر إذا ساد في الأرض هذا المذهب، وتغلبت هذه الشريعة؟ وأي حياة يحيون؟ وكيف تُدار دواليب الأعمال؟ وكيف يتقدم ركب الإنسانية في سُبل الرقي إلى أمد الكمال؟
هَبونا لم ندرك الغاية، فأي الحالتين أشرف وأمجد؟ وأي الموقفين أقوى وأمنع؟ وأي المركزين أدنى من أمل وأكفل بنجاح؟ دخولنا المفاوضات الآتية أحرارًا مستقلين، أم دخولنا إياها تحت نير الحكم الأجنبي وفي قيود الحماية؟ أي الأمرين أفضل؟ ذهابنا للتفاوض مطلقين من هذه الأغلال مزودين بسلاح الاستقلال (ولو مثلومًا مفلولًا)، أم ذهابنا عُزلًا من السلاح كشفًا من الدروع مكتوفين بأصفاد الحماية؟ ثم ماذا غرمنا بعد وماذا خسرنا؟ وماذا أضعنا بقبولنا ما نزلت عنه إنكلترا وما صرحت به من هذا الإلماء وهذا الاعتراف؟ هل بذلنا في سبيل ذلك شيئًا من حقوقنا أو تخلينا عن شيء من مطالبنا؟ هل أعطينا بريطانيا في مقابل هذا العربون الجسيم ثمنًا؟ هل سمحنا لها أن تأخذ علينا أدنى تعهُّد أو تقيُّد؟ كلنا يعرف الجواب على ذلك؛ كلا.
وبعد؛ فهل نسيتم أو غاب عنكم أن ما تحقرونه اليوم — بل تنقمون عليه من ذلك التصريح المتضمن إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال — قد كان يومًا ما أقصى ما تطمح إليه أنظاركم يوم كان الوفد المصري لا يتمنى على بريطانيا — عند بدء دخوله المفاوضات معها — أمنية أجلَّ وأعظم من مجرد إعطائها إياه وعدًا بأن يكون إلغاء الحماية ضمن ما تعترف به لمصر أثناء المفاوضة؟ في ذلك اليوم (وليس العهد ببعيد) لم يكن الوفد المصري — ولا أي مصري كائنًا مَنْ كان — يحلم أن في استطاعة الأقدار أن تستخلص من بريطانيا العظمى غنيمة «إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال» — مبدئيًّا وقبل التفاوض — كعربون بلا ثمن، وكأداة تمهيد وتوطئة للمفاوضات المقبلة.
أنسيتم يوم كنا نشرئب بأعناقنا التي قطعها الظمأ، ونتطاول بأبصارنا التي أرمدها السُّهاد — إذ نحن في مضال الحيرة وقفار اليأس — إلى ذلك المنهل العذب (منهل الحرية) الذي كان ممنوعًا منا بأسوار الحماية المسلحة وأسلاكها الشائكة، وقد أذبل العطش أسلات ألسنتنا يوم كنا نتوق ونتلهف على رشفة من زلال ذاك المنهل الشبم؟ أم نسيتم ونحن في دياجير القنوط كيف كنا نتشوف إلى شعاع من ذلك السراج المنير — سراج الحرية الذي كان يطمس سناه ضباب الحماية وأدجانها المتراكمة الكثيفة — فها نحن أولاء نسير في وضح السراج المنير، وننقع الغليل بماء الحرية النمير. فما معنى هذا التسخط والتذمر؟ وماذا تريدون بهذا التأفف والتضجر؟ وما هذا القال والقيل، والصراخ والعويل، والتغرير بأبناء البلاد والتضليل؟
فخبرونا — بعيشكم — ماذا كنتم فاعلين لو أن هذا التصريح العظيم «بإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال» جاءكم في ظروف أخرى، وعلى أيدي آخرين (يوم كنتم لا تُحدِّثون به أنفسكم ولا في الأحلام — يوم كنتم تعدون ما هو دونه بكثير مِنَّة عظمى ونعمة جُلى — يوم كانت أقصى أمانيكم أن يكون هذا الإلغاء وعدًا موعودًا لا ثمرة حاصلة) — ماذا كنتم فاعلين إذ ذاك؟ أهناك أدنى شك في أنكم كنتم تملئون الأرض والسماء تكبيرًا وتهليلًا ونشيدًا وترتيلًا، وتحرقون البخور في المجامر إقامةً لشعائر التقديس للذين ساقوا إليكم المغنم العظيم، وتأديةً لمناسك العبادة للآلهة الذين غمروكم بالفيض العميم؟ أما كنتم تقيمون الصلوات في المحراب لأولئك الأرباب؟ أما كنتم تهزون أعواد المنابر إعلانًا لمفاخر أولئك الأكابر؟ أما كنتم تنحرون النحائر، وتدقون البشائر، وتوقدون الشموع، وتزينون الربوع؟ أما كنتم تقطعون الحناجر، وتمزقون الرئات بالهتاف حتى تصبحون خُرسًا، لا تطيقون الكلام إلا همسًا ونبسًا؟ أما كنتم تمثلون في عرصات القاهرة رواية البعث والنشور؛ إذ تُحشرون قبائل وشعوبًا في صعيدٍ واحد، متزاحمين متدافعين، متكدسين أكداسًا مشتبكة متلاحمة، جبلًا هائلًا من الإنسانية الهائجة المائجة، وصرحًا ممردًا من الجماجم ليس فيه أدنى ثلمة ولا فرجة:
ثم تخلعون كل عذار، وتندفعون في كل تيار مطلقي طوفان الغرائز الحيوانية من محابس التؤدة والرزانة، مرسلي سيول النزعات الشهوانية من قيود الورع والرصانة، سامحين لعنصر التراب والحمأ المسنون فيكم أن يتغلَّب على عنصر الروح الإلهي والنور السماوي، كأنكم كتلة جسيمة من الفوضى، يظل من يبصر فرط اضطرابها وتشوشها واختلاطها لا يكاد يصدق أن في استطاعة القدرة التي خلقت نظام العالم العجيب من عالم السديم المشوش أن ترد هذا البركان المتطاير الحمم والشظايا، وهذه الزوبعة المستطيرة الشرر والصواعق، وهذا الزلزال البادي في أشنع صور التخريب الذهني والتدمير الروحاني إلى سيرته الأولى من الحياة الهادئة المنظمة، وصورته المعهودة من مظاهر الإنسانية المهذبة.
وبالاختصار، أما كنتم تجددون عهد ذلك اليوم المعروف ٥ أبريل ١٩٢١، الذي يسجل على ترمومتر الحياة الاجتماعية أعلى درجة لحيوانية الإنسان وأخفض درجة لروحانيته، ويقدم أصدق مَثل تاريخي على تأصل طباع آباء البشر — ساكني الكهوف وقانصي الوحش — في نفوس أبنائهم مهما قَدُمَ العهد وتطاول الأمد؟
أجل، لقد كنتم تفعلون ذلك وفوق ذلك لو أن غنيمة هذا التصريح — بإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام — جاءتكم في ظروف أخرى وعلى أيدي آخرين. فما بالكم اليوم لا تصنعون عُشر معشار ما كنتم صانعيه إذ ذاك؟ بل ما بالكم لا تكتفون بمجرد إظهار الارتياح والانشراح، بل بمجرد السكينة والثبات، بل بلزوم سُنَّة الصبر الجميل حتى تروا عواقب هذه البوادر، ونتائج هذه البشائر. فإن لم يكن هذا ولا ذاك فأمامكم مجال المعارضة الشريفة في صفاء جو الهدوء والحلم اللذين تقتضيهما سُنن الجدال وقوانين المناقشة، رابئين بنفوسكم عن مواقف التغرير بالشعب والتضليل، وعن خُبث مواطن الإرجاف والتهويل، وعن سفال مساف التشنيع بالوزارة الدستورية الساعية إلى خير الأمة، الممثلة لأمانيها، الباذلة أقصى الجهد في تنفيذ رغباتها، وعن خسة مهابط الانتقاص منها والنيل من كرامتها، وتوجيه كاذب التهم نحوها، وترويج سوء الظن بها مما يفسد أذهان الشعب — الذي تدَّعون أنكم قادته وأبطاله الذائدون عن حياضه — ويسمم عقيدته، ويضل رأيه، ويطمس على نور بصيرته. ما بالكم تحاولون — بإخماد جذوات الأمل في النفوس وإبدالها ظلمة اليأس — تثبيط الهمم وفل العزائم، وإقعاد الأمة عن مواصلة السعي في سبيل الجهاد، أو تحويل ذلك السعي في شر السُّبل وأشدها وبالًا — أعني سبيل المشاحنات الحزبية، والمطاحنات الفرقية، وتقاطع الأرحام والصلات، وتدابر الخلان والثقات — ذلك السبيل الذي طالما أغريتم الناس بسلوكه فلم تجدوه يؤدي بقضية البلاد إلا إلى شر غايات الفشل، وأحرج مضايق الكرب، وأوخم مراتع الخيبة كما قد شاهدتم أن نذير الخطر كلما كان يصيح بالشعب محذرًا الاسترسال في ذلك السبيل — سبيل التنابذ الممقوت — والإمعان في شعابه، داعيًا إلى الرجعة لسبيل التضامن والاتحاد فيطيعه الشعب جامعًا كلمته، حاشدًا صفوفه، أدبر الشر والطلاح، وأقبل الخير والفلاح، وأبرمت روح الاتحاد من أسباب القضية ما كانت آفة التفرقة قد نكثت ونقضت، ووثقت عِزَّة التضافر من أركانها ما كانت ذلة التخاذل قد هدمت وقوضت، فأشرق نجمها بعد أفول، وأورق عودها بعد ذبول. نقول: لقد جربتم هذا وذاك، ولقيتم من الخطتين النعمة والمصاب، وذُقتم من الكأسين الشهد والصاب، فهل انتفعتم بتجارب الزمن، وحنكتكم تقلبات الدهر بين نِعمٍ ومحن؟ وهل فقهتكم الصروف، وفطنتكم تلونات الظروف؟ وهل سبكتكم نيران الكوارث في بوتقة التمحيص والتهذيب، وقومتكم أيدي الحوادث بثقاف الإصلاح والتأديب؟ أم وجدتكم هذه القوى والعوامل بمنعزل عن ندائها وبمنقطع عن صوت دعائها، فكانت إنما تحاول في هدايتكم تحريك الجبال، وتسكين الزلزال، وضبط هوجاء الرياح، وإسكات العارض السحاح، وكأن موقع وحيها وتعاليمها من قلوبكم موقع الرقم على صفحة الماء، والنقش في أديم الهواء، وكذلك لم تجد هذه المؤدبات الإلهية والمهذبات الطبيعية من بينكم إلا كل نافر شرود؟
فلأي قوة في الكون يرضخ من أبى الرضوخ لأستاذ التجربة؟ ولأي إرشاد ينصت من لم يصغِ إلى وحي العواقب؟ وأي درس يحفظ من أهمل درس الأسباب والنتائج؟ ولأي صوت يأذن من أغلق سمعه دون صوت الطبيعة؟ وبأي مصباح يسترشد من أغمض طرفه عن سراج الحق؟ وبأي شيء في هذا الوجود يُصدق ويؤمن من خادع نفسه وغالط ذهنه في الواقع المحسوس والحقائق الملموسة؟
وأي إنكار للحاصل والواقع أشد من إنكاركم لتلك الحقيقة الكبرى التي أصبح يبصرها الضرير، ويسمع وقع آثارها الأصم، ويكاد يتحرك لها رُفات الأموات في قبورها، تلك الحقيقة التي بتنا نتقلب في مضاجع راحتها وبين أعطاف نعمائها، ونجني باكورة ثمارها يانعة جَنية؛ من تحكم في أمورنا، وتصرف في إدارة شئوننا، وقبض على أزمة السلطة في حكومة بلادنا، وتأسيس برلمان كأرقى برلمانات العالم دستورية وأحسنها نظامًا، ووزارة مسئولة أمام ذلك البرلمان قد قام رئيسها الجليل ثروت باشا يبرهن للناس على حُسن نيتها، ويقدم لهم أمثلة صادقة من مبدأ مسئوليتها بما قد جعل يلقيه على الملأ مرة بعد أخرى من خُطبه الرائعة المملوءة بروح الديموقراطية، مما لم تعهده البلاد قبل اليوم من أي وزارة قامت بين ربوعها أو رئيس تقلد زمام الحكم فيها، ثم بتنفيذ نصوص هذه الخُطب بالأعمال الجليلة والنتائج العملية.
أي إنكار للواقع الملموس أشد من إنكاركم إلغاء الحماية بعدما أعلنت ذلك بريطانيا، وصادق عليه برلمانها، وكساه الصورة الشرعية والصيغة الرسمية، وبعدما أمنت عليه دول العالم، وهللت له وصاحت، وتواردت به التهاني تطير بأجنحة البريد وتهفو على ساريات البرق — بل كادت تشترك في إعلانه الطبيعة ذاتها، فتتهامس بنجواه الرياح، ويفضي ببشراه المساء للصباح — فتقولون بعد كل هذا إنه ما حدث حادث ولا تغيرت حال، وإنه:
تقولون إن هي إلا أسماء سميتموها، ورنين ألفاظ زينتموها كلام في كلام، وأضغاث أحلام، ورماد يُذر في الأجفان، وتخدير أعصاب وأبدان. فبحقكم هل كنتم قائلين ذلك لو سيق إليكم هذا الربح العظيم على أيدي آخرين؟ أم أنتم لا تعترفون بالفضل ومقداره إلا إذا انحدر إليكم من طريق مخصوص محبب إليكم، ولا تتحدثون بالنعمة إلا إذا جاءتكم في غلاف معين مبصومة بماركة معينة لفابريقة معينة؛ لا تعرفون غيرها، ولا تعترفون بسواها، ولا تؤمنون إلا بها، ولا تأخذون إلا مصنوعاتها. ثم المقاطعة التامة والويل والعفاء على البضاعة بعينها إذا صدرت عن فابريقة أخرى تحمل ماركة أخرى؟ فأنتم إنما تعنون بالواسطة لا بالنتيجة، وكل ما يهمكم هو الزي لا الكائن الحي المشتمل به، والوعاء لا المتاع المنطوي تحته، ومَنْ كان هذا شأنه — متعلقًا بالأعراض دون الجواهر، منصرفًا عن مادة الحقائق إلى هباء المظاهر — كان يعيش في عالم من الخيالات والأحلام، وينقلب في جو من الأكاذيب والأوهام، وإن تشأ فقُل عنه — ولا حرج — إنه لا يحيى ولا يعيش، ولا يكون ولم يكن.
ليت شعري، ماذا نقول للذين يستقبلون نعمة الله بالسخط والنقمة ويتلقون فضله العظيم بالاستياء والأسف؟ ليت شعري، ماذا نقول للذين يلقون وجوه اليُمن الضاحكة بوجوه مربدة عابسة، وينفرون من عرائس النعم المزفوفة عليهم بأعطاف شامسة؟ أفلا نقول إن الطبائع البشرية قد انعكست فيهم فدواعي السرور تشجوهم، وبشائر الصفو تشجيهم، وانبساط الأمل يورثهم انقباض اليأس، وأسباب الطمأنينة تثير فيهم هواجس الوسواس. فأي فائدة تُرجى من أمثال هؤلاء لصالح العالم عامةً ولمنفعة أوطانهم خاصةً؟ أي فائدة تُرجى منكم يا مَنْ هذا دأبهم وديدنهم سوى أنكم تعملون على إماتة الأمل ونقض العزائم ونكث الهمم؟ تُكدرون الصفو، وتُعكرون الصحو، وتُجعدون السلس، وتُخشنون الأملس، وتُوعرون السهل، وتُعقدون المُنحل، وتثيرون على رونق الأماني المشرقة غبار الضجر والتبرم، وتعقدون دون كواكب الرجاء غيوم التطير والتشاؤم، لا تنفكون تقيمون مناحة جِدية على مصائب وهمية، ثم تجعلون تشاؤمكم هذا دليلًا قاطعًا على صدق وطنيتكم، وتُسمون إنكاركم للواقع المحسوس، وإقامتكم العقبات في سبيل تقدُّم البلاد إلى غايتها المنشودة عنوانًا على فرط إخلاصكم، وشدة تفانيكم في خدمة القضية.
فخبروني بربكم أهو الإخلاص والتفاني الباعث الحقيقي الذي يدفعكم إلى إتيان ما تأتون من المعارضة في الواضح المستنير والمكابرة في إنكار ما يراه الأكمه والبصير؟ وهل حقًّا تعتقدون في صميم أفئدتكم أنكم أنتم وحدكم المخلصون، وأن فريق التيمن والاستبشار هم المنافقون؟ وهل حقًّا في صدوركم وحدها يتأجج لهيب الوطنية، وعلى قلوبكم دون غيرها يتنزل وحي الوطنية؟ وهل الوطنية لم تضرب في غير ضمائركم قبابها، ولم تتخذ في سوى جوانحكم منسكها ومحرابها، ولم تُقِم خلافكم مداره يدافعون عن قضيتها، ولم تُجند غيركم عسكرًا يذودون عن جوزتها؟ وهل هي لم تتعشق سواكم ولم يَهِم قلبها إلا بكم؟ وهل كان مَنْ عداكم خونة غدرة وفجرة كفرة؟
وهل أنساكم حب الوطنية أغراضكم الذاتية ومآربكم الشخصية، وأذهلكم عن طلب الجاه والمنصب والرياسة، وألهاكم عن الولوع بمظاهر الأبهة والفخامة والزعامة؟ وهل صرفكم الشغف بالوطنية عن الشغف بهتاف الناس لكم في كل شبر من الأرض والمناداة بإحيائكم وبتخليد ذواتكم السامية العلية في هذه الدنيا الفانية الدنية، وبإسقاط أضدادكم وبموتهم وتكفينهم ودفنهم؟
وإذا كان ذلك كذلك؛ فهل من حق الوطنية عليكم أن تخذلوها في أدق ساعاتها، وأشد أزماتها بمحاولتكم صدع الشمل وهدم البناء، وتمزيق الوحدة، وتفريق الكلمة بطمس معالم الحق الأبلج، وترويج الباطل اللجلج، وإقعاد الهمم والعزائم عن مواصلة السعي إلى الغاية المقصودة، وصرف الأمة عن الأخذ بالعروة الوثقى، وانتهاج الخطة المُثلى، والانتفاع بما ساقه إليها الحظ من الأرباح والمغانم، واستثمار ما تنازل عنه الخصم لمصلحتها من الفوائد والمزايا، وعن مضاعفة حولها وقوتها باستخدام ذلك السلاح القوي الذي استفادته أخيرًا بفضل مساعي الوزير الكبير ثروت باشا — سلاح الاستقلال الشرعي التام — الذي أصبحنا اليوم نجتني باكورة ثماره؟ أَمِنْ حق الوطنية عليكم أن تصنعوا هذه الهنات، وما هي إلا سهام تصمون بها كبد القضية المقدسة، ومُدى تمزقون بها أديمها، ومعاول تهدمون بها كيانها؟ أم هل نسيتم — وليس العهد ببعيد — يوم خذلتموها وهي ملقاة في قسطاس المفاوضات الرسمية؛ إذ كانت تبتهل إليكم أن تلتفوا حولها، وتشدوا أزرها؛ ليكون من جماعتكم محتشدة، ومن كتلتكم مندمجة خير قوة ترجح بكفتها في الميزان فتشيل كفة الخصوم، وتنال هي الظفر والنصر بهممكم وعلى أيديكم، فهل أعنتموها ونصرتموها، وأجبتم دعاءها، ولبيتم نداءها؟
أفبعد هذا كله تدَّعون أنكم أنتم وحدكم الوطنيون، ومَنْ سواكم غدَرة منافقون، وأن الوطنية قد خُصَّت بكم، وحُبِست عليكم، ووقفت حيث أنتم فما لها عنكم متقدم ولا متأخر؟
هذا صنف جديد من الوطنية، ونوع غريب — لا عهد للناس به قبل ظهوره منكم — قد سبقتم إليه العالم المتمدين، وامتزتم به على أهل البدو والحضر، فلكم وحدكم فخر ابتداعه وامتياز اختراعه، ولكم أن تتخذوا له «ماركة مسجلة» تحتكرون بها مزية الانتفاع بأرباحه واستثمار فوائده، وتمنعونه بها من أن يكون لغيركم من مخلوقات الله حِلًّا مباحًا يستمتعون به كما يشاءون، ولبئس ما يستمتعون! وبئس ما يستثمرون! فاحتكروه وحدكم واستأثروا به، وامنعوا منه خلق الله فلن تستطيعوا أن تُحسنوا إلى الناس أكثر من إحسانكم عليهم بمنع مثل هذه «الوطنية السامة» من السريان في كيانهم الصحيح المُعافى، ولا أرى كفارة لجريمة اختراع مثل هذا الصنف من الوطنية أفضل من قيام مخترعه بتسجيله واحتكار امتيازه لنفسه دون غيره، وما يستدعيه ذلك الاحتكار من صيانة خلق الله الآمنين وعباده الصالحين من شروره وآفاته.
الوطنية المحضة الصريحة المخلصة الصادقة لا توحي بأمثال هذه الفِعال، ولا تُغري بانتهاج تلك المسالك، إنها أنبل مقصدًا، وأكرم نزعة من أن تأمر بغرس بذور الأحقاد والضغائن، وتأريث نار الشر والعداوة بين أبناء الوطن الواحد، وتفريق الكلمة، وتبديد الصفوف، وفرط العقد وفصم العُرى. هي قد تأمر بالمعارضة ولكن بالمعارضة الشريفة النزيهة، الواقعة في حدود الرفق واللين والأدب والحكمة والعقل والمنطق، المبنية على أفضل أساس من حُسن النية وشرف المبدأ، ونُصرة العدل، والتنقيب عن مواطن الصدق ومكامن الحق، ولزوم محجة الحجة الناهضة، والتمسك بأسباب البراهين الدامغة، والتجرد عن شوائب الأغراض، والتنزه عن عوامل الأهواء، والتحلي بمناقب الكرم والعفة والحياء، ودماثة الطبع، ورِقة الجانب، ولين العريكة، وسجاحة الخُلق — أعني كل ما ينحصر في مدلول تلك اللفظة المفردة الإنكليزية التي اصطُلح على تعريبها بلفظة «الرجل المهذب». فالمعارضة؛ تلك القوة الهائلة التي تُعد بحق من أقوى عوامل تنظيم الهيئات الاجتماعية والسياسية، وأفعل الوسائل المؤدية إلى حُسن التوازن في كيان الأمم والشعوب، يجب أن يكون القائمون بها من أفاضل القوم؛ أعني المهذبين الذين حاولنا وصف محامدهم ومناقبهم، لا أن تكون سلاحًا في أيدي الطائشين الخِرق المتهورين، ولا المتفاخرين بما آتاهم الله من قوة السواعد وجهارة الأصوات وصواعق الصيحات، المنتشين من خمرة الزهو والتيه والإدلال بشدة البأس وقوة الفتك ونخوة الفروسية والحماسة، الذين يهزون أقلامهم كما يهز بعض الرجال النبابيت والشوم — أو بالاختصار — لا يصح أن يُسلم سلاح المعارضة الشريف إلى «فتوات» السياسة.
لا يصح أن تُستخدم المعارضة في تضليل السُّذج البسطاء من الجماهير، والتغرير بهم بترويج الأباطيل والأكاذيب، ونشر إشاعات السوء والأراجيف، وتسميم الأذهان بأكاذيب التُّهم والظنون مما لا يساعد مثقال ذرة على خدمة القضية، ولا يتقدم بها شبرًا واحدًا نحو النجاح، بل يعمل — بالعكس — على تعريضنا للخطر الجسيم. لا يصح أن يتولى المعارضة مَنْ لا يهمهم منها إلا اتخاذها ذريعة لخدمة الأغراض والأهواء، وهم يعرفون الحقائق، ولكنهم يتعامون عنها تعامي البصير في الليلة القمراء، ولا أن يتولاها القِصار النظر الذين لا يبصرون الحقيقة لما يَحُول دونها من سُحب الأكاذيب والأضاليل، ولا أن يتولاها القوم البطاشون بأسنة الأقلام، وحراب المطاعن وهجر الكلام، الذين لا يلذهم ولا يقر عينهم إلا أن يروا ميدان المعارضة حومة وغى، وساحة قتال يضرجونها بدماء المناظرين والمناقشين، تسيل على ظبات أقلامهم وأسلات يراعاتهم من جِراح الكرامات الدامية ومن كلوم الأعراض المثلومة. فهذا وحده الذي يَسُرُّهم ويشفيهم، وبدونه لا يرضون ولا يقنعون. أما طريق المنطق والقياس والمعقول فليس مما يألفونه أو يميلون كثيرًا إلى سلوكه، وليس للحجة عندهم راجح وزن أو كبير قيمة، وبدل ما هو أساسي ضروري للمناقشة الحرة والمعارضة النزيهة — من صفاء جو الهدوء والحلم والرزانة الضروري لوضوح نور الصدق وسطوع نجم الحقيقة — تراهم يكدرون الجو بما لا يزالون يثيرون فيه من غبار الشغب والشر، ويعقدون في أرجائه من دخان الإساءات والاعتداءات بأليم المقال ومضاضه، وهذه الخِلال — لعمر الحق — ليست مما يُحبب المناقشة إلى أربابها وذوي البراعة فيها والافتنان في أساليبها، ولا مما يجعل ميدان المناظرة ذلك الندي المأنوس الذي يشتاقه ويهرع إليه أُولُو الفِطن والألباب، بل هذه الخِلال السيئة أجدر أن تبغض المناظرة والمناقشة إلى من يرجون لحل مشكلاتها وإثارة شبهاتها من ذوي الفضل والحجى؛ إذ يرونها إلى الصراع والملاكمة أقرب منها إلى المحاجة، وبالجِلاد والطعان أشكل منها بالمباحثة، ويرون مجالها أحق أن يُسمى مأسدة ومسبعة تجول فيه الضاريات بالبراثن، وتصول بالأنياب والمخالب فليس يُجرأ على ولوج بابها، ودخول غابها إلا من تحصن في الجنن الواقية، وتسربل الدروع الضافية، وليس يخفى ما يكون لإبعاد أهل الفضل والنُّهى عن مجال المناقشة من الخطر الجسيم على سلامة الحقائق والمبادئ بمنع أشعة القرائح الوقادة من النفاذ إليها، والإشراق عليها، وإبرازها للعيان في ضياء الحجج المنيرة والبراهين الساطعة؛ وذلك من شر ما يبتلى به أمة ناهضة تقتحم أوعر سبيل إلى غايتها المأمولة من الحرية والاستقلال في ظروف عصيبة وأزمات شديدة، وجو مغيم مظلم تظل فيه أحوج ما تكون إلى الاستنارة بشهب الأفكار ومصابيح الفِطن من عقول الصفوة المختارة من نخبة أبنائها المخلصين النوابغ.
نحن لا نقصد بهذا الكلام إلى الطعن في وطنية مصري كائنًا مَنْ كان؛ لأنا ننظر إلى الوطنية نظرة أوسع وأعمق مما اعتاد أن يلحظها بها أولئك الذين يعدونها ضربًا من الحِرف وصنفًا من الصناعات والمهن يحترفونها، فيقال فلان وطني كما يقال فلان مهندس أو طبيب، أو أولئك الذين يعدونها حلية وزينة يتملح بها المتبرج المتأنق فيقال فلان قد برع في الوطنية وحذقها كما يقال قد تفوق فلان في البلياردو أو الرقص أو الناي، ولكنا نرى الوطنية شيئًا أعرق من كل ذلك في كيان الإنسان وتركيبه، وأشد امتزاجًا بنفسه، وأرسخ جذورًا في طينته، وأرسب أصولًا، بل لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنها هي بالفعل مادة حياته وعنصر كيانه، فهي ليست حرفة إلا إذا كان التنفس ذاته حرفة، وليست حلية إلا إذا كان الشعور والوجدان ذاته حلية، ولا هي مما يفتخر به ويباهي ويتيه به صاحبه عجبًا وإدلالًا إلا إذا صح أن يفتخر إنسان على آخر ويتيه ويزهى لغير ما سبب سوى أنه حي يرزق، وموجود تحت الشمس يستطيع أن يتحرك ويهضم، والواقع أن الإنسان وطني بالطبع مثلما هو مدني بالطبع وأناني بالطبع وخرافي بالطبع … إلى غير ذلك من الغرائز والفِطر المكون من مجموعها ذلك المخلوق المدهش المسمى إنسانًا. بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن الوطنية — أعني فرط تشبث الإنسان وتعلقه بالأرض التي منها نشأ ونجم — ليست مقصورة على النوع البشري، بل مشتركة مشاعة بينه وبين كافة ضروب الحيوان من النملة إلى الفيل، ومن الإسفنجة إلى النسر، كُلٌّ لا يقر ولا يطمئن إلا في وطنه وبيئته، بل إن النبات ذاته وطني إذا نقلته إلى غير وطنه وغرسته في غير مألفه ذوى فذبل فمات.
أكثر من ذلك أن الوطنية لكونها غريزة وجِبلة هي كسائر الغرائز تفعل فعلها وتجري شوطها مستقلة عن العقل، لا نقول إن استقلالها عن العقل فرض لازم وشيء دائم فإنها قد تتفق معه أحيانًا وتسترشد بوحيه، ولكن ذلك شيء عرضي، وهو من محاسن الصُّدف، وحينذاك تكون وطنية راشدة مبصرة، ولكن ذلك ليس من وظيفتها ولا من طبعها بصفتها غريزة كسائر الغرائز التي لا بد أن تنهج منهاجها وتُحدث حدثها بقانون نافذ أزلي غير خاضع لسلطان العقل ولكن لسلطانه هو. فلا عجب أن ترى الوطنية مندفعة في مجراها في غير صحبة العقل، بل لقد تسلك الوطنية مسلكها في غير صحبة الشعور فيأتي الرجل الفعلة الوطنية من حيث لا يشعر أنه صنع شيئًا البتة، ولكن من حُسن عناية الله وتوفيقه أن يلهم الوطنية الانضمام إلى العقل والانضواء تحت لوائه؛ لأن العقل وحده هو المبصر الثاقب النظر وسط ظلمات الكون، والدليل المهتدى بين مضاله ومجاهله، وكل شيء سار في صحبه العقل فقد ضُمنت له السلامة وقُدِّرَ له النجاح، وكل ما لم يكن كذلك فقد تعرض للمتالف واستُهدف للمهالك.
على أن العقل حينما يصحب الغريزة المسماة الوطنية لا مشاحة في أنه يكسر من حدتها، ويفل من سورتها لما يتحتم عليه من مراقبتها وتدبيرها بالكبح من جماحها، وصدها في الأحايين الكثيرة وقدعها وقمع طغيانها، وتوقيفها عند حد الأمان وفي دائرة السلامة فتصبح بلا شك — من حيث مبلغ قوتها وشدتها — أضعف بكثير من الوطنية المستقلة عن العقل الراكبة رأسها الهائمة على وجهها، وهنا يتهمها الناس بالفتور والتراخي؛ بل ربما غالوا فاتهموها بالمروق والخيانة، ومن ثم كانت الوطنية المستبدة العمياء في نظر الجماهير أغلى قيمة وأعظم قدرًا وأوجب للإجلال والتقديس من الوطنية المتبصرة السارية في ضياء العقل، ومن ثم نشأت نظرية القائلين بأن الوطنية أعظم ما تكون وأقوى وأشد إخلاصًا وحرارة في الجماهير والمجاميع، وأنها تتناقص قوة وحمية ولهيبًا كلما ازداد نصيب صاحبها من العلم والفلسفة حتى أصبح الكثير من نوابغ العلماء والفلاسفة — وفي مقدمتهم «جيتا» أعظم فحول الألمان — يُتهمون في وطنيتهم، والحقيقة خلاف ذلك فإن الوطنية في كلا الفريقين جوهر لا يقبل التجزئة والتقسيم، ولا النقص والزيادة، وإنما يختلف مظهرًا في الفئتين تبعًا لشدة اندفاعه وطغيانه بلا رقيب ولا مدبر في الواحدة، أو انطلاقه في زمام العقل وعنان الحكمة، ومسراه في ضياء الرأي والبصيرة في الثانية.
وبعد كل هذا الكلام أرجو أن أكون أقنعت من عساه يكون قد أساء فهم مرامي؛ فظن أني طعنت في وطنية فرد ما من أفراد شعبنا الكريم بأني ما قصدت البتة إلى أدنى شيء من ذلك، بل الذي أقوله هو عكس ذلك — كما حاولت إثباته بالبراهين الآنفة — من أن الوطنية تظهر في فئة المعارضين على أشد ما بدت فيه الوطنية منذ خلق العالم من أسطع الصور وأعنف المظاهر، فإن كان فيها علة فإنما هي الإفراط والطغيان لا الفتور والضعف، وإن كان بها آفة فهاتيك هي العنف والبطش لا اللين والهوادة، فإن كنت آخذ عليها شيئًا فذلك هو الزيادة لا النقصان.
وهنا أقول: إن الذين يذهبون إلى فصل الوطنية عن مظاهر التعقل من الأناة والتؤدة والرفق والهوادة؛ بحجة أن هذه العوامل من شأنها أن تضعف من قوة الوطنية وتكسر من حدتها، فتعوق كثيرًا أو قليلًا من فرط اندفاعها وشدة انصبابها إلى ما ترمي إليه من شريف غايتها قد فطنوا إلى شيء، وغابت عنهم أشياء؛ لأنهم نظروا إلى الأمر من وجهة واحدة ولم يستوعبوا سائر جهاته، وكذلك النظر الجزئي إلى عظام المسائل جدير أن يُضل صاحبه، ويُعمِي عليه الشيء الكثير من الصواب.
لقد فات هذا الفريق أن الغرائز والعواطف مهما شَرُفَت ونَبُلَت، ومهما كَرُمَ غرضها وحَسُنَ مقصدها، فإنها إذا لم تجعل تحت رقابة العقل (الذي هو وحده منبع النظام وأساس سلامة الكون) تصبح عرضة للوقوع تحت تأثير آفة الآفات، ومصيبة المصائب، وأدوى أدواء المجتمع، وألد أعداء الإنسانية، أعني داء «الأنانية»، وليس هذا محل الخوض في هذه المسألة الكبرى، وما أظن المجال ينفسح أو يسمح باستقصاء البحث والدخول في الجزئيات والتفاصيل وضرب الأمثال، على أن القارئ إذا ألقى هذا الكتاب برهة، وراض الذهن على فحص هذه النظرية جهد طاقته لم يبخل عليه بالجم العديد من الشواهد والأمثلة المؤيدة لهذه القاعدة العامة — خُذ مثلًا بسيطًا: عاطفة الحب التي هي أنزه العواطف في أصلها وطبيعتها وأشدها تضحية وأبعدها من الأنانية بل أقتلها للأنانية إذا تسربت إليها آفة الأنانية فقدت تلك المزايا الكريمة والمناقب الحميدة، فقدت روح التضحية والنزاهة وروح التفاني في شخص المحبوب فأصبح صاحبها أكثر اهتمامًا بنفسه منه بمحبوبه، وأشد عشقًا لذاته السخيفة السمجة منه لذات معشوقه، وأشغف وأهيم بمِلاحات جماله ومحاسن دلاله منه بمفاتن الحبيب فكل عنايته واكتراثه لنفسه، وكل عواطفه وشهواته تدور حول محور نفسه، ومن ثم تصبح نفسه «السخيفة السمجة الممقوتة» هي الصنم الذي ينصبه، ويخر له ساجدًا، ويريد معشوقته المسكينة على أن تسجد له أيضًا. ثم بدلًا مما يكون في حالة عاطفة الحب النزيه الطاهر من تلك الفضيلة الأخلاقية الاجتماعية الكبرى؛ أعني روح التضحية السامية القاضية بنسيان العاشق ذاته الضئيلة، واتجاه كل مَلَكَاته وقُواه وجهوده نحو خدمة النوع البشري ممثلًا في شخص حبيبه وتقديس المجتمع الإنساني مصوَّرًا في هيكل معشوقه؛ ترى جميع قُواه ومَلَكَاته قد انعكست نحو ذاته الممقوتة فيظل يحسب أن نفسه هي الجوهر الوحيد في الوجود، وأن سائر الكائنات أعراض خسيسة، وأن كل ما في الكون من خلائق لم توجد ولم تكن إلا لتَسُرُّه وتلذه وتسعى في خدمته وتُسبِّح بحمده. لا يحسبن القارئ أن في كلامي هذا شيئًا من المبالغة، فلقد رأيت بعيني رأسي كثيرًا من هذا الصنف من العشاق، ولا أراني مغاليًا إذا قلت إن مثل هذا العاشق لا يُعير محبوبته من الاهتمام عُشر معشار ما يبذله في سبيل انتقاء «دبوس» أو «بمباغ» أو «حمالة»، أو في سبيل المقارنة والمفاضلة عند اختياره لون ثيابه بين «الكحلي» و«الكريم» و«الكاكي»، ورأيت أن مثل هذا العاشق ينتهي به الأمر إلى خُسران محبوبه وخُسران الصحب والصديق والخِلان، وكلما ازداد جمالًا في عين نفسه ازداد قُبحًا في عيون الغير وكَبُرَ مقتًا عند الخلق والخالق.
نقول: لقد فات ذلك الفريق أن العواطف والغرائز مهما شَرُفَت ونَبُلَت فإنها عُرضة للإصابة بداء الأنانية ما لم تُحصن برادع للعقل والرأي، ولما كانت الوطنية — كما بينا آنفًا — عاطفة وغريزة فهي بهذا الاعتبار والحكم عرضة لداء الأنانية — لا يقيها من شره سوى العقل الذي هو الدواء القتَّال للأنانية ولغيرها من العواطف الخبيثة والشهوات الشريرة؛ لأن العقل هو القوة المدبرة المسيطرة على الكون، هو أُس النظام ووسيلة الصلاح وعامل الرُّقي، وهو الدواء المستأصل لجراثيم الفساد والشر والفوضى، وهو سلاح الحق الذي لا يزال ينتصر به في كل مظهر من مظاهر الحياة وفي كل ذرة من ذرات الوجود على جيوش الباطل، ولما كان الباطل والغي والشر والفساد والفوضى لا تزال تتخذ من العواطف والشهوات أثوابًا تلبسها وتظهر فيها، وأدوات تستعملها في أغراضها، ومطايا تركبها إلى غاياتها المرذولة. فلسنا نخطئ إذا قلنا إن وظيفة العقل في هذا الوجود هي محاربة الشهوات والعواطف.
لذلك نقول: إن الوطنية باعتبارها غريزة وعاطفة إذا نُحِّيت عن مسقط أشعة العقل قام حولها من ظلمات الأهواء شر بيئة تتكون فيها جراثيم الأنانية المُنكَرة، وتظهر بمظاهر شتى من التعصب والتشيع والتحزب، وما يستدعيه ذلك من التباغض والتشاحن والتحاقد والتضاغن وحب الانتقام والثأر ولذة التشفي والشماتة.
هذه الحال بالدقة هي التي تسود اليوم في فريق المعارضين المتشائمين، وطنية قوية شديدة لا شك فيها، ولكنها وطنية مرتدية ثياب التعصب والتشيع، مدفوعة بعوامل التحاقد والتضاغن، ساطية بسيف الانتقام والثأر — أعني وطنية مسلحة بكامل عُدَّة الأنانية وأسلحتها، أو بعبارة أبين وأقرب إلى الحقيقة: أنانية مسلحة بسلاح الوطنية.
الآن أحسب القارئ قد أدرك مغزى كلمتي (المتناقضة في ظاهرها المتناسقة في حقيقتها)، حيث أقول للمعارضين إن الوطنية فيكم بالغة أقصى حدها عقب قولي لهم إن أعمالكم لا تتفق مع الوطنية.
الوطنية — كغيرها من الغرائز والعواطف — لا تنهج المنهج القويم المؤدي إلى الغاية المقصودة إلا إذا تسيطر عليها العقل؛ لأنه يعصمها بذلك من أن تنقاد في عنان الأنانية أو تجري وراء الأغراض الشخصية؛ لأن العقل لا يولع إلا بالصدق، ولا يهيم إلا وراء الحقيقة، فهو يهيم أثر الحق متعطشًا إليه متلهفًا عليه:
صَبا به مُستهامًا. أقول كذلك يهيم صاحب العقل في طلب الحق مُعرِّضًا نفسه لشفار ألسُن المعارضين تنهش عرضه، وتفري أديمه، ولكنه يمضي رغم ذلك كالسهم المرسل، والسيل الجارف:
والناس يعجبون له كيف لم تستثِر هذه العوامل المهيجة عواطفه التي تخال كأنها الصخور الصُّم أو الهضاب الشُّم، بل يكاد يُخيل إليهم أن مثل هذا الإنسان ربما كان بلا عواطف، والواقع أنه ما دام يهيم في أثر الحق فهو عديم العواطف إلا عاطفة الهيام بشخص الحقيقة، فأما عواطف الاستياء والغيظ والتألم من المطاعن والمقاذف ومضيض الهِجاء والقذع، وعواطف الأحقاد والأضغان والتعصب والتشيع، فهذا ما ليس له محل في صدر ذلك الرجل الذي أفعم قلبه حب الحقيقة إفعامًا لم يدع مجالًا لأية عاطفة أخرى. فإذا كانت العواطف والشهوات الأنانية هي مقياس إنسانية الرجل ومسبار بشريته فإنه يصح لنا أن نُخرِج مثل هذا الرجل من عِداد البشر، ونُجرِّده من الإنسانية فنسميه أي شيء إلا إنسانًا، والواقع أنه أشبه ببعض الآلات والمكينات (كآلة الإحصاء مثلًا التي تمر خلال جملة عمليات حسابية بغاية الضبط والدقة — وبلا أدنى شعور أو تأثر بما يحيط بها من المؤثرات الجوية والعوامل الكونية — إلى نتيجة مضبوطة لا تقبل تغييرًا ولا تبديلًا) منه بأبناء البشر.
نقول: إن الوطنية في مثل هذا الرجل لا يُخشى عليها من بوادر الأهواء والشهوات وآفات التحيز والتعصب — أعني من مظاهر الأنانية — فوطنية هذا الإنسان خليقة أن تُعدَّ وطنية محضة صريحة نزيهة نقية، منطوية على عناصر الخير وعوامل النجاح، مضمونًا لها إدراك البُغية وبلوغ الغاية.
فهل وطنية إخواننا المعارضين هي من صنف تلك الوطنية المحايدة المجردة من المادة البشرية والعناصر الإنسانية، أعني من العواطف والشهوات؟ هل وطنية المعارضين هي من قبيل تلك الآلة الحسابية المُركَّبة على مكينة العقل المجرد ودينامو الفكر المحض؟ هل وطنية المعارضين هي تلك الآلة العقلية المتحركة الفعالة في صفاء الفكر البحت وأثير الرأي الخالص في جوٍّ صافٍ نقي الأديم من كل شائبة للشخصيات والميول الذاتية؟ هل وطنية المعارضين كذلك أم هي أشبه الأشياء «بالفانوس السحري» يجلو على ناظرك وسط الظلام مَعرضًا مستمرًّا من الصور والأشباح يحاول مديره أن يُدهشك بصورة هذا البطل، وشكل هذا الهُمام؟ أم هي (أعني وطنية المعارضين) أشبه شيء بداخل المعبد أو الكنيسة كل جدرانها مُزدان بالتصاوير والتهاويل والدُّمى والتماثيل، وأنت بين هذه الأنصاب والأصنام لا يُسمح لك أن تُبدي رأيًا أو تجهر بفكرة، وما كان لك أن تحاول قط ذلك، ولا أن تظن أن لك فكرًا أو عقلًا، بل كل ما يجب عليك اعتقاده أنك لم تقم ولم توجد بين هذا الجمع المحتشد من القديسين والشهداء والملائكة والعذارى إلا لتُسبِّح وتحمد وتبتهل وتتضرع وتخر ساجدًا لهاتيك الآلهة على عروشها.
لو كانت وطنية المعارضين هي من صنف وطنية العقل الهادئة المحايدة المحضة المجردة من نزعات العواطف، ونزعات الشهوات الذاتية، والميل إلى الشخصيات، والتشيع للأشخاص لما كانت — كما شاهدنا مرارًا وتكرارًا — عُرضة في كل آنٍ ولحظة لأن تغتاظ وتغضب بتأثير الأهواء والغايات، وتثور وتتهيج بعوامل الحب والبغض والحقد والضغينة مما صير اهتمامها بالهنات الشخصية أشد منه بالمسائل السياسية، واكتراثها للذاتيات الخصوصية أعظم منه لأمهات المسائل العمومية، ولقد أثبت العلم والفلسفة أنه إذا ضَعُفَ سلطان العقل على العواطف أصبح تأثر الإنسان بالمسائل الشخصية — مما يمس شعوره الذاتي، وما يتصل مباشرة بشهواته وأغراضه — أشد ألف مرة من تأثره بالمسائل القومية والشئون السياسية، ومن ثم ترى الرجل الذي لا بأس في وطنيته وإخلاصه لبلاده ربما أغضى عن الكلمة يكون فيها مساس عظيم بحقوق وطنه، ولكنه لا يُغضي على اللفظة يكون فيها أدنى مساس بشعوره الذاتي وإحساسه الشخصي، وترى عين هذا الرجل ربما سَمِعَ الطعن في مذهب حزبه وشيعته فيحتمله هادئًا وادعًا مبتسمًا، فإذا ما وُجِّهَ إلى شخصه أقل مسبة ثار ثائره فأرغى وأزبد، ثم أبرق وأرعد، وانطلق لسانه بالسب واللعن يصب على رأس شاتمه صواعق غضبه وحنقه، وربما سبقت يده إلى ذلك المعتدي باللطمة أو اللكمة؛ بل بالخنجر أو المسدس.
اشتد اختلاف الناس في أي الأشياء أندر وأعز وجودًا في هذا الكون العظيم؟ وأنا أقول وأؤكد أن أعز الأشياء وأندرها في هذا الوجود هو العقل القوي المتغلب على سلطة العواطف، واعتقادي ويقيني أن مقابل كل ألف فرد ممن تتغلَّب فيهم العاطفة على العقل في هذا العالم يوجد فرد واحد يُغلِّب العقل على العاطفة ويُحكِّم المَلَكَة المنطقية في نزعات الشعور ونزواته، وليس هذا مجال الإطالة والإفاضة في ذلك المبحث العميق الذي عُقِدت له الفصول المسهبة في كُتُب الفلسفة وعلم النفس، ولكنا نورد النظرية عارية عن الشروح والحواشي احتجاجًا لقولنا ليس إلا. نقول: لا عجب فيما نراه من نُدرة العقل القوي إزاء تفشي العواطف في العالم، واستفاضة الإحساسات والشهوات في كل ذرة منه فتلك حكمة الخالق، وسُنة الطبيعة، والقاعدة المُشيَّد عليها نظام هذه الحياة الأرضية التي لا أظنها في جوهرها وعنصرها غاية في الرُّقي والسمو، ولا آية في التهذيب والنقاء والطُّهر، والتي أنا أميل إلى موافقة «شوبنهور» في وصفها بأنها شر ما يمكن أن يكون من أصناف الحياة، مني إلى مطابقة «ليبنز» في نعتها بأنها أحسن ما يمكن وجوده من العوالم والدُّنا، وسواء كان الحق في جانب «شوبنهور» أو في جانب «ليبزيك» فلا مقال الأول ولا تصريح الثاني بمُغيِّر مثقال ذرة من نظام الدنيا، ولا بمُبدِّل من شيمة هذه الحياة الأرضية وخلقها، ولا بنافٍ هذه الحقيقة المُرة الأليمة، وهي أن العقل ما زال ولن يزال — بحكم ناموس الحياة وتركيبها وفطرتها — أندر الأشياء فيها، كما أن العواطف والشهوات ما زالت ولن تزال أكثر الأشياء كمية وأشدها تفشيًا وانتشارًا، وأن هذا الناموس الأزلي (وليس لنا معشر البشر العجزة الضعاف أن نعارض فيه ونطاعن — وماذا تجدي المطاعنة والمعارضة — بل كل ما علينا هو أن نتقبله على عِلاته ونستثمره جهد طاقتنا) هو مصدر ما تنطوي عليه الدنيا من الظلم والطغيان والشرور والمصائب والشقاء والبؤس؛ بالدليل الواضح البيِّن وهو أن العواطف والشهوات هي بطبيعتها سفلية جهنمية، ومنها يتكون الجزء الدنِس القذِر الخبيث من هيكل الحياة (وهو الجزء الأعظم)، كما أن العقل هو بطبيعته سماوي إلهي، ومنه يتكون الجزء الطاهر النقي من هيكل الحياة (وهو الجزء الأصغر)، وهو توزيع قد رأته القدرة الإلهية مناسبًا لنظام هذه الحياة الأرضية التي لم يُرِد الله — سبحانه وتعالى — أن تكون فردوسًا أو ملكوتًا أعلى أو مقام قديسين وأبرار، بل أرادها أن تكون (كما أنبأتنا الكُتُب السماوية) دار توبة وندامة وتكفير عن جناية أبوينا الخاطئين في دار الخُلد — أو بالاختصار أرادها الله أن تكون سجنًا أو بعبارة أخف وألطف، إصلاحية أو مستشفى، فأما الجنة دار المكافأة والجزاء ومقام الأبرار والشهداء والقديسين — فما أظن أن الخالق سيبني نظامها على قاعدة هذا التوزيع المحزن — ندرة العقل وغلبة العواطف المتسلطة بجيوش الأحقاد والضغائن — بدليل قوله — سبحانه وتعالى — في وصف أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ.
نقول كذلك مذهب القدرة الإلهية في خلقة هذا الوجود، بينما تراها كأبخل البخلاء في هبة العقل كأنها تجود به من خرت إبرة إذا بها كأسخى الأسخياء في هبة الشهوات والعواطف تسح بها سحًّا وتهطل هطلًا؛ فهي كلما جادت على هذا الكوكب الأرضي بمثقال ذرة من العقل جادت مقابل ذلك بمليون قنطار من العواطف — عطية مشتركة بين الإنسان وسائر ضروب الوحش والبهيم والحيوان من أعلى درجات سُلَّم الحياة إلى أدناها — على حين أن العقل القوي المسيطر على العواطف لا تهِبه الطبيعة إلا لأسمى طبقات الإنسان — أعني الإنسان المفكر — هذا المخلوق البديع السامي نادر جدًّا بالنسبة إلى ما يملأ فضاء الله ويتشاحن فيه ويتطاحن ويتنافر ويتناحر ويتصايح ويتعاوى من مختلف ضروب الوحش والحيوان، وفي مقدمتها (أو في مؤخرتها وهو الأصدق) ذلك الوحش الساعي على قدمين المسمى إنسانًا، أعني الإنسان الاعتيادي الخاضع لسلطان الشهوات والعواطف الذي منه تتكون المجاميع والجماهير والعامة والسواد الأعظم من بني البشر.
وليس يخفى على ذي لُب أن المسائل السياسية والاجتماعية حتى أبيَنها وأبسطها — هي وإن خُيل للبُسطاء السُّذج أنها سهلة الفهم والإدراك قريبة المأخذ والاستيعاب لا يحتاج بحثها وفحصها لكبير عقل أو ثاقب فطنة — لهي في الحقيقة والواقع صعبة عويصة وعرة المسلك لا يستطيع أن يحيط بها ويستجلي غوامضها إلا أُولُو الفِطن والألباب، وإنما هو الغرور والتبجح والدعوى التي توهم السُّذج البُسطاء من الجماهير والعامة أنهم قادرون على فحص وتمحيص هذه المسائل الصعبة، وأنهم هم أيضًا لهم الحق في مشاركة أُولِي الألباب في تناول تلك المسائل وإبداء الرأي عنها والبت فيها، وإذا كان هذا هو موقف الإنسان العادي من المسائل السياسية والاجتماعية، وهذا هو مبلغ ضعف عقله وقصور ذهنه عن فهم ماهيتها وإدراك دقائقها وغوامضها في حالته الطبيعية — أي في حالة هدوء عواطفه وعدم اهتياج إحساساته وشهواته — فما بالك بمقدار عجز ذلك الذهن وقصوره إذا زدته ضعفًا باستثارتك عواطف الرجل وشهواته وتسليطها على ذلك الذهن الضعيف من أصله.
ومن ثم ترى أن العامة والصبيان والنساء في كل أمة يكونون — لتغلُّب العواطف فيهم على العقل وامتلائهم بالشهوات النارية — أشبه شيء بمخازن البارود ومعامل الذخيرة، وهذه المزية العظيمة لا تخفى — بالطبع — على عشاق المعارضة في كل أمة، فهم كالصياد يعرف مسارح الظباء ومسانح المها، وكالمنتجع يهتدي إلى مساقط الغيث ومنابت الكلأ. أقول: إن زعماء المعارضة يعرفون مواضع تلك العناصر الملتهبة والمواد المفرقعة من قلوب العامة والصبيان والنساء، فما هو إلا أن يرسلون عليها شرارات مما تجيش به صدورهم حتى تشتعل فتتأجج.
فإلى زعماء المعارضين اللاعبين بألباب الصبية والنساء والعامة نقول: اتقوا الله في عقول أضعفتها الطبيعة لا تزيدوها ضعفًا، واتقوا الله في أحلام خففتها الطبيعة لا تزيدوها خفةً وطيشًا، وراقبوا الله في عواطف وإحساسات قابلة للإلهاب بفطرتها لا تضرموها على أربابها وعلى البلاد نارًا حامية، واخشوا الله أن يراكم تَسلُّون من قلوب أولئك البُسطاء سيوف عواطفهم وشهواتهم فتُجهِزوا بها على ذرة العقل الضئيلة التي تفضلت عليهم بها الطبيعة مما بقي لديها من مادة العقل بعد أن كالت منها كيلًا للفضلاء النوابغ، اتقوا الله أن يراكم تطلقون سيول تلك العواطف الجارفة تسلطون طوفانها على تلك الشرارة الكليلة التي منَّت بها الطبيعة على أدمغة أولئك البُسطاء بعدما أشعلت مصابيح الفطنة الوقادة في سماء أذهان الأذكياء الألباء، رفقًا بأولئك الضعاف لا تُعينوا عليهم الطبيعة القاسية الظالمة بإفسادكم ما جادت به عليهم من النزر الطفيف من مادة الفهم يوم قسمة العقول والبصائر.
وهنا يجدر بنا القول بأن ما يقوم اليوم بين ظهرانينا من تغلُّب العواطف الثائرة في مجال تبادل الآراء الهادئة، وسيطرة الشهوات الثائرة في مقام إعمال الفكرة الثاقبة والعقل المجرد عن شوائب الأهواء، إنما هو مظهر من مظاهر آبائنا الأُوَل في العصور الغابرة، ونزعة رجعية إلى عصبية ذوي الثارات والعداوات من أجدادنا أهل البيد والفلوات.
إن أهم ميزات الطبقات العليا على السفلى، والخاصة على العامة هي أن الفئة الأولى — لحدة ذهنها وقوة المَلَكَة المنطقية فيها — تستطيع التفكير والكلام في المعنويات كالنظريات والكليات والقواعد والقوانين. بينما الفئة الثانية — لضعف ذهنها وقصور المَلَكَة المنطقية فيها إزاء قوة الحواس والإحساسات — لا تفهم المعنويات، ولا تقوى على ولوج أبوابها وخوض غمارها، فهي لا تلتذ ولا تُعنى إلا بما قد كاد يُقصر عليه إدراكها من المرئيات والمحسوسات كالأشباح والذوات والأشخاص؛ ولذلك إذا غشيت مجامع العامة ومجالس الصبيان والنساء ألفيت حديثهم قد كاد يقتصر على الأشياء المحسوسة — كوصف المراقص والملاهي، وأماكن الفُرجة كالمعارض وحدائق الحيوانات والمطاعم وحوانيت الفواكه والحلوى، إلى الفصول المسهبة الشرح والتفصيل في مسائل اللبس والتفصيل وأصناف الأقمشة والمنسوجات وآلات الزُّخرف والزينة، إلى ما يماثل ذلك ويَجري مجراه من المباحث الاقتصادية في تاريخ المطبخ والكيلار والتاريخ الطبيعي لشتى أصناف الطيور والدواجن، إلى المحاضرات الفلسفية في فنون «الغيات» المختلفة الحمام والخيل وورق البريد والعملة القديمة والسجاجيد والجعارين، وما لا يُحصى ولا يُعد من أمثال ذلك وأشباهه. ولكن هناك شيئًا آخر هو أعلَق بأذهان هذه الطبقات، وأروَح على قلوبهم، وذلك هو التعرض للأشخاص أنفسهم (لا في متعلقاتهم من مأكل وملبس) والخوض في شخصياتهم وتناول سِيَرهم قدحًا أو مدحًا.
أما الكلام في المعنويات وإرسال الذهن الصافي البلوري يسبح في عالم الأفكار والروحانيات، ويغمس أجنحته في ضياء الحقائق، ويقلب المعاني محضة بحتة عارية عن ثياب الأشخاص والمادة والزمان والمكان، فذلك ما لا تستطيعه ولا تعرفه هذه الطبقات من العامة والنساء والصبيان، وإنما هو شأن العلِية الفُضلاء أُولِي الفِطن والألباب.
ولا يخفى أن هذه الخصلة — أعني تعلق النفس وجولان الذهن في عالم الحس وضعفهما عن خوض عالم المعاني والنظريات — هو من مظاهر الأمم والشعوب غير المتمدينة التي تكاد تنحصر أعمالها ومساعيها في التكافح والتقاتل وشن الغارات بعضهم على بعض؛ لا تزال هذه القبيلة تغزو أختها، وهذه الفصيلة تكتسح جارتها، ثم ترى أفراد كل قبيلة لا هَمَّ لهم إذا ضمتهم محافلهم وأنديتهم إلا وصف مواقف أبطالهم في ساحة الوغى، ونعت ما أتوه من آيات النجدة والبطولة، ثم تمجيد الزعيم الأكبر وتقديس ذاته، فأحاديثهم وأفكارهم مقصورة على الأشخاص ومظاهر المادة لا تتعداها إلى عالم المعنويات والمبادئ والقوانين العامة.
ولا تنسَ ما لا بد أن يصحب هذه الحالة (اقتصار الأفكار والحديث على عالم الحس) من تعرض العواطف والإحساسات؛ بسبب سرعة الانفعال والثورة والهياج — لما هو مفروض في تلك الحالة من ضعف سلطان العقل وضئولته أمام جيش العواطف.
ونحن لا نزال في غدواتنا وروحاتنا نبصر أثر هذه الخصلة العتيقة — أعني الولوع بالأشخاص لمجرد أسباب مادية لا عقلية ولا روحانية، وتقديس أولئك الأشخاص لمجرد تأثيرهم على عواطف مفتونيهم من العامة لا على مَلَكَاتهم العقلية والروحانية، باديًا في كل شبر من أراضي بلادنا، وفي كل آنٍ ولحظة من خضوع العامة لرجل قوي البطش فيهم، مرهوب السطوة يسمونه «فتوة». فمن شاء أن يرى أصدق صورة تُمثل تاريخ العصور الوسطى — عهد الإقطاعيات أو عهد الفروسية في أوروبا المظلمة، ووقائع «قلب الأسد» و«أورلندو» و«أماديس دي جول» — فليطلع على ما يجري من مظاهر العواطف العمياء، والأنانية الخبيثة في طبقات العامة، مما يدعوهم إلى تمجيد زعمائهم من «الصبوات» و«الفتوات».
وإن تشأ مثالًا آخر على هذه المظاهر الممقوتة؛ فتفقد ليلًا محافل العامة في قهواتهم حيث تُتلى عليهم قصة عنترة وأبي زيد، وانظر في وجوه القوم وحركاتهم مظاهر تلك النزعة الرجعية — نزعة تقديس الزعيم؛ لمجرد قوته العضلية، ومزاياه العدوانية، وفرط تأثيره على عواطف شيعته وأنصاره — بل انظر إليهم كيف ينقسمون شيعًا وأحزابًا حسب ميولهم الغريزية للأشخاص الخرافية المسرودة عليهم أقاصيصها — كل فريق يتعصب لزعيم دون الآخرين — وكيف في سبيل انتصار كُلٍّ لزعيمه الخرافي وتشيعه له يتهيج ويثور، وربما وثب على مناظريه من أنصار الزعماء الآخرين، واستطال عليهم بالسب وأحيانًا بالضرب. فهكذا يبلغ من حِدَّة العواطف البشرية، وغلواء سورتها حتى في حين تأثرها بالعوامل الخيالية الوهمية المستمدة من عالم القصص والخرافة، فما بالك بفرط سطوة هذه العواطف وطغيانها إذ تسلطت عليها عوامل فعلية واقعية من عالم الحس والحقيقة؟
هذا هو الحاصل بيننا اليوم، وذلك هو شأن المعارضين ومن شايعهم وتابعهم، وإلا فكيف كان يمكن ويتأتى أن ينكروا المحسوس والملموس، ويماروا في الحق الصراح، ويلوموا غير ملوم، ويذموا غير مذموم، ويُرتعوا سائمة الهِجاء في غير مرتع، ويُشرعوا صادية القدح في غير مشرع؟ وكيف — لولا هذه الحال التي شرحناها — كان يهون عليهم ما يحاولون إتيانه من تفريق ذات البين، وتبديد الصفوف، وتمزيق الوحدة، وفك الأواصر؟
حقًّا، إن المعارضة إذا خلت من عوامل العواطف الشخصية والشهوات الحزبية، وصحت من سكرة الأثرة والأنانية؛ عز عليها أن تأتي كل ما من شأنه عرقلة المساعي وإضعاف المجهودات وإيذاء القضية، ولكن ماذا تصنع المعارضة وماذا تفعل الوطنية إذا أصابتها الأنانية؟ أليست الأنانية جديرة أن تُصِم أُذن العقل، وتُخرِس صوت الضمير، وتُغشي ناظر الرأي والبصيرة، وتُطرِح في زوايا الإهمال كل مسألة وقضية إلا مسألة شكايتها الوهمية وظلامتها الخيالية.
وفي هذه الحالة تتوق وتصبو إلى فكرة الانتقام. وقدمًا قيل إن الانتقام حُلو لذيذ عند الإنسان الاعتيادي الحاد العواطف، وكم رأينا وسمعنا عن التضحيات العظيمة تُبذل في سبيل الانتقام، ومن أجل تذوق حلاوته واستمراء لذاذته، ولا جرم، فالانتقام هو كما وصفه الروائي الأشهر «السير والتر سكوت»: «أشهى لُقمة طُبِخت في نار جهنم.»
ولا عجب إذا رأينا المعارضة — رغبةً في الانتقام — تشن الغارة أثر الغارة، وتصول بجيوش المظاهرات، وتقيم مسرحًا عظيمًا للشغب واللجب والصياح تلعب عليه — أو تتفرج — جماهير العامة والنساء والصبيان مدفوعة بما جُبلت عليه تلك الطبقات من حب الهياج والصخب والضوضاء، وبما فُطرت عليه من الشغف بمشاهدة ملاعب الصراع والملاكمة مما يثير الشعور، ويولد تلك اللذة الحاصلة من التهاب العواطف واشتعال الشهوات، فضلًا عن اللذة المتولدة في المظاهرات من احتكاك الإنسان بالآلاف المؤلفة من الأجسام البشرية، ومن تَفرُّج الإنسان على مثل ذلك العدد من الوجوه الآدمية المختلفة السِّحن والملامح.
كذلك تحاول المعارضة الأنانية قلب الحقائق ومسخها وتشويهها، وإنكار الواقع الملموس والمُشاهَد، وطمس مآثر الذين ساقوا لبلادهم الخير والغنيمة، وجحودًا لما طوقوا به جِيد الوطن من بِيض الأيادي، تحاول بذلك شفاء غلة جهنمية، وانتقامًا لإساءات وهمية. وقد تفلح وقتًا ما في ترويج مذهبها بخلقها جوًّا من الهياج الوجداني، والانفعال النفساني تلتهب فيه العواطف وتحتدم الشهوات، تَبذُر في أرجائه بذور أراجيفها، وتذرو في أنحائه لقاح أباطيلها وأضاليلها. ولكن هذه الحال لن تدوم وما هي إلا مؤقتة شأن غيرها من الأكاذيب التي مهما يمتد أجلها فمآلها حتمًا إلى الزوال والفناء.
وكذلك تلك الأراجيف والأباطيل، وتلك الظنون السيئة بالحكومة الحاضرة، والتهم الكاذبة مما لا تفتأ المعارضة تصوغه وتخترعه — مهما صادفت من الرواج في هذا الدور الأول من العهد الجديد بسبب ما يسود في أذهان بعض الطبقات من عوامل الحيرة والارتباك المثيرة للريب والشكوك من تأثير صدمة هذا الانقلاب السياسي الخطير؛ فهي لا بد أن تأخذ في التناقص والهبوط والكساد، ثم يئول أمرها إلى الاضمحلال والزوال على مر الأيام متى تتابع على أبصار تلك الطبقات من مزيد الشواهد والآيات، وتوالى على بصائرها من جديد الحجج والبيِنات ما يمحو من أذهانهم ذلك الخلط والارتباك والحيرة، ويُبرز لأبصارهم الموقف الجديد ومعالمه، وحدوده وخصائصه ومزاياه في أجلى مظهر من الحق الصراح.
ولكن حركة القضية نحو النجاح، وسير البلاد إلى الغاية المنشودة من الرُّقي والفلاح دائبة مستمرة، لا تنتظر ذلك اليوم الذي يسطع فيه نور الحقيقة على أبصار المضللين من مفتوني المعارضة. لقد نهضت الطبيعة بنفسها فقبضت على زمام القضية بيدها القوية تدفعها في سبيل التقدم، فمن ذا الذي يقوم في وجه الطبيعة يردها عن قصدها وغايتها؟ وأي قوة بشرية تستطيع للطبيعة دفعًا أو مقاومةً؟ أَوَ ليس إذا هبَّت على شيء ما ريح المَدد والمعونة من جانب عرش الله أصبحت أقوال المعارضين في هذه الريح الشديدة هباءً، وذهبت أراجيف المعاكسين في نفحاتها جفاءً؟
هذا بحر السياسة العجاج قد لان جانبه، وسكنت غواربه، وسَلِسَ قياده، واطمأن مهاده، وقد سربت فيه الفلك، وانسابت تمخر إلى الأمام عبابه، وتشق إلى مرادها جلبابه، تزجيها ريح السلام ويهديها كوكب اليُمن والتوفيق. فلتَرعُد المعارضة ولتَبرُق، فما شيء من ذلك الصخب والضجيج بضائر الفلك في مجراها، أو صارفها عن قصدها ومبتغاها.
لقد ولجت البلاد باب الحرية سواء اعترفت بذلك المعارضة أم لم تعترف، وقد ملكت البلاد فوهة سبيل الاستقلال سواء شاءت المعارضة أن تصدق ذلك أم لم تشأ، وقد انبرت البلاد تجتاز تلك السبيل آمنت بذلك المعارضة أم لم تؤمن.
لقد اعتُرِفَ بإلغاء الحماية، وباستقلال البلاد في الداخل والخارج، وأمنت على ذلك دول العالم، وتواردت به التهاني من ملوك الأرض، وقد زال العهد القديم واندثر، وطواه الدهر فيما لا يزل يطويه كل لحظة من هالكات هذا العالم وفانياته، فلن يرجع هذا العهد حتى يرجع أمس الدابر:
وقد أطلق مدفع الاستقلال ناموس جنازة العهد القديم المندثر، وبوق البشارة بميلاد العهد الجديد المبارك، وكأن دويه المستفيض يحمل صوت البشير ممعنًا في ظلمات الغيب إلى ذرية المصريين من أهل المستقبل البعيد في عالم الذرات، متغلغلًا إلى أعماق الأبد.