الحالة الحاضرة
من كان يَسُره التشبث بأهداب الأماني البعيدة، والهيام وراء أشباح الخيالات، فالعاقل من اغتبط بالشيء الواقع وإن قصر عن مدى أمله، ووقع دون غاية مبتغاه وحسبه أن يكون ذلك الواقع منطويًا على عنصر الخير وجرثومة الفلاح.
ألا ما أعظم الواقع المدرك الحاصل في حوزة الأمة، وما أجلَّ خطره وقيمته! أليس هو الدُّرَّة المستخلصة من أعماق بحر الخيال، والجوهرة المستصفاة من غمار لج النظريات والاحتمالات؟ أليس هو ذلك الشيء الماثل أمامك حقيقة ثابتة مؤكدة لا ريب فيها ولا شك، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؟ أليس هو الأساس الوطيد الذي تبني عليه الأمة نظام الحياة والعمل، والسُّلَّم المتين الذي عليه تسمو في معارج الرُّقي والرِّفعة إلى حيث يبلغ بها ما تبذله من المجهودات والمساعي؟ لذلك كان من الحزم والحكمة أن تتشبث الأمة بما يسوقه إليها الحظ من الخير الواقع أشد تشبث، وتنتفع به جهدها وتستثمره، وتتخذه وسيلةً وسببًا إلى غيره من الثمرات والفوائد بفضل الجِد والعزم والمثابرة.
نحن لا ندعي أننا قد نلنا أقصى أمانينا القومية أو بلغنا غاية مطالبنا الوطنية، ولكننا نقول ونصرح أننا أدركنا شيئًا كثيرًا؛ أدركنا الأساس المتين الذي نستطيع أن نُشيِد عليه صرح الاستقلال التام بفضل الجِد والمواظبة، وملكنا فوهة السبيل الذي إذا تضافرنا على اجتياز أوعاره واقتحام عقباته أدانا بلا شك إلى أقصى غايتنا المنشودة.
لذلك ترانا نَعْجَبُ كل العجب، وتمتلئ قلوبنا دهشة من الذين لا ينفكون — إزاء هذه المغانم العظيمة والفوائد الجمة — يصيحون أن حالتنا السياسية باقية على ما كانت عليه من قبل لم يطرأ عليها أدنى تغيُّر، فهل يقول مثل هذا إلا غافل عن الحقائق الناصعة والشواهد الملموسة أو متغافل؟
هل يشك مخلوق كائنًا مَنْ كان أن بريطانيا بتصريحها الخطير (الذي اعترفت فيه بإلغاء الحماية وباستقلال البلاد) قد محت من سجلات السياسة والتاريخ تلك الصحيفة السوداء التي كانت سجلت بها على مصر الحماية المشئومة، فأصبحت مصر بفضل ذلك بلادًا مستقلة ذات سيادة في نظر القانون الدولي، وفي اعتبار الدول جمعاء، وأصبح من المفروض على الدول قانونًا أن تعامل مصر على هذه الصفة كما تعامل سائر البلدان المتمتعة بالاستقلال التام، ولمصر الآن كامل الحق في طلب الانضمام إلى عُصبة الأمم متى شاءت، وفي صيرورتها ضمن أعضاء هذه العُصبة، وأصبح غير محظور على الدول أن تعاملنا معاملة النظير للنظير، وأن تراعي معنا كل ما هو مقرر بين بعض الدول والبعض الآخر من الحقوق والحُرمات والواجبات، فليس في استطاعة الدول الآن أن تُنكر وجودنا مثلما فعلت حينما أوصدت في وجهنا أبواب مؤتمر فرساي، واعتبرتنا أمة عديمة الشخصية قاصرة لم تخرج بعد من طوق الحماية والوصاية، بل لا تملك حق الكلام والتعبير عن ذات صدرها.
كل هذه المزايا العظيمة كانت الحماية تحول بيننا وبين التمتع بها، فقد زال هذا الحائل بزوال الحماية، وأصبحنا في حِلٍّ من التمتع بها، واجتناء عظيم ثمراتها.
هذه خطوة كبرى خطوناها في سبيل الاستقلال التام، وبلغنا بها الشيء الكثير الذي لا يستطيع نكرانه إلا غافل عن الحقيقة الناصعة أو متغافل. أما بقية أمانينا وتكملة مطالبنا، والشيء الذي ينقص استقلالنا فهذا منطوٍ في المسائل التي احتفظت بها بريطانيا، معلق على تسويتها تسوية نهائية في المفاوضات المقبلة التي سيكون لبرلماننا الحق في تحديد موعد افتتاحها، وانتخاب المفاوضين فيها والإشراف عليهم.
هذه المسائل التي احتفظت بها بريطانيا لم يَقُل قائل، ولا خطر على بال إنسان أنها قضاء محتوم لا دافع له أو ضربة لازب باقية على الأبد، أو أن بريطانيا قد احتفظت بها بصفة نهائية لا تقبل تحويلًا ولا تغييرًا، وإنما هي شيء عارض لمدة مؤقتة اقتضته ظروف ذلك التطور السياسي العظيم، كما ورد ذلك صراحةً في تصريحها الخطير.
فاستقلالنا في الحالة الراهنة، وحتى تتم التسوية النهائية بشأن هذه التحفظات في المفاوضات المقبلة التي سيشرف عليها البرلمان؛ إنما هو استقلال حكمي أكثر منه استقلالًا فعليًّا، وإن كان قد أنتج بعد نتائج فعلية عظيمة الشأن كالتي ألمعنا إليها آنفًا من ارتفاع الرقابة الإنكليزية عن أعمال الحكومة في كافة أركان الحكم والإدارة، وكالذي يسري الآن في البلاد من مبدأ مسئولية الوزارة أمام الشعب ممثلًا في برلمانه المشروع في إنشائه.
وإنَّا لنُعرب لفخامتكم عن تقديرنا لجميل ما أظهرته حكومة صاحب الجلالة البريطانية، وأظهره البرلمان البريطاني من الميول الحسنة، ونعتمد على هذه الميول في الحصول على تسوية تامة للمسألة المصرية تقع على أحسن وجه وأدعاه للمحافظة على صلات الود والثقة بين البلدين، ولتنمية هذه الصلات.
نحن لا نقول لأمتنا الكريمة قد أدركنا الغاية ونلنا المدى، وبلغنا أقصى منتهى المُنى والآمال فاحبسوا أعنة السعي، وأريحوا مطايا الجهاد، وأرخوا قسي النضال، وأغمدوا سيوف الجِلاد، وافترشوا مِهاد الراحة، وتوسدوا وِثار الدعة، وتمرغوا في حجور الصفو، وتقلبوا بين أعطاف النعيم، ولو قلنا لهم ذلك لكنا لهم خادعين وبهم مُغرِّرين، ولحق لهم إذ ذاك أن يتهمونا بما به يصموننا الآن زورًا وبهتانًا من التعمية والتضليل، ولكنا من وجهة أخرى لا نقول مع جماعة المعارضين إننا على حالنا الأولى لم نتقدم قيد فتر ولم نتأخر، ولا نجاري المغالين منهم في زعمهم ما هو أكثر من ذلك؛ إذ يقولون ما نلنا خيرًا بل شرًّا ولم نتقدم خطوة نحو البُغية بل تأخرنا خطوات، وأن الوزارة — معاذ الله — لا تُناصر الأمة بل هي إلى خُذلانها أَميَل، وأن القادة الأمجاد (الذين سخرهم الله لخدمة الشعب وإظهار حُجته وتأييد قضيته) لا ينهضون بالوطن إلى ذروة المجد والعلاء بل يهبطون به — لا قدَّر الله — إلى الوهدة. نحن لا نقول ذلك لأنَّا لا نعتقده، ولأنه غير الحق، ولأن شفاهنا لا تطاوعنا على قوله، وتنقطع من دون النطق به ألسنتنا، ولو فعلت لكذبتها الدلائل الساطعة، والشواهد الناصعة التي قد أبانت للملأ بأوضح الأدلة، وأثبتت للعالم بأظهر الآيات البيِّنات أن حكومة اليوم هي غير حكومة الأمس، وأن دولة رئيس الوزارة وأصحاب المعالي زملاءه لم يتربعوا في كراسي الحكم إلا على شروط استمدوها من الرأي العام وإرادة الأمة، وأنه لو لم تعترف إنكلترا بإلغاء الحماية وباستقلال مصر لما قبلوا الوزارة، ولما تسنى لجلالة الملك أن يكِل إليهم العناية بأمر النظام الأساسي، فهم — من هذه الوِجهة ومن وِجهة مشاركة الأمة في كفاحها وجهادها، لا يمكن فصلهم عن مجموع الأمة واعتبارهم حُكامًا بالمعنى العتيق المنقرض؛ يتحكمون في الشعب تحكُّم العاسف المستبد الذي لا يحترم إرادة الأمة ولا يعترف بسلطتها المقدسة — كما كانت الحال في العهد السالف.
ذلك عهد قد انقرض وباد، وقد أصبحنا اليوم في عهد جديد ميمون تتضافر فيه الأمة والحكومة معًا على تقويض صرح الاستبداد ونسف دعائمه، واستئصال جرثومته لتغرسا شجرة الحرية المباركة — أعني شجرة سلطة الأمة التي تزرعانها في تربة الوطن العزيز بين رُفات الآباء والأجداد وتسقيانها دماء الشهداء من أبناء الأمة — لتزكو على ضفاف النيل المبارك، وتنفح ببرد ظلالها عظام العرب والفراعنة في أجداثهم، وتغدق على الأبناء والذرية ثمارها اليانعة الجَنِية.
فالوزارة اليوم من الأمة، والأمة من الوزارة، وهما في الحقيقة كتلة لا تنقسم، ووحدة لا تقبل التجزئة، وحلقة مفرغة لا يُعرَف أين طرفاها. هذا من حيث الإخلاص في الوطنية وصدق الحمية وفرط الغيرة والتضحية والتفاني في خدمة القضية، وإن اختلفت منهما الوسائل والذرائع، كُلٌّ يؤدي في خدمة الوطن وظيفته، فالحكومة ترسم الخطط والبرامج، وتمهد السُّبل والمناهج — كفرقة الكشافة في الجيش العرمرم — والأمة من ورائها كالجند تتقدم وتزحف محتلة من المواقع الحصينة والأماكن الخطيرة ما يذلِّلُـه لها فرسان الطليعة.
بيد أنه لا يفوت الأمة أن هذه الطليعة أو الكشافة (أعني الحكومة) قد لا تستطيع — ولا سيما في مثل ظروفنا الاستثنائية المترتبة على تطورنا الفجائي — أن تنجز كل هذه الأعمال التمهيدية في بضعة أيام أو أشهر (مهما تاقت القلوب وأولعت النفوس بسرعة هذا الإنجاز) وأنه لا بد للجيش (أي الأمة) أن يمهل طليعته الكشافة، ويعطيها الكفاية من الوقت ملتمسًا لها وجه العذر، مقدرًا حرج مركزها وصعوبة موقفها، معاونًا لها بما قدره عليه الله من حُسن المؤاتاة والمسامحة والملاينة والصبر الجميل والتأييد والتشجيع، ذاكرًا تلك الكلمة المأثورة لرجل الدهر نابليون بونابرت: «الدنيا بحذافيرها تنساق في النهاية لمن يعرف كيف يصبر.»
وجدير بالناس أن يذكروا هذه القاعدة الخطيرة، وهي أن الانقلابات السياسية لا تستلزم إلغاء النواميس الجارية والدساتير السائدة، ولا تستدعي هدم الكائن من نُظم وتقاليد، وإيقاف سير ما هو نافذ من أحكام ولوائح فتصبح البلاد فوضى، لا نظام ولا قانون إلى أن يتم إنشاء البرلمان الجديد، ويبنى عليه أساس الحكم في البلاد. فهذا مناقض لسُنَّة العمران في العالم، ناقض لأسباب النظام والأمن والسلام، وهو ما لا يكون ولا يمكن أن يكون أو يتأتى بحالٍ من الأحوال، وها هي الشواهد التاريخية تدلنا على أن الأمم التي هبَّت من قبلنا تطالب بحريتها قد أصدرت يوم استقلالها أوامر بإبقاء أحكامها العسكرية نافذة توثيقًا لأسباب الأمن، وتوطيدًا لدعائم السلام، وتوخيًا لتنسيق أركان الحكم الجديد تحت لواء النظام.
جدير بكل فرد من أفراد الشعب أن يفطن تمام الفطنة إلى حقيقة موقف الأمة، ودقة مركز الحكومة، وضيق مأزقها، ووعورة مسلكها، وما يعترضها في كل خطوة من المصاعب والمشاكل، فيعطف عليها بكل ما أوتي من عواطف البِر والكرم والمروءة، ويسلك معها سبيل المصابرة والتمهل لينظر ما سوف تصنع، وما عساها أن تأتي وتذر وتحل وتعقد، حتى لا يُرمى بالتعجل في الحكم، وإبراز الرأي فجًّا غير ناضج.
نحن اليوم إزاء مشكلة من أعوص المشاكل لا يتأتى حلها بسوى التعقل والروية والتبصر، وذلك ما لا يتسنى إلا في جوٍّ صافٍ من الهدوء والسكينة تسود فيه الأناة والتؤدة، ويشرق في أفقه سراج العقل المتبصر المتدبر؛ وأساس كل ذلك هو كما ألمعنا في موضع سالف هدوء الخواطر وسكون الجوانح، وثبات الجأش، والجنوح إلى الرفق واللين والهوادة والحُسنى، وتوخي أسباب الحلم والمجاملة والرقة في الخطاب، وأساليب الأدب والملاطفة والدماثة في مجال المناقشة والمناظرة شأن أفراد الأمم المهذبة الراقية التي يحق لها أن تفخر بسمو مكانها في درج المدنية والحضارة.
إن المشاغبات والمشاحنات، واستثارة العداوات، وبذر الشقاق ما كانت قط لتؤدي إلى خير، ولا لتتقدم بأمة خطوة نحو غايتها المنشودة، ولا سيما إذا كانت أمة في مثل مركزنا السياسي قد وضعت قدمها على فاتحة سبيل الأعمال، والمجهودات العظيمة للوصول إلى ما تبتغيه من أقصى غايات الاستقلال التام.
نحن الآن أحوج ما نكون إلى العمل — إلى العمل المنتج المثمر — إلى عمل البناء والتعمير أو التشييد والتجديد. نحن الآن أحوج ما نكون إلى تنظيم حركتنا، وتنسيق نهضتنا، بضم شواردها وجمع شتاتها ولَمّ شعثها، وتسييرها في منهج قاصد قويم يسود في جوه العقل والنظام والحكمة والتدبير.
لقد انتهت حركتنا من دورها العاصف العنيف، وجرت شأوها المحتدم المضطرم، وأدت ما عليها من مهمة الهدم والنسف والتقويض؛ هدم الحماية، ونسف دعائم الحكم المطلق، وتقويض أركان التدخل الأجنبي. أجل، لقد انتهت حركتنا من دور الهدم والتدمير، وآن لها أن تدخل في دور البناء والتعمير، لقد هدمت برج الحكم الأجنبي ووضعت على أنقاضه أساس الاستقلال، وقد آن لها أن تبذل أقصى الجهد في أن تشيد على هذا الأساس صرح الاستقلال التام.
فكأن حركتنا كانت في دورها الأول العنيف التأثر أشبه شيء بالسيل الجارف المنهمر، المصطدم بالصخور والجلاميد، المتوثب بين العقبات والأوعار، وهي في دورها الحالي الهادئ المطمئن يجب أن تكون مثل هذا السيل حيث ينتهي من الصخور والأوعار، ويفضي إلى أرض سهلة مستوية لكنها قفرة جرداء، فعلى هذا السيل أن ينسكب في فضائها متسلسلًا منسجمًا هينًا لينًا، ولكنه يكون مع ذلك قويًّا شديدًا، جائشًا زخارًا يؤدي ما عليه من واجب الري والسُّقيا، ووظيفة الإخصاب والإنتاج، فيحول الجدب خصبًا، والصخر عشبًا، ويترك الفلاة الجرداء جنةً غناء.
وهذا ما لا يكون ويتم إلا بالألفة والاتحاد، وهما لا يتوافران إلا بحصول الثقة المتبادلة بين عناصر الشعب وأحزابه، ثم بين فئات الشعب كافة وحكومته، والثقة المتبادلة لا تتأتى ما دام سوء الظن متسربًا إلى النفوس، ومعلوم أن سوء الظن هو آفة الشعوب، ولا سيما في أدوار انقلاباتها السياسية، وتطوراتها النظامية؛ إذ في مثل هذه الظروف العصيبة تكون النفوس هائجة ثائرة والخواطر مضطربة قلقة، ومتى كانت النفوس والخواطر كذلك أصبحت بيئة صالحة لجراثيم الريبة والتهمة تعشش فيها، وتبيض وتفرخ منتجة الضغائن والأحقاد المؤدية إلى أعظم الشرور والمضار.
لا جدال في أن ما أدركناه من الفوز السياسي الأخير، وما اكتسبته القضية من النجاح والتأييد — بما صارت إليه من المركز الحصين الجديد — لجدير أن يُعد من أعظم دواعي الابتهاج والاستبشار، ولا جدال أيضًا في أن هذا الابتهاج والاستبشار الذي نراه متفشيًا في جانب عظيم من الأمة — ممن عصمهم الله من تأثير ما يروجه المتشائمون من باطل الإشاعات والأراجيف — إذا ازداد تفشيًا في مجموع الأمة، وسريانًا في أفئدتها وجوانحها كان من أكبر أسباب النجاح، وأعظم وسائل اليُسر والتوفيق، وأغزر مصادر الخير والبركة والفلاح. فإنه لا خلاف في أن روح الابتهاج والاستبشار من أقوى بواعث الهمم، ومرهفات العزائم مما نحن بأمَسِّ حاجة إليه في موقفنا الحالي لاقتحام ما لا يزال يواجهنا من المصاعب والعقبات، كما أنه ليس أضر بنا في الحالة الراهنة، ولا أفسد لقضيتنا من بث روح التشاؤم المثبطة للهمم، والعزائم الموهنة للمجهودات والمساعي.
وأي شيء — هداك الله — أجلب للخسارة والبوار، وأدعى إلى الفشل والخيبة من هبوط العزيمة وثبوط الهمة؟ وأي شيء أشد إضاعة للحقوق وإفسادًا للأمور، وإذهابًا للدولة والسلطان، وإبادةً للمجد والحسب مما تُحدثه روح التشاؤم والسخط والضجر في الأمم والشعوب من خور القوى، ووهن الإرادة الداعيان إلى داء التخاذل والتواكل والفتور والتواني؟
وعلى العكس من ذلك أي شيء أجلب للغنْم والفائدة، وأدعى إلى النجح والفلاح، وأجمع لشمل الأمور، وأحوط للسلطان والدولة، وأكسب للمجد والحسب مما يورثه روح التفاؤل والاستبشار من تنبه الهمم، ونهضة العزائم الداعيان إلى التناصر والتضافر؟
بل أي شيء لا تستطيعه قوة العزيمة وبُعد الهمة؟ إن قوة العزيمة لتُوجِد لكل باب موصد مفتاحًا، ولكل شبهة مظلمة مصباحًا، وتبرز كل شيء في صورة جديدة وشكل مستحدث، وقد رأينا الرجل القوي العزم المصمم المضاء يستطيع — بشكل وقفته إزاء الحادث الجلل وبنبرة صوته وسط ملتطم الخطوب ومصطدم الكروب — أن يأمر الداهية الدهياء المنهمر سيلها المتدفق تيارها فتجمد وتقف، ويزجر الكارثة النكراء المنتشر شرها المتسيطر شررها فتخمد وتكف، وقد جاء في المَثل القديم: «ينال الظفر من يرى نفسه قادرًا على نَيْله.»
أَوَ لَمْ نرَ مثل هذا الرجل الماضي العزيمة في شخص بطل النهضة الحالية عبد الخالق ثروت باشا؟ أَلَمْ يقف هذا الرجل العظيم في وجه الحادث الجلل وقفة من يشعر أنه يحمل بين جنبيه من روح الله ومَدده ما هو أجلُّ من الحادث الجلل ومن ردعه وكفه وقمعه.
وحينما رفع ثروت باشا صوته المهيب يؤيد قضية وطنه، ويطالب برد حقوقه المغتصبة، أَلَمْ يسمع الملأ في نبرات ذلك الصوت العميق تلك الرنة العاصفة القوية، النافذة إلى أعماق قلب الاستبداد، القارعة حبة فؤاد السطوة والجبروت؟ أَلَمْ يسمع العالم في نبرات ذلك الصوت المرهوب ذلك الدوي القاصف القاهر الغلَّاب الذي ترتعد من هوله فرائص الظلم، وينزوي من هيبته شبح الباطل المتسلط على الأمم بسلاح الطغيان والعدوان؟ أَلَمْ يسمع العالم في نبرات ذلك الصوت الجهير تلك الرنة المؤثرة العميقة، التي اعتاد أن يسمعها في صوت الطبيعة القاهر، المتغلب على كل قوة إنسانية في صوت الرياح العاصفة، والرعود القاصفة، والموج الطامح، والسيل الجائح؟ أَلَمْ يُلقِ هذا الصوت الهول في نفوس الإنكليز حتى ثار له ثائرهم، وقامت من أجله قيامتهم يوم نفرت أحزابهم، ووثبت طوائفهم تفرق من عِظم ما نادى به ذلك الصوت، وتستكثر ما طلبه وما اشترطه يوم ضج برلمانهم من هول تلك الشروط والمطالب، وصاحت جرائدهم، وضجت تحذر القوم من الرضوخ لتلك المطالب، وتعلن أن في قبولها ما يؤذن بتهديد عظمة الإمبراطورية وسلطانها، وإضعاف شأنها وكيانها؟
أَلَمْ يملأ هذا الصوت قلوب المصريين فرحةً وطربًا؟ أَلَمْ يستثر هممهم ويحفز عزائمهم ويفعم صدورهم بروح القوة والتأييد والتشجيع؟ أَلَمْ يُبِن لنا هذا الصوت مبلغ تأثير روح الرجل العظيم في أرواح الملايين من البشر وقوة سلطان شخصيته على شعورهم ووجدانهم؟ أَلَمْ يثبت لنا هذا الصوت أن الرجل الفرد الذي يستطيع ببصره الثاقب أن يلمح نتائج الشئون وعواقب الأمور من وراء حُجب الغيب، ويستطيع أن يتبين أَقْصد الطرق وأسد المسالك إلى تلك النتائج والعواقب خلاف العقبات والقحم والمآزق، لهو في الحقيقة خيرٌ من ألف رجل، بل هو المسيطر والمسير للأمم والشعوب ممن لا يستطيعون استبانة النتائج والعواقب، ولا الاهتداء إلى ما يؤدي إليها من الأسباب والوسائل؟
وماذا ترى يكون الأساس الذي يقوم عليه صدق النظر ونفاذ البصيرة في عظماء الرجال أمثال ثروت باشا؟ هو بلا شك رباطة الجأش وهدوء النفس في الزعازع والزلازل، وذلك ما يُؤثَر عن وزيرنا الجليل ثروت. لقد روي عن أكابر قُوَاد العالم أن أحدهم كان يزداد سكينةً وهدوءًا كلما ازدادت زوبعة القتال من حوله ثورةً وهياجًا، وأن القائد العظيم «مالبرا» كان يظل أصفى ما يكون وأدق حسابًا في أشد أدوار الموقعة اضطرابًا وارتباكًا، وأن بعضهم كان إذا انهزم جيشه وولَّى الأدبار، ووقع فيه من الهرج والمرج، والتخبط والفوضى ما يعتري الجيوش المُدْبِرة ساعة الهزيمة بلغ من صفاء ذهنه في تلك الساعة العَصوف الهوجاء، ودقة تفكيره وهدوء باله أنه كان يستطيع رد تلك الفلول المنهزمة، وضم شواردها، وجمع شتاتها، وتنظيم صفوفها، والكر بها في ساحة الوغى على جيش العدو في أتم نظام وأدقه، فربما تمكن بعد ذلك من القبض على ناصية الحال، ثم من هزيمة الأعداء. ويُروى عن نابليون الأول أنه كان آيةً معجزة في رباطة الجأش وفرط الجَلَد والرزانة؛ وذلك أنه خسر الدنيا بحذافيرها فلم يأبه لذلك ولم يبالِ وكأنه لم يخسر إلا دورًا في لعبة النرد أو الشطرنج.
كل هذه الأمثال ضربناها للقراء لنُظهِر بها فضل تلك الخلة العظيمة — أعني رباطة الجأش وهدوء الدماغ في الزوابع والزعازع — وأنها أساس كل نجاح وسبب كل فلاح، وأن عليها مدار نهضة الأمم والشعوب وتشييد مجدها ورِفعتها، ولنقارن بها (أعني بهذه الأمثال المضروبة) وافر نصيب ثروت باشا من هذه الخِلة المجيدة وجسيم حظه منها، ولنبين بها أن شر ما تبتلى به الأمم والأفراد في أوقاتها العصيبة هو فقدان رباطة الجأش وهدوء الدماغ الناشئ من خور القوى ووهن العزائم المتسبب عن بث روح التشاؤم والسخط والقنوط في أفراد الشعب، وما أصدق ما قاله أحد قُوَّاد الفرنس في هذا الصدد: «إذا فَقَدَ الرجل رباطة الجأش، وتملكه الذعر فغرب عنه عقله — كما هو شأن المروع المذعور — أصبح لا يدري ما يأتي وما يذر، فإذا ما سألت الله شيئًا فسَله أن يفر عليك عقلك كاملًا، فإنه ما دام لك ذلك فما من خطر يهددك أو كرب يحزبك إلا كنت بفضل ذهنك جديرًا أن تصيب منه مخرجًا بوجهٍ ما. فأما إذا استحوذ عليك الروع، وذهبت نفسك من الجزع شعاعًا فقد كُتِبَ لك الفشل والخيبة، وسُدَّ في وجهك باب النجاة والسلامة، وألفيت البر بحرًا والبحر برًّا، وحسبت الحبل ثعبانًا والقطرة طوفانًا.»
وإذا بصر بفرد من أعدائه خُيل إليه أنه يرى خميسًا عرمرمًا، مثله في ذلك كالسكران ينظر إلى الشمعة الواحدة فيخالها ألف شمعة.
هذه آفات الخبل الناجم من فقدان هدوء الدماغ ورباطة الجأش المتسبب عما يبثه جماعة المتطيرين في بعض طبقات الشعب من روح التشاؤم والسخط والقنوط.
فأين هذه الحال مما يجب أن يستشعره الشعب الناهض المطالب بحقوقه من روح التفاؤل والاستبشار، والابتهاج الموقظ للهمم والعزائم، الباعث على الخفة والنشاط؟ وبارك الله في العزم والنشاط. أَلَمْ يقل الحكماء إن الدنيا تنساق للنشط المعتزم والمنجرد المصمم؟ ألا ترى أن قوة الإرادة ومضاء العزيمة تخلق له عينين جديدتين يرى بهما من ضروب الحيل والتدابير وصنوف الذرائع والوسائط ما لم يكن يراه من قبل؟ هلا نظرت إلى الرجل المتشائم الواهن العزم الفاتر الهمة كيف يجد نفسه مقرورًا ويظل يرتعد ويرتعش، وعليه مثل جلد الفيل وفروة الدب من دافئ الثياب والملابس، ثم نظرت إلى «الإسكيمو» ساكن القطب ذلك المتفائل المبتهج المملوء مرحًا ونشاطًا كيف يصنع لنفسه ثيابًا دفئه من البرد والبلل والثلج ذاته؟ أفلا تعلم — علمت الخير — أن من المصاعب والأخطار ذاتها، ومن الأهوال والمحن والمصائب يعرف الرجل المتفائل المرِح العزوم كيف يخلق الأسباب والحيل لتذليل هذه المصاعب، وإزالة هذه الأخطار، وإبادة تلك المحن والمصائب؟ أليست الطبيعة ذاتها تلقي علينا هذا الدرس حينما تراها تحفظ على البحيرات دفأها وحرارتها بتغطيتها بملاءة من الثلج، وتصنع مثل ذلك بأديم الأرض بتغشيته لحافًا من الجليد؟
إن المتشائم يسكن الجنة فيصيرها من جراء سخطه وضجره وفتور عزمه وقلة حيله جهنم، ويسكن المتفائل النار فيصيرها بفضل انشراحه وارتياحه وبحدة نشاطه وقوة عزيمته وسعة تدبيره وحيلته فردوسًا.
إن الإنسان بفطرته متفائل مجبول على الميل إلى الاستبشار والانشراح والنشاط والعزم، وأن هذا التفاؤل هو الذي يجعله صالحًا لسُكنى هذا الكوكب الأرضي الذي لا يهب الإنسان شيئًا على لزومه خطة التسخط والضجر وفتور الهمم والعزائم، ولكنه يسخو له بكل شيء على التزام سُنة التفاؤل والابتهاج، وما يورثانه من سعة التدبير والحيلة. فأبناء البشر باعتبارهم متفائلين نشطين ترى كل فرد منهم كأنه مجموعة قوى وجُعبة كفاءات فتخاله قضيب مغناطيس فوق كرة من حديد، فكل إنسان في هذا الوجود كأنه مبدع ومُخترِع قد أبحر في سياحة استكشافية يسترشد بخريطة ذهنه الخاصة التي لا يوجد لها نظير مع غيره من سائر البشر، وهذا العالم الأرضي يظل في نظر المتفائل وكله أبواب ومنافذ ومسالك، وكله فرص ونِهز ومغانم، وكله حساس وكأن في كل موضع منه وترًا مشدودًا يجاوب بالنغمة المطربة كل عزفة عازف، وهذه الأرض الصخرية الصلدة هي في الحقيقة جوهر حي حساس يفيض روحًا وشعورًا، يتأثر بكل لمسة، ويجاوب على كل مسة وجسة، وسواء سبرت غوره بمحراث آدم أو سيف قيصر أو قارب كولومبو أو مرصد غاليلو أو منطاد زبلين فلا بد أن يجاوبك على كل واحدة من هذه التجارب بأعظم جواب وأروعه.
كذلك جُبِلَ أبناء البشر على التفاؤل، وعلى أن يستثمروا بفضله وبفضل ما يورثه من القوة والمقدرة صخرة الأرض الصلدة، ويسخروا الطبيعة الهائلة في قضاء أوطارهم ومآربهم، وعلى أن يغتبطوا ويفرحوا برؤيتهم انتصار الإنسان على الطبيعة وسيطرته على العناصر، وبرؤيتهم أن كل رجل متفائل سليم الفطرة قوي الإرادة يظل مصلحًا منظمًا، ويكون كأنه قانون أفضى إلى تشويش وفوضى فاستخلص منه نظامًا وصلاحًا.
وجُبِلَ الناس أيضًا باعتبارهم متفائلين نشطين على الاغتباط والفرح باستعراض ثروة الطبيعة العظمى وكنوزها العديدة، وبرؤية هذه الذخائر الجمة بمتناول من كل متفائل مستبشر من سكان هذا العالم، ولا جرم، فذلك يُفجر في قلوب الناس ينابيع الأمل، ويستحثهم إلى المباراة والمساجلة في سُبل النشاط والهمة.
وعلى ضد ذلك التشاؤم فإنه داعية الفتور والتبلد ومجلبة العجز والتقاعد. وقدمًا قيل إن انقباض التشاؤم يفقأ الأعين ويشل الذهن، فهو خليق أن يُعد انتحارًا تدريجيًّا.
وأي خير — أصلحك الله — في بث روح التشاؤم والاكتئاب في أفراد الشعب؟ وأي بركة في تشويه جمال الحياة في أعينهم، وفي تغشية أبصارهم ذلك المنظار الأسود الذي يُبرز لهم كل شيء في رداءٍ قاتم، ويكسو عروس الطبيعة الحسناء ثوب حداد، ويُحيل عرسها الدائم المتجدد مأتمًا، ويرد بشيرها نعيًا، ويُحدث في السلسل الزلال أقذاء، وفي مذاق الشهد الجني مرارة، وفي انسجام النغمة الرخيمة تنافرًا، ويُطلع في وجنة الشمس الصقيلة نكتةً سوداء، ويُجري نجوم السعود بالشؤم، ويُريك المشترى ضمن كواكب النحس!
ولكن الخير كله والنعيم والسعادة في مذهب التفاؤل القائل بأن هذا العالم ملك للمؤمل المجتهد، وأن لكل بُغية وسيلة، ولكل غاية سبيلًا، وأن كل امرئٍ يحمل في يده مفتاحًا لإغلاق خزائن الطبيعة وفخًّا لاحتبال صيدها.
فَقُل للمتشائمين من أبناء هذه الأمة وغيرها من شعوب العالم: لا تشاؤم ولا اكتئاب ولا تَسخُّط ولا تَبرُّم، فهذا العالم الذي تعيشون عليه، وتسعون في مناكبه إنما هو مصنع هائل مفعم بالقوة بأفلاكه الدائرة وفصوله وأزمانه ومَده وجَزره، ومكينة العالم الضخمة الهائلة تملأ الفضاء عرضها السموات والأرض، وهي محكمة البناء دقيقة التركيب، لا يعتريها الفساد، ولا يتطرق إليها الوهن والخلل، وهي لا تزال تصلح نفسها بنفسها بقدرة كامنة في كل ذرة من ذراتها، وهي تصنع كل شيء وتقدر على كل شيء، فهذا عنصر الماء أتراه يعجز عن حمل أي ثُقل مهما عَظُمَ؟ وهب أن هناك ثُقلًا يعي الماء حمله؛ فهذا البخار أمامك فجربه أو دعك من هذا وجرب الكهرباء مثلًا، فهل ترى بعد ذلك لذخائر الطبيعة نفادًا؟ وهل حاولت مرة أن تزن بالقناطير مقدار ما تسكب القناة الصغيرة الجارية في مزرعتك من كميات المياه؟ أجل، إنه لا نفاد لثروة العالم، وإنه لا شيء في الحقيقة عظيم هائل العِظم إلا كنوز الطبيعة. هذا على أن الطبيعة لا تبدي لنا سوى قشورها وسطوحها، وهي من تحت ذلك بعيدة الأغوار يُقدر عمقها بملايين الفراسخ.
ألا إن الحزم والحكمة في التفاؤل والانشراح، وأن التشاؤم دليل الحمق والجمود؟ ولقد يكون من السهل على جماعة المتشائمين أن يحقروا مذهب التفاؤل وأربابه، ويلحظوهم بعين الازدراء ادعاءً للفطنة والكياسة، وتظاهرًا بالأرب والدهاء، ولكني أرى أن آمال المتفائلين المشرقة وأمانيهم البراقة، وما يُزخرفه خيالهم من قصور الهواء المونقة أحسن ألف مرة، وأعود بالخير والنفع، وأجلب للرخاء والدِّعة مما لا يزال المتشائم يحفره من جحور السخط والضجر وسجون الهم والشقاء.
ماذا يستفيد العالم من أولئك المتشائمين الذين لا يبرحون يبصرون في كبد السماء فوق رءوسهم كوكبًا أسود يتخلل لآلاء الضياء والسُّحب البهيجة الألوان، وربما احتجب أوانه وراء ما يمر دونه من أمواج النور، ولكنه لا يلبث أن يعود ظاهرًا أقبح ما كان وأشد سوادًا؟
وعلى خلاف ذلك التفاؤل، فإنه منبع الحول والقوة والباعث المحرض على السعي والعمل، وعندي أن الرجل الذي لا يجعل همه تحبيب الحياة والطبيعة إلى الناس — بإظهارهما لأنظارهم في أحسن صورة وأجمل مظهر — كان موته خيرًا من بقائه وعدمه أنفع من وجوده.
التشاؤم مرض والتفاؤل صحة، والصحة شريطة العقل وأساس الحكمة، والابتهاج آية ذلك وأمارته، والبَرُّ الكريم والأريب اللبيب هو من حرك فيك نسيم الأمل، وأشعر قلبك روح الثقة وبرد اليقين، وعتقك من رِق الهم، لا من أذاقك مرارة الجزع وجرعك غصة الكرب، وأشعر فؤادك ذل الخوف ومضاضة اليأس.
وإنما كان الابتهاج والانشراح وسيلة النجح، وسبب الفوز في هذه الحياة؛ لأنه سُنة الطبيعة ومنهجها، ويُخيل إليَّ أن الفرح والسرور هو روح الطبيعة ومنبع حياة الكون، ولعلك إذا استطعت أن تنفذ ببصرك إلى صميم قلب الوجود ألفيت ذلك القلب يدفع لدى كل نبضة من نبضاته تيار السرور الزاخر في كل وريد وشريان من أوعية جثمان الكون حتى يظل نظام الكائنات بحذافيره مغمورًا بفيوض الفرح وسيول الحبور يدفق بأمواجها الطامية ويفهق. فلن ترى في نواحي الكون موضعًا — مهما خلته جديبًا — إلا ما كان في الحقيقة مفعمًا بالخير والبركة، فأفقر مكان يحتوي من الثراء ما لا يكاد يُحصى مقداره، وأجدب محل لا تُستنفد حاصلاته ولا يُفرغ من اجتناء ريعه وثمرته.
وكل صوت من أصوات الطبيعة ينتهي بلحن ويُختم بنغمة، وكل صفحة من صفحاتها تزتخرف حافاتها وتدبج حواشيها الصِّبغ الجميلة والألوان البهجة.
لا تُعلق على جدارك الصور الكئيبة المحزنة، ولا تلوث أحاديثك بسواد الشكوى وظلمة التشاؤم، ولا تُكثرن من الضجيج والأنين والتأفف والتلهف والتحسر والتضجر، وكن على أن تظل صناجة تُطرِب الملأ بموسيقى الولائم أحرص منك على أن تبيت نواحة تُبكي الجماهير بمراثي المآتم، ولا يصدرن عنك من المقال والفِعال إلا ما جدد من أمل، أو حفز إلى عمل، أو استنهض همة، أو استثار عزمة.
من كل ما تقدم يُستنتج أننا في موقفنا الحالي — إزاء ما يعترضنا من العقبات وما يكتنفنا من المصاعب — نظل أحوج ما نكون إلى من يبعث فينا روح التفاؤل، ويضيء قلوبنا بشعاع البِشر والانشراح، ويُذكي في صدورنا جُذوة الأمل، ويُطلع علينا في أفق السياسة كواكب الرجاء هدايةً لنا في مسالكها الوعرة ومجاهلها المضلة فيملأ نفوسنا بذلك ثقةً وإيمانًا، ويُشعرها قوة الثبات وعِزَّة اليقين والاعتماد على النفس والاعتداد بالذات مما ينبه الهمم، ويوقظ العزائم، ويحفز إلى جسيم الأعمال وجليل المساعي.
أما خطة التشاؤم والتطير فلا أرى لها البتة مُسوِّغًا ولا مُبرِرًا — ولا سيما في حالتنا الراهنة التي ليس فيها ما يدعو إلى التشاؤم أو يبعث على الخوف والفزع كما بينا وأوضحنا فيما سلف — فقد اتضح أنه ليس لفريق المعارضة المتشائمة من علة أو حُجة على ما لا يألون جهدهم في نشره وترويجه — من الإشاعات والأراجيف والريب والتهم وسيئات الظنون بالمخلصين الغيورين من جلة رجال هذا البلد وفحوله، وصفوة ثقاته ودهاته — إلا آفة الغرض والهوى، وقد ما أدرك الناس أن المرء إذا أسلم زمام إرادته لقائد الغرض، وألقى عنان مشيئته في قبضة الهوى فقد نبذ طاعة الحق، وخرج عليه فليس تغني معه محاجة ولا مناظرة، ولا يفلح في إقناعه وإفحامه الحُجة الناصعة والبرهان القاطع.
لذلك تراه إذا أراد نشر أباطيله وترويج أضاليله انصرف عن مجالات أهل الرأي والحجى، ودوائر ذوي اللُّب والنُّهى من النافذي البصر، الثاقبي الفطنة والذكاء الذين يصولون بأمضى سلاح من المنطق والقياس، ويكشفون دياجير الإشكال والإلباس بأسطع سراج من الدليل المشرق وأبهر نبراس. فتحول عن هؤلاء إلى جماهير العامة والنساء والصبيان الذين قد يَسهُل عليه إقناعهم، لا بأساليب المنطق والقياس، ولكن بقوة التأثير على العواطف والإحساسات (كما أوضحنا ذلك بإسهاب فيما سبق من فصول هذا السِّفْر) بل بقوة التكرار والإلحاح، وشدة الإصرار والعناد حتى يُخبل أذهان من يتسلط عليه من البسطاء الذين يصبحون لفرط تأثير هذا التسلط يتهمون عقولهم — بل يتهمون حواسهم — ويغالطون أنفسهم عن الحقائق الناصعة الساطعة، ويخدعونها عن الشاهد الناطق والواقع الملموس.
جاء في الأساطير القديمة أن برهميًّا تقيًّا، نذر للآلهة نذرًا أن يضحي بشاة في يومٍ محدود، ثم خرج في ذلك اليوم ليشتري شاة وفاءً بنذره، وكان في جواره ثلاثة رجال قد عرفوا شأن هذا الناسك وما كان قد نذر للآلهة، فرأوا في ذلك فرصة انتفاع لم يحبوا أن تفلت من أيديهم، فانبرى له أحدهم فخاطبه قائلًا: «أيها البرهمي، أذاهب أنت لابتياع شاة تضحيها؟»
قال البرهمي: «أي وربي، ما خرجت اليوم إلا لهذا الغرض.» فحينذاك فتح الرجل جرابًا كان يتأبطه واستخرج منه حيوانًا مشوهًا — كلبًا ضريرًا أعرج — فصاح به البرهمي: «ويلك يا خبيث يا من يدنس كفه بلمس المقاذر ولسانه بافتراء الأكاذيب! أتسمي هذا الكلب النجس شاة؟» فأجابه الرجل بمنتهى الجرأة والثبات: «أي والله، ومن أكرم صنوف الغنم — من أنعمها صوفًا وأطيبها لحمًا — أيها البرهمي، اغتنم ما ساقه إليك الحظ من هذه الهدية النفيسة، وأسرع بتضحيتها تكسب بها أحسن الأجر والثواب من الآلهة.» فقال البرهمي: «هدانا الله وإياك يا رجل، لا بد أن يكون أحدنا قد أصيب بالعمى.»
في هذه اللحظة قَدمَ عليهما ثاني الثلاثة المتآمرين، فصاح كالفرِح الجذلان: «لله مزيد الحمد والشكر، هذه شاة من أكرم الغنم، لقد كُفيت مئونة الذهاب إلى السوق ومشقة مزاحمة الناس هنالك، بكم تبيع هذه الشاة يا رجل؟» فلما سمع البرهمي ذلك الكلام أخذه دوار في رأسه، وهفا ذهنه على أرجوحة الشك يعلو ويهبط، ولعبت به موجة قلقة من الحيرة تطفو به وترسب، فخاطب القادم الجديد قائلًا: «مهلًا يا هذا وتدبر ما تقول وما تزعم، هذه ليست بشاة ولكن كلبًا دنسًا مشوهًا.» فأجاب القادم الجديد بقوله: «ويحك أيها البرهمي، ما أحسبك إلا سكران أو مجنونًا.»
في هذه الآونة دلف إليهم ثالث المتآمرين، فقال البرهمي: «إذن فلنُحكِّم هذا القادم في الأمر، وقد عاهدت الله أن أقبل حكمه.» فوافقه الرجلان على ذلك، ونادى البرهمي الرجل القادم: «خَبِّرنا يا أخي، ماذا تسمي هذا الحيوان؟» فأجابه الرجل بقوله: «أيها البرهمي، هذه بلا أدنى شك شاة مليحة.» فقال البرهمي: «لا ريب أن الآلهة قد سلبتني حواسي.» ثم اعتذر إلى صاحب الكلب واستسمحه واشترى منه الحيوان القذِر بثمنٍ جيد وضحاه للآلهة فاستغضبها فرمته بداءٍ خبيث في مفاصله.
هذه فكاهة واضحة الغرض، بيِّنة المغزى، تشير إلى مبلغ تسلط ذوي الغايات في كل زمانٍ ومكان على عقول البسطاء بمحض الكلام والإغراء والمغالطة، ولعلها أصدق مَثل ينعت ما نكابده الآن من تأثير المعارضة المتشائمة على العامة والنساء والصبيان، وزجهم في متائه التضليل، والتغرير بما يروجون بينهم من الإشاعات والأراجيف مع شدة ظهور بطلانها، وفرط وضوح زورها، ومنافاتها للواقع الملموس، ولكن ذوي الغايات والأغراض لن يعدموا في كل آنٍ ومكان من جمهور الناس من يستطيعون خدعه عن الحقائق المدهشة المحسوسة حتى يحملوه على الاعتقاد بعكس ما تعرضه عليه عينه وأُذنه، وبضد ما يكيفه له ذوقه ولمسه تكذيبًا لوحي شعوره وشاهد حسه، حتى تراه يسمي التمر جمرًا والفجر عصرًا، ويحلف لك أن العسل مُر بالرغم من حلاوته في فمه، وأن الطِّيب نتن مع عبق أريجه في شمه، وأن الغزال فيل على الرغم من غيده وحوره، وأن الكلب شاة وإن عَرَّفَ نفسه للأبله بنباحه وضموره.
ولكن الحق أبلج والباطل لجلج، والأكاذيب في هذه الحياة محكوم عليها بالفشل في النهاية مهما نجحت مؤقتًا وبالكساد مهما راجت حينًا، وهي — كما نوهنا سابقًا — مكتوب عليها الحكم بالإعدام في صحيفة الأقدار وسجِل الأزل مهما تراخت مدتها وطال أجلها.
وما دامت وزارة ثروت باشا لا تبرح — كما نراها الآن — تُقدم للأمة في كل يوم وليلة دليلًا صادقًا على تنفيذ خططها وبرامجها، وعلى المسير بالبلاد نحو بُغيتها وغايتها، وما دمنا نرى رئيسها الجليل ثروت لا يزال يسوق من ناصع الأدلة على شدة إخلاصه للوطن، وفرط غيرته على مجده، وحُسن عطفه على أهليه، وإدمانه السعي الحثيث في تقريبه من أمله وإدنائه من أمانيه يقطع بذلك النهار جهادًا، والليل سهادًا. أقول: ما دمنا نرى بطل النهضة الحالية ثروت باشا لا ينفك يزلف إلى أبناء وطنه من بيِّنات الآيات على بُعد همته، ومضاء عزمته، وعِظم بطولته ما يجعله خليقًا بقول الطائي:
أقول: ما دامت هذه حال الوزارة الحاضرة من صدق الإخلاص للوطن، وحرارة الغيرة على مصلحته، وشدة التفاني في سبيل خدمته كما تشهد بذلك الأدلة المتوالية، والشواهد المتواترة المتتالية فلن يبعد ذلك اليوم الذي تصبح فيه آيات الحق الساطعة قد محقت أشباح الترهات البسابس، وعقائد اليقين والإيمان قد بددت هواجس الريب والوساوس فيهتدي ضلول، ويُرشد غوي، ويؤمن مشكك، ويُذعن مكابر، وتنقشع عن أعينٍ غشاواتها فتبصر وعن آذانٍ سداداتها فتسمع.
لقد ألمعنا فيما سبق من فصول هذا السِّفْر أن من أقطع الأدلة على مضي الوزارة في تنفيذ برنامجها توليها الأمر بنفسها في حكم البلاد، وإدارتها بشكل ظاهر ملموس لا يقبل ارتيابًا ولا تشككًا على الرغم مما لا تنفك تدعيه المعارضة المتشائمة (في وجه البراهين الساطعة) من أن الوزارة لم تصنع شيئًا من هذا القبيل، ولم تزل مُسيَّرة يتصرف فيها الموظفون الإنجليز آلة في أيديهم يحركونها كما شاءوا وشاءت أهواؤهم.
تحتج المعارضة على زعمها هذا بحجة واهنة مفندة، وهي بقاء عدد مذكور من الموظفين الأجانب في الدوائر الأميرية، فهل هذا يدل على تحكم العنصر الأجنبي في إرادة الوزراء بسحب السلطة من أيديهم واتخاذهم لعبًا وآلات لا حول لها ولا قوة؟ إن الوزارة لا ترى من الحكمة ولا من المعقول الاستغناء عن كل موظفيها الأجانب في يومٍ أو بعض يوم؛ فإن لهؤلاء الأجانب اطلاعًا على أسرار حركة الإدارة، ووقوفًا على خفاياها، ومعرفةً عميقة بدقائق تركيب مكينة الحكومة وتصاريف حركاتها، فمن الخُرق والحماقة أن تتخلص الوزارة منهم دفعة واحدة بين عشية وضحاها؛ لما هو محتم أن يسببه مثل هذا التسرع والتهور من اضطراب أسباب الإدارة، وارتباك دولاب العمل.
وماذا علينا من بقاء أولئك الموظفين الأجانب ما دام ذلك مؤقتًا إلى حين، وما دام زمام الإدارة العامة في قبضة الرؤساء الوطنيين تحت إشراف الوزير الواضع الخطط والبرامج المنفذ لها المسئول عنها؟ وماذا يهمنا بقاء هذا العنصر الأجنبي ما دام لا حول له ولا قوة، ولا يملك ضرًّا ولا نفعًا، وليس له أن يتصرف في الإدارة العامة حلًّا وعقدًا وإبرامًا ونقضًا؟
- أولًا: أن لا يتخطوا السلطة المخولة لهم إلى ما هو من اختصاص الوزير ووكلائه فيما يتعلق بتعهدات تربط الحكومة أو باتخاذ قرارات، أو إبداء آراء قاطعة في مسائل خطيرة.
- ثانيًا: أن لا يستعملوا السلطة المخولة لهم ضمن دائرة اختصاصهم فيما قد يكون فيه مساس بالسياسة العامة.
ولما كان يصعب تحديد هذه المسائل بتفاصيلها منذ الآن، فإنه يحسُن برؤساء المصالح أن يكونوا على اتصال بوزير المالية — إما شخصيًّا وإما كتابةً — ليأخذوا رأيه في المسائل الهامة التي تَعرِض لهم.
أتريد المعارضة بعد هذا دليلًا على أن الوزارة قد تولت الأمر بنفسها، وقبضت على أزمة الشئون ودفة الأعمال؟ أم تطلب المعارضة برهانًا بعدما عرفه الملأ أجمع من قيام معالي وزير المالية إسماعيل صدقي باشا عقب تأليف الوزارة الحالية بفحص ميزانية هذا العام قبل إصدارها ببضعة أسابيع وبحثها وتمحيصها ودرس أصولها، وفروعها وفصولها، على ضيق وقته وفادح أعباء واجباته الأخرى مما لم يُعهد في وزير مصري قبله.
وعلى هذا النحو يسير سائر الوزراء في وزاراتهم؛ إذ يأخذون في فحص أعمال تلك الوزارات، ودرس شئون ما يتبعها من المصالح بجِدٍّ وحد، وهمة لا تعرف الكلل، ولا يعرفها السأم والملل، ليضعوا من خطط العمل وبرامجه ما يمكنهم من الاستقلال التام بأعباء العمل دون أدنى احتياج إلى معونة الموظف الأجنبي مهما علا قدره وسمت رتبته.
أجل، لقد سار الوزراء شوطًا بعيدًا، وجروا شأوًا واسعًا مديدًا في تولي الأمور بأنفسهم، وإدارة دولاب الأعمال وتدبير دفته — كُلٌّ في مجاله وميدانه — إدارة الناهض بالثُّقل، المستقل بفادح العبء والحِمل، المحتمل كل ما عسى أن تسوقه إليه عواقب أعماله من التبعات والمسئولية.
وما لنا لا نعلن الحق ونعترف بالواقع، وذلك أن الشعب عامةً وموظفي الحكومة الوطنيين خاصةً قد أخذوا يشعرون في عهد الوزارة الحالية بأن يدًا حديدية بطاشة كانت تأخذ بمخنقهم قد انسحبت من حول أعناقهم، ووطأة ثقيلة باهظة كانت تضغط على متنفسهم قد رُفِعت عن صدورهم، وأن كابوسًا فادحًا كان يجثم على قلوبهم قد رنق جناحيه للمطير ثم حلق، وجذوةً حامية كانت تأتج فوق أكبادهم قد خمدت فأُطفئت؟ كيف لا وقد كان الموظف البريطاني مهما صَغُرَ قدره وانحطت رُتبته في العهد السالف المندثر ربما غلَب رأيه على رأي الوزير فنفذ برغم إرادة الوزير مشيئته. لقد كنا في ذلك العهد نجزع من أمثال هذه البلايا، ونأسف ونطأطئ ذلةً وانكسارًا فنسيغ الشجى، ونغضي على القذى، ونتقلب على جمر الغضا. أترانا اليوم لا نزال على هذه الحال أم ترانا نتيه إدلالًا، ونشمخ عزةً وجلالًا، ونُرنح الأعطاف فرحًا، ونمشي في الأرض مرحًا؟ وكيف تجوز المقارنة بين حالٍ كنا نختنق فيها اختناقًا مكبلين بأغلال الرِّق في أضيق سجون الاستبداد الأجنبي، وبين حالٍ أصبحنا ننشق فيها نسيم الحرية في فضاء الاستقلال الرحيب؟ وأين الضعف من القوة، والمهانة من العِزَّة، والوثبة من الركود، والنهضة من الجمود.
فما بال أقوامٍ لا يحمدون الله على هذا الفضل العظيم والمِنة المضاعفة؟ وما بالهم لا يعترفون بالفضل لذويه ممن ساق الله بواسطتهم وعلى أيديهم هذا الفوز العظيم والنجاح الباهر؟ أَوَ قَدْ خلت قلوب من عواطف الشكر، وأقفرت نفوس من غريزة الإقرار بالفضل والاعتراف بالجميل؟ أم هي برودة الحقد والكراهية قد جمدت ينابيع الأريحة والشعور في قلوب أُناسٍ، وعصفات الضغينة والبغضاء القارة القارسة قد ثلجت أنهار الإحساس في نفوسهم، فوقف تيارها وانحبس فيضها؟
إن أُس الفضل والكرم والنُّبل والشرف والبِر والمروءة في هذه الحياة هي شكر النعمة والاعتراف بالجميل، وإن أصل الرذائل ومصدر الخبائث، وينبوع المنكرات والمفاسد، وعنوان الضعة والخسة، وشعار اللؤم والنذالة، وعلامة الغدر والفجور هو كفران النعمة ونكران الجميل، ومن ثم ما نراه يملأ الكُتُب المقدسة من كثرة الحض على شكر آلاء الله ونعمائه والنهي عن جحودها ونكرانها مع شدة غنائه عز وجلَّ عن ثناء العباد، وعدم تأذيه أو تأثره — سبحانه وتعالى — بنكرانهم وجحودهم، ولكنه عَلِمَ — عز شأنه — أن الشكر مصدر الخير كله فحث عليه، وأن الكفران منبع الشر أجمع فنهى عنه.
وقد قال الحكماء: الأصل في الدنيا أنها هيكل ومعبد يقوم فيه الناس بتقديس شيءٍ واحد ألا وهو «حضرة الرجل الفاضل المخلص الهُمام»، وشكر ما يُسدي إليهم من غُر آلائه وجزيل نعمائه. أجل، إن هذه الدنيا لتنطوي على شيءٍ واحد هو الجدير بحق أن يسمى الإلهي المقدس — إذ هو عنصر كل ظاهرة إلهية مقدسة في هذا الوجود — وأعني بذلك الشيء هو ما يشعر به الناس في أعماق قلوبهم من عاطفة الإجلال والإعظام نحو الأبطال الأماجد في كل زمانٍ ومكان. فهذه الخلة القدسية الإلهية هي الدليل الباهر على سريان روح الله ورضوانه بين ظهرانينا، وعلى وجود ملكوته الأعلى فوق أديم هذه الأرض المستضعفة المنكوبة.
فحيثما خلت الأرض من هذه العاطفة الشريفة — إجلال الفضل والكرم والمروءة في أهلها من عظماء العالم وأبطاله — فقد احتجب نور الله عن هذه البقعة، وقد حيل ما بينها وبين ملكوت السموات، وقد حلت عليها نقمة الجبار ولعنته، بما قد أُقفرت من أُس المكارم وينبوع الفضائل، وأيما بقعة من أرض الله كان هذا شأنها وتلك حالها، فأي خير فيها وفي أهلها؟ وأي غبطة في معاشرتهم ومجاورتهم أو ثمرة في مخالطتهم ومعاملتهم؟ فقد وجب على البَر الكريم أن يغادرها لتوه وساعته واهبًا للشيطان الرجيم نصيبه منها ومن أهلها، وعليها وعليهم العفاء ما بقوا وما بقيت كذلك!
جُبِلَ الإنسان على الطرب إلى رؤية الجمال والجلال حيث كانا، والفرح بمشاهدة الرائع المليح، والتلذذ بإكبار البارع الفائق غريزة في نفوس البشر، بل إن الإعجاب الصادق الحق لجدير أن يحرر الروح البشرية — ولو برهة — من أغلال سخافات الحياة، ويصفيها من شوائب خبائثها ودناياها؛ ولذلك قيل: إن الناس يولدن من بطون أمهاتهم عبادًا، فهم لا مندوحة لهم عن العبادة حيثما أصابوا لها موضعًا، ولقد يطيق الإنسان أن يعبد الشيء الصغير إذا كان حقًّا، فأما الباطل فذلك ما لا يطيق إجلاله وعبادته مهما أصم الآذان بطنينه الأجوف، واستطار الأبصار بزبرجه المموه، وأي منظر — أصلحك الله — أدعى للرحمة والرثاء من منظر الجماهير والجماعات يزدحمون لإلقاء نظرات الإعجاب والإجلال إلى مواكب الملوك واحتفالات الزعماء، وأمثال ذلك من مظاهر الفخامة المزورة والأبهة الكاذبة؟ وليس في هذه الجماهير المحتشدة والجموع المتكاثفة إلا من تتوق نفسه إلى بذل عواطف الاحترام والإعظام، وأداء فرائض الإجلال والتقديس، ولكن كم منهم يعود أدراجه مطرقًا كئيبًا يشكو إلى الله خيبة أمله فيما كان قد حسب وقدر، وشدة هبوط ما يبصره من الحقيقة دون ما كان قد تخيل وتوهم؟ وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ.
إن مذهب الناس في إجلال العظماء لهو في الواقع قطب رحى حياتهم، وعنصر كيانها، وعليه تترتب سائر فروعها وأركانها، وعلى حسبه تتكيف جميع فصولها وأدوارها — سواء في محافلهم العامة وسوامرهم الخاصة وفي مساجدهم وكنائسهم وأسواقهم — فليكن مذهبك في إجلال العظماء أن تحرص الحرص كله على الاهتداء إلى العظيم بحق الصادق البطولة ذي الفضل الخالص لا المزيف، فإنك إن اهتديت إلى ذلك كان إجلالك حرًّا صادقًا، فأدركت الخير كله والبِر بحذافيره وكلل النجاح مسعاك، وإن كان إجلالك كاذبًا حداك إلى البطل الكاذب فأوسعته إكبارًا وإعظامًا فذهبت مع الشيطان كل مذهب، وركبت من الضلال كل مركب، واستحققت الإثم كله والشر أجمع، وبُؤت بالخيبة والخذلان والخسارة. ألا فويلٌ للناس إذا عميت منهم قلوب وبصائر فجازت عليهم أخاديع أدعياء البطولة، ثم خفيت عليهم مواطن العظمة الحقيقة فتهافتوا على مظاهرها الكاذبة! إذن لساد الباطل، وفسد الجم الكثير من مصالح هذه الحياة ومرافقها، وحل به الدمار والتلف، وظلت تعبث به أيدي البلي بمرأى من الناس من حيث لا يشعرون بذلك ولا يفطنون إليه؛ ذلك لأن هذه الحياة الدنيا إنما هي دار جِد وإخلاص، وليست بأُلعوبة ولا أُخدوعة، ولكن حقيقة من أخطر الحقائق.
قال توماس كارليل: إن الأبطال ما برحوا موضع إجلال الناس حتى في هذه العصور الفاسدة الأخيرة، ولعل الإنسان لم تتحرك في روحه عاطفة هي أطهر وأنقى وأبر وأتقى من إجلاله لمن هو أعظم منه قدرًا وأجلُّ خطرًا، وما أراني مغاليًا إذ قلت إن هذه العاطفة هي الأثر الفعال في حياة البشر أو إنها الأساس الذي تقوم عليه الأديان سواء الوثنيات وما هو أرقى وأفضل من الديانات الأخرى. فهذه الديانة النصرانية هل ترونها في عنصرها وجوهرها سوى إجلال وإعجاب وضراعة وخشوع لذاتٍ إنسانية سامية إلهية — ذات أعظم أبطال العالم قاطبةً — ذات من لا أسميه ههنا بلساني بل أترك ذلك الغرض المقدس لتأملات الصمت المقدس!
وإذا انتقلنا من الدين إلى غيره من مناحي الحياة وشئونها، ألفينا في جميعها من آيات احترام الصغير للعظيم والدقيق للجليل، ومن مظاهر ولاء الوضيع للشريف ما يماثل عقيدة الإيمان ومناسك العبادة في أمر الدين، وماذا ترى الإيمان الديني سوى عاطفة الاحترام والولاء لنبي أو قديس؟ وماذا عسى تكون عاطفة احترام الوضيع للشريف وولاء الصغير للكبير؟ تلك العاطفة التي هي في الحقيقة روح المجتمع الإنساني وعماده وقوامه إلا صنفًا من عبادة الأبطال، وعلى هذا فعبادة الأبطال هي أساس المجتمع وسلك نظام الرُّتب والدرجات في سُلَّم الإنسانية — ذلك الأساس الذي يقوم عليه صرح العمران، وذلك المحور الذي يدور عليه دولاب التعاشر والتعامل، حتى ليصح لنا أن نسمي مذهب «عبادة الأبطال»: «هيروأركي»؛ أي «حكومة الأبطال» — فالعظماء والأبطال وذوو الرُّتب والمقامات في الأمة يكونون لها بمثابة الأوراق المالية تمثل الذهب وتقوم مقامه، وإن اتفق أحيانًا — لسوء الحظ — أن يجيء الكثير من هذه الأوراق المالية مزيفًا مزورًا، فنحن قد نحتمل الأوراق المالية ونعيش بها وإن وُجِدَ بينها المزيف المزور، فأما أن يكون كلها مزيفًا فذلك ما لا يُطاق ولا يُحتمل ولا يستقيم به عيش ولا حياة، وإذ ذاك تهيج الفتن وتقوم الثورات، ويهب الناس يصيحون: «المساواة المساواة»؛ إذ تزول ثقتهم في الأوراق المالية الصحيحة أو الذهب — أعني تزول ثقتهم في الأبطال — فيظنون أن البطل المرتفع عن منزلة الاعتياديين من الناس مفقود لا وجود له، وأن عبادة البطل ضرب من الخرافة والخيال، والحقيقة أن صنف البطل وعُباد الأبطال موجودة في كل زمانٍ ومكان؛ فهي من العناصر المكونة منها الإنسانية، ولن تزول حتى يزول الإنسان من الوجود.
لقد فشا في هذا العصر الفاسد رأي فاسد، ذلك هو إنكار وجود الأبطال، بل كراهية وجودهم، إذا ذكرت للمرء بطلًا من أبطال العالم الذين أنقذ الله بهم الدول والعصور من وهدة الخراب والدمار أخذوا يعيبونه ويتنقصونه وأوسعوه ذمًّا وقدحًا، ثم زعموا أن ما يُعزى إليه باطلًا من البطولة إنما هو في الحقيقة مستعار مما أحاط به من الظروف الخاصة والأحوال النادرة، يقولون: «الوقت هو الذي خلق ذلك البطل، فهو سليل تلك الآونة وابن هاتيك الساعة، ولولا ظرفه الخاص لكان كأي امرئٍ عادي» — كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا — يزعمون أن الوقت هو الذي أعاره ثوب البطولة الوهمي، وأفاض عليه نور العظمة السرابي، وأنه في الحقيقة لا بطل ولا عظيم، وأن كل ما جرى عليه من عظيم المآثر وجليل الفِعال ليس من صُنعه بل من صُنع الوقت. فمتى كان الوقت هو الذي يصنع الخوارق، ويأتي بالمعجزات؟! لقد طالما رأينا الوقت يصيح: أين البطل العظيم، وينادي: هل من فتًى هُمام وفارسٍ ضرغام يقيم أودي، ويصلح مفاسدي، وينقذني مما أنا منحدر إليه من وهدة التلف وهاوية البوار؟ فلا يجد من يجيب دعاءه ويلبي نداءه، ويدور بعينيه في فضاء الله فلا يرى بطلًا ولا عظيمًا:
وبعد أن يبح النداء صوت الوقت، ويقطع الدعاء حنجرته تخور قوته، وتبيد منته ثم تنهار أركانه، ويتقوض بنيانه، ويعمه الفساد ويشمله التلف والخراب؛ وما ذاك إلا لأن البطل لم يدركه في ساعة محنته وبلائه، ولأن العظيم لم يكن إذ ذاك موجودًا، ولم تكن القدرة الإلهية قد خلقته، وأرسلته هدًى ورحمةً للعالم.
والواقع أن غوائل التلف والفساد ما كانت قط لتصيب عصرًا من العصور لو أنه أُتيح له رجل عظيم يجمع بين العقل والعزيمة — بين عقلٍ يُعرِفه حاجة العصر وعزيمةٍ يستعين بها على قضاء هذه الحاجة — فيبلغ بعصره غاية الأمل والمُنى، ويصل به إلى مدى الفوز والسعادة. فأما العصور الفاسدة الخربة — المصابة بداء الشك والحيرة والكفر والجحود — فهي في مذهبي أشبه شيءٍ بأكداس الحطب اليابس الميت تنتظر من السماء شهابًا يسقط عليها فيذكيها ويشعلها حريقًا، وما الرجل العظيم يُتاح من جانب الله لمثل هذه الأكداس الذابلة الميتة يحييها ويوقظها إلا ذلكم الشهاب الساطع يؤدي إلى العصر رسالته وينطق كلمته — فإذا فيها شفاء الغلة، وبرء العلة، واتحاد الآراء، واتفاق الأهواء، والتئام العقائد والمذاهب، وائتلاف المقاصد والمشارب — فما هو إلا أن يقع ذلكم الشهاب على تلكم الأكداس المكدسة من الحطب اليابس الميت حتى يتأجج سعيرًا، وبعد ذلك يجيئك الجاهل السخيف الغبي، الجامد الطبع، المظلم الروح، الذي لا يفهم معنى العظمة، ولا يفقه سر البطولة؛ فيهزأ ويسخر من ذلك الشهاب الذي أشعل أكداس الحطب الذابلة بشعلة ذكائه الوقاد وجذوة عزمه المتسعر، فيزعم أن أكوام الحطب الميتة هي التي خلقت ذلك الشهاب وأوجدته من العدم، يا للسخف ويا للحماقة!»
ألا إنما يفهم الفضل ذووه ويفقه المروءة أهلها، والبطولة سِرٌّ لا يدركه إلا من تَعرَّف معناه في صميم قلبه، وتَسمَّع نجواه في ثنايا ضميره. وقدمًا قيل: إن البطل لا يمكن أن يكون بطلًا في عين خادمه، وليس اللوم في ذلك على البطل بل الخادم، ولو نظر الخادم إلى البطل بعينٍ تستمد شعاعها من روح بطلٍ لعرف بطولته، ولكنه ينظر إليه بروح خادمٍ سوقي عامي من طائفة الطغام والغوغاء. ولهؤلاء مذهب آخر في البطولة يتفق مع نذالتهم ولؤمهم ودقتهم، ومع سفالهم وضِعتهم وخستهم، ولهؤلاء أيضًا أبطالهم وعظماؤهم الذين يأتون من الأعمال والوقائع ما يعجب نفوسهم الخبيثة وأرواحهم القذرة، فأولئك في نظرهم هم الأبطال والعظماء حقًّا، ولا بطولة إلا بطولتهم، ولا جرم، فمن ذا الذي قال إن الحشرات تطربها نغمات موسيقى الطبيعة، أو يروعها سنا بهجة النيرات في أبراجها والكواكب في أفلاكها؟ بل الله وعلماء الحشرات أعلم بالذي يُطرب تلك المخلوقات من دقيق الأشياء وحقيرها مما لا تراه العين إلا بالمجهر لفرط ضؤلته وخسته.
أما أنه ما بُلي جيل من الأجيال، ولا نُكب عصر من العصور بآفة هي أنكر وأنكى، وأَمَرُّ وأدهى من آفة التكذيب بعظمة الأبطال وجلالهم، والكفر بحسناتهم وآلائهم.
أما أنه ليس شيء أدل على سفالة الأفراد والمجاميع، ولا أشهد على لؤم غرائزهم ودقة أخلاقهم وخسة طباعهم، ولا أنم على غباوتهم وجهالتهم وسخفهم وخرقهم من إنكارهم قوة البطل ومقدرته، وإقرارهم للجماهير والجماعات الاعتياديين بالفضل العظيم والعبقرية، من كفرهم بالبطل الفذ النادرة وإيمانهم بالعامة والدهماء، من عماهم عن نور الله المقدس، عن الشهاب الساطع واعتقادهم في أكداس الحطب اليابس الميت؟!
هذا وايم الله الغفلة التامة والجهل المُطبَق، والخسة والدناءة، ومنتهى الحمق والبلادة، وأقصى غاية الكفر والجحود. فهلا عَلِمَ أمثال هؤلاء أن الرجل العظيم ما زال منذ بدء الخليقة كوكب الهداية في الظلمات، وزورق النجاة في الغمرات، وسهم الرشد مسددًا إلى كبد الغواية، وسيف الحق مجردًا على هامة الضلال والعماية، وأنه الشهاب الذي لولاه ما شبَّت النار في الهشيم، ولا تأجج الحطب ضرامًا؟ أليس البطل هو مصدر النور تنعكس أشعته على الأجرام المعتمة، وينبوع الحياة تفيض أنفاسه في الأشباح الخاوية المعدمة؟ وهل تاريخ العالم إلا سلسلةً حلقاتها نوابغه وأبطاله؟
ولا يسعنا الآن في مقام وصف الأبطال والبطولة إلا التنويه بذكر بطل من أعظم أبطالنا، وزعيم من أكبر زعماء نهضتنا، وأمهر قواد حركتنا، ذلك هو دولة الرئيس الجليل حسين رشدي باشا، وكيف يتصدى امرؤ للكتابة عن أبطال النهضة الحالية، ثم لا يدفعه الشعور والواجب إلى وضع صورة هذا البطل العظيم في متحف المجد القومي، ونصب تمثاله في هيكل الوطنية المقدس؟ أَوَ لَمْ يكن في كل شوطٍ من أشواطه الطرف الأغر في حلبة الجهاد والفارس المعلم في كتيبة الكفاح والجِلاد؟ أم هناك من ينكر أنه ما زال الجوهرة الكريمة في قلادة مآثرنا، والدُّرَّة اليتيمة في تاج مفاخرنا؟
إن أول ما يَرُوع المشاهد المتأمل من مناقب رشدي باشا ومحامده الجمة العديدة هو ذلك الإخلاص الحار والغيرة الملتهبة، وما لي لا أقول إن ذلك البطل العظيم إنما هو جذوة حمية متقدة وجمرة إيمان متأججة؟ أَوَ لَمْ نره في مواقفه العديدة في حومة النضال عن حقوق وطنه كيف كانت أنفته وإباؤه وشممه وكبرياؤه، وكيف كانت عواطف الوطنية الحادة إذا ثارت في جنانه، وجاشت في وجدانه فتألق وهجها في حر وجهه الكريم، ولمع شعاعها في عينه الصريحة، قذف بها منطقه الشريف في وجه الخصوم جهارًا كلمات صدقٍ، وآيات حقٍّ لا تسد سبيلها حُجب المداجاة والمواربة، ولا تقوم من دونها حوائل المداراة والمصانعة، شأن الذي لا حد لصراحته وإخلاصه. وقدمًا كان الإخلاص عنصر البطولة وأساسها. أجل، إن الإخلاص الشديد العميق هو — كما قال «كارليل» — أُس فضائل الرجل العظيم، ولا نعني إخلاص من لا يزال يعجز أمام الناس بإخلاصه؛ فإن ذلك — وايم الله — عيب ومنقصة، وهو إخلاص سطحي حقير وقح، بل غرور وسفاهة. إنما الإخلاص إخلاص من كان — مثل رشدي — لا يباهي به ولا يفاخر، ولا يكاد يحسه أو يشعر به، إذ كان في نفسه فطريًّا غريزيًّا، فهو معدن روحه وجوهر نفسه.
إن ما يبدو لنا صريحًا من فرط إخلاصه وعطفه وحبه لأبناء وطنه، وعطفه على أمانيهم، وغيرته على مصالحهم هو ذلك الذي يدنيه منا، ويصل ما بين قلوبنا وقلبه الكبير بأمتن روابط الحب، وأسلاك كهرباء الشعور المتجاوب والإحساس المتبادل، فعينه تَنُم عن نجوى ضمائرنا ومكنون سرائرنا، وفؤاده يخفق على دقات أفئدتنا ونبضات قلوبنا، والرجل المخلص الغيور يراه الشعب فيعرف لأول وهلة أنه فتاه وبطله وبُغيته وضالته، وما زال الرجل العظيم يحقق الظنون ويصيب مكانه ومركزه من زعامة الشعب وقيادته؛ إذ يكون مجرد ظهوره كفيلًا أن يُفسح له المكان اللائق به، ويجذب إليه الأنصار والأعوان، ويخلق له الأسباب والوسائل والعُدَد والذخائر، فهو في ذلك كالجدول الفياض يخلق بذاته لذاته ضفافه الخصبة المريعة المنتجة المثمرة حيثما جرى وتسلسل.
لقد جاهد رشدي في سبيل الوطن حق جهاده، وأبلى في الدفاع عن القضية أحسن البلاء، وكان في طليعة من عملوا على تحقيق ما قد تم لنا من الفوز والنجاح، وحسبُه فخارًا أنه أهدف صحته النفيسة الغالية في سبيل بلاده لسطوة المرض، وأبلى في محبة وطنه سربال عافيته العزيزة على جميع مواطنيه، وإن ارتخصها هو — سلمه الله وعافاه — وامتهنها في خدمة مصالحهم، وقد ثبت في الميدان ثبات الصناديد على رغم ما كان يقاسي من برحاء العلة، شأنه في ذلك شأن الفارس المغوار لا يثنيه عن الكر في حومة الوغى ما قد أصابه من طعنات الأعداء، دأبه ذلك إلى أن خرج من المعركة أغر أبلج وضاء الجبين يحمل عَلَم العِزَّة والنصر وما هو أشرف من ذلك وأنبل، أعني جرحه الدامي الأليم.
حيا الله رشدي باشا.