مقدِّمة المحرِّر
بين الخطاب والرد: (أفكار تمهيدية عن كتابة الحرب
الباردة)
«الحرب الباردة» مصطلح خطأ لوصف صراع كوني اتسع نطاقه ليشمل عدة
قارات وانقلابات وعدة حروب أهلية واضطرابات وتدخلات، ناهيك عن العدوان
العسكري. من أزمة كوريا، مرورًا بفيتنام والدومينكان وأفغانستان
وأنجولا، إلى غزو الولايات المتحدة لبَنما، كانت المجتمعات في أرجاء
العالم ممزَّقة نتيجة العداوات العنيفة. أما بالنسبة للشعوب الغربية
فمن المؤكد أن المواجهات العسكرية كانت تبدو ظاهرة بعيدة الاحتمال.
كانت الحركة الدبلوماسية الدائمة ومحادثات التسلح والخطابات المتبادلة
التي تميز التعاملات المباشرة بين الشرق والغرب، كانت كلها توحي بأن
صفات مثل «الباردة» وما يرتبط بها من كلمات مثل «جليد» و«ذوبان»
و«برود»، تبدو ملائمة، بدرجةٍ ما، لكي تجذب الانتباه نحو صقيع العلاقات
بين القوى الكبرى. على المستوى الكوني، وبشكل عام؛ فإن التجربة الغربية
استثناء واضح في هذه القاعدة. مجمل القول، إن رعاية السوفييت للأنظمة
اليسارية في العالم، ومقاومة الولايات المتحدة للشيوعية، نتج عنهما
أكثر من مائة حرب في أرجاء العالم الثالث، وعدد من القتلى يتجاوز
العشرين مليونًا؛
١ ففي آسيا وحدها، قضى ١١ مليونًا في الحرب في كوريا ولاوس
وكمبوديا وفيتنام؛ حيث انتصرت الحركات الشيوعية بالتدريج على القوات
الوطنية التي كانت تدعمها الولايات المتحدة، وفي أمريكا اللاتينية، مات
مليون شخصٍ على الأقل في الانقلابات العسكرية اليمينية التي حملت إلى
السلطة «بعض أكثر الأنظمة بربريةً في العالم الحديث.»
٢ وذلك بفضل المساعدات المالية والعسكرية الأمريكية. ونتيجة
للتورُّط السوفييتي في الصومال وإثيوبيا وأنجولا وأفغانستان وغيرها،
فقدَ ما يقرب من ثلاثة ملايين شخص حياتهم. حتى في أوروبا الشرقية، قُتل
عشرات الآلاف في حوادث على الحدود وفي السجون والمعتقلات، وفي الغزو
السوفييتي للمجر وتشيكوسلوفاكيا،
٣ وإلى جانب الموتى لا بد من الاعتراف بما حدث في تلك
السنوات من تدمير للبيئة، ونفي قسري، وسجن وفقر وعذاب ومرض.
إن وصف الصراع العالمي بكلمة بارد، بما يوحي به هذا الوصف من قصور
ذاتي وتوازن، هو وصف ينطوي على ما هو أكثر من التزييف لذلك السجل. إن
فَهْم تلك المرحلة التاريخية من خلال التجربة الغربية حصريًّا، سيكون
إسهامًا في النظرة الأوروبية-الأمريكية المهيمنة التي ميزت الصراع
ذاته، كما أنه سيدعم رؤية ذاتية محدودة، تهمش كل وجهات النظر الأخرى،
وهو أسلوب تناول يظل محصورًا في إطار كتابة التاريخ الغربي بعد سنة
١٩٨٩م؛ حيث لا تعاطف ولا اهتمام كبيرًا بضحايا العدوان العسكري. عندما
يختار أحد المعلقين أن يؤكد أن الحرب الباردة بالنسبة للشعب الأمريكي
لم تتضمَّن «خسائر في الأرواح كتلك التي تقع في الحروب الساخنة»، وأن
الحرب الباردة لم تكن على أيِّ نحوٍ «حرب إطلاق نار إلا في بعض المناطق
الطرفية من العالم»،
٤ عندما يختار أن يقول ذلك؛ فإن النتيجة ستكون محو المعاناة
أو على الأقل التقليل من حجمها الذي سبَّبه التدخل الأمريكي. «جون
ماسون
John
Mason»، على سبيل المثال، يرى أن تلك
كانت «أطول فترة سلام في القرن العشرين»، كرَّست فيها الولايات المتحدة
والاتحاد السوفييتي جهودهما — بنجاح — لتلافي وقوع «حرب عالمية ثالثة»،
٥ (وهو تفسير سوف يدهش ملايين كثيرة وجدت نفسها في حروبٍ في
العالم الثالث).
إن فكرة تعريف الحرب العالمية بأنها تلك التي تشارك فيها قوة كبرى،
وليس على أساس اتساع مدى الصراع، هذه الفكرة موجودة بوضوح في عمل «جون
لويس جاديس
John Lewis
Gaddis» الأخير؛ إذ بينما يقرُّ
بوقوع حروب محدودة، يريدنا أن نصدِّق أن الفترة ما بين ١٩٤٥م و١٩٨٩م،
لم تشهد «حروبًا رئيسية»، وأن تلك — حسب زعمه — كانت «أطول فترة
استقرار في العلاقات بين القوى الكبرى» منذ ميترنخ
Metternich وبسمارك
Bismarck، وعليه ينبغي النظر إليها
«ليس باعتبارها الحرب الباردة» بالمرة، وإنما باعتبارها فترة «سلام طويل»،
٦ نادر، نتذكره بإعزاز. وعلى الرغم من أن «جاديس» قد اكتسب
قَدْرًا من الشهرة السيئة نتيجة هذا الأسلوب في التناول؛ فإن تحوله من
توكيد «السلام»
(The
Peace) إلى حذفه من الحرب
(War)، هو استراتيجية عامة تدعو
للرثاء.
من الجدير بالتذكُّر، إذَن، أن جذور مجاز «الحرب الباردة» كان
موجودًا في منتصف الأربعينيات قبل ظهور العداء بين الشرق والغرب. ورغم
أن البحث عنه يتم دائمًا في حديث ﻟ «برنارد باروخ
Bernard
Baruch»، ممثل الولايات المتحدة في
لجنة الطاقة الذرية في ١٩٤٧م؛ فإن «جورج أورويل
George
Orwell» كان قد استخدمه بالفعل في
مقال نشره في ١٩٤٥م بعنوان: «أنت والقنبلة الذرية». كان «أورويل» يرى
أن حصول قوتَين كبيرتَين أو ثلاث على أسلحة ذرية مقدمة تؤدي إلى
الاستبداد، ومع ذلك كان يتنبأ بحدوث شلل في الشئون الدولية؛ حيث ستصبح
أي قوة ذرية «غير قابلة للهزيمة وتدخل في حالة دائمة من «الحرب
الباردة» مع جيرانها.»
٧ كانت رؤية هذا المقال وهي «نهاية الحروب الواسعة النطاق»
٨ مفهومة بفرض مضمونها في الأشهر التالية لنهاية الحرب
العالمية الثانية. كان ذلك سابقًا على «البرقية الطويلة» لكينان و«حديث
الستار الحديدي» لتشرشل، وعلى حصار برلين، ومبدأ ترومان، ومشروع
مارشال، والقلق المتزايد في الشرق الأقصى. والحقيقة أنه كان سابقًا على
كل المؤشرات الرئيسية إلى أن المستقبل سيكون بعيدًا عن الجمود السلمي
العريض للقوى الكبرى الذي كان يتصوره أورويل.
من الغريب إذَن وصف حقبة تاريخية بالملامح غير الملائمة للسنوات
السابقة عليها، إلا أنه ليس غريبًا تمامًا أن مجاز الحرب الباردة كانت
له سلسلة من الوظائف الأدائية، التي ظهر أنها كانت ضرورية لرؤساء الدول
والسياسيين والمستشارين السياسيين في الخمسينيات وما بعدها. المهم أن
المصطلح كان يُخفي ذلك الامتداد العنيف الواسع للهيمنة الأمريكية،
ويبرز صور الهدوء أو الركود ويصر في الوقت نفسه، على عكس كل الدلائل،
أن الهدوء والركود كانا من السمات الأبرز في ملامح العصر.
إن تمييز التجربة الغربية لم يكن في مجالات الخطاب السياسي والكتابة
التاريخية للحرب الباردة فحسب، ففي جديلة الدراسات الغربية التي تبحث
الاستجابة الأدبية للأزمة العالمية في الفترة من ١٩٤٥م إلى ١٩٨٩م، هناك
مَيل مماثل لتعريف «الحرب الباردة» طبقًا لظروف المناطق التي كانت
الحرب فيها أبرد ما تكون، وكذلك لاتخاذ الكتابة الأمريكية والأوروبية
الغربية أرضية مناسبة للدراسة، وباعتباره سعيًا نقديًّا، برز في
الثمانينيات، مع تصاعد النقد النووي في المجال الأكاديمي الأمريكي،
مجال لتحليل العلاقة بين الإنتاج الأدبي والتباعد العسكري
والأيديولوجي. ومع تداعي الانفراج في العلاقات الدولية في فترة رئاسة
كارتر الأخيرة، وتصاعد الإنفاق العسكري في فترة ريجان، لم يكن هناك
ازدهار للتصوير الرؤيوي في الأدب الروائي والشعر فحسب، بل وإصرار نقدي
متطور كذلك على تناول موضوعات، مثل الخطاب النووي والثقافة الذرية،
والتلوث والكارثة البيئية، والقلق النووي.
٩
كانت هناك محاولات قليلة في أعمال كلٍّ من «باتريك مانكس
Patrick
Mannix» و«مارتا أ. بارتر
Martha A.
Bartter» و«ديفيد دولنج
David
Dowling» وغيرهم من نقاد النووي
لكي تتسع للكتابة عن الحرب التقليدية. مثل هذه الحصرية استمرت في
الثمانينيات والتسعينيات، عندما امتد نقد الحرب الباردة من بؤرة نووية
سائدة، إلى إعادة اكتشاف اليسار الأدبي وتفكيك التمثيل الشرقي-الغربي،
وتحليل المعالجات الأدبية لأحداث بعينها، مثل محاكمة آل روزنبرج،
وإعادة الاعتبار لما بعد الحداثة، والنظرية النقدية باعتبارها خطابات
حرب باردة. مرة أخرى، مع استثناءات قليلة، بقيت الدراسات منحازة للآداب
الغربية الوطنية مع التركيز أساسًا على الكُتاب المعترف بهم، أو — مع
تقدُّم العقد — على الأنواع الأدبية الأمريكية الشائعة.
١٠ الفشل في وضع مثل هذا الأدب في إطار توجهات ثقافية كونية،
أعاد إنتاج الشعور بأن تاريخ الحرب الباردة كان يتم فهمه على نحو أفضل
من خلال طبقة المثقفين الغربيين الذين كان يبدو أن منظورهم يمكن تعميمه
دون صعوبة. تكون هذه البنية من الأعمال الموثوقة، يمكن أن نلاحظه في
ذلك الوقت عندما كانت نظرية ما بعد الاستعمار ترشد الدراسات
الأوروبية-الأمريكية، إلى أهمية توسيع «اهتماماتها الفكرية كونيًّا
بتقديم أصوات وخصائص ذاتية من دول الأطراف أو الهوامش.»
١١
هذه الهوامش أو ثقافات العالمَين الثاني والثالث، أنتجت بالمثل بعض
أروع وجهات النظر عن تاريخ أواخر القرن العشرين، كما صاغت بعض أخصب
التطورات الأدبية. هذا الأمر واضح بقوة في مجموعتَين مهمتَين من
المقالات عن الثقافة الاشتراكية في الفترة من ١٩٤٥–١٩٨٩م، وهما من
تحرير «دوبرافكا جوراجا
Dubravka Juraga» و«إم كيث بوكر
M. Keith
Booker»، نشرت في عام ٢٠٠٢م. على
الرغم من أن المقالات تركِّز على كتابة اليسار في الأساس، فإن مجادلات
جوراجا وبوكر بأن القيم الجمالية البرجوازية للدراسات الغربية عملت على
تهميش كل أشكال التعبير الأخرى، تحمل بشدَّة على طمسها آداب الكتلة
الشرقية. وبعد القيام بعملية مَسْح للتعليقات الثقافية التي ظهرت منذ
١٩٨٩م، تكتشف جوراجا وبوكر مثلًا ذلك الإصرار الشديد على تشويه سمعة
الشيوعية (مع منظِّرين يشعرون بضرورة الاستمرار في ركل حصان الاشتراكية
الميت، مع بعض احتمال بألَّا يكون الحصان ميتًا بالفعل)،
١٢ وتشويه سمعة الإنتاج الثقافي اليساري كذلك. في عملية
تعبِّر عن الحملة الضارية للحرب الباردة للتقليل من قيمة الأعمال
الأدبية والنقدية التي لا تروج لأيديولوجيات «العالم الحر»، كان
الافتراض بعد ١٩٨٩م هو أن «الالتزام السياسي (وبخاصَّةٍ الالتزام
السياسي الاشتراكي)، مُعادٍ لإنتاج فن حقيقي.»
١٣ حيث يمضون مع هذا التوجه إلى درجة القول:
«لقد أنتج الكُتاب الاشتراكيون بعض الأعمال العظيمة القيمة
والتأثير في الأدب العالمي، سواء كان ذلك بواسطة السوفييت
(جوركي وشولوخوف وألكسي تولستوي)، أم الأوروبيين الشرقيين
(برخت وكرليزا) أو كُتاب من العالم الثالث (نجوجي وسمبيني
وماركيث). الأدب الغربي كان موجودًا على نطاق واسع، ويحظى
باحترامٍ كبيرٍ في الكتلة الشرقية. كان الكُتاب الأمريكيون مثل
دريزر، وشتاينبك مشهورين في الاتحاد السوفييتي، بينما أعمال
الواقعية الاشتراكية للشرق لم تكن تصل إلى القارئ الغربي الذي
كانت المؤسسة الغربية تؤكد له دائمًا أن تلك الأعمال لم تكن
سوى تفاهات أيديولوجية لا قيمة لقراءتها.»
١٤
ردُّ المؤسسة الأدبية على الكُتاب الاشتراكيين يلخص لنا أسلوب
تناولها الأوسع لكتابات العالمَين الثاني والثالث؛ فمن الواضح أن هناك
غيابًا كبيرًا للأدب الثري المتنوع لأوروبا الشرقية الشيوعية من برامج
الجامعات، والقوائم الدراسية عن موضوعات الحرب الباردة. أما الأكثر
إثارة للدهشة، فهو أن أعمال كُتاب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية
التي حظيت باهتمام نقدي، كان يتزايد منذ ظهور دراسات ما بعد الاستعمار،
هذه الأعمال نادرًا ما يشار إليها عند مناقشة الأحداث الجيوسياسية
للفترة ما بين ١٩٤٥م و١٩٨٩م، كذلك تتضاعف الدهشة عندما يلاحظ المرء أن
الحرب الباردة كانت تدور، في معظمها، في تلك المناطق في مرحلة ما بعد
الاستعمار، ويمكن حتى فهمها باعتبارها صراعًا بواسطة القوى الكبرى التي
ظهرت، من أجل السيطرة على ثروات وقوة عمل وموارد الدول المستقلة
حديثًا، على نحو أشبه بكولونيالية القرن التاسع عشر. ومن أسف، كما تشير
«باربرا هارلو
Barbara
Harlow» أن الإمبريالية الجديدة
والمقاومة الأدبية للعولمة الثقافية والتدخل العسكري، كلها أمور يتم
استبعادها أو تجاهلها في الدرس الأكاديمي.
١٥ كما يأسى «إعجاز أحمد» لحقيقة مهمة أخرى، وهي أنه حتى بين
نقاد ما بعد الكولونيالية «يبدو هناك اهتمام أكبر بكولونيالية الماضي
منه بإمبريالية الحاضر.»
١٦ والنتيجة أن مثل تلك الكتابات تكون غالبًا مجردة من
تاريخيتها ومن الالتزام الأيديولوجي، فكاتب مثل «نجوجي»، تتم دراسته
فقط باعتباره «يمثل وجهات نظر أفريقية غرائبية»، أو «ماركيث باعتباره
رائدًا للواقعية السحرية.»
١٧
هناك حاجة إلى نقد للحرب الباردة يضم ويتقصى، وينظر في التوجهات
الكونية لكتابات منتصف إلى آخر القرن العشرين. هناك حاجة لتحليل مقارن
للتوجهات الموضوعاتية والأسلوبية لأدب الحرب الباردة، وهو شكل من الأدب
يمكن أن نعرِّفه بشكل عام باعتباره تيارًا له بؤرة تاريخية ويحمل
تفاعلات عدة مع البِنى السياسية والعسكرية والدبلوماسية واللغوية
والأيديولوجية لتلك الفترة، فإذا كان يمكن القول بوجود أدب حرب باردة؛
فسيكون بالتحديد في تلك التيارات العالمية. مجموعة المقالات التي يضمها
هذا الكتاب، هي محاولة لحفز الجدل حول الاستجابات الأدبية العالمية
للصراع الأيديولوجي والعسكري، وتقدير قيمتها وأهميتها بالنسبة لنا
اليوم، واعتمادًا على باحثين من خلفيات وطنية مختلفة، ينتقل الكتاب عبر
الشعر والمسرح والأدب الروائي وكتابات الرحلة والسيرة الذاتية؛ لكي
يستكشف الآداب القومية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا الشرقية
وآسيا، بالإضافة إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ليس الهدف مجرد
تأطير الأدب الغربي في المشهد الثقافي الأوسع وإعادة تمركزه داخل
دراسات الحرب الباردة، وإنما كذلك مقارنة الإنتاج الأدبي في مناطق
مختلفة واقتطاع مجموعة متجاوزة من الاهتمامات والقيم الجمالية، كما نظل
في كل الظروف على وعي بالولاءات والممارسات والتواريخ المحلية. بذلك،
فإن الكتاب لا يدعي أنه جمع فأوعى، كما لا يرغب في طمس أو إخفاء ما
يبدو حذفًا أو تعسفًا. والمؤكد أنه ليست هناك محاولة لتضمينه المعالجات
المهمة للحرب الباردة في المسرح الغربي، أو أدب الخيال العلمي، أو
الروايات البوليسية والتجسُّس، ولا المبالغة في تأكيد اليأس السياسي
وأزمة الضمير، والمحاولات الوجودية وهيستريا اليمين لدى الشعوب
الغربية؛ فمثل تلك الممارسات تم تناولها بالقدر الكافي في أماكن أخرى.
الكتابة الغربية مستحضرة هنا — بالأحرى — لكي نتتبع المشترك والمختلف
مع وعن الآداب الملتزمة المعارضة في العالمَين الثاني والثالث، اللذَين
تحدى كُتابهم السيادة السياسية الغربية، و«ردوا» على الهيمنة الثقافية
الغربية من خلال أساليب أهلية وشفهية. وسوف يحاول الكتاب اكتشاف وجود
«عائلة من التشابهات» في داخل الأدب الكوني، أو بعبارة أخرى: اكتشاف
الخواص والاهتمامات والأساليب والمكونات المهمة للجدل
الاجتماعي-التاريخي الذي ظهر في العالم.
بداية، فإن إحدى أبرز خواص استراتيجية السرد والخطاب السياسي في
أثناء الحرب الباردة هي الأنماط التي اتخذتها للتمثيل الثقافي. كان
صراع الحرب الباردة للسيطرة على العقيدة السياسية مؤسَّسًا على تناقض
مانوي بين الذات والآخر، بين الخير والشر، بين الديمقراطية والاستبداد.
هذا التناقض أو التعارض كان يقوى على مر السنوات بتراكم طبقات متوالية
عليه من التراث والخرافة والأسطورة.
١٨ هذا الإطار الثنوي، كان قويًّا على نحوٍ خاص في الولايات
المتحدة؛ حيث كان يتم تشويه الكتلة الشرقية في كل مجالات الحياة
الوطنية، بما في ذلك الأدب والسينما والتليفزيون والأحداث الرياضية
وسباق الفضاء. هنا، كانت الفكرة عن الشيوعية السوفييتية هي أنها «مرض
مُعدٍ ونظام كافر ومستبد ودموي يقوده سفاحون أشرار، يستمتعون بإنزال
الضرر بالآخرين وقتل الأطفال.»
١٩ كانت تلك الفكرة تحقق الهدف منها لتسويغ الاستراتيجيات
السياسية، بدءًا من زيادة موازنات الدفاع والتدخل في العالم الثالث،
إلى تنظيم الجمهور المحلي على نحو متزايد. اقتران التمثيل بالقوة في
الخطاب المُعادي للسوفييت، كان يتم تحليله في الدراسات الأدبية. «ديفيد
سيد
David
Seed»، الذي يتصدر مقاله هذه المجموعة
يحوِّل الاهتمام، بالتالي، من «التهديد الأحمر» إلى «الخطر الأصفر»
والصور الذهنية الأمريكية عن شرق آسيا. الشقاق الصيني السوفييتي في
أواخر الخمسينيات، والطموحات الكبرى لصين ماو تسي تونج، كل ذلك جاء معه
بقوة كبرى جديدة إلى المسرح وكانت النتيجة، كما يفصل «سيد»، خطابًا
استشراقيًّا أخذ يتنامى.
٢٠ مثل هذا الخطاب نجده متجسدًا في الطموح الماكر والشرير
والكوني للدكتور «فو مانشو» في رواية «ساكس رومر
Sax
Rohmer»، رغم أننا نجده على نحو أكثر
حضورًا في «المرشح المنشوري
The Manchurian Candidate»
(١٩٥٩م) ﻟ «ريتشارد كوندون
Richard Condon»، وهي رواية عن
مقاتل في الحرب الكورية تم غسل مخه ليقوم باغتيال مرشح للرئاسة
الأمريكية، كان يعبِّر عن قلقه بخصوص كلٍّ من الغزو الشرقي والطوابير
الخامسة الشيوعية. لم تكن الولايات المتحدة، بالطبع، هي الوحيدة في
بلورة هذا الخطاب؛ إذا كانت هناك أشكال أخرى من التمثيل، معقدة
ومتحولة، نابعة من روسيا والصين تتفاعل مع الخطاب الثقافي الأمريكي
وتنتشر بين القُوَى الكبرى والدول التي تدور في فلكها. مقال «أندريه
روجاشيفسكي
Andrei
Rogachevskii» هنا، يفصِّل ما كتبه
«سيد»، ويحلل صور الاتحاد السوفييتي المتغيرة عن الولايات المتحدة
وأوروبا الغربية. بعد القيام بعملية مسح شملت عددًا كبيرًا من الأعمال
الروائية والشعرية وكتابات الرحلة، يحاول هذا المقال استكشاف الأسلوب
الذي مرت به عملية شيطنة الغرب إبان «الحرب الباردة الأولى» في
الخمسينيات، وتحولها إلى صورة أكثر تحفظًا في فترة الانفراج؛ وذلك على
الرغم من أن الاتهامات بالفساد والاضطهاد والتوسعية، التي لم تكن
متباينة مع دوافع الغرب ونزعته المُعادية للشيوعية، ظلَّت كما هي.
تكامل خطاب الشرق-الغرب، يوضح، حسب تعليق «فيليب تيلور
Philip
Taylor» كيف كانت القوى الكبرى،
وهي تحدق في بعضها عبر «الستار الحديدي» تكتشف انعكاسًا لصورها وآمالها ومخاوفها.»
٢١
كان التلاعب باللغة والصور في المجال العام سببًا رئيسيًّا في ذلك
التشكك الذي يراه كثيرون ملمحًا محددًا لثقافة الحرب الباردة. مع أعمال
الدعاية المستمرة ومناخ التجسس السائد والاستخبارات المضادة والتآمر
الدولي، لم يكن هناك سوى القليل من الحقيقة الذي يمكن أن يؤسِّس عليه
المرء اقتناعاته الأيديولوجية. ويلخص «توبين سيبرز
Tobin
Siebers» تاريخ الحرب الباردة بأنه
«قصة تشككنا في غايات ونيَّات وتفسيرات، وحسابات أعداد وتحركات القوات
والأسلحة، والمفاوضات وادعاءات الحقيقة والزيف.»
٢٢ كان ذلك عصرًا لا يمكن الاتفاق فيه حتى على التواريخ. لم
تكن للحرب الباردة بدايات واضحة (أحيانًا تذكر الأعوام ١٩١٧م و١٩٤٥م
و١٩٤٨م)، ولا اتفاق على حدود زمنية لها («حروب باردة أولى» و«حروب
باردة ثانية»)، ولا نهاية محددة (هل هو عام ١٩٨٩م أم ١٩٩١م، أم نقطة ما
زالت في المستقبل؟) لا عجب كبيرًا إذَن أن يكون تيار ما بعد الحداثة
الأدبي السائد يتميز بعدم الاستقرار السردي، وعدم اليقين الأنطولوجي،
والانعكاسية الذاتية القاسية، والشك في كل أشكال السرديات الكبرى
والكتابة التاريخية. وفي حقبة يميزها تنامي سيطرة الدولة، لا عجب
كبيرًا كذلك أن يكون هذا الأدب قد أصبحت تنتابه هواجس تكنولوجيات
القوة. في رأي «ماري كالدور
Mary Kaldor» وآخرين؛ فإن الحرب
الباردة جاءت معها «بصروح قوة وبتراتبية ثقيلة» إلى المجتمعات الغربية؛
حيث لم تَعُد الجماهير المعرضة للمراقبة والتلقين قادرة على «إقامة
الحدود الملائمة بين حياتهم الشخصية وسردياتهم القومية أو الوطنية.»
٢٣ بعبارة أخرى، كان ذلك زمنًا تآكل فيه الفعل السياسي وخمد
الميل إلى الثورة، وفي رأي «سيبرز» أن «الارتياب والبارانويا والتشكك
لم تكن من سمات الحرب الباردة فحسب، وإنما أبقت بدورها كذلك على الدولة.»
٢٤
الفصلان التاليان يحلِّلان تلك النقلة إلى التشكك والتشاؤم الثقافيين
بين الكُتاب الغربيين. في مقاله، ينظر «كريس ميجسون
Chris
Megson» في دراما الجناح اليساري
البريطاني في النصف الأخير من القرن العشرين، وسخطه المتزايد على
أيديولوجيات وممارسات الأحزاب الاشتراكية وأنظمة الدولة. على الرغم من
الاحتفاظ بإيمان في الدعوة للحرية؛ فإن بعض كُتاب الدراما مثل «هوارد
باركر
Howard
Baker» و«كاريل تشرشل
Caryl
Churchill» و«ديفيد إدجار
David
Edgar» فقدوا الثقة في مفهوم
الجناح اليساري للحرب الباردة باعتباره حملة نبيلة ضد الرأسمالية،
وتحولوا إلى تصوير أكثر تعقيدًا وأكثر يأسًا أمام الأزمة واحتمالات
حلها. يستكشف «ميجسون»، على نحو خاص، افتتانهم بتلك الفضاءات الهامشية
في الحرب الباردة، مثل أوروبا الشرقية؛ حيث كان منطق خطاب القوى الكبرى
المزدوج مضطربًا، وحيث كانت الاستراتيجيات المروعة لطموح القوى الكبرى
تفقد قوَّتَها. أسلوب هذه المسرحيات الذي يستبدل الطبيعة الزمنية
بالبوليفونية والحسم المتبادل وعدم الخطية، يعكس ما هو موجود في أدب ما
بعد الحداثة، وهو ما يتم بحثه في الفصل التالي. هنا يجادل «دانييل
كورديل
Daniel
Cordle» بأن نزعة ما بعد الحداثة
الأمريكية، وهي شكلٌ معترَف به من العصر، متأثرة إلى حدٍّ كبير بالقلق
النووي. مع تجنُّب السرديات الصريحة للكارثة النووية، الموجودة في أدب
الخيال العلمي والروايات البوليسية، يرصد كورديل التصوير الأكثر
تأثيرًا للضغط والتوتر النفسيَّين العميقَين للعيش مع الهولوكوست
الوشيك، في البارانويا وغياب النهايات والشك اللغوي وهو ما يطبع أعمال
«دون ديليلُّو
Don
DeLillo» و«توماس بينكون
Thomas
Pynchon» و«إي إل دوكتورو
E. L.
Doctorow» وغيرهم، التي نادرًا ما
يرد فيها ذكر التسلح النووي، ولكن جو الكارثة المرجأة باستمرار يتم
تصويره بقوة. وكما استخلص ناقدٌ آخر؛ فإن تنويعات ما بعد الحداثة التي
ظهرت في آسيا وأوروبا الشرقية والأمريكتَين منذ ١٩٥٠م وما بعدها، كانت
«شكلانية منغمسة ذاتيًّا»، أقل مما هي «استجابة ذات معنًى لأزمة
تاريخية وأدبية»، و«تفكيك» مخلص ﻟ «أيديولوجيات الحرب الباردة».
٢٥
إلا أن ما بعد الحداثة، لم يكن التيار الأدبي الوحيد الذي تطور بعد
١٩٤٥م. في القلب من التعبيرات المتعددة لأدب الحرب الباردة، كانت هناك
الواقعية الاشتراكية التي حققت مكانة عالمية بعد تدشينها في روسيا
الستالينية في الثلاثينيات. كان «أندريه جدانوف
Andrei
Zhdanov» سكرتير اللجنة المركزية
في عهد ستالين، والمتحدث الرئيسي في الشئون الثقافية يصنف تلك الواقعية
الجديدة باعتبارها «التصوير المحدد للواقع في تطوره الثوري مصحوبًا
بمهمة إعادة التشكيل الأيديولوجي وتربية الكادحين بروح الاشتراكية.»
٢٦ كان السرد الواقعي، بالنسبة لجدانوف لا بد من أن يكون
مؤسسًا على الرومانتيكية الثورية بدلًا من احتمال الصحة، ولم يَعُد
يركز على الفرد البرجوازي، وإنما على ولاء «الإنسان الاشتراكي»
للمجموع، وفي النضال الجمعي من خلال الصناعة والوعي الطبقي والولاء
الحزبي للمستقبل اليوتوبي. هذه «الجدانوفية» المعيارية، كما أصبحت
تُعرف، ربما تكون قد سادت الحياة الأدبية السوفييتية في الأربعينيات
ولكن ذلك حدث مع الوقت. كما تم الترويج للواقعية الاشتراكية من خلال
برامج تقوم بها الدولة في أماكن أخرى من الكتلة الشرقية، كما ظهرت في
الوقت نفسه في فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا الغربية، وتطورت إلى
شكل إبداعي لا متجانس متأثر بالتوجهات الوطنية والفردية. وكما يجادل
«مايكل سكريفن
Michael
Scriven» و«دينيس تيت
Dennis
Tate»؛ فإن الواقعية الاشتراكية
لعبَت دورًا حاسمًا في علم جمال القرن العشرين؛ حيث كان لها «تأثير
أوروبي واسع على مدى أكثر من نصف القرن»، كما عارضَت التحرر من الوهم
ما بعد الحداثي، من خلال سعي أكثر تفاؤلًا نحو الأهداف الاشتراكية.
٢٧
إمكانية أن يقوم التعبير عن المعتقد السياسي والثقة في التقدم
الاجتماعي، بحجب أو طمس ما بعد الحداثة، أمر شديد الوضوح في كتابة
العالَمين الثاني والثالث. في المساهمة التالية التي يقدمها «م كيث
بوكر M. Keith
Booker» و«دوبرافكا جوراجا
Dubravka
Juraga»، يوجهان اهتمامهما إلى
السمات المشتركة في الأيديولوجيا والأهداف، بين آداب ما بعد الاستعمار
في أفريقيا والواقعية الاشتراكية السوفييتية، ويطالبان للأخيرة
بالاحترام النقدي نفسه، وهو ما يُعطَى الآن للأولى. وعلى الرغم من أنها
مرفوضة عادة من الوسط الأكاديمي في الحرب الباردة باعتبارها فقيرة
شكلًا وفاسدة أيديولوجيًّا، فإن الرواية التاريخية لدى كُتاب اليسار،
مثل «نجوجي وا ثيونجو Ngugi wa
Thiongo» و«مكسيم جوركي
Maxim
Gorky» و«ألكسي تولستوي
Alexei
Tolstoy»، تبين قوة المقاومة
الأدبية السوفييتية والأفريقية للاستعمار والتمثيل الغربي، بينما تنتقد
بشدة، في الوقت نفسه (كما يذكر بوكر وجوراجا) نظم الدولة المحلية
والنخب الوطنية. هذا التوجه الثري والمتنوع من التورط السياسي، كان
موجودًا في الغرب في الوقت نفسه. مساهمة «آلان وولد
Alan
Wald» تتناول أدب اليسار الأمريكي في
الخمسينيات، وهو تقليد قوي من التعليق النقدي، مثله مثل كتابات العالم
الثاني، مستبعد من الأعمال المرجعية المعتمدة. بوضع العمل على خلفية
المكارثية، يقوم «وولد» بعملية مسح لمئات الكُتاب الذين قدموا أعمالًا
نثرية عديدة، كانت تعبر عن ثقافة المقاومة في «الحرب الباردة الأولى»،
واستخدموا أعمالهم لتشجيع الانشقاق السياسي في وجه ترويع وسجن الدولة.
مقال «وولد»، يتبين على نحو خاص داخل تلك النهضة المُعادية لأمريكا،
إسهامات أفرو-أمريكية تتبنى «خلطة» ثورية لدى كُتاب مثل «أليس تشيلدرس
Alice
Childress» و«جوليان مايفيلد
Julian
Mayfield» و«شيرلي جراهام
Shirley
Graham»، تجمع بين نشاطية الحقوق
المدنية ومعاداة الرأسمالية والنسوية. خلاصة المقالَين متماثلة:
«فلنُجدِّد ونُحيِّ مكانة أولئك الكُتاب ليكونوا مقروئين على نطاق
أوسع.»
حضور المثالية والالتزام الأيديولوجي كان أكثر تغلغلًا في الآداب
القومية التي كانت تتناول الصراع المسلح مباشرة، وهو موضوع جوهري آخر.
في أرجاء العالم الثالث الذي كانت تمزقه القلاقل والحروب الأهلية
وعمليات الغزو، لعب الأدب أدوارًا اجتماعية وأيديولوجية بكونه ملتزمًا
بتثقيف وتسييس وإلهام جمهور قارئ، إلى جانب رسم خريطة لتجربة جمعية.
هذه النقطة يعبِّر عنها الصراع العسكري الأطول في الحرب الباردة، وهو
تورط الولايات المتحدة في فيتنام الذي أنفق عليه قرابة ١٥٠ مليون دولار
في الفترة من ١٩٤٥م إلى ١٩٧٥م؛ من أجل هزيمة حركة شيوعية محلية، وما
تضمَّنه ذلك من استخدام مليونَين وسبعمائة ألف من المقاتلين، وإسقاط ما
يقرب من ١٠ ملايين طنٍّ من المتفجِّرات.
٢٨ وكما تصوِّر «دانا هيلي
Dana Healy» في
مشاركتها الرد الفيتنامي على الحرب، كان الشعر هو الذي أثبت نفسه ليكون
الأكثر بلاغةً في التعبير عن مقتضيات ذلك الصراع. كان الشعر وسيطًا أو
وسيلةً سهلةً للكتابة والحفظ والتوزيع على خط المواجهة، بهدف غرس
الإخلاص في القوات من أجل النضال، وغرس الأفكار العسكرية للتحرُّر
والوطنية والبطولة والتضامن، إلى جانب الموضوعات الأوسع عن الهوية
القومية والولاء الحزبي، ومثلما كانت الروح القتالية مؤثرًا يعطي شكلًا
لأدب الدول في الحرب؛ فإنها كانت حاضرةً أيضًا في وقت السلم.
في المساهمة التالية ﻟ «زيا أومي شين Xia Omei Chen»، وهي
دراسة عن المسرح الماوي، يناقش الكاتب كيف كانت الدولة الصينية
الاشتراكية، في محاولة لتدعيم الثورة، تشير على نحو مستمر في أثناء
الحرب الباردة إلى «الحروب الساخنة» في الثلاثينيات والأربعينيات. على
نحو خاص، كان الإنتاج المسرحي للثورة الثقافية ينظم سردياته حول الصراع
مع اليابان، والحرب الأهلية بين الكومنتانج والشيوعيين، باستخدام أنماط
العداء والولاء القومي، وإذكاء العداء للاتحاد السوفييتي والولايات
المتحدة، وتنمية الدعم لمد النفوذ الصيني عبر العالم الثالث. هذا الفصل
من الكتاب يذكرنا بأن قتال الحرب الباردة كان حالة مادية ووجودية، وأنه
في غياب الحرب لا يكون ضمانًا لعدم تنظيم وعسكرة الجماهير، أو ضد صور
القتال التي تغرق الإنتاج الثقافي.
وكما تكشف «هيلي» و«شين»، فإن الالتزام السياسي في العالمَين الثاني
والثالث كان مبنيًّا، إلى حدٍّ كبير، على أيديولوجيات قومية، كما كان
مبنيًّا على الشيوعية. كان ذلك نتاج كلٍّ من حركات الاستقلال السابقة
على الحرب الباردة، مع عقود من المعارضة المُعادية للإمبريالية، التي
أسفرت عن التحرر من الاستعمار في الخمسينيات والستينيات، والمقاومة
المعاصرة للتغلغل السياسي والاقتصادي للدول الرأسمالية المتقدمة.
٢٩ والحقيقة، كما يجادل أحد المؤرخين، أن «الأنماط الأكثر
نجاحًا واستمرارًا من الشيوعية» انبثقت عن «الشيوعية الأهلية في روسيا
ويوغوسلافيا والصين وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا.»
٣٠ والواقع أن القومية — والنقد الصاخب للخطاب القومي — كانت
موضوعًا رئيسيًّا في أدب الحرب الباردة، وهو الأمر الذي يؤكده تحليل
«مارسيل كورنيس بوب
Marcel
Cornis Pope» لكتابة أوروبا
الشرقية الوسطى. الفصل يبدأ بتقييم أثر «الدولية» السوفييتية في الدول
التابعة؛ حيث كان يتم قمع التقاليد الأدبية الوطنية وتشجيع الولاء
الأعمى للستالينية. في مواجهة هذا التأثير الطاغي، ظهر توجهان أساسيان
في الأدب الإقليمي؛ الأول: «قومية مغايرة» رغم أنها كانت كارهة
للأجانب، تعارض الشيوعية ذات المركزية السوفييتية، مع إعطاء صورة
مثالية للوطن الأم؛ والتوجه الثاني: «ما بعد حداثة تجريبية»، أخضعت
للمساءلة كلَّ أشكال إعطاء الشرعية للسلطة، مع تعريض كلٍّ من القومية
والاشتراكية لاستراتيجيات السخرية والتفكيك. النقطة الأساسية عند
كورنيس بوب، وهي أن القومية عقَّدت بشدة عملية تحول أوروبا الشرقية
الوسطى إلى ما بعد الشيوعية، وهذه النقطة وثيقة الصلة بإسهام «هازيل
بيير
Hazel
Pierre» في تصورها للقومية الكوبية.
هنا، جنس السيرة الذاتية الكوبية، بتأكيده العام للتجربة الجمعية أكثر
منه للفردية، مستخدم لاستكشاف الأيديولوجيات القومية الاشتراكية، التي
رفدت كتابة الجزر عن الذات والدولة منذ ١٩٥٩م. يبدأ الفصل بتلخيص
البنية الذكورية المهيمنة على النزعة الكوبية في شهادة «فيدل كاسترو»
القانونية (التي أداها في ١٩٥٣م) بعنوان «التاريخ سوف ينصفني». ثم
تنتقل «بيير» إلى استخدام «الحلم بالكوبية» (١٩٩٢م) من تأليف «كريستينا
جارثيا
Cristina
Garcia»، لفحص كيف أن مثل هذا
التصوير الاختزالي يتم نسفه بإدخال عناصر متعددة في النص، مثل السيرة
الذاتية للعرقيات المتعددة وأنواع ومعتقدات ومهن ومواقف سياسية وآراء
متنوعة، تعقد فهم القومية وترسم الطريق إلى فضاء قومي أكثر
شمولًا.
وفي دراستها عن عمل «جارثيا» تطرح «بيير» كذلك السؤال المهم عن وضع
المرأة في مجتمعات الحرب الباردة والثقافات الأدبية. يجادل عدد من
النقاد بقوة أن النزعة العسكرية وسياسات القوة في الحرب الباردة ساعدت
على أن يطيل القرن العشرون السلطة الذكورية؛
٣١ ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كانت هناك «يقظة
أسرية» واسعة في أواخر الأربعينيات والخمسينيات، مع عودة النساء إلى
التدبير المنزلي والعمل بالبيت، وهي يقظة كانت مرتبطة منطقيًّا بفعل
تأمين الأسرة وحمايتها من العالم الخارجي، وهو احتواء ربط بين الدور
المنزلي للمرأة وهدف قومي أكبر،
٣٢ وكان ذلك مواكبًا لتغلغل شيوعي وتلوث نووي وتخطيط للدفاع
المدني، وفي أوروبا الشرقية، باعتباره مثالًا آخر، لم تكن اشتراكية
الدولة تسمح إلا بفضاء صغير لحقوق المرأة الفردية، وعلى الرغم من أن
نسبة كبيرة من النساء كانت تسهم في قوة العمل المأجور، فإن أعمالهن
كانت في إطار المجالات النسوية التقليدية، وتفتقر إلى المساواة
الاقتصادية بالرجال؛
٣٣ كما كان يقال إن الاشتباك الأدبي مع تاريخ الحرب الباردة
كان في معظمه ذكوريًّا. اكتشاف «بول بريان
Paul Brian» أن من
بين ألف رواية مكتوبة بالإنجليزية ردًّا على الحرب النووية، لم يكن
هناك سوى ٥٪ من إنتاج روائيات، هذا الاكتشاف لا بد أن يدل على خطاب ذي
مركزية ذكورية إلى حدٍّ بعيد،
٣٤ لكنه، كما يقول «بريان» بعد ذلك، فإن النساء كن ضرورياتٍ
جدًّا في جماعات وثقافات المعارضة في أنحاء العالم لقيادة الحركات
الاحتجاجية على الحرب النووية في الغرب في الخمسينيات وما بعدها،
٣٥ وللمشاركة في حركات التحرر في العالم الثالث، وإنتاج أدب
مقاومة ديناميكي ومختلف في موضوعاته.
يظهر ذلك في استكشاف «ماري ديشازر Mary DeShazer» لشعر
المرأة في جنوب أفريقيا، وهجومه في الثمانينيات على دولة الاضطهاد
العنصري اليمينية المتطرِّفة المدعومة من الولايات المتحدة. المقال
يفتح جزءًا آخر من الكتاب على موضوع واضح في أدب الحرب الباردة،
واشتباكه النقدي مع سياسات الدولة. وكما بيَّن عددٌ كبيرٌ من
المساهمين، فإن الفرد والمجتمع في تلك الفترة لم يكونا تحت خطر السيطرة
الخارجية فحسب، وإنما كانا معرَّضَين كذلك لأخطار من قبل أنظمة داخلية
مستبدَّة من اليمين واليسار.
في إطار جنوب أفريقيا، تكتب «ديشازر» كيف كانت النساء مساهماتٍ
رئيسياتٍ في احتجاجات الشوارع التي كان يتزعمها المؤتمر القومي
الأفريقي والحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا، وكذلك باعتبارهن مشاركاتٍ
رئيسياتٍ في الحركة الأدبية للانشقاق. ففي جولةٍ بين أربع مجموعات
شعرية من أواخر حقبة الاضطهاد العنصري، يلخص هذا الفصل من الكتاب
النزعة النضالية الواعية لعمل المرأة السوداء، وأساليبها الجدلية
المباشرة، واهتمامها بالأمومة والإنجاب والأسرة، والعمل النسوي وسلطة
الذكور، إلى جانب تعبئة معارضة جمعية ضد التفرقة العنصرية. وبينما كانت
هذه الأعمال صريحةً في راديكاليتها السياسية، ومكتوبةً غالبًا لكي
تُؤدَّى في لقاءات واحتجاجات جماهيرية؛ فإن مساهمة «بيوتر كوهيوزاك
Piotr
Kuhiwezak» عن الشعر في أوروبا
الشرقية تكشف عن أعمال أكثر تعقيدًا أو خفية المعنى. ولأن العمل كان في
ظروفٍ سلطويةٍ مقيدة، كان الشعراء على ذلك الجانب من الستار الحديدي،
عندما ينشرون عن طريق الدولة، يبتكرون ضربًا من الشعر السياسي يهرب من
الرقابة، باللجوء إلى الرمز الذي يمكن أن يصل إلى القارئ المثقف.
استهجانهم للدولة الاشتراكية، يتناقض مع الموضوعات المعارضة التي
يرصدها «بريان ديمرت Brian
Diemert» في عمل «جراهام جرين
Geraham
Greene» في الخمسينيات. بالنسبة
لذلك «المُعادي لأمريكا» كانت السيادة الكونية للولايات المتحدة تتضمن
ما هو أكثر بكثيرٍ من نزعة التدخُّل في العالم الثالث، كانت هجومًا
ثقافيًّا وأيديولوجيًّا وبيروقراطيًّا على حريات المواطنين وحقوقهم حتى
في الدول المتحالفة. وكما يفصل «ديمرت» حياة الشخصيات في «الرجل
الثالث» (١٩٥٠م) و«الأمريكي الهادئ» (١٩٥٥م)، وهي نصوص يمكن أن تجدها
في «المناطق الساخنة» في الحرب الباردة، نجدها مشتركة إلى حدٍّ بعيد مع
التجربة الخاصة المعلنة لجرين في التجسس، ومع استخبارات مكتب التحقيقات
الفيدرالي والارتياب والخداع والخيانة الإنسانية. كلاهما، الكاتب
والشخصية، يبدوان لا حول لهما ولا قوة لمقاومة السلطة الثقافية
والسياسية الأمريكية.
استكشاف «ديمرت» لمحاولة «جرين» المستمرة أن يجد «أرضية وسطى» في
عالم الحرب الباردة الثنائي، يقودنا إلى الموضوع الختامي للكتاب. فكرة
«الطريق الثالث» أو سياسات لا مادية تميل إلى اليسار، تتحدَّى
الرأسمالية الغربية دون الإذعان للمظالم الستالينية، هذه الفكرة كانت
مسعًى عامًّا لآداب الكتلتَين الغربية والشرقية. تأكيد «ستيفن سبندر
Stephen
Spender» في ١٩٤٩م أنه «ليست هناك
قوة عظمى لديها حلٌّ لمشكلات العالم»، هذا التأكيد كان هجومًا مباشرًا
على الخيار بين «أسلوبَين بديلَين للحياة» الذي طرحه مبدأ ترومان،
٣٦ كما كان تأكيدًا لمس الوتر الحساس لدى كُتابٍ كثيرين في
العالم. والواقع أن فكرة فضاء محايد خارج نفوذ الولايات المتحدة
والاتحاد السوفييتي، كما شهدنا في مؤتمر باندونج لدول أفريقيا وآسيا
وفي حركة عدم الانحياز، هذه الفكرة كانت أمرًا واقعيًّا جدًّا بالنسبة
لبعض الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، كما كانت تشق الصراع
ثنائي القطبية إلى مراكز أيديولوجية متعددة. المعالجة الأدبية لسياسات
«الطريق الثالث» تقدمها «جين فرانكو
Jean Franco» في
المساهمة الأخيرة في هذا الكتاب. بالتركيز على المثقفين في أمريكا
اللاتينية، يفصل المقال التقليد القوي لحرية الإرادة في الأدب
الإقليمي، الذي كان يسعى إلى تطوير جماليات أدبية خاصة، في مواجهة
التدخل السياسي والثقافي،
٣٧ تحرره من التأثير الخارجي وتدعم قضية الاستقلال.
«فرانكو» تقوم بعملية مسح لعمل «جابرييل جارثيا ماركيث
Gabriel García
Márquez » و«آنجل راما
Angel
Rama» و«ماريو بارجاس يوسا
Mario Vargas
Liosa» و«خوليو كورتاثار
Julio
Cortazar» وغيرهم، وتبين كيف أن
إشارات كُتاب من أمريكا اللاتينية إلى اللغات والمعتقدات والممارسات
المجتمعية الأصلية، وبخاصة من خلال الواقعية السحرية، شكلت محاولة
إبداعية لمقاومة قُوى العولمة والحكم العسكري، رغم فشلها في نهاية
الأمر.
على الرغم من فشل المشروع، فإن قوة الإنتاج الأدبي لأمريكا
اللاتينية، والأثر الذي تركته في الحياة العامة، يدلان على أن تحليل
أدب الحرب الباردة ليس سعيًا مقصورًا على فئة قليلة؛ ففي جوانب كثيرة
نجد أن الأزمة والتساؤلات والاهتمامات التي تناولها الأدب بين ١٩٤٥م
و١٩٨٩م هي نفسها تلك الخاصة بزماننا بعد الحادي عشر من سبتمبر.
أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، التي بدأت مرحلة تاريخية جديدة
تقريبًا، كما كانت الميديا تعيد وتكرر، وكذلك مرحلة أخرى في تدعيم
وتقوية الهيمنة الأمريكية. في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فإن
الليبرالية الجديدة البازغة، والرؤية المانوية (الثنوية) للعالم،
والصراع الدائم في الخارج، وعسكرة الحياة العامة، وسحق المعارضة
والاختلاف، وكل ذلك مدعوم من «صناعة ثقافية مستسلمة وجبانة»،
٣٨ كل ذلك لم يطرأ عليه سوى تغير قليل منذ الثمانينيات؛ وعلى
الرغم من أن المصطلحات ربما تكون قد تغيرت من «نزعة التدخل» إلى «تغير
النظام» ومن «الخطر الأحمر» إلى «الرعب الكوني»، فإن المشهد السياسي
يظل كما هو. الشعور بالعجز أمام العولمة يظل كذلك دون «طريق ثالث» يلوح
بين قوى غربٍ تقوده أمريكا والكيان الذي تختار أن تواجهه، إلا أنه عند
مناقشة احتمالات المقاومة، يقدِّم أدب الحرب الباردة أفكارًا كثيرة
مساعدة، وبخاصةٍ إذا تحولنا عن الكتابة الغربية المعتمدة، التي تقرأ
عادة باعتباره تصويرًا دراميًّا للهزيمة، إلى العمل المتورط سياسيًّا
والمؤطر تاريخيًّا في العالمَين الثاني والثالث. هنا وبقوة، يفهم
الكُتاب المجتمع الإنساني باعتباره شيئًا غير ذلك المعطى، ويفهمون أن
هذه الحقيقة الأخرى جديرة بالنضال من أجلها. من هذه المناقشات للقوة
العابرة للحدود القومية، وللعمل الجمعي، والآن في الواقع التاريخي
وشروط احتمالاته،
٣٩ يمكن بناء مفاهيم وممارسات لأدب مقاومة عصري.