الفصل الأول

الخطر الأصفر في الحرب الباردة

فو مانشو والمرشح المنشوري
ديفيد سيد
في خطابه عن حالة الاتحاد في ٨ يناير ١٩٥١م، أعلن الرئيس «ترومان Truman» أن «رجالنا يحاربون إلى جوار حلفائهم في الأمم المتحدة؛ لأنهم يعرفون، مثلنا، أن العدوان في كوريا هو جزء من محاولة الدكتاتورية الشيوعية الروسية، للاستيلاء على العالم خطوة خطوة.»١ هذا الخطاب المجمل، صورة نمطية لخطاب الحرب الباردة، التي لا يمكن أن يوجد فيها صراع منفرد بمعزل عن الصراع العالمي، والذي يستغل الازدواجية القطبية والتعارضات القوية بين «نحن» و«هم» أو «الشرق» و«الغرب» على نحو متكرر. كانت «المعركة من أجل الاستيلاء على عقول البشر»، كما كان يطلق دائمًا على الحرب الباردة، تُشَن من خلال الكلمات والعبارات والاستعارات؛ وكما أوضح ذلك «مارتن جي ميدهيرست Martine J. Medhurst» فإن «العملة المتداولة في صراع الحرب الباردة، أو الشعارات المستخدمة، كانت عبارة عن خطاب بلاغي: خطاب تم تصميمه عن قصد لتحقيق هدف معين مع جمهور معين أو أكثر، أما أسلحة الحرب الباردة فهي الكلمات والصور والأعمال الرمزية، وأحيانًا، أعمال مادية تتم بأساليب سرية.»٢ جدل «ميدهيرست» يمكن تطبيقه تحديدًا على خطاب السياسيين الذي يصفه بأنه أداء لفظي، محسوب ومحدد الوجهة. وإذا قمنا بتطبيق أسلوبه في التناول هذا على ما هو أبعد من هذه المادة — الأعمال الروائية وغير الروائية — للتعليق على الحرب الباردة بوجه عام، سنجد الخطاب نفسه مستخدمًا؛ فالإشارات المتكررة في الخمسينيات عن خسارة الصين بعد أن أصبحت شيوعية، تفترض كلًّا من الامتلاك المسبق و«أيديولوجية» عالمين، هذه الإشارات كانت تجد تعبيرًا لها في أطر متعددة بما فيها التجارة؛ ففي عام ١٩٥٩م ظهر تقرير عن التجارة الغربية بعنوان مثير هو «الحرب العالمية الثالثة»، يبدأ نص التقرير بتحذير صارم: «في كل جزء معمور من هذا العالم، نجد قوى الشيوعية والديمقراطية مشتبكة في صراع عنيف، لا توجد فيه مناطق محايدة.»٣ فكرة الحرب هنا شاملة؛ فهي حرب بامتداد العالم حيث لا وجود إلا لموقفَين أيديولوجيَّين.
كان الخطاب الاستقطابي للحرب الباردة يشيطن العدو الشيوعي بتجريده من كل الصفات الغربية المطلوبة للشخصية الفردية وربما الإنسانية. كان الإنسان السوفييتي الجديد يقدم في صورة كاريكاتورية باعتباره زومبي٤ أو روبوتًا، أما الشيوعية فكانت في نظر «جي إدجار هووفر J. Edgar Hoover» وآخرين، بمثابة انتشار مرض في الجسد السياسي الجمعي، وفي روايات وأفلام الخيال العلمي في الخمسينيات، كان يتم تصوير الخطر الشيوعي على هيئة هجوم أو تحويل تقوم به قرون ويرقات ونمل، إلى غير ذلك من تمثيلات غير آدمية. رواية «محركو الدُّمى The Puppet Masters» (١٩٥١م) ﻟ «روبرت هاينلين Robert Heinlein» على سبيل المثال، تصف عملية غزو تقوم بها طفيليات لا أرضية، لا بد من إلحاق الهزيمة بها على الأرض، ومطاردتها حتى تعود إلى المصدر الذي جاءت منه. وفي حال ما لم يدرك القارئ المعنى، يضمن «هاينلين» مقارنة مباشرة بالشيوعية السوفييتية ليخرج بمغزًى واضح جدًّا عن ضرورة الحذر المستقبلي: «لا بد من أن يكون الجنس البشري في حالة يقظة دائمة.»٥ النهائية والطوارئ، هي المفاهيم الرئيسية التي يركز عليها «هاينلين» هنا، مثلما في عملية الاستحواذ، عندما يكون الوعي الفردي هو أول الخسائر. والواقع أن «تيموثي ميللي Timothy Melley» قد شرح كيف أن المؤامرة تعتبر «الوقاية الذاتية الفردية» نقطة انطلاق لها، ويصل إلى الاستنتاج التالي: «بجعل الأنظمة الاجتماعية والتكنولوجية المختلفة أعداءً للذات، فإن الآراء التآمرية تعمل باعتبارها دفاعًا عن وضع سياسي واضح، أقل منها باعتباره دفاعًا عن الفردية المتصورة على نحو محدد.»٦ وليس هناك مجال للشك في أن مصير الفرد كان أمرًا مهمًّا في خطاب الحرب الباردة وسردياتها، ولكن ما لا يأخذه «ميللي» بالاعتبار، هو كيف يستطيع فرد ما أن يجسد ثقافته رمزيًّا. فالبطل، كما سنرى في رواية «المرشح المنشوري The Manchurian Candidate» (١٩٥٩م) على سبيل المثال، ينظر إليه بداية باعتباره بطل حرب، أي إنه تجسيد لكبرياء الدولة وزهوها بعسكريتها، وعندما يتكشف الأمر عن أنه قاتل مبرمج بواسطة الشيوعيين، نجد هناك متضمنات مقلقة عن هويته الوطنية يمكن التطهر منها، إلى حدٍّ ما، بانتحاره؛ ولعله يصبح من المفيد هنا أن نفكر بالفرد في هذا الإطار، باعتباره يحمل معينات هوية رمزية مختلفة، وأيضًا باعتباره مجالًا لصراع أيديولوجي يظهر نفسه على مسرح العالم الأوسع.
تصادف اندلاع الحرب الكورية مع سك كلمة تطبق مفهوم الحرب على القلعة الذاتية: عقل الشخص. دخل مصطلح «غسل الدماغ» اللغة الإنجليزية في ١٩٥٠م ليصف عملية إعادة التربية التي كان يقوم بها الشيوعيون الصينيون، وتم تطبيقه بسرعة على أسلوب التعامل مع أسرى الحرب الأمريكيين في الحرب الكورية. كان «إدوارد هنتر Edward Hunter»، الصحفي وأحد المتعاونين مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) هو الذي سك هذا المصطلح، وأصبح يُستخدَم منذ ١٩٥٣م وما بعدها، باعتباره دعاية مضادة للاتهامات الشيوعية الموجهة للولايات المتحدة بأنها كانت تستخدِم أسلحة بيولوجية في كوريا. من خلال تقرير «هنتر» الذي نُشر لأول مرة بعنوان Brainwashing في ١٩٥٦م، ثم أُعيدَت طباعته في أكثر من مرة في الستينيات، أصبح يتم شيطنة الممارسات الشيوعية، مثل استخلاص الكلمات من وعي أسرى الحرب الذين يُدلون باعترافات، كما أصبح يُعتَبر تمثيلًا «لاستراتيجية سياسية تهدف إلى التوسع والسيطرة».٧ المصطلح — بالطبع — استعاره تجمع بين الذهني والمادي، وسرعان ما أصبح «غسل الدماغ» صورةً قوية في شيطنة الممارسات الشيوعية، وكان يحمل في تطبيقاته، دائمًا، دلالات على «رَوْبَتة» الفرد (أي تحويله إلى روبوت)؛ وما حدث هو أنه في إطار نظام يطبق مثل هذه الممارسة، لم يَعُد لمفهوم الفردية أي معنًى بعد أن أصبح المواطنون بكل بساطة مجرد آلات يحركها من يقومون بتشغيلها. الهدف، كما كتب «هنتر»: «هو تغيير العقل جذريًّا بحيث يصبح صاحبه دميةً حية — روبوتًا آدميًّا — دون أن يكون العداء مرئيًّا من الخارج؛ أي صنع ميكانيزم من لحم ودم، بمعتقداتٍ جديدة وعملياتٍ عقليةٍ جديدةٍ مقحمة في جسَد أسير.»٨ وعلى الرغم من أن «غسل الدماغ» كان موضع شك في حالات مثل «كاردينال ميندزينتي Cardinal Mindszenty»،٩ فإن المصطلح استمد كثيرًا من قوَّتِه من ارتباطه بالممارسات الشيوعية الآسيوية، وقد تمت شيطنتُه، على نحوٍ خاص، بمجرد أن بدأ الأسرى الأمريكيون يعودون إلى بلادهم حاملين معهم حكاياتٍ عن خضوعهم لحيل وألاعيب من قاموا بأَسْرهم. منذ منتصف الخمسينيات وبعدها، ظهرَت سلسلة من الروايات والأفلام التي تتناول الذعر من غسل الدماغ، وكان هذا الأمر يؤخذ بجدية واهتمام لدرجة أن إدارة الرئيس أيزنهاور أصدَرَت مدونة سلوك للعسكريين.١٠
أشهر عمل روائي عن غسل الدماغ١١ هو رواية «ريتشارد كوندون Richard Condon» الصادرة عام ١٩٥٩م بعنوان «المرشح المنشوري The Manchurian Candidate» التي استمدت الكثير من مادتها — كما سنرى — من جلب غسل الدماغ إلى الوطن في الولايات المتحدة، وفي العام نفسه الذي نشر فيه «كوندون» روايته، نشر الكاتب الصحفي «إيوجين كنكيد Eugene Kinkead» — في هيئة كتاب — تقريرًا كان قد ظهر قبل ذلك بعامَين في مجلة «نيويوركر» عن أسرى الحرب الأمريكيين في كوريا. هذا الكتاب، الذي كان بعنوان «في كل الحروب، باستثناء واحدة In Every War But One»، ساعد في الترويج لمفهوم مفاده أن الحرب الكورية كانت فريدة، ليس فقط لأن عددًا من الأسرى كان قد تم تلقينهم وتدريبهم بواسطة الشيوعيين لكي يعودوا إلى أمريكا؛ حيث سيعملون باعتبارهم عملاء للعدو بعد فترة انتقالية تقدر بخمس أو ست سنوات؛ فقد «كان الرجال الذين تتكون منهم المجموعة التي تم الكشف عنها»، كما يقول «كنكيد»، «كانوا في معظمهم نائمين»،١٢ أي لم يسبق لهم أن كانوا محسوبين على الشيوعية أو موالين لها. وهناك كذلك تعقيد أبعد في تحديد هوية أولئك الأشخاص ناشئ عن حقيقة كون «أولئك الناس قد تم تدريبهم لكي يكون سلوكهم وتصرفاتهم عادية ومتسقة لعدة سنوات بعد ترحيلهم، لا يلفتون الانتباه إليهم، وبالتأكيد، لا يشاركون في أي أنشطة راديكالية.»١٣ هذا النموذج يتكرر بحذافيره في رواية «كوندون». بطل روايته «ريموند شو Raymond Shaw»، وهو شخص سلطوي، يجد وظيفة باعتباره صحفيًّا في نيويورك بعد عودته من كوريا، ليست لديه أي اهتمامات سياسية، سواء راديكالية أو غيرها. ما حدث هو أنه قد تم غسل دماغه تمامًا، لدرجة أن برمجته العميقة لم يَعُد لها علاقة بحياته الواعية، باستثناء تشغيل المفاتيح أو الزنادات، التي سوف تجعله يتحرك باعتباره قاتلًا. الزناد اللفظي هو عبارة تقول «لماذا لا تمضي قليلًا من الوقت في لعب السولتير؟»١٤ أما الزناد المصور فهو صورة البنت الدينارية في ورق الكوتشينة.
رواية «المرشح المنشوري» تدمج الخوف من الشيوعية بالخطر الأصفر الذي هو صورة أقدم للمؤامرة. سرديات الخطر الأصفر يعود تاريخها إلى أواخر القرن التاسع عشر، وهي تُصوِّر المخاوف من الهجرة الصينية التي سوف تنتهي بالاستيلاء على أمريكا. رواية «آخر أيام الجمهورية The Last Days of the Republic» للكاتب «ب. دبليو دوونر P. W. Dooner» (صادرة في ١٨٨٠م)، تُصوِّر على نحو مروع، كيف يأتي ملايين الصينيين إلى الولايات المتحدة تحت ستار أنهم عمال غير مهرة، ثم يتقدمون للاستيلاء على البلاد. النتيجة، هي الضياع الكامل للهوية الوطنية، وعلى الرغم من كآبة موضوعه، لا يستطيع «دوونر» أن يخفي إعجابه بهذا «التصور الذي لا يمكن التكتم عليه»،١٥ وقد أضاف «جاك لندن Jack London» صوته إلى تلك التحذيرات في مقال له بعنوان «الخطر الأصفر The Yellow Peril» نشره في ١٩٠٩م في كتابه Revolution and Other Essays، عندما قال: إن «الخطر على العالم الغربي» يكمن تحديدًا في وجود صين ناهضة.١٦ في التاريخ الذي كتبه عن الخطر الذي يواجه أمريكا، كما تعبر عنه سلسلة من الروايات من ١٨٨٠م وما بعدها، يوضح لنا «وليم إف وو William F. Wu» كيف أن «فو مانشو» أصبح هو التجسيد الفائق لذلك الخطر، بتركيز سلسلة كاملة من السمات المرتبطة بآسيا أكثر منها بالصين تحديدًا، وبامتلاك مهارة في الاغتيال فريدة في نوعها ومتعددة الجوانب.١٧ روايات «ساكس رومر Sax Rohmer» عن الدكتور فو مانشو، التي بدأت في ١٩١٣م أعطت للخطر الصيني تعبيره الأشهر والأكثر ميلودرامية. في الرواية الأولى من السلسلة The Mystery of Dr. Fu-Manchu لغز د. فو مانشو» العنوان الأمريكي The Insidious Dr. Fu-Manchu د. فو مانشو الماكر، في هذه الرواية نجد خصمه الإنجليزي «سير دينيس نيلاند سميث» يصف «فو» على النحو التالي:
«تخيَّل شخصًا طويل القامة، نحيلًا، ماكرًا، مرتفع الكتفَين، له حاجب يشبه حاجب شكسبير ووجه مثل الشيطان، رأسه حليق تمامًا، وعيناه مغناطيسيتان خضراوان، زوده بكل حيَل المكر والخداع الشرقية المتجمعة في مثقف مارد، مع كل مصادر العلم الماضي والحاضر، تخيَّل كائنًا مروعًا بهذا الشكل وستكون لديك صورة ذهنية للدكتور مانشو؛ إنه الخطر الأصفر مجسدًا في رجل واحد.»١٨
ملامح «فو» محددة بوضوح وقوة لكي تعطي القارئ مزيجًا من الصفات؛ فهو محترم ومثقف ومبدع، وفي الوقت نفسه شيطان يجسد جنسه وجدير بما يحمله من جاذبية وسحر، ومنذ البداية هو شخصية «أكبر من الواقع» مطلوب أن يخلقها القارئ. وكان يكتب «وو Wu» «بجَعلِ فو مانشو مرتبطًا بكل الجوانب الشريرة في الصورة الصينية التي كانت موجودة في أوائل القرن العشرين؛ فإن «رومر» كان يؤكد أن الأوغاد الصينيين سوف يثيرون في المستقبل ذكريات عن فو مانشو، وأن ذلك سوف يستمر لسنوات طويلة قادمة.»١٩

كانت هذه الشخصية في سلسلة «رومر»، تمثل نزعة ثقافية مجردة من المبادئ الأخلاقية ومحرِّضة ضد الثقافة الغربية. «فو» يخطط باستمرار من أجل «تغيير العالم» الذي سيأتي بنظام جديد يقوم على النموذج الشرقي. روايات «رومر» تبرز صراعًا فكريًّا بين «فو» و«نيلاند سميث». كلاهما بارع في تغيير الشكل، ويقوم باستمرار بتغيير ثيابه التنكرية حسب المقتضيات الدرامية للرواية، الأهم من ذلك كله أنه في الروايات التي جاءت بعد ذلك، لا شيء يحدث عندما يتمكن أحدهما من قتل الآخر. الفرصة لا تُستغل لأن دور كلَيهما يعتمد على وجود الآخر. «فو مانشو» و«نيلاند سميث» كلاهما يدور حول الآخر عبر السلسلة، ويعيد على نحو مستمر تمثيل صراع درامي بين الغريب (الخطِر) والغرب (المدافع)، وهو أمر أكبر من أن تستوعبه رواية مفردة، ويمكن أن يمتد إلى ما لا نهاية.

كان من السهل تحويل القطبية المألوفة في روايات «رومر» — جماعات فو الصفراء ضد الغرب — لكي تُوضَع في إطار الخطاب الإجمالي للحرب الباردة، على الأقل نظريًّا؛ وما حدث هو أن الإشارات إلى «وغد رومر» كانت تتكرر كثيرًا في مناقشات الشيوعية الآسيوية في فترة الحرب الباردة. عندما أسر الكوريون الشماليون «لويد إم بوشر Lloyd M. Bucher» قائد الغواصة الأمريكية «بوبلو» في ١٩٦٨م، كان المحقق العسكري الذي يقوم باستجوابه «أشبه بوغد دمِث، خارج من إحدى روايات فو مانشو.»٢٠ «رومر» نفسه غيَّر مكان الإقامة إلى الولايات المتحدة، وأعاد — عن وعي — إحياء سلسلة فو مانشو، متوقعًا أن تسفِر الحرب الباردة عن تلقٍّ إيجابي من القراء، ومن دواعي السخرية أنه عندما وجد الطريق مسدودة أمام مشروعه لروايات وأفلام سينمائية جديدة، بدأت الشكوك تساوره بأن ذلك كان نتيجة «معارضة نشِطة من النفوذ الشيوعي.»٢١ كما نُقل عن «رومر» أنه قال أثناء الحرب الكورية: إن دكتور فو مانشو «كان ما زال عدوًّا يُحسب له ألف حساب، ويشكل خطرًا كالعادة وإن كان قد تغيَّر مع الزمن. الآن هو ضد الشيوعيين الصينيين، وضد الشيوعيين في كل مكان في الحقيقة، وأنه صديق للشعب الأمريكي.»٢٢ في رواياته الصادرة بعد الحرب، تعمل الشيوعية أحيانًا باعتباره عنصرًا ثالثًا لتعقد ما فيها من دراما. في رواية «ظل فو مانشو The Shadow of Fu-Manchu» الصادرة في ١٩٤٨م نجد فو مانشو نفسه يتحدث باعتباره منظِّرًا يمينيًّا: «مهمتي هي إنقاذ العالم من جذام الشيوعية.» وهو يتكلم مع نيلاند سميث، «أنا فقط من يمكنه أن يفعل ذلك، وليس بسبب أي حب للشعب الأمريكي، وإنما لأن الولايات المتحدة إذا سقطت؛ فإن العالم كله سوف يسقط.»٢٣ في تناظر واضح مع القنبلة؛ فإن سلسلة أحداث الرواية مؤسسة على تطوير أمريكي لجهاز لتحويل المادة، وهو ما سوف يصبح سلاح الدفاع النهائي (رومر استوعب بالفعل سياسة الولايات المتحدة المقررة عن استخدام القنبلة)، وبذلك يجتذب عملاء من دول مختلفة عازمة على سرقة المخطط. «نيلاند سميث» يتوقع تطابقًا بين الشيوعية وفيروس انتشر في الخمسينيات، عندما يعلن «هناك وباء شرقي غامض يزحف على الغرب.»٢٤ هدفه الرئيسي في رواية الجاسوسية هذه، يكمُن في تحديد خصومه؛ وبمناقشته لهذه المشكلة يفكر أولًا في منظمة فو مانشو ثم في منظمة الشيوعيين، وعندما يقفز رفيقه إلى الاستنتاج أن أحد الروس كان نشطًا، يرد «نيلاند سميث» بسرعة «ولماذا روسي؟ إن رجالًا من ذوي النفوذ والحيثية في دول أخرى يعملون لحساب الشيوعية، التي تقدم مكافآت مغرية. لماذا لا يكون أحد مواطني الولايات المتحدة؟»٢٥ وضع الحرب الباردة يضاعف القوى المصطفَّة ضد بعضها، على الرغم من أن «رومر» يكبح هذا التعقد السياسي الجديد في النهاية لكي يحافظ على منطق «نحن/هم» في حبكته الروائية التي تحل نفسها في الصراع المألوف بين فو مانشو والغرب. في آخر الأمر، يحبط «فو» التجربة التي يمكن أن تؤكد كفاءة السلاح الفائق، ويفر من نيويورك.
التمييز النظري بين الخصوم المختلفين للغرب يصل إلى نقطة الانكسار في رواية «الإمبراطور فو مانشو Emperor Fu-Manchu» (١٩٥٩م)؛ حيث ينتقل مسرح الأحداث إلى الصين. الرواية تُصوِّر — على نحو درامي — صراعًا يركز على المصير المباشر للصين؛ حيث ينظر إلى الشيوعية مجددًا باعتبارها نتيجة غزو وربما سرقة، كما يصوِّر لاعبين من أصول قومية مختلفة يقدمون أوراق اعتمادهم، من خلال القدرة على التنكر باعتبارهم صينيين. عند هذه النقطة تقترب رمزية «رومر» من التناقض. في روايات «فو مانشو» الباكرة كانت رموز الشر صورًا عرقية صينية نمطية قوية، وعليه فإن مصطلح «الأصفر» مستخدم باعتباره دالًّا شاملًا، يغطي خصائص المكر والخداع وانعدام الوازع وغياب احترام الفرد. في روايات «رومر» قبل الحرب، كان يكفي أن يكون في الشخصيات «عرق أصفر» ضمن سلسلة نسبها؛ لكي يدمغهم بأنهم غزاة أجانب وبأنهم فاسدون؛ وأيًّا كانت معتقدات تلك الشخصيات؛ فإن الحتمية العرقية هي التي تسود في تصنيفها. في رواية «الإمبراطور فو مانشو»، كان لا بد من أن يكون هناك صينيون جيدون وآخرون فاسدون؛ لكي يكون للحدث معنًى. الآن يضع «رومر» تمييزًا بين الشيوعيين الصينيين وسواهم الملتزمين بحركة الصين الحرة، الذين نجحوا، حتى الآن، في الممارسة في تجنُّب التحول الثقافي الشيوعي. يتضح فوق ذلك أن أهم الصينيين في تراتبية شخصيات الرواية هم غربيون متنكرون. كان «نيلاند سميث» قد بدأ حياته الروائية تجسيدًا للعناد البريطاني، ثم تم تعديل ذلك إلى عميل استخبارات أمريكي في الثلاثينيات، ثم يصل التحول النهائي في «الإمبراطور فو مانشو» إلى بوذي صيني.
وكما في رواية «رومر» السابقة؛ فإن محور فعل الإمبراطور فو مانشو هنا سلاح، وهو مرفق روسي في جنوب الصين يقوم بتطوير وباء رئوي. مرة أخرى نجد «فو مانشو» هنا معارضًا صلبًا للشيوعية «هدفي هو سحق الشيوعية»، ولكنه الآن في لقائه الاضطراري بنيلاند سميث، يزعم أن الرجلَين لديهما «أرضية مشتركة» بحكم أن عدوهما مشترك.٢٦ يظل «سميث» غير متأثر بهذا الإغراء؛ لأنه يدرك أن هناك سرَّين خطرَين متساويَين، يكمنان في سلسلة الأحداث: المشروع الذي يتم السعي إليه في المعسكر الروسي، والحلم النابليوني لفو مانشو بتطهير الصين من الشيوعية من خلال جمعيته السرية «سي فان Si-Fan».٢٧ وعلى الرغم من أن «فو» يطرح نفسه باعتباره معاديًا للشيوعية؛ فإن الرواية تكشف، على نحو يدعو للسخرية، عن صور انعكاسية للشيوعية ومنظمته. «فو» يحلم، مثل ستالين، بأن يكون حاكمًا مطلقًا لنظام عالمي جديد. جمعيته السرية مجرد محاكاة للسرية الثقافية للصين الشيوعية، كما أنه يزعم أيضًا أنه يمتلك سلاحًا فائقًا بإمكانه أن يعكس مجالًا صوتيًّا على مدينة. عندما تدخل الرواية أدب الخيال العلمي، تصبح هذه التشابهات أكثر تحديدًا. الروايات الغربية عن غسل الدماغ الصيني، وصفت العملية بأنها اختزال الإنسان إلى كيان آلي، يطيع توجيهات سيد جديد بكل سلبية. في رواية «ظل فو مانشو» نجد أن أكثر الشخصيات بشاعة هي إنسان آلي شبه أفريقي تم تخليقه عن طريق التشريح، وفي رواية «الإمبراطور فو مانشو» هناك مجموعة كاملة من العاملين الذين يمثلون في مجموعهم ذلك الخضوع التام الذي يطلبه من يريد أن يكون إمبراطورًا. رجال «فو» الباردون (الذين يطلق عليهم «الموتى الأحياء» بواسطة الصينيين) هم داكيت٢٨ بورميون، تم إخضاعهم إلى مستوى الطاعة العمياء عن طريق عمليات جراحية غير مشروعة، فتحوَّلوا إلى مجرد جثث أو «مواطنين موتى» بالمعنى الحرفي للكلمة.٢٩ هذه الكائنات تجسد الخضوع التام لأفكار فو مانشو بعد التنويم. برمجتهم تجمع بين المهارة الطبية والتفحص الذهني الذي يصل إلى مستوى التخاطر. بمجرد ربط هؤلاء الرجال الباردين على الأسِرَّةِ، يقال للمراقبين الغربيين المرعوبين «الآن ستبدأ أهم جوانب العلاج، سيقوم «المعلم» بإبراز الصور الملائمة لكل كائن حسب شهيته عندما كان رجلًا عاديًّا. سيبرز لأحدهم هيئة عدوه مثلًا، ولآخر وليمة من طعامه المفضل، ولثالث صورة امرأة مغوية، وهكذا.»٣٠ أصداء «عالم جديد شجاع Brave New World» ﻟ «هكسلي Huxley» في عيادة فو مانشو توحي بشكل من السيطرة، يجعل الهواجس الغربية عن التلاعب الفيزيقي والعقلي بواسطة الدولة الأمة التكنولوجية، واقعًا. في رواية «رومر»، تؤكد الطبيعة نفسها، عندما تهاجم قوات «فو» المعسكر الروسي، وتدمر عاصفة كهربائية غريبة برمجة الداكيت فيصبحون خارج السيطرة.
الرواية التي تقف بالتحديد وراء ميلودراما «المرشح المنشوري»، هي رواية «الرئيس فو مانشو President Fu-Manchu» (١٩٣٦م). هنا زعيم كاثوليكي، يحذر من خطر الدكتاتورية المحدق بالولايات المتحدة، يحاول منافسوه إخماد صوته باختطافه وقتله. المشهد السياسي المحلي — هكذا — مؤسس باعتباره صراعًا بين قوى الديمقراطية الليبرالية الحصينة، وتيار صاعد من الدهماوية، يقوده «هارفي براج» ورابطته اليمينية من الأمريكيين الطيبين. خلفية الرواية هي الابتزاز الوطني والآمال البدائية الطوباوية وتوقع دكتاتورية أمريكية، وهو موضوع تم تناوله في رواية الكاتب «سنكلير لويس Sinclair Lewis» الصادرة في ١٩٣٥م بعنوان «لا يمكن أن يحدث هنا It Can’t Happen Here»، وهكذا فإن القضية المطروحة هنا، كما هو معتاد عند «رومر»، قضية أساسية وهي مصير الدولة، وكما هو معتاد كذلك عند «رومر»؛ فإن هوية القوى المعارضة أبعد من أن تكون واضحة. «نيلاند سميث»، الذي يعاد تصنيفه الآن ﺑ «العميل الفيدرالي رقم ٥٦»، يموِّه الأحداث الغامضة التي تقع، على النحو التالي: «هنا قصة منظمة خارجية تهدف إلى السيطرة على الدولة.»٣١ لعبة السياسة الداخلية بالنسبة له ليست أكثر من ستارة دخان تخفي وراءها خطرًا أعظم، تتم شيطنته بأنه خارجي وغريب (حيث لديه فكرة جيدة عن أن فو مانشو هو الذي يحرك الأحداث) وإدارتها تتم على مستوًى لا يمكن تصوره من وجهة نظر السياسة التقليدية. «رومر» يتوقع صور السيطرة على العقل بعد الحرب؛ فيوضح كيف يقوم فو مانشو بإضعاف عقل الزعيم الكاثوليكي الليبرالي بإحداث فجوات في ذاكرته، وبالمثل يقف «فو» وراء الأداء الانتحاري الضعيف لزعيم ليبرالي آخر عندما يناقش السياسة مع «براج». في الحالتَين تتبدَّى صور من آثار ما بعد التنويم.

هذا هو الشاهد الأبرز الذي يكشف عن الصلة القوية بين هذه الرواية و«المرشح المنشوري»، وبينما تصل ذروة الرواية الثانية في مؤتمر سياسي؛ فإن الذروة المشابهة في «الرئيس فو مانشو» تحدث في الجدل السياسي الذي يتم بين «براج» والزعيم الليبرالي في قاعة «كارنيجي». قبل هذا الجدل مباشرة، يقوم «فو» بتخدير قاتل محترف محلي وتلقينه تعليماته النهائية:

تمت السيطرة على نظرته المحدقة وتثبيتها بواسطة عينَين خضراوَين مفحمتَين، لا تبعدان سوى بوصات قليلة عن عينَيه. يداه القويتان كانتا متشبِّثتَين بجانبَي المقعد، بقي متصلبًا على هذا الوضع. «أتفهم؟» قال الصوت الغريب بنبرة منخفضة، «كلمة الأمر هي آسيا.»
أجاب جروسيت: «أفهم. لن يوقفني أحد.»
ردد فو مانشو بشكل رتيب: «الكلمة هي آسيا.»
وردد جروسيت خلفه: «آسيا.»
كان الصوت يبدو وكأنه قادم من أعماق بحيرة خضراء: «إلى أن تسمع تلك الكلمة انسَ، انسَ كل ما عليك أن تفعل.»
«نسيت.»٣٢

قدرات «فو» التنويمية تظهر هنا بداية في قوة تحديقته، ثم في نبرة صوته المتَّسمة بالتكرارية؛ وكما يحدث بالنسبة للمرشح المنشوري تمامًا، يتم تحويل «جروسيت» إلى أداة سلبية تحمي من يقوم بتشغيلها فجوة محدثة في الذاكرة، وتحفز على الفعل الرئيسي عبارة منبهة. المستهدف في «المرشح المنشوري» هو الخصم السياسي للدهماوي فقط، أما هنا فالمستهدف هو الدهماوي نفسه. لم يكد «براج» يكسب الجدال، حتى يُقتَل بإطلاق النار عليه ليأخذ مكانه سياسي يميني آخر، وهو إحدى دُمى فو مانشو. ولضمان ألَّا يفهم أحد، ممن لم يكونوا على علم مسبق بالجريمة، شيئًا من عملية الاغتيال، يقوم الحرس الشخصي ﻟ «براج» بإطلاق الرصاص على «جروسيت» في الحال.

رواية «الرئيس فو مانشو» تسبق رواية «المرشح المنشوري» في تشككها حيال الجمهور الأمريكي، والروايتان تظهرانه باعتباره جمهورًا سطحيًّا يمكن التلاعب به وسهل الانقياد لآلات الحزب، وأنه مخدوع باعتقاده أن «براج» هو «أعظم رجل دولة منذ لنكولن».٣٣ في كلتا الروايتَين، يعمل أثر ما بعد التنويم باعتباره نظيرًا لآثار عمليات مالية. الزعيم الكاثوليكي يحذر كل الأمريكيين «إنه يتم شراؤكم بأموال غريبة.»٣٤ في إحدى مراحل القيام بدورٍ ما، يشير «براج» إلى تعلم سيناريو جرى إعداده في مكان آخر، وهو الوعي الذي يطوره «كوندون» إلى عبارة مجازية تعبر عن زيف الحياة السياسية الأمريكية بعد الحرب. الكاتبان، يستكشفان قدرة المتآمرين على امتلاك الصور والشعارات القومية المرجوة لأهدافهم الخاصة. «فو»، على سبيل المثال، يقوم بتصميم جهاز لتحويل وجه «دانيل ويبستر» على طابع بريد أمريكي؛ لكي يبدو وجهه هو. هذا الجهاز لا يخدم أي هدف في السرد تقريبًا، ولكنه مستخدم لتذكرة القارئ بعمليات الإزاحة التي يحاول «فو» القيام بها. «رومر» يظهر لنا «فو مانشو» وهو يستغل العالم السفلي الأمريكي لتحقيق طموحاته، و«كوندون» يبرز تطابقًا ساخرًا أكثر بين القوى الشيوعية الخارجية وأعمال اليمين الأمريكي.
يبدأ السرد في «المرشح المنشوري» من عام ١٩٣٦م (وهو عام محاكمات موسكو الهزلية عام صدور «الرئيس فو مانشو»)، عندما بدأت — افتراضًا — عمليات شرطة ستالين السرية بقيادة «بريا»، لإنتاج «القاتل سابق التجهيز بكل إتقان»٣٥ — بعبارة كوندون — الذي يقطع سرده، من وقت لآخر، بإشارات إلى الخطر الأصفر مستوعبة بسلاسة في ميلودراما المؤامرة الشيوعية هذه. من هذه الإشارات الباكرة، سجادة صفراء مستخدمة في معسكر السجن الخاص المقام على الحدود الكورية. هذا الأمر يلمِّح إلى الشخصية التي ستشكل معادل «فو مانشو» عند كوندون أو «ين لو»، الصيني الذي سيقوم بغسل الأدمغة. يتم وصفه في مشهد مسرحي نجده يوسع فيه نظريته في الارتباط الشرطي:
«كانت خشبة المسرح مرتفعة على الأرض بمقدار ثلاثين بوصة تقريبًا وعلى الأجناب أعلام الاتحاد السوفييتي وجمهورية الصين الشعبية. «ين لو» واقف خلف المنضدة الصغيرة الموجودة في المنتصف، في رداء أزرق يصل إلى الكاحل، مزرر على جانب رقبته. بشرة وجهه تملؤها ثنيات أفقية متراكبة كأنها جوانب زورق صغير، ولها لون الكبريت الخام. عيناه يغطيهما غماء يلقي عليهما بظلال تجعله يبدو أكبر سنًّا مما تجعله تجاعيد وجهه. كان المنظر كله تهكميًّا، متكلَّفًا، كما لو كان قد تم إبلاغه، على نحو عاجل، بأن الراحل «فو مانشو» كان عمه.»٣٦

«كوندون» يستغل هذا الشكل المسرحي والسلوك المتكلَّف الذي لا يمكن تجنبه، لتقديم شخصية تشبه «فو مانشو». ثياب «ين لو» تميزه بوضوح عن «الرداء» الرسمي للمسئولين الشيوعيين، كما يجذب لون بشرته انتباه القارئ إلى تجنب «كوندون» المدروس للمصطلح المتوقع، أي «الأصفر» (رغم أن الكبريت يحمل، بالمثل، دلالات سلبية للجحيم). ومثل «فو»، فإن «ين لو» عجوز وحكيم ويمتلك معرفة وحكمة قديمتَين مما تمنحانه اتزانًا ورباطة جأش أكبر، وتهكمية على السوفييت الحاضرين. وبينما ليس له عينا «فو» الخضراوان المنوِّمتان، فكَون عينَيه مغطَّاتَين بغماء، يعطي إيحاءً مختلفًا بالمكر وبالأهداف الخفية؛ كما أن مصطلح «كوندون» «رداء» يوحي بالأنوثة، التي تشير، كما سنرى، إلى الشخص الآخر الذي يشبه «فو مانشو» في هذه الرواية.

«المرشح المنشوري» تدمج المؤامرة الفرويدية بالشيوعية. العدو البعيد ﻟ «ريموند شو» هو «ين لو» بالطبع، ولكن «مُشَغِّله» الحقيقي هو أمه، وهنا يستخدم كوندون مصطلح «المُشَغِّل» بالمعنيَين السياسي والجنسي والنفسي. في مشهدَين رئيسيَّين، توصف الأم بأنها كانت ترتدي ثيابًا صينية. في الأول، ترتدي سترةً منزليةً برتقالية/حمراء قانية (أي إنها تجمع بين اللونَين اللذَين يرمزان إلى الخطر الثقافي: الأحمر والأصفر)، لها ياقة مرتفعة، سوداء اللون (على الطراز الإليزابيثي) توحي بالقوة. هنا، هي تقوم بدور ملكة وإمبراطورة، ومن هنا فإن الصورة المحفزة هي الملكة الدينارية في أوراق الكوتشينة. في المشهد الثاني يتم الكشف عن هويتها الحقيقية.

عيناها الزرقاوان المغناطيسيتان المتباعدتان كانتا تلمعان وهي تتكلم، بقوامها المتماسك كانت تبدو أكثر رشاقة. كانت ترتدي ثوبًا صينيًّا فاتح اللون، يضيف إلى ذلك التناقض مع لون عينَيها.٣٧
عينا «فو مانشو» المنوِّمتان تعاودان الظهور الآن في صدى لون ثوب «ين لو»؛ وكما هي الحال بالنسبة ﻟ «فو»؛ فإن عينَي الأمِّ الثاقبتَين تقلِّلان المقاومة، وما ينقصها من طولٍ تعوِّضه في طريقة المشي. كذلك يبدو عليها إدمان للمخدرات أشبه بضعف «فو مانشو» أمام الأفيون. هذا أحد أهم المشاهد في «المرشح المنشوري»؛ لأن «ريموند» هنا يتلقَّى توجيهات بخصوص من سيقوم بقتله. وكما كان الأمر في المشهد المماثل في «الرئيس فو مانشو»، تقوم معلمة «ريموند» بخفض صوتها لكي تتأكد من أن كلماتها تخترق وعي الشخص. مشاهد كتلك، جعلت «وولتر بووارت Walter Bowart»، المحلِّل الاستخباراتي، يكتب: «الأساليب الفنية التي وضعها «كوندون» كان قد تم تطويرها واستخدامها بواسطة الولايات المتحدة، وليس بواسطة الصينيين أو الشيوعيين.»٣٨ ويقول «بووارت»: إن الحرب الباردة أحدثت انتشارًا عجيبًا لكثير من الظواهر في كثير من أجهزة الاستخبارات الغربية. ولأنها كانت ملتزمة برؤية للعالم ينبغي فيها شيطنة الشيوعية باعتبارها لا إنسانية، وبأنها لا بد من أن تتفوق عليها، انغمست الولايات المتحدة في أبحاث أدَّت إلى تطوير الأساليب والتقنيات نفسها التي كانت تهاجم استخدام العدو لها.
في رواية «المرشح المنشوري»، يتم خلق دور «أم ريموند» بواسطة إزاحة «كوندون» للخطر الأجنبي، وترحيله إلى المشهد المحلي. وكما يشير «مايكل روجن Michael Rogin»، فإن الخطر الشيوعي (الذي يمثله الخطر الأصفر) يتم جلبه إلى الوطن، وينتقل على نحو مضاعف في داخل الولايات المتحدة وداخل النفس؛ بحيث يصبح ريمون «حاملًا له»؛ ويقوم، لا شعوريًّا، بدور العميل الغازي.٣٩
«كوندون» يترك أصل هذه العملية غامضًا، رغم أن التصوير البصري المرتبط بأم ريموند، يعطي القارئ لمحة عن الدور الذي تقوم به. تصف «إيلين تيلر ماي Elaine Tyler May» الدور الرئيسي للبيت في الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة، فتقول: «في كل الأعمال الدعائية للدفاع المدني بالفعل، كانت العائلة هي التي تمثِّل السلامة.»٤٠ وبداخل هذه العائلة النووية بالطبع، كان للأم الدور الرئيسي الذي تقوم به، ولكن «ماي» تجد تطابقًا بين «ترويض مخاوف العصر الذرِّي وترويض النساء»، الأمر الذي يجد تأكيدًا مباشرًا ومدهشًا في «المرشح المنشوري».٤١ بدلًا من أن تكرِّس نفسها للدعم داخل البيت؛ فإن أم «ريموند» تغامر بدخول مجال السياسة النَّشِطة من خلال المشاركة من وراء ستار. وهكذا، فإن البيت الذي كان من المفترض أن يقدم ﻟ «ريموند» المأوى والدعم، يتضح أنه مكان للخيانة، أما العنصر الرئيسي في هذه الخيانة فهو أمه.
«المرشح المنشوري» تراجع سرد «ريموند» عن المؤامرة في عدة جوانب مهمة، ليس أقلها شطر «فو مانشو» إلى شخصيتَين: المخطط والمتلاعب. نزعة المحافظة، من ناحية النوع، عند «رومر» منعكسة في حقيقة أن النساء في سرد «فو مانشو» ليس لها سوى أدوارٍ ثانويةٍ أو رومانتيكية، بينما في أم «ريموند» فإن صنف الوغد الأجنبي تتمُّ إزاحته عبر هُويَّات وطنية ونوعية، إلى شخص في قلب المؤسسة السياسية الأمريكية. في الرواية، وعلى نحو أكثر وضوحًا في إعدادها السينمائي، نجد الوعي بالاستخدام الذي يُسجِّله ضحايا فو مانشو من وقتٍ لآخر، مركزًا في الميجور «ماركو»، الضابط زميل «ريموند». هو الشخص الوحيد الذي يحتفظ بذاكرةٍ مشوهةٍ عن معسكر التلقين، وبعد ذلك يرأس عملية التحري في المؤامرة. في مرحلةٍ ما، يعترض «ماركو» على «ريموند»: «ماذا تظنني أكون؟ آلة؟»٤٢
ومن دواعي السخرية، أن يقع «ماركو» بعد ذلك مباشرة فريسة، مرة أخرى، لكابوسه الذي يتردَّد من وقتٍ لآخر، وهو أن «ريموند» ينفِّذ تعليمات «ين لو» بإعدام اثنَين من زملائه أسرى الحرب. «ريموند» يكوِّن انطباعًا عن «فو» بأن يقوم تدريجيًّا بالكشف عن جوانب مختلفة من الخبرة التي يمتلكها، وبجعله في خلفية السرد في معظم الأوقات؛ وبذلك يأخذ وضع قوةٍ تبدو عصية على المقاومة؛ لأن القارئ لا يمكن أن يتأكَّد من المستوى الذي يعمل عليه، سواء أكان ذلك من خلال التنويم المغناطيسي أم أي وسيلة أخرى. جزء مهم من سرديات «رومر» يتكون دائمًا من محاولات لفهم الطبيعة الدقيقة لذلك الخطر الخاص الذي يمثله «فو». الحقيقة أن أفعاله تبدو أحيانًا على حافة الخارق للطبيعة، و«كوندون» يضمن مثل تلك الإمكانية بتصوير غسل الدماغ باعتباره شكلًا جديدًا من أشكال الاستحواذ الشيطاني. «ماركو» يشعر بنفسه يكافح مع «سقوبة»٤٣ ويشرح ﻟ «ريموند»: «إنهم الآن بداخل عقلك وأنت لا حول لك ولا قوة. أنت جسد مضيف وهم يتغذَّوْن عليك.»٤٤ في «المرشح المنشوري»، قوات الأمن الأمريكية، لا تواجهها فقط مؤامرة جديدة، وإنما نوع جديد من الخطر عليها أن تفهمه بالتدريج. «كوندون» يؤجل — بحذر — استخدام مصطلح «غسل الدماغ» إلى أن تبدأ التشعبات الكاملة للحبكة في الظهور. رواية «الرئيس فو مانشو» تقدم منظمة «فو مانشو» بوصفها صورة مرآة ضبابية ﻟ «مكتب المباحث الفيدرالي FBI»؛ حيث السلطة واتخاذ القرار مركزة في يد شخص واحد. من هنا، فإن المشهد الأخير من الرواية؛ حيث يتصارع عالم ألماني وفو مانشو، وهما منجرفان على شلالات نياجرا (مثل هولمز ومورياتي على شلالات ريشنباخ)، يبدو وكأنه يضع نهاية للسرد. في رواية «المرشح المنشوري»، على أية حال، تبقى القوة العدوانية الغريبة متماسكة بعد موت «ريموند». «كوندون» يؤكد أن «ريموند» كان نمطًا سيكولوجيًّا، والمتضمن هنا هو أن مؤامرةً قد أُحبِطت ولكن الكثير غيرها يمكن تدبيره.
«كوندون» أخذ عن «رومر» مفهوم الصراع النهائي الذي يحدث تحت سطح الحياة الوطنية الأمريكية. بدلًا من «الخطر الأصفر» نجده يضع مكانه «الخطر الشيوعي»، ولكن اصطفاف القوى يظل كما هو دون تغيير. كل الشخصيات في «الرئيس فو مانشو» خبراء أو أخصائيون من نوع معين، لهم القدرة على الوصول إلى مجالات معرفية، أو إلى أعمال الأجهزة الأمنية التي لا يستطيع أن يصل إليها المواطن العادي. الرهانات عالية؛ حيث إن «فو مانشو» يلعب على ما لا يقلُّ عن العالم بكامله. «نيلاند سميث» يحذر، بتوجُّس، من أن «خريطة العالم سوف تتغير.»٤٥ وبالمثل فإن أم «ريموند» تُبصِّره بأهمية الحاجة للتضحية: «نحن في حرب. إنها حرب باردة، لكنها ستكون أسوأ وأسوأ إلى أن يكون على كل رجل وامرأة وطفل في هذا البلد، أن يقف لكي يقول ما إذا كان سيقف إلى جانب الحق والحرية، أو إلى جانب صنائع الشيوعيين في هذا البلد.»٤٦ هذا الخطاب الإجمالي يضيِّق الخيارات ويفرض الانصياع على «ريموند» بقوة الكلمات ليس إلا. أمُّه هي القائد التكتيكي الأعلى في الرواية.

•••

«المرشح المنشوري» تدمج قراءتَين للمواجهة مع عدوٍّ أجنبي مع الرؤيا المسيحية. أم «ريموند» تحذره بأن العلامات تخبرها: «الزمن متجه نحو زئير ورعد وبرق في الشوارع يا ريموند. الدم سوف يسيل خلف الضجيج، والأحجار سوف تتساقط، والحمقى والكذابون سوف يسقطون.»٤٧ حتى في أثناء الفترة التي تصاعدت فيها معاداة الشيوعية، كان هناك نقاد لمثل تلك التفسيرات الرؤيوية أو الشيطانية. عالم الاجتماع «ريموند أ. باور Raymond A. Bauer»، على سبيل المثال، أزعجه الانفتاح العام لمفهوم غسل الدماغ، وكان يشكو في ١٩٥٧م قائلًا: «جندي أمريكي واحد متحوِّل إلى الشيوعية، يمكن أن يثير مشاعر القلق والذنب، بحيث تعلو شكوك المرء الأيديولوجية المكبوتة؛ ومن هنا رغبتنا في أن نعزوَ مثل تلك التحولات إلى التدابير الشيطانية للدكاترة بافلوف وفو مانشو.»٤٨
كان «باور Bauer» صوتًا عقلانيًّا نادرًا، يُسائل التصور العام من خلال مجلة أكاديمية، لكن صور المؤامرة كان يتم محاكاتها على نحو ساخر وبشكل متزايد، اعتبارًا من الستينيات وما بعدها. واستنادًا إلى التناول الساخر لدكتور «سترانجلوف Dr. Strangelove»؛ فإن كاتب الخيال العلمي «جيمس بليش James Blish» يحاكي — على نحو ساخر أيضًا — تلك العقلية الرؤيوية في روايته «اليوم التالي ليوم القيامة The Day after Judgement» (١٩٦٨م)؛ حيث يحول دمار نووي شامل (هولوكوست) مساحات كبيرة من العالم إلى يباب. في محاولة لتحديد هوية من هاجموا أمريكا، نجد الجنرال «مكنيت McKnight» قائد القوات الجوية الاستراتيجية مقتنعًا بأن الأوغاد هم الصينيون؛ لأنه كان من المُولَعين بالخطر الأصفر منذ أن كان يقرأ في صباه «أميركان ويكلي American Weekly» في شيكاغو.٤٩ «بليش Blish» يفسر الشيطنة الأمريكية للعدو حرفيًّا، بإظهاره للقوات الغازية باعتبارها شياطين. عندما يقوم «مكنيت McKnight» بهجومٍ مضادٍّ فاشل، يظهر من السحب الذرية شكل وحشي له رأس عنز. «مكنيت» ليس لديه أي شك في هُويَّة ذلك الكائن (الشكل): «صيني! لقد عرفته على الفور.» ويوبِّخ زميلًا له صارخًا فيه: «لقد بعتنا! لقد كنت إلى جانبهم طوال الوقت. هل تعرف لأيِّ بلدٍ قمت بتسليم بلادك؟ هل؟ هل؟ إنه د. فو مانشو الخبيث.»٥٠ «بليش» يبيِّن أن مَن يقومون بتشغيل أعقد النظم العسكرية في العالم، والعقلية كذلك كما يمكن أن يقولوا، هم أنفسهم تسيطر عليهم صور غير عقلانية، لها زخم تدميري ذاتي. ونجد بالمثل في عمل «وليم باروز William Burrough» بعنوان «المبيد Exterminator» (وهو أجزاء كان قد كتبها في الستينيات ونُشرت باعتبارها عملًا مستقلًّا في ١٩٧٤م)، نجد صورةً وصفية، تركز على مسئول متعصب مُعادٍ للشيوعية، في المؤسسة العسكرية الأمريكية، لديه خادم اسمه «بنتلي Bently»؛ كما نجد مرضًا نفسيًّا غامضًا يصيب عددًا آخر من مسئولي الدفاع، وهناك شكٌّ في وجود مؤامرةٍ نشهد في مرحلة منها لحظة كشف: «بمفرده في الغرفة، يقوم بنتلي بإزالة الملامح الرمادية للخادم؛ ليكشف عن أنه الدكتور فو مانشو الخبيث.»٥١ «باروز» يصور المؤامرة على نحوٍ هزلي بوصفها عملًا مسرحيًّا، ولكنه يقدم شخصية «فو مانشو» بوصفها نمطًا من الرئيس النقيض للولايات المتحدة، الذي ينادي عبر أرضه وهي تغوص في حالة موت.
في رواية «توماس بينكون Thomas Pynchon»: «قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow» (١٩٧٣م) تُستخدم الكوميديا وغيرها من المؤثرات لجسِّ ما وراء الطبع المزدوج الذي ينتعش على ما يسمِّيه «أفكار العكس».٥٢ بينكون يعتمد على تقليد التجريب البافلوفي نفسه، الذي تم وصفُه في المرشَّح المنشوري، ويرتبط ذلك التقليد بسرديات الخطر الأصفر، من خلال عالِم السلوك «إدوارد بوينتسمان Edward Pointsman»، والأخير ليس مجرد تلميذٍ لبافلوف الذي يكنُّ له كل الاحترام باعتباره «المعلم»، ولكنه أيضًا من يفخر بامتلاك «المجموعة المشابهة من كُتب ساكس رومر».٥٣
تدور أحداث رواية «بينكون» في السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وفيها يقوم بترصيع نصِّه بإشارات عارضة للثقافة الشعبية للعصر، وهي إشارات تتضمَّن تلميحات إلى فو مانشو. مثل هذه الصور بالنسبة ﻟ «بينكون» يكون جزءًا من لا وعي اجتماعي جمعي، يمكن أن يكون له تأثيره غير المتوقع في السلوك. «بوينتسمان» يعتبر حالة ساخرة في هذا السياق؛ وعلى الرغم من أنه يزهو بموضوعيته العلمية؛ فإن هذا الموقف مؤسس على استقطابات تعلَّمها من روايات «رومر». وهكذا يحاول أن يقرأ المنافسة بين جوانب الذكاء باعتبارها صيغةً محدثةً من سردية «رومر» الكبرى، التي يلعب فيها هو أو نائبه دور «نيلاند سميث»، ويمارس أكثر التحديات إزعاجًا لاستقرار الذات، عندما يهمس في أذنه صوتٌ متوهم مدمر، بأنه ينبغي أن يكون قادرًا على القيام بكلا الدورَين، دور «نيلاند سميث» ودور «فو مانشو».٥٤ في مثل هذه الأحوال، يرى كلٌّ من «بينشون» و«بليش» و«باروز» أن ميلودراما هذه الشخصية من الثقافة الشعبية تقيد الأسلوب الذي يرى به المسئولون أمتهم والوضع السياسي العالمي. إنهم يسخرون من الصورة النمطية ﻟ «فو مانشو»، ولكنهم، في الوقت نفسه، يتركون الباب مفتوحًا، جزئيًّا، للمؤامرة.
سرديات المؤامرة مستمرَّةٌ بالطبع في الصدور، على الرغم من الصور النمطية التي تحتوي عليها، وعلى الرغم من التغيُّرات الحادثة في السياسات الكونية. رواية «وولتر واجر Walter Wager» بعنوان «تليفون Telefon» (١٩٧٥م) تصف مجموعةً من النائمين السوفييت، الذين يتمُّ إطلاقهم بعد سنواتٍ من تهيئتهم بواسطة عميل سوفييتي مرتد. «ريتشارد كوندون» نفسه عاد إلى موضوع غسل الدماغ في روايته الصادرة في ١٩٧٦م، بعنوان «همس الفأس The Whisper of the Axe» التي تصف تدريب وتهيئة مجموعةٍ من الأمريكيين في معسكر صيني سري، تحضيرًا لعمل تخريبي من أعمال حرب العصابات في المدن الأمريكية، حدد له أن يبدأ في العام المئوي. المعسكر يُديره شخصٌ يُدعَى «دكتور كونج Dr. Kung»، وهو صينيٌّ من كوريا، أما أهمُّ الأقسام السرية فهو ما يطلق عليه: منطقة استخلاص المعلومات نفسيًّا؛ حيث المباني مموَّهة من على السطح لتخفي منشأة تحت الأرض:
[النزلاء] تم إسقاطُهم على مسافة ستين قدمًا تحت سطح الأرض بواسطة مصاعد؛ حيث يوجد مستشفًى عامٌّ به ست حجراتٍ صغيرة في كل جانب، وغرفتان للعرض في نهاية كل جانب. عندما وصل الرجال إلى المستوى السفلي، سقطوا في حالة نوم أثناء تحركهم؛ نتيجة للمواد الكيماوية التي كان فطورهم يحتوي عليها. تم وضع الرجال في غُرَف صغيرة منفصلة يغلِّفها الصمت. كان في كل غرفة فنِّيان يقومان بربطهم بإحكام على نقالات من الحديد.٥٥
بمجرد أن يصبحوا معزولين تمامًا، يتم تعريضهم لعمليات نفسية تليق ﺑ «فو مانشو»: «أنابيب تغذية موصلة بزجاجات تحتوي على مستحضرات صينية مطورة (بعضها كان قد تمَّت تجربته عبر قرون وبعضها في السنوات الأخيرة.) كانت هذه المادة تفتح أبواب اللاوعي وتُوصل المحققين إلى الحقيقة الكامنة في عقل كلٍّ منهم.»٥٦ هذا الاستجواب المطوَّل كان يمحو المحتويات السابقة لعقول الأسرى، ويجهزهم للمرحلة الأخيرة من العملية: إعادة التأهيل. هذه المرحلة كانت تتطلَّب أن «يتم التخلِّي تمامًا عن الدروس السلبية، وإذا حاول شخصٌ ما — طوعًا — أن يتجاوز ضرورات هذه الدروس، يحدث له ألم غير عادي، فوري، في الجهاز العصبي المركزي.»٥٧ وكما كان الأمر في «المرشح المنشوري»، يقدم «كوندون» هذه الأساليب باعتبارها امتدادًا للممارسات الصينية السابقة، ويصف وعي الأسرى بأنه فضاء يتم إفراغه وإعادة ملئه.
استمدَّت رواية «المرشح المنشوري» مادتها من تقليد قائم، وهو سرديات مؤامرة الخطر الأصفر، وأضافت إليه عنصر الشيوعية، ثم أعطَت بُعدًا سياسيًّا إضافيًّا للحدث، باستخدامها لعلم النفس الفرويدي؛ لكن الميلودراما فيها لم تكن منبتَّة الصلة بالسياسات الواقعية كما كان يفترض. «إدوارد هنتر Edward Hunter» خبير الدعاية، حارب بلا هوادة معارضًا دخول الصين الشيوعية منظمة الأمم المتحدة، وكانت حربه تستند في جزءٍ منها إلى ذريعة الحفاظ على الصحة العقلية للعالم. في كتابه: «الكتاب الأسود عن الصين الحمراء Black Book on Red China» (١٩٦١م)، وبعد أن يصف أسلوب معاملة أسرى الحرب الكوريين، يقوم بتشخيص مرض في قلب الدولة الصينية: «تأثير برنامج مكثف لغسل الدماغ على تجمع سكاني، سوف يؤدي في النهاية إلى عُصاب قومي. الدولة التي تُبتلى بغسل الأدمغة سوف تصبح دولة مريضة عقليًّا، ويصبح ذلك بمثابة سياسة قومية.»٥٨
مثل هذه الدراما النفسية تكشف عن نفسها في «المرشح المنشوري» وإن على نطاق أصغر، وذلك عن طريق توحُّد الفرد مع الدولة، وهو ما يصبح أكثر غموضًا. هذه الصيغة من المؤامرة، يبدو أنها تجد تأكيدًا حرفيًّا في عملية اغتيال الرئيس «كينيدي»، ونتيجةً لذلك تم سحب الفيلم من الأسواق. الأكثر مدعاةً للقلق هو أن فكرة هجوم سري على أمريكا بواسطة قوات شيوعية سرية، هذه الفكرة مستمرة في أن يكون لها اعتبارها بالنسبة لمجلس الاستخبارات الأمريكي، الذي نشر في عام ٢٠٠٢م كتيبًا بعنوان «الغزو خلسة Stealth Invasion»، يوثق فيه النشاط البحري الصيني. بأوضح أساليب الحرب الباردة، تعلن المقدمة: «بعد قراءة هذا التقرير لن يكون هناك سوى القليلين الذين يشكُّون في أن وجود ما يقرب من مائة سفينة من البحرية التجارية للصين الحمراء، وملايين الحاويات التي لم يتم التفتيش عليها تدخل أمريكا، هو خطر واضح وحالٌّ على حياة الأمريكيين وممتلكاتهم على شواطئنا.»٥٩ تأكيد المجال، وتحديد الصين والعزف العام على نغمة الرؤيا عبر الكُتيب يضع خطابه في إطار الحرب الباردة، كما هي الحال بالنسبة لرواية «المرشح المنشوري».
١  Truman, ‘5th State of the Union Address,’ http/www.Geocities.com/americanpresidency.net/1951.htm (accessed 27 September 2004) .
٢  Medhurst, ‘Rhetoric and Cold War: A Strategic Approach,’ in Martin J. Medhurst, Robert L. Ivie, Philip Wander and Robert L. Scott, eds., “Cold War Rhetoric: Strategy, Metaphor and Ideology” (Westport, CT: Greenwood Press, 1990), p. 19 .
٣  Harry Welton, ‘The Third World War: Trade and Industry—The New Battle ground’ (London: Pall Mall Press, 1959), p. 1 .
٤  الزومبي: شخص يتحرك كما لو كان شخصًا آليًّا.
٥  Heinlein, The Puppet Masters, new edn (1951; London: Pan Books, 1969), p. 219 .
٦  Melley, ‘Agency Panic and the Culture of Conspiracy,’ in Peter Knight, ed., “Conspiracy Nation: The Politics of Paranoia in Postwar America” (New York: New York University Press, 2002), pp. 60, 61 .
٧  Hunter, “Brainwashing: The Story of the Men Who Defied It,” New edn. (1956; New York: Pyramid Books, 1970) p. 182 .
٨  Ibid., 285 .
٩  Cardinal Joseph Mindszenty .
كبير أساقفة المجر، ألقي القبض عليه في ١٩٤٩م، متهمًا بالخيانة، واعترافه بالذنب فيما بعد، اعتبره الغرب نتيجة لغسل الدماغ، واعتُبرت الحالة رمزًا على عداء الأنظمة الشيوعية للمسيحية.
١٠  للمزيد من التعليق على هذا السياق انظر: Susan L. Carruthers; “The Manchurian Candidate (1962) and the Cold War Brainwashing Scare,” Historical Journal of Film, Radio and Television, 18: 1 (1998), pp. 75–94.
١١  هناك مناقشة للكثير من مثل هذه السرديات في: Seed, Brainwashing: The Fictions of Mind Control (Kent, OH: Kent State University Press, 2004) Chapter 4.
١٢  KinKeod, “In Every War but One” (New York: Norton, 1959), p. 78 .
١٣  Ibid., p. 78 .
١٤  ضرب من ألعاب الورق يلعبه شخص بمفرده.
١٥  Dooner, “Last Days of the Republic,” new edn (1880; New York: Arno Press, 1978), p. 123 .
١٦  بين الصين واليابان في تهديد مشترك. يمكن أن تجد مقاله على الرابط: (London) يجمع مقال http:/www.readbookonline.net/read/298/8662 (accessed 27 September 2004).
رمزية الحرب الكورية عندما يعبر البحر الأصفر من كوريا إلى منشوريا، متحركًا من ثقافة زراعية أخرى أكثر خطرًا في London.
يتوقع مقال الحرب الكورية أن البحر الأصفر يمثل الحد الشمالي لعمل القوات العسكرية التابعة للأمم المتحدة، بينما كان من الشمال نقطة وصول القوات الصينية والمستشارين السوفييت.
١٧  Wu, “The Yellow Peril: Chinese Americans in American Fiction, 1850–1940” (Hamden, CT: Archon 1982), p. 167 .
١٨  Rohmer, “The Mystery of Doctor Fu-Manchu” New edn (1913; London: Allan Wingate, 1977), p. 19 .
١٩  Wu, “Yellow Peril,” p. 174 .
٢٠  Bucher, with Mark Rascovich, Bucher: My Story (Garden City, New York: Doubleday, 1970), p. 291 .
٢١  Cay Van Ash and Elizabeth Sax Rohmer, “Master of Villainy: A Biography of Sax Rohmer” (London: Tom Stacey, 1972), p. 282 .
٢٢  “Sax Rohmer,” at http:/www.classicreader.com/author,php/aut.88.html (accessed 27 September 2004). Source not given .
٢٣  Rohmer, “The Shadow of Fu-Manchu,” New edn (1948; New York: Pyramid Books, 1963), p. 67 .
٢٤  Ibid., p. 22 .
٢٥  Ibid., p. 118 .
٢٦  Rohmer “Emperor Fu-Manchu” (Greenwich, Conn: Fawcett, 1959), pp. 123, 157 .
٢٧  يستطيع «رومر» أن يبني سرديته بافتراض وجود ستارتَين من البامبو، حد الصين الشيوعية وحد غامض آخر غير محدد لأرض فو مانشو الأيديولوجية في التبت. جغرافيا «رومر» تقف ضد التاريخ عند هذه النقطة؛ حيث كان الشيوعيون الصينيون قد استولوا على التبت بحلول عام ١٩٥٩م.
٢٨    Dacoits «أعضاء عصابات اللصوص في بورما والهند». (المترجم)
٢٩  Ibid., p. 147 .
٣٠  Ibid., p. 149 .
٣١  Rohmer, “President Fu-Manchu,” new edn (1936; New York: Pyramid Books, 1963), 23 .
٣٢  Ibid., p. 106 .
٣٣  Ibid., p. 116 .
٣٤  Ibid., p. 215 .
٣٥  Condon, “The Manchurian Candidate,” new edn (1959; New York: New American Library, 1960), p. 53 .
٣٦  Ibid., p. 46 .
٣٧  Ibid., p. 324 .
٣٨  Bowart, “Operation Mind Control” (London: Fontana/Collins, 1978), p. 20 .
٣٩  Rogin, “Ronald Reagan,” The Movie and Other Episodes in Political Demonology (Berkeley: University of California Press, 1987), p. 253 .
٤٠  May, “Homeward Bound: American Families in the Cold War Era,” rev. edn (1988; New York: Basic Books, 1999), p. 93 .
٤١  Ibid., p. 95 .
٤٢  Condon, Manchurian Children, p. 130 .
٤٣  السقوبة (Succubus) روح شريرة يزعم أنها تتخذ شكل امرأة لكي تضاجع الرجال أثناء نومهم (المترجم).
٤٤  Ibid., p. 260 .
٤٥  Rohmer, “President Fu-Manchu,” p. 154 .
٤٦  Condon, Manchurian Candidate, p. 115 .
٤٧  Ibid., p. 161 .
٤٨  Bauer, “Brainwashing: Psychology or Demonology?”, Journal of Social Issues, 13: 3 (1957), p. 47 .
٤٩  Blish, “Black Easter and the Day After Judgment,” new edn (1968; London: Arrow Books, 1981), p. 126 .
٥٠  Ibid., p. 192 .
٥١  Burroughs, “Exterminator!”, (London: Calder and Boyars, 1974), p. 73 .
٥٢  Pynchon, “Gravity’s Rainbow,” new edn (1973; London: Pan Books, 1975), p. 48 .
٥٣  Ibid., p. 631 .
٥٤  Ibid., p. 278 .
٥٥  Condon, “The Whisper of the Axe,” (New York: Dial Press, 1976), p. 136 .
٥٦  Ibid., p. 136 .
٥٧  Ibid., pp. 136-7 .
٥٨  Hunter, “The Black Book on Red China” (New York: The Book Mailer, 1961), p. 134 .
٥٩  Roger Canfield, “Stealth Invasion: Red China Operation in North America” (Fairfax VA: United States Intelligence Council, 2002), p. 7 .

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤