الفصل العاشر
تثليث قلق
الحرب الباردة والقومية والمقاومة الإقليمية في آداب شرق أوروبا
الوسطى-الشرقية
يؤطر التاريخ الحديث لآداب شرق أوروبا الوسطى عاملان تَدخَّلا بقوة
في تشكيل مسيرته. كان الأول بعد الاستيلاء الشيوعي على السلطة مباشرة
في منتصف الأربعينيات، عندما تعرضت أعداد كبيرة من الكُتاب للإعدام
والسجن والنفي والإجبار على الانصياع والامتثال؛ أما العامل الثاني
فكان بعد ١٩٨٩م، عندما تم إخضاع تلك الآداب لعملية إعادة تقويم جذرية،
قضت على التراتبيات والمرجعيات القديمة، وفتحت الباب أمام الشك، حتى في
بعض الكُتاب المنشقين في ظل الشيوعية. سقطت ثقافات منطقة البلطيق
والبلقان بخاصة، في أشكال من القومية أو المركزية العِرقية التي تقطع
تعدديتها الثقافية التقليدية؛ فحوَّلَتها إلى «فضاءات ذات صبغةٍ
قومية»، أما الدولة ذات الصبغة القومية فيصفها «روجرز بروبيكر
Rogers
Brubaker» بأنها:
دولة لأمة ذات ثقافة عريقة تحمي وتنمي هذه الثقافة، كما تحمي
لغتها وديموغرافيتها ورفاهها الاقتصادي وسيادتها، وهنا تكون
العناصر الرئيسية هي: (١) الشعور بأن هذه الدولة تملكها أمة
ذات ثقافة عرقية يتم تصويرها باعتبارها متميزة باستمرار، (٢)
المشروع «الإصلاحي» أو «التعويضي» لاستخدام قوة الدولة من أجل
تنمية مصالح الأمة الأساسية.
١
الاستراتيجية السوفييتية لطمس الهويات القومية العرقية ما قبل
الاشتراكية في شرق أوروبا الوسطى، في الوقت الذي كانت تشجع فيه المصالح
العرقية كلما كانت تخدم سياساتهم في التفرقة والسيطرة، هذه
الاستراتيجية جعلت التحول ما بعد الشيوعي عملية صعبة على نحو خاص. وجدت
الدولة المتحررة حديثًا نفسها أمام إرث معقد ومزدوج؛ فقد كانت ذات
توجهات قومية قبل الحرب العالمية الثانية وشيوعية بعدها.
في رأي «فلاديسلاف تودوروف
Vladislave Todorov»، هناك تشابه
«ماكر» بين الإرثَين؛ فكلاهما كان سببًا في قيام أنظمة شمولية — أحدهما
يؤكد الطبقية والثاني العرقية — وكلاهما أفرز عرقيته وأيديولوجيته
الخاصة لتصفية العناصر السياسية المحتملة، التي تمثل — بطبيعتها —
المصالح غير الحزبية،
٢ لكن «تودوروف» يرى فروقًا مهمة كذلك؛ فالنظام الحزبي
العنصري يستند في قوَّتِه إلى «الوحدة العضوية المزعومة للدم والتربة،
كمصدرٍ جيني للنقاء القومي والمهمة التاريخية للعنصر.»
٣ قوة حزب الطبقة تعيد إنتاج نفسها، وهي «غير شرعية» إلى
حدٍّ بعيد، وتمثل منطوقات الحزب وليس البروليتاريا التي يتم تصفية
قوَّتِها (مع قوة الطبقات الأخرى)؛ لأنها «تفسد وتنافس القوة التمثيلية
السياسية للحزب».
٤
على الرغم من أن الفوارق التي يوردها «تودوروف» بين أسلوبَي التصفية
الشمولية، تجعل الفاشية تبدو، نظريًّا، أكثر جدوى من الشيوعية (رغم عدم
إمكانية الدفاع عنها أكثر منها)؛ فإنه يمكن استخدامها لتفسير انجراف
كلٍّ من الشيوعية القومية وما بعد الشيوعية نحو النموذج العرقي. شيوعية
«شاوشيسكو
Ceausescu» «السلالية» مثلًا قامت
بتطعيم «ستالينية متزمتة» بتوجه يتسم بالمركزية العرقية،
٥ على أمل إسباغ شرعية على سلطوية الستالينية من خلال إعلاء
شأن القومية في التوجه الذي طعَّمتها به. تأكيد الخصوصية القومية
الستالينية، الذي استخدم بداية لتبرير عملية تجريد رومانيا، رمزيًّا،
من الستالينية، أيًّا كان قدر ذلك التجريد، هذا التأكيد هو الذي أرسى
أساس صيغة «شاوشيسكو» للاشتراكية التي جاءت فيما بعد، والتي كانت مصابة
برهاب الأجانب. مبنية على تشكيلة من التوجهات القومية اليسارية
واليمينية (حزب الطبقة أصبح حزبًا عرقيًّا)؛ فإن شيوعية «شاوشيسكو»
القومية قدمت نموذجًا نظريًّا لقومية ما بعد الشيوعية في صور مختلفة،
من اللاتسامح الثقافي الواضح في المطبوعات المغرقة في القومية إلى
الإرهاب العرقي في يوغوسلافيا السابقة.
من الواضح اليوم أن الأنظمة الشيوعية، في محاولتها لحل المسألة
القومية، زادتها تعقيدًا، بدفاعها عن بديل فجٍّ ينطوي على تسوية
«دولية» للثقافات، وربما على شكل أكثر فجاجةً من الشيوعية الكارهة
للأجانب. كلا التوجُّهَين، أخضعا تعريفات الثقافة القومية لخدمة
الأهداف السياسية التي كانت تقلِّل من شأن وقيمة المصالح المحلية
وتقاليد كل دولة. مع سقوط الشيوعية «الخلاصية» سقط القناع عن «وجه آخر
من أوجه الشمولية».
٦ إلا أن حركات ١٩٨٩م لم تسفر عن ديمقراطية فورية. بعد أن
خرجت ثقافات شرق أوروبا الوسطى من عباءة السيطرة السوفييتية، وجدت
نفسها في مواجهة «مخلفات السياسة الشيوعية السابقة؛ التقاليد، الأفكار،
التوجهات، الرموز، القيم وكل ما تغلغل في الحياة الاجتماعية على مدى
عقود»؛ كما وجدت نفسها في مواجهة الأساطير الفجة والرهاب العرقي الرجعي،
٧ وكانت كلها في حالة كمون على مدار أربعة عقود من الفقدان
الاضطراري للذاكرة القومية.
إقامة دول ديمقراطية في المنطقة، يعتمد كثيرًا على إعادة النظر
والتفحص الناجح للمفاهيم المتضاربة، والفوارق الراسخة في أفكار شرق
أوروبا الوسطى عن العرقية والرابطة القومية، لكن هذه العملية ينبغي
ألَّا تؤدي إلى إهمال الفوارق العرقية الثقافية أو الاستهانة بها (على
نحو ما تم بخصوص التسوية الثقافية في المجتمعات الشمولية السابقة)، بل
لا بد من تنمية فضاء اجتماعي ثقافي تفاعلي، يمكن كل جماعة عرقية من أن
تشارك باهتماماتها وتراثها الخاص. من الواضح أن هذه المهمة لا يمكن
تحقيقيها بواسطة خبراء أنظمة حزب الطبقة أو حزب العرق، كما لا يمكن
تحقيقها بوسائل سياسية تمامًا. لهذا السبب، ربما يكون من المفيد البحث
عن نماذج لتعريف قار وغير متناقض، للهوية القومية في الثقافات الأدبية
للمنطقة. كان الأدب هنا يعمل دائمًا داخل وخارج السردية القومية
«مستخدمًا ممارسات دالَّة أخرى غير تلك القومية لاستكشاف «المتخيل المدني».»
٨ كانت آداب شرق أوروبا الوسطى قابضة على اللعب على الفوارق
الثقافية، داخل الفضاء القومي المتجانس نسبيًّا، مقترحة نماذج من
التبادل الثقافي والعرقي أكثر مرونة.
القومية نفسها، لعبت دورًا في الثقافات الأدبية الشيوعية وما بعد
الشيوعية في المنطقة؛ فأثناء الحرب العالمية الثانية كانت تغذِّي
المقاومة ضد الاحتلال النازي والسوفييتي، ولكنها كانت تشجع في الوقت
نفسه المشاعر المُعادية للأقليات وللسامية وللأجانب. بعد استيلاء
الشيوعية على شرق أوروبا الوسطى، كانت القومية تعمل — ربما على نحو غير
ملحوظ — باعتبارها شكلًا من أشكال المقاومة ضد «الدولية» المفروضة من
السوفييت (وهي الكلمة الرمزية للمجانسة الأيديولوجية). مستلهمة «أندريه
جدانوف Andrei
Zhdanov»، قيصر ستالين الثقافي،
نمت وانتشرت الأنماط المحلية من الواقعية الاشتراكية في المنطقة؛ لكي
تخرب التقاليد القومية وتعيد تعريف الثقافة باعتبارها نشاطًا سياسيًّا
مقصودًا لخدمة الأجندات الشيوعية (السوفييتية). في المرحلة الأولى من
الثورة الثقافية التي بدأت في أواخر الأربعينيات، كان العدو هو الحداثة
القومية أو الدولية. تبع هذه المرحلة اقتحام جسور من الفن الطبقي، الذي
فاقم عملية الاستقطاب الاجتماعي والسياسي. باعتباره جزءًا من عملية
مستمرة ﻟ «كنس الماضي»، كان الكُتاب من ذوي الانتماءات «البرجوازية» أو
«القومية» يُدفَعون دفعًا إلى المنفى، أو يُودَعون السجون والمعتقلات.
«كازس بوروتا Kazys
Boruta» و«أنتاناس مسكينس
Antanas
Miskinis» و«فيكتوراس كاتيليوس
Victoras
Katilius» وغيرهم من كُتاب
«ليتوانيا» تم ترحيلهم إلى سيبيريا بين ١٩٤٦م و١٩٥١م. كان المعسكر
البلغاري في «لوفيتش»، والمعسكرات الرومانية في «بيتستي» وعلى الدانوب،
والمعسكر اليوغوسلافي في «جولي أوتوك» (جزيرة جولي … التي كانت تستهدف
«المتعاطفين» السوفييت بأساليب وحشيةٍ مشابهة)، كل هذه المعسكرات كانت
تنافس «الجولاج» السوفييتي في عمليات تصفية وإبادة المنشقين
والمعارضين؛ أما الذين نَجَوا من المعتقلات الشيوعية، مثل «نيكولاي
كوستنكو Nicolae
Costenco» و«ألكسي مارينات
Alexei
Marinat» (من مالدافيا)، و«فاسيل
باركا Vasyl
Barka» (من أوكرانيا)، و«إيون كارايون
Ion
Caraion» و«بول جوما
Paul
Goma» (من رومانيا) من بين آخرين، فقد
استمر قمعُهم، ولم يتمكَّنوا من نشر أعمالهم عن تجاربهم الأليمة إلا في
المنفى أو بعد ١٩٨٩م.
مواجهة الحرب الباردة مع الغرب، التي أطلقها اتفاق يالطا، الذي قسَّم
أوروبا إلى «مناطق نفوذ»، جاءت بمزيد من الضغوط على الكُتاب. في ذروة
الستالينية، كان شعراء المنطقة يشاركون في الحملة الدعائية السوفييتية
من أجل «السلام»، ويهاجمون الغرب، ويقدِّمون «النزعة التوسُّعية»
السوفييتية باعتبارها «قوة تحرير وخلاص». قصيدة «الكولاج» التي كتبها
«إيوجين جيبيلينو Eugen
Jebeleanu» بعنوان «ابتسامة
هيروشيما» (١٩٥٨م) تصحبنا في رحلة عبر جحيمٍ نووي، وتكرِّر حواراتٍ
وردودَ فعلٍ قبل وبعد التفجير النووي، وبينما يتجنب الكُتاب التوجيه
المباشر، فإنه يكاد أن يكون لائحة اتهام ضد الإمبريالية الأمريكية. على
نفس المنوال، كان شعراء المجر مثل «لازلو زيلك
László
Zelk» يسبحون بحمد ستالين والجيش
الأحمر والزعيم المجري «ماتياس راكوسي Mátyás Rákosi»،
الذي قام بتحرير البلاد.
في أواخر الأربعينيات وفي الخمسينيات، اشتد عود الكتابة السردية
وكانت تتبنى موضوعاتٍ ستالينية مشابهة؛ فالروائي الروماني الأكثر موهبة
في تلك الفترة «بترو ديمتريو Petro Dumitriu» حاول أن يبرِّر
وجود «كولاج» شيوعي (على قناة الدانوب) في رواية له بعنوان «طائر
العاصفة» صدرت عام ١٩٥٤م. بعد عقد من الزمن وبعد أن كان قد هرب إلى
فرنسا، نشر شجبًا شديد اللهجة للدكتاتورية الشيوعية في «المستخفي» في
١٩٦٤م. رواية الكاتب «لورنتيو فولجا Laurentiu Fulga»:
«رجال بلا مجد» الصادرة في ١٩٥٦م، التي تركِّز على تراجع الجيش
الروماني بعد هزيمته عند منحنى نهر الدون، تصف معاناة الجنود والسكان
وراء خط الجبهة، بينما تمتدح بطولة الجيش الأحمر. الرواية الثانية من
ثلاثيته «نجمة الرجاء الصالح» (١٩٦٣م) المخصَّصة للحرب العالمية
الثانية، تدور أحداثها في سجن إحدى المستعمرات؛ حيث يمُر الضباط بعملية
مراجعة للذات ويناقشون أخطاء الماضي ويحلمون بمستقبلٍ أفضل، مقترن —
مرةً أخرى — بالشيوعية. الموضوعات التي تطرحها روايات «فولجا» متسقة
تقريبًا مع ما تطرحه رواية «ناس المعسكرات» (١٩٧٤م) للكاتب «إستيفان
أوركيني István
Orkény» وإن كانت وجهات النظر في
الأخيرة أكثر اقترابًا من وجهة النظر الشيوعية الرسمية.
بعد زيادة وتيرة المواجهة بين الشرق والغرب في فترة الحرب الباردة،
أصبح الأدب الرسمي كله سلاحًا في الصراع الطبقي. تحذير الناقد «جورج
كالينسكو
George
Calinescu» بأن «السلاح الأدبي لن
يكون مفيدًا إلا إذا ظل أدبيًّا، وإلا إذا كان يهزُّ روح القارئ
ويحرِّكه من خلال الصور الفنية القابلة للتصديق فنيًّا.»
٩ هذا التحذير لم يُلتفَت إليه تقريبًا. عندما فرغ الأدب
الرسمي من أعداء الماضي (البرجوازية الميتة والكولاك) قام مفكِّرو
الحزب ومنظِّروه باختراع أعداءٍ جدُد مثل «عملاء الثورة المضادة»،
واعتبروهم أكثر خطرًا من الأعداء التقليديين.
في الغرب، خلقت الحرب الباردة ما يطلق عليه «آلان نادل
Alan
Nadel»: «ثقافة احتواء.»
١٠ سياسة الردع الأمريكية ضد الكتلة السوفييتية، كانت تجاريها
وتتماشى معها سرديات الاحتواء في الداخل لتكرِّس التوافق مع «فكرة
معيَّنة عن الدين»، و«قيم الطبقة المتوسطة»، وأدوار معينة للنوع، وطقوس
تزلُّف جامدة.
١١ في كلٍّ من نمطَي الاحتواء الخارجي والداخلي، كان هناك
جهدٌ للإبقاء على حدودٍ واضحة بين من هو «آخر» ومن هو «الشيء نفسه»،
سواء أكان ذلك الآخر هو الاتحاد السوفييتي أو المنشقين (المهرطقين) في
الداخل؛ وعَبْر الانقسام الأيديولوجي، أنتج الاتحاد السوفييتي سردياتِ
احتواءٍ مضادة وقوية، من طوق «ستالين» الدفاعي المكوَّن من الدول
التابعة وتوازُن القوة من خلال حملات التطهير الوحشية، إلى سحق
«بريجنيف» للحركات العمالية والقومية في أوروبا الشرقية، واستيعاب دول
العالم الثالث في مجال النفوذ السوفييتي، أما في الداخل فكانت هذه
السرديات تكرِّس التبرير البيروقراطي للإرهاب ضد «العدو» الداخلي، الذي
رفَض التحول إلى مرتبة «الإنسان السوفييتي
homo
Sovieticus».
لم يكن مستغربًا إذَن أن يؤدي انتشار سرديات الاحتواء المتصارعة إلى
اندماجٍ أيديولوجي جعلها تعوق بعضها بعضًا؛ ففي الولايات المتحدة
تسبَّب فشل الاحتواء بوصفه سياسةً خارجية في إطلاق سلسلة أحداث فيتنام
الدرامية، بينما كان فشل الاحتواء باعتباره ممارسة مؤشرًا على بدايات
ما بعد الحداثة الأمريكية،
١٢ وهي الحركة النظرية والفنية التي وضعَت نموذج الاحتواء
نفسه موضع المساءلة. في أوروبا الشرقية الشيوعية، صنع نظامٌ أيديولوجي
مستقر ومسيطر شروط هدمه. بتحويل «اللغة والخطاب لتكون وسائل الإنتاج الأساسية»
١٣ احتلت الشيوعية الخيال السياسي لشعبها، ولكنها بالإضافة
إلى ذلك أنتجت «فائضًا»؛ عملًا رمزيًّا يفوق قدرة النظام الأيديولوجي
على السيطرة عليه. هذه الزيادة المفرطة كانت، إلى حدٍّ كبير، لمصلحة
خصوم النظام، ومكَّنَتهم من صياغة «أشكال من الوعي الاجتماعي غير تلك السلطوية».
١٤
اتخذت مقاومة الأفكار والمعتقدات المستقرة (الأرثوذكسية) صورًا
مختلفة، من تطوير السرديات الأيسوبية، التي كانت معانيها الرمزية
المزدوجة تقلِّل من شأن الاحتياجات الشمولية لخيالٍ متسق، إلى السرديات
القومية التي تُعارِض الهيمنة السوفييتية على نحوٍ أكثر مباشرة؛ وبينما
كان الهجوم على الأدب الملتزم هو الظاهرة السائدة بين ١٩٤٨م إلى ١٩٥٤م،
شَهدَت تلك الفترة كذلك ظهورًا تدريجيًّا لأعمالٍ معقولة تقدِّم
تنازلات أقل للأيديولوجيا الرسمية. كانت عملية إعادة التكيُّف بطيئة
بدرجةٍ مؤلمة، كما يتبدى في التغييرات التي كانت تظهر في الأعمال في
طبعاتها المتوالية. الكاتب «ميلوفان ديلاس Milovan Dilas» أعاد
كتابة عمله الأوتوبيوجرافي «مقالات ١٩٤٧م» ليظهر في شكلٍ جديد بعنوان
«حديث مع ستالين ١٩٦٢م» يعيد تصوير الأحداث والشخصيات والأحكام نفسها،
منها على سبيل المثال قصة أول لقاء له مع «ستالين»، ولكن — هذه المرة —
من وجهة نظر اشتراكيٍّ متحرِّر من الوهم. نقد الستالينية، الذي كان قد
بدأ على استحياء بعد موت «ستالين» في ١٩٥٣م، استمَر على نحوٍ أكثر
جسارة بعد ١٩٥٦م بواسطة كُتابٍ شيوعيين من ذوي التوجُّهات الإصلاحية
(«تيبور ديري Tibor
Déry»، «جيولا هاي
Gyula
Háy»، «لودفيك فاكوليك
Ludvik
Vaculik»، «آدام وازيك
Adam
Wazyk»)، وبواسطة أعضاء دائرة «بيتوفي
Petofi» الهنغارية التي كانت تضم
مجموعة من الكُتاب الشبان الذين انتقَلوا من نقد الستالينية إلى مساءلة
الأيديولوجية نفسها، تلك الأيديولوجية التي جعلَت كل تلك التجاوزات
ممكنة.
بعد استرخاء قبضة الرقابة، ابتعد جيلٌ جديد من الكُتاب عن مفاهيم
الواقعية الاشتراكية ليعودوا إلى نماذجَ تمثيلية أكثر تعقيدًا. قطيعة
ألبانيا مع الاتحاد السوفييتي في ١٩٦١م على سبيل المثال، شجَّعَت بعض
الكُتاب الأصغر سنًّا («إسماعيل كاداريه
Ismail Kadare»،
«دريتيرو أجوللي
Dritëro
Agolli»، «فاتوس أرابي
Fatos
Arapi»)
١٥ على البحث بحذر عن «شيء جديد» في الشعر والرواية، لكن
الرقابة ظلَّت مستمرة على أشكالٍ معيَّنة من الأدب مثل وثائق السجون
والمعتقلات والمذكِّرات المناهضة للشيوعية. بينما كانت أعمال «إيون سي.
سيوبانو
Ion C.
Ciobanu» الروائية، التي تصوِّر
عمليات الترحيل الستالينية على نحوٍ أكثر مواربة تُنشَر في مولدوفا
السوفييتية على مدى عقودٍ عدة،
١٦ فإن رواية زميله «ألكسي مارينات
Alexei Marinat» عن
التعذيب في سجون «ستالين» لم تظهر إلا بعد ١٩٨٩م.
١٧ كذلك فإن عمل «إيون د. ساربو
Ion D. Sarbu» الذي
يحمل عنوان «صحيفة صحفي بدون صحيفة» (١٩٩١–١٩٩٣م)، الذي حَوَّل دراما
أتوبيوجرافية (سبع سنوات في السجون ومعسكرات العمل)، إلى تأمل في
المصير المتناقض لاشتراكيٍّ تقليديٍّ مُضطهَد من قِبَل كلٍّ من
الشيوعيين والنازيين، هذا العمل لم يُنشَر إلا في أوائل التسعينيات، أي
بعد عدة عقود من كتابته.
بنهاية الستينيات، شهد معظم الأدب الجديد عملية تنقيحٍ واسعة ذهبَت
إلى ما هو أبعد من الجوانب الفنية، فكان شعر «زبيجنيو هربرت
Zbigniew
Herbert» و«آنا بلندينا
Ana
Blandina» و«ساندور فيورس
Sándor
Weöres» وغيرهم يصوِّر الوجود
المتشظي على نحوٍ شديد السخرية يعكس حدود الإدراك واللغة التمثيلية.
كذلك أصبح الروائيون على وعي بحدود وقيود الحظر والمحرَّمات التي
وضعتها السلطات الشيوعية حول «الحقيقة»، والحاجة لتحدِّيها، تلك الحاجة
التي حاولوا أن يحقِّقوها بطرق عدة. أولًا: اتباع نموذج «ميخائيل
بولجاكوف
Mikhail
Bulgakov» بإدخال عنصرٍ قوي من
الذاتية والأسطورية على واقعية الخمسينيات المألوفة (كما في أعمال كتاب
«جيزا أوتلك
Géza
Ottlik» و«مارين بريدا
Marin
Preda» و«جوزيف سكفورسكي
Josef
Škvorecký» و«إسماعيل كاداريه
Ismail
Kadare»)؛ ثانيًا: تركيز البؤرة
السياسية في الأدب الروائي المعارض للستالينية في العقدَين التاليَين
(الأكثر وضوحًا في أعمال «ألكساندر سولجينتسين
Aleksandr
Solzhenitsyn» وكذلك «بوهمل هربال
Bohumil
Hrabal» و«ميكلوس ميزولي
Miklós
Mészöly» و«ميلان كونديرا
Milan
Kundera» و«جيورجي كونراد
György
Konrad» و«جوريك بيكر
Jurek
Becker» و«أوجستين بوزورا
Augustin
Buzura»)، وأخيرًا، وضعوا أساس
الحقيقة الشيوعية نفسها موضع المساءلة، وذلك في أعمالٍ روائية أكثر
جسارة (كما عند «ألكساندر زينوفيف
Alexandr Zinovev»
و«كريستا فولف
Christa
Wolf» و«دانيلو كيس
Danilo
Kis» و«بيتر ناداس
Peter
Nádas» و«جابريلَّا آدامستينو
Gabriela
Adamesteanu» و«بيتر إسترازي
Peter
Esterházy»). كان معظم هذا الأدب
يُعبِّر عن تحرُّر من وهم اليوتوبيا الاشتراكية، وصراع الأجيال وآمالٍ
محبطة في التغيير. رواية «لودفيك فاسوليك
Ludvik Vaculik»
(الفأس ١٩٦٦م)، على سبيل المثال، تُلقي الضوء على ذلك الصدع المأساوي
بين الجيل الستاليني الأكبر وأبنائهم الساخطين المتمردين، وكذلك على
نقمة المؤلف على الحزب الشيوعي. الأعمال الروائية التي نشَرها
«فلاديمير بارال
Vladimir
Paral» في الستينيات قدَّمَت —
بالمثل — رؤية للمجتمع التشيكي الشيوعي، متحرِّرة من الوهم، بمواطنيه
الذين يواجهون طاقاتهم المحبَطة بالنزعة الاستهلاكية والعلاقات خارج
إطار الزوجية.
١٨ هكذا أصبح المجاز الفَظ يحل محل الواقعية البهيجة التي
كانت في العقد السابق. هناك مثلًا رواية الكاتب الألباني «راكسب كوسجا
Raxhep
Qosja» الصادرة في ١٩٧٤م بعنوان
«الموت يأتي من عيون كهذه»، وهي يوتوبيا اجتماعية تنحل في شبكةٍ مخيفةٍ
من المكائد السياسية والتحريات البوليسية السرية. الأفلام السينمائية،
كذلك، كانت تتناول موضوعاتٍ مشابهة. في «الكمين» — ١٩٦٨م — ﻟ «زيفوجين
بافلوفيك
Zivojin
Pavlovic»، يشهد شيوعيٌّ مثالي
«دلماسي»
١٩⋆ ذهب في مهمة إلى «صربيا» بعد الحرب، يشهد أمثلةً مروِّعة
على التدهور؛ بشر يتم تصفيتُهم بناءً على وشاياتٍ اعتباطية، قادة
حزبيون يخترعون انتصارات ويُخفون مخالفات وخطايا مشينة، سرقات وأعمال
اغتصابٍ ودعارة متفشِّية.
جزءٌ كبير من هذا الأدب كان يشجِّع على قراءة ما بين السطور، كما هو
الحال بالنسبة لقصة «بيتر إسترازي
Peter Esterházy»
القصيرة «الناقلات» (١٩٨٣م)، التي يمكن تأويل سرد الراوي فيها عن طفلةٍ
مغتصَبة، واعتباره قصةً رمزيةً على غزو السوفييت للمجر. نقاد ومحلِّلو
أدب شرق أوروبا الوسطى، يجادلون باستمرار بأن الكتابة المجازية
المواربة كانت دائمًا بديلًا هزيلًا للفعل السياسي، وبأن — حتى —
الكُتاب «المنشقين» كانوا يُحاوِلون مجاملة وتجميل بنية السلطة من خلال
تلك المواربة.
٢٠
من الواضح أن معظم كُتاب شرق أوروبا الوسطى كانوا قبل ١٩٨٩م ملتزمين
ﺑ «جماليات المقاومة» أكثر منهم بالمعارضة الصريحة، محتفظين — بكبرياء
— بانفصالهم عن سيطرة السياسة على الحزب، وإن لم يجعل ذلك أدب ما قبل
١٩٨٩م بمنأًى عن السياسة. الاستكشافات المجازية والتخفِّي وراء الرموز
في هذا الأدب، كثيرًا ما كانت تقضُّ مضجع «الدوجما» الرسمية بطرقٍ
مختلفة. ليس من الغريب إذن أن يكون عددٌ من الروايات السلوفينية
والصربية التسجيلية عن معتقلات «جولي أوتوك» مقبولًا، بينما تثير
الروايات السبع الكئيبة للكاتب «دانيلو كيس Danilo Kis» عن
الثورة الشيوعية والفظائع الستالينية كثيرًا من الجدل، وبخاصة رواية
«قبر لبوريس ديفيدوفتش» (١٩٧٥م)؛ أما سبب الجدل فهو لأنها تذهب إلى ما
هو أبعدُ من التخييل التاريخي الروائي، الذي يثير قضايا أيديولوجية
أكثر من كونه مجرد عملٍ تسجيلي.
كان السياق ما بعد الستاليني الذي يعمل في إطاره كُتاب شرق أوروبا
الوسطى، يحتوي بداخله دوافعَ متناقضة تضم الاشتراكية والقومية والهيمنة
السوفييتية والتجريب. القمع الذي تعرَّضَت له المحاولة التشيكية في
١٩٦٨م لإقامة «شيوعية بوجهٍ إنساني»، فاقَم الصراع بين الهيمنة
السوفييتية والنماذج الشيوعية البديلة (الوطنية أو القومية). الدول
التي رفضَت المشاركة في احتلال «براغ» (رومانيا ويوغوسلافيا) انتهجَت
شكلًا من القومية الدفاعية (المضادة للسوفييت) أصبح بعد ذلك نوعًا من
رُهاب الأجانب المثير للضيق. رواية «ديمتريو رادو بوبيسكو
Dumitru Radu
Popescu» (الصيد الملكي ١٩٧٣م)،
على سبيل المثال، توحي — وإن رمزيًّا — بأن الشيوعية «سلعة مستوردة»،
وبأنها «طاعون» أصاب الروح القومية بالتشوُّه. الرواية تبدأ برحلة صيد
ينظِّمها السادة الجدد بقيادة «جالاتيوان» وهو مسئولٌ رسمي شيوعي. هذا
الحدث يخرق القوانين القديمة للقرية، ويسخر من القوى التقليدية حيث
يسيطر القرويون، مؤقتًا، على مجموعة من الكلاب تحمل أسماء «قيصر»
و«نابليون» و«بطرس» و«فرانز جوزيف» و«هتلر» و«جوزيف» (ستالين)، ولكن
مشهد الصيد هذا يتبعه تفشٍّ غامض لمرض الكلب، الذي يستخدمه ويتلاعب به
بخبث «جالاتيوان» وشركاؤه؛ وبتحريضٍ منهم تسقط القرية في أشكال من أكل
لحوم البشر، وتضحِّي بمنشقين مثل «دانيلا» طبيب القرية والمحقق في
الانتهاكات الحزبية. الراوي، مصورًا خط المراقبين المراهقين في روايات
«ليون بوروفسكي Leon
Borowski» و«جوزيف سكفورسكي
Josef
Škvorecký» و«بوميل هرابال
Bohumil
Hrabal» و«إيمري كيرتز
Imre
Kertész» الذين يحتفظون بمسافة
بينهم وبين العالم الرسمي، هذا الراوي يطرح سؤالًا «مدببًا» في آخر هذا
الجزء:
«يا إلهي! كيف تُصاب الكلاب في قريتنا بالسُّعار، بينما
تمارس حياتها في أماكنَ أخرى من حولنا، دون أن يملأ الزبد
أفواهها أو يجمعونها لإطلاق النار عليها؟ لماذا عندنا نحن؟ ثم
سألتُ نفسي: ولكن ماذا لو لم يُصَب دانيلا بالسُّعار؟ ماذا لو
كان أولئك الذين يحاولون تدميره هم الذين أصيبوا؟ لقد كانوا
يهيجون الكلاب عليه، ويدفعونه دفعًا إلى القبر دون جريرة.»
٢١
وكما في مسرحية «الخراتيت» ﻟ «إيوجين إيونسكو
Eugene
Ionesco»؛ فإن الطاعون يأتي من
الخارج ليلوث الثقافة الرومانية الأصلية، التي تفقد القدرة على حماية
نفسها ضد الأجسام الأجنبية (البيولوجية والأيديولوجية). هذه الفكرة
الرمزية كانت تتردَّد في روايات أخرى نُشرَت في رومانيا في السبعينيات،
ولكن القُراء لا يُغفِلون السخرية من أن التغلغل «الأجنبي» في الفترة
الستالينية، كانت قد حلَّت محله في الوقت نفسه أشكالٌ «محلية» من
الدكتاتورية بقيادة «جورج جيورجي ديج Gheorghe Gheorghiu
Dej» و«نيكولاي شاوشيسكو».
من ناحيةٍ أخرى، هذه السخرية كانت مفتقَدة عند كتاب مثل «إيوجين
باربو Eugene
Barbu» الذي كان يغذِّي رُهاب
«شاوشيسكو» القومي من الأجانب، ذلك الشعور الذي كان يتنامى باضطراد.
تأريخه ﻟ «فالاشيا» القرن الثامن عشر (الأمير – ١٩٦٩م) حرَّض دارسًا
محليًّا هو «إيون فالاهول Ion
Valahul» (إيفون الروماني) ضد
الأمراء اليونانيين الفاسدين الذين كانوا يحكمون الجزيرة لحساب
الأتراك. رؤية «باربو» لمنطقة وقعَت فريسة للحكام الأجانب وممارساتهم
الفاسدة، يمكن قراءتها بسهولة بوصفها رمزًا على رُهاب الأجانب في تاريخ
رومانيا بعد الحرب. حتى الرواية الأكثر حذقًا ومهارة «قاموس الخزر
(١٩٨٤م)» للكاتب الصربي «ميلوراد بافيك Milorad Pavić»، هذه
الرواية التي تحدَّت الفكرة الشيوعية للتاريخ بدمجها للمراحل وخلط
الأجناس والثقافات ما زالت تدعم سرديةً قوميةً عِرقية، من خلال ربطها
بين الصرب وإمبراطورية الخزر المتخيَّلة.
القوميات الرومانية واليوغوسلافية والتشيكية، والهنغارية إلى حدٍّ
ما، استغلَّت بمهارة أعمال كتاب مثل «بوبسكو
Popescu» و«كونديرا
Kundera» و«بافيك
Pavić» و«إستيرازي
Esterházy» الذين عارضوا الستالينية
(أو الشيوعية بمعنًى أوسع) باسم المصالح القومية أو الإقليمية، وعلى
الرغم من ذلك، بمجرد أن أصبحَت القومية جزءًا مهمًّا من الأيديولوجية
الرسمية المنقَّحة، أصبحَت موضع مساءلة من قِبل الكتاب الذين كانوا
ينظرون بعدم ثقة إلى أي نوعٍ من السرديات الكبرى. الراوي في قصة
السلوفاني «مارجان تومسيك» القصيرة «أنيتا»،
٢٢ يوضِّح كيف أن الشخصية (المذكورة في عنوان القصة) لم تكن
تشعر بأي انجذاب نحو الدوتشي «بنيتو موسوليني» في إيطاليا، ولا نحو
الحزبَين الشيوعيَّين في يوغوسلافيا. مثل شخصيات «تومسيك» الأخرى،
نجدها تقاوم الانقسامات التي يصنعها الفاشست أو الحكومات الاشتراكية.
أسلوب روايات «تومسيك» خليط من التعبيرات «السلوفينية» و«الكرواتية»
و«الإيطالية» أكثر مما هو تعبير عن لغةٍ قومية، كما أن بنية أعماله
نفسها أقرب إلى البنية الهجين التي تجمع بين الواقعية والفانتازيا
والمحلية الأوروبية، على نحوٍ يذكِّرنا بواقعية كُتاب أمريكا اللاتينية
السحرية.
على نفس المنوال، يضع «ستيفان بانولسكو
Stefan Banulescu»
طموح الثقافة الرومانية نحو السرديات الكبرى موضعَ المساءلة. روايته
الصادرة عام ١٩٧٧م بعنوان «كتاب ميتوبوليس» يصوِّر هذا التوجُّه إلى
درجة المحاكاة الساخرة. في مدينة «ميتابوليس» الواقعة في منطقة الدانوب
(التي يقصد بها بوخارست) نجد بيزنطة الإمبريالية مستخدَمةً باعتبارها
أسطورةً رمزية للثقافة الرومانية، بينما مسرحية «حفلة تنكرية بيزنطية»
التي يأمر بها «بازاكوبول
Bazacopol»، الحاكم الجديد
للمدينة، هي تذكرةٌ ساخرةٌ بتدهور وانحدار النماذج البيزنطية الأولية
إلى كليشيهات ذات طابعٍ قومي. مشروعات «بازاكوبول» الكبرى لإعادة
الهيكلة تهدِّد العالم التقليدي ﻟ «ميتابوليس»، وتُسهِم مع «أولئك
الذين يريدون استلاب ثرواتها» في «عزل وإغراق» المدينة العظيمة.
٢٣ قليل من القُراء الرومانيين هم الذين لم يدركوا الإشارة
إلى مصير «بوخارست» التاريخية التي شرع «شاوشيسكو» في تدميرها في أواخر
السبعينيات. ولكن الرواية قدَّمَت أيضًا نموذجًا مضادًّا ﻟ
«بازاكوبول»: «بوليدور
Polydor»، الخياط المُتخيَّل الذي
يصنع المعجزات بمقصه. الخياط هنا، رمز للكاتب المجدِّد الخلاق، الذي
يستخدم مواد الماضي على نحوٍ إبداعي ليصنع منها أزياءً جديدة.
كان أسلوب إعادة الصياغة الخيالية هذا هو أبرز مظاهر الكثير من أدب
شرق أوروبا الوسطى قبل ١٩٨٩م، وكانت الموضوعات الصعبة في تاريخ المنطقة
بعد الحرب تتطلب مثل هذه الاستراتيجية المعقَّدة؛ أما الموضوعات الصعبة
التي نقصدها فمن بينها:
الدمار الذي لحق بالمجتمعات التقليدية في الحرب والهولوكوست
(«كيس Kis» و«جيورجي كونراد
György
Cónrad» و«سورين تيتل
Sorin
Titel»).
أهوال وفظائع الكولاج الشيوعي («كيس
Kis» و«مارينات
Marinat» و«فاسيل باركا
Vasyl
Barka» و«بول جوما
Paul
Goma» و«كارول ستاجنر
Karol
Stajner»).
فقدان الهوية نتيجة النفي الإجباري («ويتولد جومبروفيتش
Witold
Gombrowicz»)، أو تجارب
الاغتراب التي مر بها الناس العاديون في ظل الشيوعية («كونديرا
Kundera»، «هرابال
Hrabal»، «إسترازي
Esterházy»، «بانوليسكو
Bănulescu» و«بارال
Paral» و«كوسجا
Qosja»).
يبدأ «ستاجنر» بتقرير عن اعتقاله في الجولاج السوفييتي «سبعة آلاف
يوم في سيبيريا» — ١٩٧١م — متسائلًا ما إذا كانت تجربتُه ستُعتبَر
«بعيدة الاحتمال ومغرضة.»
٢٤ كانت أحداث اعتقاله تتطلب هذا الشكل من الكتابة التسجيلية
وأن تقلل من أهميتها في الوقت نفسه. القصص التي سجَّلها «كيس» في
روايته «المقبرة» إشكالية كذلك؛ إذ إنها تنتهج أسلوبًا توثيقيًّا، وفي
نفس الوقت ليست أوتوبيوجرافية أو حقيقية تمامًا. «وليمة في الحديقة» نص
«كونديرا» الذي صدر بداية في ١٩٥٦م، كذلك نصٌّ مختلط. شخصية المؤلف
«ديفيد كوبرا
David
Kobra» هي امتداد ونظير في الوقت
نفسه ﻟ «كونراد» وسرديته التي تغطي قصته، بدءًا من اضطهاده في الطفولة
باعتباره يهوديًّا، وانتهاءً بتجاربه في ١٩٥٦م، كما أنها تتضمن أيضًا
شخصيات من حياة «كونراد»، على نحو يخترق الحدود بين الحقيقة والخيال.
العمل، بشكلٍ عام، مزيج من الرواية والمقال واليوميات الأوتوبيوجرافية.
٢٥ كثير من الأدب الهنغاري في الستينيات والسبعينيات كان
يعتمد بِنًى هجينة وغير مستقرة كما يرى «بياتريس توتوسي
Beatrice
Tötössy»؛ ففي رغبتهم للتحرُّر من
قيودٍ اشتراكيةٍ مفروضة «أنتجت قواعدَ نهائية كبَّلَت الثقافة والحضارة
الهنغارية»، وللخروج من حالة الجمود، كان كُتاب مثل «زولتان إندريفي
Zoltán
Endreffy» و«إرنو كولسار سابو
Ernó Kulcsar
Szabo» و«بيلا باكسو
Béla
Bacsó» مع العودة إلى خطاب «شك» وإلى
الأساليب الساخرة.
٢٦ كُتاب آخرون مثل «إسترازي
Esterházy» و«أندريه
كوكوريللي
Endre
Kukorelly» و«ميكلوس إيرديلي
Miklós
Erdely»
٢٧ ذهبوا بإعادة الصياغة إلى ما هو أبعد من ذلك نحو «صدقية»
بلاغية خطابية متحرِّرة من خطاب القوة الذي يعتمد على
المونولوج.
هناك عدد من نقاط البداية المرتبطة بأشكال الأدب الجديدة في شرق
أوروبا الوسطى، وإن كان التحقيب يختلف من دولة إلى أخرى. على الرغم من
ذلك؛ فإن معظم النقاد سوف يصنِّفون الأعمال التالية ضمن الأدب
التجريبي: روايات «كونديرا» التشيكية بدءًا من «المزحة» (١٩٦٧م)،
كتابات «إستيرازي» الكثيرة وعلى رأسها كتابه «مقدمة للأدب الجميل»
(١٩٨٦م)، وهو مونتاج سردي لموضوعات وتجارب مختلفة تمزج الخيال بالتاريخ
بالسيرة الذاتية، والأعمال الروائية لكلٍّ من «كيس» و«بافيك» في صربيا،
ومسرح «سلافومير مروزك
Slawomir Mrozek» و«تاديوز روزفكز
Tadeusz
Rozwicz» في بولندا. كذلك، من
الأعمال التي يتردد ذكرها، هناك: «الرمي بالذخيرة الحية» (١٩٨١م)
للكاتب الهنغاري السلوفاكي «لاجوس جرندل
Lajos Grendel»،
و«ستيفيكا سفيك بين فكَّي الحياة» (١٩٨١م) للكاتب الكرواتي «دوبرافكا
أجريسك
Dubravka
Ugresic»، و«العالم في يومَين»
(١٩٧٧م) للكاتب الروماني «جورج بالايتا
George Balaita».
هذه الأعمال كلها تصور على نحوٍ درامي نضال كاتب أو راوٍ أو جماعة
اجتماعية لتقديم رؤيةٍ صادقة عن الحياة، في عصر تطغى عليه الكليشيهات
الأيديولوجية والثقافية. التركيز على الكليشيهات الأيديولوجية وأساطير
أوروبا الشرقية ملمح رئيسي من ملامح لونٍ آخر — غير عادي — من الأدب
الروائي. أقصد «روايات القواميس» عند كُتاب مثل «فيرنس تيميسي
Ference
Temesi» و«بافيك
Pavić» و«ميرسيا هوريا سيميونسكو
Mircea Horia
Simionescu»، التي تصوِّر وتُحاكي
على نحوٍ ساخر وتُعيد اختراع ملامحَ مدنيةٍ محليةٍ ما أو ثقافةٍ قومية
أو هويةٍ إقليمية. سلسلة سرديات «سيميونسكو»، على سبيل المثال،
المكوَّنة من «قاموس أسماء» زائف، و«ببليوجرافيا عامة» للموضوعات
والأساطير، و«موجز» لكوارث القرن الحقيقية أو المتخيَّلة و«علم السموم»
(وهي عناوين المجلدات الأربعة التي تمثِّل سلسلة سيميونسكو السردية)،
٢٨ هذه الأعمال تهدم، تقريبًا، كل أساليب المخزون الواقعي،
بينما تفضح ثقافة المؤلف — في الوقت نفسه — باعتبارها عالمًا مريضًا
بالقصور الذاتي والنمطية.
بعض هذا الأدب تشكك في النظريات الرسمية عن نتائج «الثورة
الاشتراكية»، أو حتى الجهود المبذولة لإصلاح أو تغيير النظام من
الداخل. «جوزيف سكفورسكي
Josef
Skvorecky» الذي هاجر إلى كندا في
أوائل السبعينيات، تناول «ربيع براغ» بسخريةٍ شديدة في «اللعبة
المعجزة» (١٩٧٢م)، عاقدًا مقارنة بين «معجزة» (١٩٦٨م) السياسية ومعجزةٍ
احتيالية دبَّرَتها الكنيسة الكاثوليكية في مدينةٍ تشيكوسلوفاكيةٍ
صغيرة في ١٩٤٨م (عام استيلاء الشيوعية على السلطة). هذه المقارنة تسخَر
من المثالية الساذجة لربيع براغ، بينما تشير في الوقت ذاته إلى
التواصُل الأيديولوجي بين دينٍ راسخ والشيوعية. «فاكلاف هافيل
Václav
Havel»، الذي بقي في تشيكوسلوفاكيا
بعد القمع العنيف لربيع براغ، استمَر يكتب المقالات والمسرحيات التي
تدين المساومات والتنازلات التي صادقَت على تطبيع أواخر السبعينيات
وأوائل الثمانينيات.
٢٩
الأعمال التي نشرها جيل من الكُتاب الذين ظهروا في الثمانينيات قبل
انهيار الشيوعية مباشرة، ربما كانت أكثر حدةً ومباشرةً في هجومها على
التمثيلات الرسمية، وفضح التوجهات الأيديولوجية المتناقضة لاشتراكية
الدولة والقومية ومعاداة السوفييتية. رواية «ميرسيا نيدلكيو
Mircea
Nedelciu»: «التوت البري (١٩٨٤م)»
على سبيل المثال، تصوِّر على نحوٍ درامي مدى صعوبة استخلاص «روح
الحقيقة» الثقافية من الأدب الروائي الرسمي الذي كان يحجُبها، كما
يُمكِن أن نجد اهتماماتٍ مماثلة في روايات «ريزارد كابوسنسكي
Ryszard
Kapuscinski» و«ميسكو كرانجك
Mišco
Kranjec»
٣٠ التي تمزج التحقيق الصحفي بالوثائق بالتفسير التاريخي، وفي
أعمال كاتبات من دعاة النِّسوية مثل «جابريلَّا آدامستينو
Gabriela
Adamesteanu» و«كريستينا كوفتا
Krystyna
Kofta» و«لودميلا بترو شيفسكايا
Lyudmila
Petrushevskaya» التي تحطِّم
السرديات التقليدية الكبرى (بما في ذلك سردية القومية) لإفساح المجال
لتمثيل التجربة الأنثوية على نحوٍ أكثر أمانة. متنقلة بين أسلوبٍ أكثر
موضوعية في السرد والمونولوج الداخلي والحكي الشفاهي، تستعيد رواية
«آدامستينو»: «صباح ضائع (١٩٨٣م)» مناطق من الحقيقة والواقع أغفلَها
الخطاب التاريخي الرسمي. هذه الاستعادة أنثوية إلى حدٍّ بعيد، ومنتبهة
إلى أدق تفاصيل الحياة وأساليب الحكي الشفاهي، واليوميات والمونولوج
الذاتي. رواية «آدامستينو» ذات البنية المعقَّدة، رد على تدهور الحياة
الاجتماعية الرومانية تحت حكم «شاوشيسكو»، مع وجهاتِ نظرٍ متداخلة
بإعادة بعض الترابط إلى الحالة العائلية والقومية.
لم يكن «الجنوح إلى الحقيقة» حاضرًا في الأدب الروائي للثمانينيات
فحسب، وإنما في شعر ذلك العقد وفنونه البصرية كذلك؛ لكي يحل محل
«الجنوح إلى الأسلوب» والاهتمام به. المبدعون الشباب الذين ظهروا في
الثمانينيات لجئُوا إلى الشيفرات والاستراتيجيات الأكثر تنافرًا، لكي
توحي — في تناقضٍ مباشر للشمولية الشيوعية — بعالمٍ غير متجانس ومتشظٍّ وتعدُّدي.
٣١ النقد الأدبي كذلك لعب دورًا مهمًّا في عملية إعادة
التقييم. الجيل الجديد من النقاد الذي تصدَّى لإعادة بناء الأنواع
الأدبية وتحفيز الإبداع للخروج على المألوف والسائد، هذا الجيل جاء إلى
الساحة مزودًا باستراتيجياتٍ تفسيريةٍ جديدة من وحي البنيوية وما بعد
البنيوية والسيميوطيقا وعلم اجتماع ما بعد الماركسية. هكذا كان يظهر
بالتدريج مفهومٌ تجريبيٌّ تنقيحي للتمثيل يعتمد على مساءلة الذات، وليس
على الراوي العليم؛ كذلك أصبحَت إعادة النظر في الواقعية جزءًا من نقدٍ
أشمل للأفكار المكوِّنة للثقافات في أوروبا الشرقية، والذي كان يحتوي
كذلك أسئلة الخصوصية القومية والدور الاجتماعي للأدب والاستقلالية
الفنية.
في الوقت نفسه، علينا أن نتذكَّر أنه في مقابل كل خطابٍ ناجح في شرق
أوروبا الوسطى قبل ١٩٨٩م، كانت هناك خطاباتٌ أخرى لم تتمكن من الظهور
أو أن تحظى بالاعتراف بها. حتى وإن كانت الرقابة قد أصبحَت أقل صرامة
في مرحلة ما بعد «ستالين»، فإن آثارها لم تكن أقل ضررًا؛ فقد كان
الكُتاب يحوِّلون الرقابة المؤسسية إلى «استبدادٍ مستنير» للرقابة الذاتية.
٣٢ الاتجاهات الأدبية الجديدة لن تظهر إلا بعد انكسار أو ضعف
القديمة. أعمال «كونديرا» و«ميلوز فورمان
Milos Forman»، كانت
فرصها قليلة في تشيكوسلوفاكيا قبل ١٩٦٨م، كذلك فإن أعمال «كيس
Kis» الإبداعية لم تظهر إلا بعد
انحسار «مبادئ الواقعية الاشتراكية المهجَّنة باليوغوسلافية»، حتى
حينذاك استمرت في الصراع مع ثقافةٍ صربيةٍ كارهة للأجانب، «رافضة
للمؤثرات الأدبية الأجنبية باعتبارها زائفة»، مفضِّلة عليها «واقعية
بنكهةٍ قوميةٍ خاصة».
٣٣ ما زاد الأمور تعقيدًا، أن الأنظمة القومية مثل تلك في
يوغوسلافيا ورومانيا كانت تستغل انحياز ما بعد الحداثة للمحلي على حساب
«العالمي». يقدِّم لنا «توميسلاف لونجينوفتش
Tomislav
Longinović»، مثالًا على ذلك، تلك الدائرة
من المنظرين ما بعد الحداثيين (صحيح أن المجموعة كانت قصيرة العمر
ولكنها مؤثرة) الذين تجمعوا حول مجلة «فيديشي
Vidici»،
٣٤ وكانت تستهدف فضح ضيق أفق الثقافة اليوغوسلافية العِرقية،
بينما تتوقع فلسفاتها المتناقضة ذات النهايات المفتوحة عدم الوضوح
الأيديولوجي في يوغوسلافيا ما بعد الشيوعية. في دول البلطيق، كانت
العلاقة بين ما بعد الحداثة والاشتراكية والقومية أكثر تعقيدًا؛ حيث لم
يكن بالإمكان التنبؤ بأساليب أو نتاج التداخل والتفاعل بين التوجهات
الثلاثة؛ فكما يقول «إب أنوس
Epp Annus» و«روبرت هيوز
Robert
Hughs»:
قد تبدو القومية مشروعًا حديثًا، فكرة موحدة وغائية
بالضرورة، وعلى هذا الأساس هي بعيدة جدًّا عن التفكير ما بعد
الحداثي. الاشتراكية بدورها لا تحاول التغلب على التفكير
القومي فحسب، ولكنها تعبِّر بكل وضوح عن ازدرائها لما بعد
الحداثي. على الرغم من ذلك نرى أن الظروف في فترة الاشتراكية
المتأخرة في دول البلطيق، وربما في الدول الاشتراكية بشكلٍ
عام، قد أثارت صلاتٍ متداخلةً معقَّدة بين هذه الأيديولوجيات الثلاث.
٣٥
ظاهريًّا، كان التجريب ما بعد الحداثي يتحدى السرديات الكبرى لكلٍّ
من الاشتراكية والهيمنة السوفييتية ويخدم حركة المقاومة الوطنية، ولكن
القومية مشروعٌ غائي يحرِّك الأمة نحو مستقبلٍ مثالي؛ أي إن الأدب
المقاوم الذي يصارع سردياتٍ كبرى (سردية الاشتراكية)، كان يستعيد
سرديةً أخرى (النهضة الحديثة). بهذا المعنى، فإن ما بعد الحداثة كانت
تقوم بوظيفتَين؛ كبديل لما بعد القومية السوفييتية وكأحد العوامل
المساعدة عليها. حتى الكُتاب الأكثر تجريبًا، الذين تحدَّوا المشروع
الحداثي (سواء أكان اشتراكيًّا أو قوميًّا)، ما زالوا يتبنَّون نوعًا
من «الخطاب المزدوج»، أما ازدواجيته فلأنه كان يعبِّر عن حنين لماضٍ
مثالي، وفي الوقت نفسه يُقِر بأن «ذلك الماضي المتسق ليس سوى أسطورة،
ولم يحدث أن كان له أي وجودٍ حقيقي.»
٣٦ مثل هذا العمل كان يُعقِّد العلاقة بين الماضي والحاضر،
وبين التاريخ والرواية وبين الاشتراكية والقومية دون أن يجد حلًّا
لذلك.
هذا الوضع يفسِّر، في جانب منه، سبب مرور ثقافات شرق أوروبا الوسطى
بأزمة هُوية بعد عام ١٩٨٩م مباشرة. كان المشهد ما بعد الشيوعي يبدو غير
متماسك بشكلٍ كبير لفترةٍ طويلة؛ أي خطابٍ تنويري للتحرُّر الثقافي كان
يتعايش مع شكلٍ آخر من القومية، مفهوم من القرن التاسع عشر لاشتراكية
السوق تغطيه طبقة من عدم الثقة بالنزعة الاستهلاكية الجماهيرية، نماذج
من الإنتاج الثقافي مسيَّسة بشكلٍ مُفرِط تنافس جمالياتٍ وتسلياتٍ
رخيصة. على الرغم من ذلك كله، هناك دليلٌ كافٍ على أن نموذجًا آخر من
الثقافة السياسية والأدبية، أكثر ديمقراطية، يترسخ في المنطقة.
التحوُّل الذي حدث بعد عام ١٩٨٩م شجَّع التفكير النقدي بشأن مفاهيمَ
أساسية، مثل تلك الخاصة ﺑ «الثقافة القومية» أو «النظام العام» القائم
على المشترك العِرقي. في التسعينيات، خصَّصَت المجلات الأدبية
والثقافية العديدة في رومانيا، أعدادًا خاصة لتناول قضايا التداخل بين
المركزية العِرقية والقومية والأحقاد الجنسية والاجتماعية، كما تناولَت
بعض المناطق الشديدة الحساسية في الثقافة، مثل مسحة القومية المثالية
في أعمال معظم كُتاب القرنَين التاسع عشر والعشرين الرومانيَّين، أو
إسهامات كُتابٍ معيَّنين بعد الحرب في الصيغة «الحمراء» من القومية. في
بولندا ودول البلطيق، كان هناك جدالٌ مشابه أدى إلى إعادة اكتشافٍ حذرٍ
لتخومٍ متعددة الثقافات وتقاليدَ متعددة الجنسية، وسط ما كان يُعتبَر
ثقافاتٍ أحادية في وقتٍ ما. بمجرد التعرف على الجذور اللغوية
والمجتمعية المتعدِّدة للشعوب في شرق أوروبا الوسطى، لم يعُد بالإمكان
النظر إلى الهوية القومية باعتبارها «مونولوجية»، وإنما باعتبارها
«ديالوجية»، أي باعتبارها شكلًا من أشكال الهُوية «الثقافية المتعددة
الأجزاء والعناصر».
٣٧ رؤية الهوية القومية على هذا النحو، كما يقول «فيكتور
نيومان
Victor
Neumann»، تُمكِّننا في الوقت نفسه
من إدراك التشابه بين القيم الإنسانية وأصلها المشترك، و«افتراض
التعددية بالتماس التعددية في المزيد من الهويات الثقافية.»
٣٨
فكرة «نيومان» عن الهوية المتعددة الثقافات تعكس التأكيد على هجنة
وسياسة الاشتمال الموجودة في نظرية ما بعد الكولونيالية. بعد إعادة
تأطير مناقشات شرق أوروبا الوسطى اليوم من خلال المفهوم الغربي لما بعد
الكولونيالية؛ فإن التدخلات النظرية الحديثة مثل تلك الموجودة بالكتاب
الذي نقلت عنه عبارات «نيومان» السابقة، تكون قد ساعدَت في إعادة الأدب
إلى وضعه، وتأكيد دوره في تنمية هُويةٍ متعددة الأجزاء والمكوِّنات،
واستمراريةٍ عابرة للثقافات. الإطار ما بعد الكولونيالي مفيد لثقافات
شرق أوروبا الوسطى الموجودة عند مفترق ثلاثةِ نظمٍ إمبراطورية
(العثمانية – هابسبورج – القيصرية السوفييتية)، وإنْ بمعنًى رمزي على
الأقل؛ وذلك يساعدها في فهم مرحلة ما بعد الشيوعية باعتبارها تحرُّرًا
من الكولونيالية، ومحاولة لتحرير تقاليدها، ليس من هيمنة النموذج
السوفييتي فحسب، وإنما من الآثار الكولونيالية الأقدم كذلك (مثل
العثمانية أو النمساوية الهنغارية). كانت هناك عملية «تحرُّر قوية» من
الكولونيالية بعد ١٩٩٥م، ليس في منطقة البلطيق فحسب، وإنما في بلغاريا
وسلوفاكيا ومالدوفيا وأوكرانيا كذلك؛ حيث يستمر الأدب المعاصر في
التعبير عن صدمة هويةٍ نفسيةٍ سياسية مستوطنة المنطقة. من المؤكَّد أن
الإطار ما بعد الكولونيالي في حاجة إلى أن يطبَّق تدريجيًّا مع فهم
للفارق الدقيق لسياق شرق أوروبا الوسطى. مع استثناءاتٍ قليلة، لم تكن
معظم دول المنطقة تعتبر نفسها «مستعمرات» للاتحاد السوفييتي، ولكنها
أفادت من درجةٍ من الاستقلال الذاتي مكَّنتها من صياغة شكلٍ من
الشيوعية القومية خاصٍّ بها. معظم هذه الدول ما زال باقيًا في المجال
الأيديولوجي للنفوذ السوفييتي؛ فكثيرٌ منها مر بعملية «روسنة» —
Russification — في مرحلة أو
أخرى، وكان يتم التحكُّم فيها إنتاجها الثقافي والاقتصادي بصرامةٍ من
قِبل موسكو. حتى، دون احتلالٍ عسكريٍّ مباشر، كانت دول شرق أوروبا
الوسطى في وضع التابع لكونها محرومة من المبادرات الحقيقية أو
الاستقلال الحقيقي، وبهذا المعنى فإن ما ينطبق عليها هو وضع «شبه
المستعمرة» على الأقل.
٣٩
أفضل الأدب المنشور في المنطقة بعد ١٩٨٩م، يتحدى كلًّا من السرديات
الكبرى للماركسية اللينينية والانسحاب البطريركي إلى القومية. كان من
الأسهل جعل السردية الكبرى للشيوعية تنكمش أو تضعف. على سبيل المثال،
بالاعتماد على وثائق تدل على أن والده، أحد أبناء العائلات
الأرستقراطية العريقة، كان قد أُجبر على أن يكون عميلًا شيوعيًّا ما
بين ١٩٥٧م و١٩٨٠م، نجد رواية «إسترازي Esterhazy»:
«جافيتوت كياداس Javított
Kiadás» (طبعة منقحة–٢٠٠٢م) تقوم
بتفكيك السردية الجمعية وقصة عائلة الكاتب في ظل الشيوعية. هذا العمل
يأخذ شكل اليوميات التي كان «إسترازي» يسجِّلها عندما كان يقرأ ما كتبه
والده للسلطات السياسية بما في ذلك تقاريره، عندما كان يُجرَى إعدام
قيادات ثورة ١٩٥٦م. رواية «آدام بودور Adam Bodor»: «منطقة
سينسترا: فصول من رواية» الصادرة في ١٩٩٢م، أكثر رمزية. الرواية تصور
منطقة اختناق في مكان ما من جبال «كارباثيا»، يصاب فيها بالاختناق كل
من يتعثر فيها. (القراء لا يخطئُون الإشارة إلى الفضاء السلطوي الذي
صنعه نظام شاوشيسكو.)
الأعمال الأدبية الأخرى المنشورة منذ ١٩٨٩م، تطرَّقَت لقضايا أكثر
صعوبة عن الهوية القومية والنوع والعِرق. في «إستونيا»، بينما كان
النقاد يدعون إلى أدبٍ قوميٍّ جديد بعد ١٩٨٩م، كان الكُتاب يقدِّمون
منتجاتٍ ملتبسة تسخر من سردية الاحتفال القومي: كانت إحدى الروايات
تركِّز على أنشطة طرزان في إستونيا أثناء الاحتفالات القومية بالاستقلال،
٤٠ ورواية أخرى على عودة زوج الشاعرة القومية «ليديا كويديولا
Lydia
Koidula» إلى «تالين» في دور
دراكيولا معاصر يَعِد باستخدام بنوك الدم، بدلًا من الفرائس الحية في
الظروف القومية الصعبة.
٤١ زاد تعقُّد مشكلة الهُوية القومية والعِرقية في أعمال
كُتاب الأقليات «الهجين»: الألمانية-الرومانية «هيرتا مولَّر
Herta
Muller، الهنغاري-السلوفاكي لاجوس
جريندل
Lajos
Grendel، اليهودي الصربي-الهنغاري
دانيلو كيس
Danilo
Kiss». هؤلاء مع غيرهم من كُتاب
التعددية الثقافية استعادوا مفهومًا بلا ضفافٍ لشرق أوروبا الوسطى، كما
أعادوا رسم المنطقة باعتبارها كيانًا متصلًا يتقاطع مع تقسيمات الحرب
الباردة السابقة بين الشرق والغرب. في رواية «فيِنَّا بانات
Viena Banat
» (١٩٩٨م) للكاتب ريتشارد فاجنر
Richard
Wagner، نجد العضو السابق في جمعية
ألمانية-رومانية يحاول كذلك أن يرسم خريطةً شاملةً مشابهة نتيجة لحياة
البطل الممزَّقة، التي قضى جزءًا منها في رومانيا الشيوعية باعتباره
ألمانيًّا عِرقيًّا مهمشًا، والجزء الآخر في ألمانيا باعتباره أجنبيًّا
من سُلالةٍ منقرضة وإن كان يتكلم الألمانية.
٤٢ عندما يدرك أن التمايزات العِرقية اصطناعيةٌ إلى حدٍّ
كبير، «وأن الغرب لم يكن سوى وهم»،
٤٣ يحاول البطل أن يرسم خريطته الخاصة التي قد تقرِّب
النصفَين والجغرافيتَين في حياته. هذه الخريطة تضُم أسماء مواقعَ محلية
في أوروبا الشرقية بلغاتٍ مختلفة، تستعيد عالم شبابه المتعدد الثقافات،
وتُنقِذ البطل من «الشعور بالضياع الكامل»،
٤٤ كما تعطيه ومجموعات المهاجرين من شرق أوروبا الوسطى الذين
تجمعوا على الحدود النمساوية المفتوحة في ١٩٨٩م، بعض الشعور
بالانتماء.
وكما يُقِر «ميرسيا كارتاريسكو
Mircea Cărtărescu»:
«لا شيء سيكون مثلما كان، النظام أصبح من المستحيل التعرف عليه، بما
يجعل العودة إلى النموذج الأدبي نفسه مستحيلة. التنوُّع الفوضوي،
وتبديد النصوص وتهجين الإعلام، والافتراض المتزايد لعوالمَ ممكنة، كل
ذلك سوف يحوِّل الأدب إلى لعبةٍ ذهنيةٍ عامة.»
٤٥
هناك وعيٌ قلِق بتغيرٍ جذري في هذه الأوضاع، وكذلك بمعرفة الفرص
الجديدة المواتية. الخريطة الأدبية الحالية لشرق أوروبا الوسطى ليست
أكثر تنوعًا فحسب، بل إنها — كذلك — تنطوي على عدة طبقاتٍ ثرية، بما
يؤكِّد أشكالًا أدبية انتقالية، متعددة الثقافات، عابرة
للنوعية.