الفصل الحادي عشر
«نتساند لكي نقوم معًا»
شعر المقاومة عند المرأة في جنوب أفريقيا،
(١٩٠٨–١٩٨٩م)
يركِّز دارسو الحرب الباردة اهتمامهم عادةً على الصراعات
الأيديولوجية والعسكرية بين الغرب الديمقراطي والشرق الشيوعي،
١ بَيدَ أن هذه الصراعات كانت موجودة، على مستوًى كوني ما
بين ١٩٤٥م و١٩٨٩م، لأسباب من بينها دعم الغرب الواسع لعدد من الدول
المناهضة للشيوعية. أثناء تلك الفترة، كانت الحكومات اليمينية تحاول
جاهدة قمع حركات التحرر وتقرير المصير، التي تقوم بها الشعوب المضطهدة
في دول ومناطق مثل الأرجنتين وكوبا، والسلفادور وجواتيمالا، ونيكاراجوا
وموزمبيق، وزيمبابوي وجنوب أفريقيا، ولبنان والضفة الغربية. بين مواقع
الصراع هذه، تقف جنوب أفريقيا نموذجًا فريدًا بسبب ذلك المزيج الحكومي
الغريب، من العِرقية والقومية الأفريقية المغرقة في المحافظة؛ كما أدى
انتصار هذه الأيديولوجية إلى انتصار الحزب القومي في ١٩٤٨م، وما تمخَّض
عنه ذلك من تشريعات وسياسات أرست نظام الأبارتايد السيئ الذكر والفصل
العنصري والتراتبية العِرقية. استمرَّت فترة الأبارتايد في جنوب
أفريقيا إلى ١٩٩٤م، وأفرزَت حركةَ مقاومةٍ واسعة؛ حيث تحدَّى المؤتمر
الوطني الأفريقي (
ANC) والحزب الشيوعي لجنوب
أفريقيا وغيرهما من المنظمات ذات التوجهات اليسارية، سيطرة سلالة
الكولونياليين الأوروبيين (الذين كانوا يمثِّلون ١٣٪ من السكان)
العنصرية على سكان البلاد من الأفارقة الأصليين (الذين يمثلون ٨٧٪).
٢
على الرغم من نُمو حركة المقاومة الداخلية للأبارتيد خلال كل عقدٍ من
العقود؛ فإن الثمانينيات على وجه الخصوص جديرة بالدرس؛ بسبب زيادة
وتيرة القمع الحكومي الذي شهدَته، على أنه من الضروري أن نعرض بدايةً
للسياق التاريخي الذي جرى فيه ذلك. في الخمسينيات كان اﻟ
ANC قد بدأ حملةَ تحدٍّ واسعة أدَّت
إلى قيام تظاهُراتٍ عَبْر البلاد لم تكن تتسم بالعنف، بما في ذلك
المسيرة النسائية الشهيرة إلى بريتوريا في ١٩٥٦م، احتجاجًا على
القوانين التي تحتِّم على الأفارقة السود حمل دفاتر هوية تُعرَف ﺑ
«جوازات المرور». أخذ عقد الستينيات منحًى عنيفًا، عندما أطلقَت قواتٌ
حكومية النار على المحتجين العُزل لتُردي ٦٩ قتيلًا، فيما أصبح يُعرَف
بمذبحة «شاربفيل
Sharpville»، وفي ١٩٦١م أُلقي
القبض على «نيلسون مانديلَّا
Nelson Mandela» وغيره من زعماء
ANC متهَمين بالخيانة العظمى؛ ليُحكَم
عليهم بالسجن مدى الحياة، كما شهدَت الستينيات كذلك تطوير اﻟ
ANC لجناحه العسكري. في السبعينيات،
كانت هناك انتفاضةٌ كبرى في منطقة «سويتو
Soweto» في ١٩٧٦م،
عندما قام الأطفال بالاحتجاج على تعليم «البانتو» (الذي كان يتسم
بالفصل العنصري والمستوى المنخفض)، وسرعان ما انتشَرَت المظاهرات في
مناطقَ أخرى.
٣ في الثمانينيات، تفاقم القمع الحكومي، وزادت وتيرة مقاومة
الأبارتايد؛ حيث استمر الرئيس «ب. دبليو. بوتا
P. W.
Botha» في انتهاج سياسة الحزب
القومي، لإجبار الأفارقة على الانتقال إلى مواطنَ بعيدة للإقامة بها؛
لينتج عن ذلك عملياتُ هجرةٍ واسعة؛ حيث كان السود الفقراء يبحثون عن
فرص عمل في المدن أو مناجم الذهب والماس، كما كان الركود الاقتصادي
المتزايد في المناطق الريفية والحضرية ومعدَّلات البطالة العالية،
أسبابًا إضافية لزيادة سخط السكان السود، ولأن «بوتا» كان قد وعد كبار
رجال الأعمال البيض في جنوب أفريقيا بإصلاحات، وكذلك في محاولةٍ لتبييض
وجه الدولة المنبوذة، حاول أن يقلِّل من أهمية القلاقل في البلاد
بتوقيع معاهدة مع حكومة ما بعد الاستقلال في موزمبيق، وقام بجولة
علاقاتٍ عامة في أوروبا في ١٩٨٤م، وكانت كلها محاولاتٍ فاشلة لتحسين
الصورة. وعندما احتج السكان الأصليون على أسعار إيجارات المساكن
وطالبوا بإصلاح التعليم، أطلق الرئيس قوات الدفاع لتواجه الجماهير
بالنيران، والإغارة على المساكن فجرًا، واستخدام قنابل الغاز وسجن وقتل
المحتجين. وعندما زاد حجم المظاهرات، لجأ «بوتا» إلى فرض حالة الطوارئ،
وذلك لأول مرة منذ ١٩٦٠م، لحظر التجمعات واعتقال المحتجين دون تحديد
للمدة. وبحلول سبتمبر ١٩٨٥م، كانت الحكومة قد ألقت القبض على نحو عشرة
آلاف ناشط. أما إحصائيات الوفيات نتيجة انتفاضة ذلك العام فتسجِّل أكثر
من سبعمائة حالة.
٤ على الرغم من ذلك، ظل الناس يتحدَّون الحظر ويتجمعون في
الشوارع والجنازات وقاعات الهيئات والاتحادات والملاعب، يرفعون
الشعارات ويردِّدون القصائد.
هكذا ظهر الشعر ساحةً حيوية للنضال؛ وسيلة لتمثيل التاريخ من وجهة
نظر المضارِّين والمقموعين، سجلًّا للأبطال الذين قضَوا أو سُجنوا،
رافضًا لكل مفاهيم الأدب الموضوعي غير المنحاز.
عندما تتحدث «نادين جورديمر
Nadine Gordimer» عن شعر
الستينيات والسبعينيات في جنوب أفريقيا، تقول إن السود، لكي يحافظوا
على حياتهم، كانوا مضطرِّين إلى التخفي أكثر منهم إلى الوضوح
والمباشرة، ومن هنا كان لجوءُهم إلى الشعر أسلوبًا للمقاومة.
٥ أما «بينيل فيريري شافا
Piniel Viriri
Shava» فيرى أن الشعر الثوري تغير في
الثمانينيات: كان يتحدى الهيمنة العرقية والعنصرية مباشرة بالاتهام
والتحذير والحض على الثورة، كما كان وسيلة لزيادة جماهير الناشطين،
٦ وبتفجير غضب هذه الجماهير وإذكاء روح التضامن كان الشعر
يسهم في بناء وعي جمعي مقاوم.
إسهامات المرأة السوداء في المعركة ضد «الأبارتايد» معروفة جيدًا،
أما إسهاماتها الشعرية فليست معروفة بالدرجة نفسها. نشاطها السياسي
مُوَثَّق في الدراسات الأكاديمية والتواريخ الشفهية والشعارات المغناة،
مثل تلك التي كانت تتردد في مسيرة ١٩٥٦م إلى بريتوريا: تستخفون
بالنساء/ترتطمون بجلمود صخر/تحطِّمون أنفسكم.
٧ المؤكد أن أشهر النشطاء ضد الأبارتايد كانوا من بين الرجال
السود: «نيلسون مانديلا
Nelson
Mandela»، «وولتر سيزولو
Watter
Sisulu»، «جوفان مبيكي
Jovan
Mbeki»، «أوليفر تامبو
Oliver
Tambo» وغيرهم؛ إلا أن النساء
الأفريقيات مثل «ليليان نجوي
Lillian Ngoyi» و«دوروثي نيمبي
Dorothy
Nyembe» و«ويني مانديلَّا
Winnie
Mandela»، وغيرهن من الهنديات مثل
«فاتيما مير
Fatima
Meer» و«إيلا رامجوبن
Ela
Ramgobin» ونساء من البيض مثل
«هيلين جوزيف
Helen
Joseph» و«روث فيرست
Ruth
First»، كنَّ يقمْنَ بتنظيم المظاهرات
ضد قوانين التصاريح وتأسيس روابط نسائية لمقاومة القيصرية، كما تعرض
كثيرٌ منهن للاعتقال. في الثمانينيات استمرَّت قيادة النساء لحركات
الاحتجاج على ارتفاع نفقات المعيشة، وتدنِّي الأجور ومستوى التعليم.
وعلى الرغم من الاعتراف الواسع بإنجازات وإسهامات الناشطات السوداوات،
كان هناك مفهومٌ شائعٌ غير صحيح، وهو أن المرأة السوداء لم تشارك بدرجة
كبيرة كشاعرة حتى آواخر الثمانينيات، عندما بدأت المنظمات الأكاديمية
والشعبية ترثي علنًا هذا الغياب، والحقيقة أن كثيرًا منهن كان قد كتب
قصائد مقاومة في السبعينيات والثمانينيات، وبعضهن نشر أشعاره، ولكن هذا
الإنتاج من الشعر النوعي المقاوم لم يحظَ باهتمام كبير.
إيمانًا بأن «الثقافة سلاح للنضال»، كانت الشاعرات الثوريات
يتناولْنَ — بأسلوب هجومي — موضوعات مثل الاستيلاء على الأراضي،
والتوطين القسري، والعنف الذي يتم برعاية الدولة.
٨ وفي الحقبة الماضية كان هناك نقاد من ذوي الاهتمامات
السياسية يهاجمون القصائد المناهضة للأبارتايد لسذاجتها ومحدودية
موضوعاتها، مثلما كانوا يهاجمون الجماليات العقيمة لتقليد شعري يتصف
بالمركزية الأوروبية.
٩ في مقال لها بعنوان «الوقوف في المدخل»، تقول الشاعرة
«إنجريد دي كوك
Ingrid de
Kok» بضرورة وجود متخيل «ما بعد
قومي»؛ ليكون في الصدارة من التمثيلات الأدبية لما بعد الأبارتايد، كما
يعيد في الوقت نفسه تقييم النصوص المناهضة للأبارتايد، بوصفه جزءًا من
مشروع «لعدم كتابة، وإعادة حكي وتنظيم طبيعة المدون.»
١٠ في هذا المتخيل، سوف يظهر
الجندر
١١⋆ جليًّا، ما دام صوت المرأة قد برز بوصفه مصدرًا مهمًّا في
الفعل ما بعد الكولونيالي. سبق أن قلت في موضوع آخر، إن الشاعرات
المنشقات كتبن قصائد مقاومة لدولة الأبارتايد،
١٢ وفي هذا الفصل من الكتاب أود أن ألبِّي دعوة «دي كوك»
لمقاومة «فقدان الذاكرة الثقافية» بتناول الفعالية السياسية والأدبية
لشعر المرأة السوداء المناهض للأبارتايد في الثمانينيات، وذلك من وجهة
نظر ناقدةٍ نسويةٍ أمريكية بيضاء. اليوم وبعد عشرِ سنواتٍ من قيام اﻟ
ANC بإعلان أول حكومةٍ ديمقراطية،
وبعد عشرين سنةً من إعلان الحزب القومي لحالة الطوارئ ردًّا على نجاح
النشطاء في زعزعة نظام الحكم، يبدو من المفيد أن نعيد النظر في إسهام
هذا النوع من الشعر في تلك اللحظة التاريخية، وفي نُمو حركة المرأة في
جنوب أفريقيا والتأثير في حقل الدراسات الأدبية والتعريفات المتغيِّرة
لأدب الحرب الباردة.
هناك أربعُ مجموعاتٍ تضُم نماذجَ مختارة، تقدِّم لنا نصوصًا وأُطرًا
نموذجية، هذه المجموعات هي:
-
Malibongwe: ANC Women:
Poetry Is Also their Weapon (1982).
-
Black Mamba Rising: South
African worker Poets in Struggle,
(1985),
-
Izinsingizi:
Loudhailer Lives, 1988,
and
,
-
Buang Basadi/Khulumani
Makhosikazi/women speak, (1989).
الشاعرات المقاتلات في Malibongwe، أعضاء الجناح الثوري
ﻟﻠ ANC (روح الأمة) كن يعشْنَ في المنفى،
وتتنوَّع موضوعات قصائدهن بين الولادة والنضال والمذابح الجماعية.
شاعرات العمال في Black Mamba
Rising وIzinsingizi
يتناولْنَ الاستغلال الاقتصادي؛ ورغم أن معظم الشعراء كانوا رجالًا،
نجد شاعرتَين هما «نيس مالانجي Nise Malange» و«سانا نايدو
Sana
Naidoo» تكتبان عن حقوق العمال من
وجهة نظر نوعية. شاعرات Buang
Basadi يتناولْنَ كفاح المرأة
وتحدي البطريركية، وسبق أن قُدمَت تلك القصائد في مؤتمر عن المرأة
والكتابة عُقِد في ١٩٨٨م برعاية اتحاد كُتاب جنوب أفريقيا
(COSAW).
تصوير الشعراء لنضال المرأة السوداء النشِط و«نقلتها المزدوجة» في
البيت والعمل، سيكون إرهاصًا بتطوُّر حركةٍ نسويةٍ في جنوب أفريقيا
تواجه كلًّا من الجنسانية والأبارتايد. قصائد المقاومة التي كتبَتها
المرأة السوداء جديرة بالتحليل الاستعادي؛ لأنها أسهمَت في تكوين
أيديولوجيةٍ نضاليةٍ جماعية، إلى جانب ما جاءت به من جمالياتٍ شعرية
وتوثيق لذات المرأة الكاتبة، ولتحليل تلك الإضافات والتدخُّلات
الشعرية، من المهم كذلك فهم الآراء النقدية المختلفة حول التناقضات
والمطالب السياسية المُلِحَّة للتمثيل الواقعي نفسه.
المجلد المهم عن الشعر النضالي Malibongwe (In Praise of
Women) نُشر في السويد في ١٩٨٢م
باعتباره جزءًا من احتفال اﻟ ANC المحظور بعام المرأة.
العنوان الفرعي للمجموعة: ANC
Women: Poetry Is Also their
Weapon يكشف عن الوضعية الثانوية
للمرأة وكتابتها حتى في إطار الحركة المناهضة للأبارتايد، إلى جانب
الإيمان الراسخ من قِبل اﻟ ANC بقوة الشعر ودوره في بناء
معرفةٍ مناهضةٍ للهيمنة. معظم الشاعرات، في تأكيدهن النضالَ من أجل
التحرر الوطني، لم يركِّزوا على تحرير المرأة. بعض قصائد
Malibongwe لا تقدِّم وجهةَ نظرٍ
نوعيةً صريحة: على سبيل المثال، تلك القصائد التي تحذِّر الطغاة
وتنذرهم بأن العدل سوف يسود، أو تلك التي تحتفي بتأسيس اﻟ
ANC، لكن هناك قصائد أخرى تكشف عن
إحساس الشاعرات بأنفسهن، باعتبارهن نساءً من خلال تقديرهن للناشطات،
واستخدام صور آلام المخاض والأمومة النضالية، وتصوير جنوب أفريقيا على
نحوٍ أمومي. محرِّر المجموعة «سونو موليفي Sono Molefe» يؤكِّد
الصوت الجمعي للشاعرات المنفيات:
من هؤلاء النسوة؟ هناك من عاركن الشرطة وكلابهم ورصاصهم في
شوارع بلادهم في ١٩٦٧م. هناك تلاميذُ ومعلمون سابقون. هناك
جنودٌ مدرَّبون وبنات عمال، ووطنيون منهمكون في فعل التحرر
المتواصل، كلهم معًا. يناضلون على الطريق الذي اختاروه.
١٣
يتناول المحرِّر كذلك سؤال الجماليات الثورية المطروح على نحوٍ
متكرر، ولا يدافع عن «الطبيعة الجدلية» للقصائد؛ فموضوعاتها هي العدل
والانحراف عنه، والتكنيك «جديد وجماهيري».
١٤
خطاب «موليفي» الثوري يمثِّل ذلك لدى نقاد الثقافة السوداء في
الثمانينيات في إقرارهم بأن الشعر أداة مقاومة، واستخدام معيارٍ سياسي
لتقويمه. «أوزوالد متشالي
Oswald Mtshali»، على سبيل
المثال، يرى أن الشعراء «ليس لديهم متسعٌ من الوقت لكي يزوِّقوا هذه
الرسالة العاجلة بمحسناتٍ بديعيةٍ معوِّقة وغير ضرورية، مثل الوزن
والتقفية والتجريد البلاغي والتكلف الأسلوبي. عندما نصبح شعبًا حرًّا،
سوف ننغمس في هذا الترف الذي لا نستطيع أن نتحمَّله الآن.»
١٥ وبالمثل يقول «أزكيا مفاليلي
Eskia Mphahlele» إن
الكاتب الأسود «ينزع إلى أن يوثق التجربة لحظة بلحظة. هناك دراما
أفريقية معيَّنة في الجيتوهات لا يستطيع الكاتب أن يتجاهلها، هو (هكذا)
ببساطة لا بد من أن يتوصل إلى تفاهم مع استبداد المكان، أو أن يصارعه
لأن كتابته تعتمد على التزامه بالأرض.»
١٦
وعلى الرغم من أن باحثين سودًا آخرين يدينون هذا العنصر الاختزالي في
الكتابة السوداء، نجد «لويس نكوسي
Lewis Nkosi» على
سبيل المثال، يحتج على اعتبار الوقائع الصحفية التي يتم استعراضها
بحماقة، «أدبًا خياليًّا».
١٧ «موليفي» يتبنى المنظور السائد عن الشعر باعتباره
توثيقًا:
لا وجود للرومانس هنا، على الرغم من إجماع الكل على حبٍّ
متجذر في أرضهم المغتصبة. لا تفاؤل أكاديميًّا؛ حيث يتم نسج
الانتصارات الوهمية السهلة من النظريات الثورية الكاذبة. لا
تشاؤم لا مبرر له في إطار النضال العالمي أو القاري. لا شيء
سوى الحقيقة المدوية … تارة مُرَّة، وتارة منشِّطة، ولكنها
دائمًا محرِّكة نحو نجاح الثورة الأفريقية المحتوم.
١٨
استخدام «موليفي» المجازي للحقيقة «المدوية» يدعم زعم الناقدة «لويزا
بتليهم
Louise
Bethlehem» بأن هناك «ضرورة
بلاغية» وراء الكتابة المناهضة للأبارتايد، بلاغة تعطي أفضلية للواقعية
على التجريب الأدبي، وللتوثيق على الاعتبارات الجمالية. وعلى الرغم من
أن «بتليهم» تنتقد التحوُّل الطائش لكُتاب فترة الأبارتايد من «مجاز
الحقيقة» إلى «المجاز باعتباره حقيقة»؛ فإنها تعترف بالقيمة
الاستراتيجية «لأسلوب تناولٍ أداتي للغة.»
١٩
الضرورة البلاغية والأداتية اللغوية يُمكِن تبيُّنها بوضوح في قصائد
مجموعة
Malibongwe، إلى جانب وعيٍ مغترب
وأبعادٍ أخرى. المنفى يُولِّد في أولئك الشعراء غضبًا شديدًا؛ لأنهم لا
يقررون مصيرهم، كما يولِّد شوقًا جامحًا لوطنٍ مستعاد. وكما يشير
«موليفي»: «لولا الانحرافات السياسية الحالية عن طريق العدالة
والمساواة في جنوب أفريقيا، لما كان أيٌّ من أصوات هذه المجموعة قد
اختار المنفى.»
٢٠
كان الكثير من هذه القصائد يُذاع من راديو الحرية، الإذاعة السرية ﻟﻠ
ANC، وغيرها كان يُلقَى في احتفالات
الشباب الدولية في كوبا. كان للأيديولوجية الماركسية تأثيرها البالغ في
خطاب أولئك الشعراء، حيث كان اﻟ ANC يقف في خندقٍ
واحد مع كلٍّ من الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا وكوبا، ومن هنا كان
خطاب «الرفاق» و«الوطنيين المقاتلين» و«طريق الثورة». كذلك لا تخلو
القصائد من إشارات وإحالات إلى الثقافة الأفريقية الأصلية، في صور
الحراب والسهام والتروس، والمديح الطقسي لرؤساء القبائل، وذكر أسماء
الأماكن التاريخية المهمة، وغالبًا ما يكون ذلك بلغاتٍ أفريقية.
قصيدة «ليندوي مابوزا
Lindiwe Mabuza» القصصية
«مانجوانج
Manguang» تصوِّر هذه الاستراتيجيات.
بعد أن تُرجِم العنوان إلى «حيث تتجمع النمور»،
٢١ راح الشاعر يحتفي بالمكان باعتباره شهر ميلاد اﻟ
ANC في عام ١٩١٢م. المتكلم، وهو تشخيص
للجماعة المنشقة نفسها، يقابل بين الاسم
Manguang (بلغة
الهاوسا) بنظيره
Bloemfontein (بالأفريقانية)، وهي
منطقة «يسميها العدو اليوم مهدى»، بما يعني أن دولة الأبارتايد اختارت
هذا الموقع، وأعادت تسميته ظلمًا، وشجبَت تاريخه الثوري. مستخدمًا ثلاث
تقنيات بلاغية — التكرار الاستراتيجي والكتابة بأحرفٍ كبيرة للتوكيد
والانتقالات اللغوية الرمزية — يُعَمِّق «مابوزا
Mabuza» «التاريخانية الجدلية للقصيدة».
٢٢ وصل النشطاء جماعة في ١٩١٢م عندما أصبح نهر «توكيلا
TuKela» القريب ممرًّا آمنًا، وكانت
كائنات النهر تُحيِّي المسافرين:
مستقوية
Mangaung
تبقبق في الأعماق،
في موطنها المائي،
Ndlelanhle
!
لكي تجعل المسافرين إلى الحرية يمرون.
سردية «مابوزا» التي تمزج رحلةً ملحمية بأسطورة خلق وتجلِّي مكان
ميلاد اﻟ ANC، تُقرِّع بقسوة دولة الأبارتايد:
«اليوم يطأ العدو بقسوة واستعلاء/مدفن حبلنا السري/بأحذية حديدية/
بدبابات/بأحزمة الذخيرة»؛ وكما يكشف مجاز الحبل السري فإن
Manguang تصوِّر آلام المخاض والولادة
والأبوة. «حُرَّاس العدالة الذين لا يُقهَرُون، مسافرو الحرية الذين
يدعوهم المتكلم ﺑ «الآباء» مهيَّئون؛ لأن يمثِّلوا «فكرة الحمل». اﻟ
ANC كما هو مشخَّص في القصيدة يُقِر
بآلام المخاض وبانتصار مولده:
إلا أنني روح غير عادية
قوة، سلطة، وطن،
درع، رمح، مولود مرقط
مثل نمر، ببقع العنصرية،
إلا أنه يتنفَّس، يرفس،
يتمطى ويمتد في المستقبل …
إذا كان الزعماء الأفارقة هم الذين ولدوا اﻟ
ANC؛ فإن عُمَّاله كانوا هم القابلات
الحقيقيات لثروتنا. القصيدة تنتهي باستفهامٍ بلاغي: «وما اسمي؟» يتبعه
إعلانٌ حاسم: (The African
National Congress ). ثم تأتي
انعطافةٌ تهكمية مفاجئة، عندما يسجِّل اﻟ ANC قدوم نسله
الراديكالي: «لقد ولدت UMKHONTO/WE SIZE في السادس عشر
من ديسمبر ١٩٦١م.» هكذا يقدِّم «مابوزا» سردية سياسية (قراءة وكتابة)
تؤرخ ﻟﻠ ANC من أجل الرفاق النشطاء.
هناك قصائدُ أخرى كثيرة تظهر فيها خواص اﻟ
izibongo، أو مدائح
«الزولو» التي كانت تحتفي تقليديًّا بزعماء القبائل وتم تحويرها لتمجيد
زعماء الحركة. وعلى الرغم من أن قصائد اﻟ
izibongo كانت
مرتبطة تقليديًّا، بالحرب والسلطة الذكورية كما تقول الناقدة «إليزابيث
جنر
Elizabeth
Gunner»، كان النساء يكتبْنَ قصائد
المديح كذلك إلا أنهن كنَّ يقرأنها في احتفالاتٍ خاصة لاستكشاف هويةٍ
نوعية ومشكلاتٍ عائلية،
٢٣ ونجد في مجموعة
Malibongwe قصائد تجمع بين الروح
القتالية «الذكورية» والاستكشاف «النسائي» للنوع والمكان. وبينما يحتفي
كثير من شعراء المجموعة بمشاهير من الرجال، نجد آخرين يسردون بطولات
نساءٍ منشقات. قصيدة «آليس نتسونجو
Alice Ntsongo»
«النساء ينهضْنَ
Women
Arise» على سبيل المثال، تعود إلى
مرحلتَين تاريخيتَين تصدَّت فيهما المقاومة النسائية بقوة لدولة
الأبارتايد، وهما عاما ١٩١٣م و١٩٥٦م اللذان شهدا معارضةً قوية لمحاولات
الحكومة إجبار النساء السوداوات على حمل تصاريح مرور. مثلما قامت
النساء في ١٩١٣م بمسيرة فيما أُطلِق عليها من باب السخرية «دولة
البرتقال الحرة»، «مجبرات آخر الجبناء/على إحراق ذلك القانون
القمعي/التصاريح الورقية المقيِّدة/التي ألقت القبض على حرية الحركة
الإنسانية»، كذلك تجمَّعتَ «النساء المقاتلات» في ١٩٥٦م، في تحدٍّ
واضح، «على السلم الملوِّث لمقر اتحاد بريتوريا.»
٢٤ مرةً أخرى يظهر جدلٌ تاريخي ولكن ببؤرةٍ نوعية؛ حيث تقدِّم
الشاعرة سرديةً مطولة عن نساءٍ نموذجيات:
Lillian (Ngoyi)
و
Helen
(Joseph) — اللتان تبعتا
Charlotte
Maxeke — في قيادة نسائنا نحو
القمة. عندما كانت المشاركات في المسيرة يروين القصة، ادعى رئيس
الوزراء «ستريدوم
Strydom» أنه ليس موجودًا، هربًا
من مواجهة نحو عشرين ألفَ امرأة يهتفْنَ وهن يرفعْنَ عرائض بمطالبهن.
من لحظة الانتصار هذه، صنعَت «نتسونجو» صورتها:
ستريدوم أصبح «أكثر بياضًا»،
نظر … ثم آثر الاختفاء
لقَّن سكرتيرته أكاذيب …
«خرج في عمل!»
مطيحة برصانة قصائد المديح القديمة، تستخدم الشاعرة
فعلًا، وتحمِّله برمزٍ عِرقي: «أصبح أكثر بياضًا.» لكي تصوِّر صدمة
رئيس الوزراء، وفي نقلةٍ مفاجئة وساخرة — لإبراز مراوغته — تستخدم
التعبير الاصطلاحي «خرج في عمل»، كناية عن الابتذال وأساليب التضليل
التي تميَّزَت بها دولة الأبارتايد. هذه القصيدة تذكرةٌ لنساء
الثمانينيات بأن أعباء جداتهن وأمهاتهن انتقلَت إليهن؛ النساء يُمكِن
أن يسرْنَ نحو المعركة: «نساء أفريقيا ينهضْنَ
Women of Africa
Arise» مرةً أخرى تسود صورة
الوالدية النضالية ولكن مع نقلة؛ حذف الأمومة والأنوثة، وهذا ملمحٌ
ظاهر في قصائد مجموعة Malibongwe. قصيدة «نتسونجو»
وغيرها تستخدم منظورًا نوعيًّا لتقديم تاريخ الانشقاق في جنوب أفريقيا،
ولتمجيد النساء باعتبارهن أمهات؛ وبالتالي تعبِّئ جمهورهن.
الشعر العمالي المعاصر نشأ في
Kwazulu/Natal وكان
رأس الحربة فيه أعضاء اتحادٍ عماليٍّ نشط قاموا بتأسيس عدد من المراكز
الثقافية. يشير «آري سيتاس
Ari
Sitas» محرِّر
Black Mamba
Risina إلا أن تلك المجموعة
المختارة ونظيرتها
Izinsingizi تضُم قصائد كُتبَت
لكي تُؤَدَّى في التجمعات الجماهيرية والعمالية والملتقيات الاجتماعية
على اختلاف أنواعها؛
٢٥ وعلى الرغم من أن معظم قصائد المجموعة لشعراء من الرجال
(سبعة شعراء وشاعرتان)، فإن الأصوات النسائية شديدة التميز. قصائد «نيس
مالانجي
Nise
Malange»، أشهر شاعرة عمالية،
تتناول موضوعات مثل البطالة ونشاط اتحاد العمال والنضال الاجتماعي
للمرأة. قصيدة «أول مايو ١٩٨٥م» تبدأ بالتحية والتهنئة لعمال جنوب
أفريقيا بمناسبة العيد العالمي للعمال بسؤالٍ بلاغي: «من ذا الذي لا
يستطيع أن يتصور هذا اليوم من بين كل العمال المضطهدين؟» ويتبع ذلك
دعوة للمقاومة:
الملايين من العمال عاطلون،
الملايين من العمال مهدَّدون بالاستغناء عنهم،
الملايين من الناس يموتون جوعًا.
***
هذا يوم ينبغي أن يعيد العمال فيه تنظيم صفوفهم،
هذا يوم تتحد فيه الطبقات العاملة …
هذا يوم تتحد فيه المنظَّمات العمالية،
كل ملامح الشعر الأدائي واضحة في خطاب هذه القصيدة
«الذي يتصف بالإضافة والإجمال والإطناب»، مثل التكرار الاستراتيجي لكي
يظل القرار الذي تقترحُه «مالانجي» على المسار.
٢٧ القصيدة تنتهي بتحية «المضارِّين والعاطلين والمضطهَدين
والقابعين في السجون والمنافي»، وبتقديم التحية لعيد العمال. مثل هذه
القصائد، كما يقول سيتاس «يفقد الكثير من قوَّتِه الشفهية على الصفحات
المطبوعة؛ فالإحساس بالأغنية وموسيقاها يقل، كما تضعُف طبيعتها
الارتجالية، وتختفي الاستجاباتُ الجماهيرية التي تُصاحِب التلاوة.»
٢٨ عندما قُدمَت قصيدة «أول مايو ١٩٨٥م» لأول مرة في حشدٍ
جماهيري، كانت بمثابة شكلٍ هجين من اﻟ
izibongo (قصائد
المديح القديمة) مع تعرُّضٍ استطرادي للأبارتايد.
قصيدة «مالانجي»: «أم الوردية الليلية»، التي تتناول النقلة المزدوجة
للمرأة، هي نموذجٌ واضح لشعر المرأة العاملة في ذاتيتها الثورية
وطبيعتها الحركية. حدة القصيدة تأتي من صوت المتكلم القلق، بينما تكمُن
طاقتها في الإيقاع والاحتفاء بالمقاومة الجماعية.
مثقلة بحملٍ مزدوج
في البيت
أطفالي بلا رعاية
قلق
في العمل
رئيس مُصرٌّ على أننا
لا بد من أن نكون شاكرين للفرص
التي يمنحُها للنساء
لكي يتم استغلالهن
قلق
وأنا مكبَّلة بهذه الأعباء
«الوردية الليلية»
التي تعود على البيت بأجرٍ زهيد.
٢٩
هذه الأم الوحيدة، دون أي اكتراث بها، ودون أي اهتمامٍ
اجتماعي بأطفالها، تقوم برعايتهم نهارًا، وتقوم بتنظيف المكاتب ليلًا،
«ضائعة في تلك البنايات الضخمة/منسية ومهملة/مستغَلة/وأنت نائم».
الضمير «أنت» هنا، يكشف عن الجمهور الذي يستهدفه المتكلم: الشخص الذي
يقوم بالاستغلال. هذه العاملة المكلومة الغاضبة تتكلم بالإنابة عن
غيرها من النساء: «أمهات غير متزوجات، أرامل، نساء أكبر سنًّا، مهاجرات
ولكنهن أمهات أيًّا كانت الظروف»، وفي آخر القصيدة توثِّق «مالانجي»
الموقف التضامني للمرأة السوداء:
ننظف
وننظف
نتساند لكي نقوم معًا
نقاوم الاستغلال.
كما نجد تمثيلًا أكثر رثاءً لصمود المرأة في قصيدة
للشاعرة «سانا نايدو Sana
Naidoo»، بعنوان «أنا أذكُر»
تحيِّي فيها امرأةً ريفيةً عادية:
تسير حافية القدمَين … صلبة …
تقطع الدروب المتربة، المتعرِّجة …
تعبر حقولًا مزروعة بالأشواك
… رضيعها، حزمة مربوطة على ظهرها.
٣٠
عندما تصل هذه المرأة إلى بيتها في موطنها البديل،
يكون قد هدَّها التعب فلا تستطيع أن تنام، لكنها «لا بد من أن تنام»،
لكي تكون على استعدادٍ لاستقبال «الأحزان والآلام التي لا بد من أن
يأتي بها اليوم الجديد.» متقمِّصة نساء القرى الأخريات، تحيِّي «نايدو»
كَدْح المرأة في المنازل وفي المكاتب والمصانع.
الشاعرتان ««مالانجي» و«نايدو» تُبرِزان بوضوحٍ كيف أن النوع جزءٌ
مهم من هُوية المرأة المبدعة، مثل الجنس، فنحن نُهاجَم دائمًا
باعتبارنا نساءً في أي عملٍ نقوم به، ولا بد من أن نتحلَّى بالشجاعة
لكي ننجح.»
٣١ كما قالت «مالانجي» في ١٩٩٥م، وكما أكَّدَت «نايدو» في
منتدًى للكتاب عُقِد في العام نفسه:
أكتب باعتباري امرأةً من أجل المرأة. أحاول أن أتناول، بكل
أمانة، تجاربي الخاصة، المظالم التي تحمَّلتُها باعتباري
امرأة، التقاليد التي تجرَّأتُ على الخروج عنها. أكتب عن نجاحي
في البقاء في مجتمعٍ يسيطر عليه الرجل، وقبل كل شيءٍ عن
التغيُّرات الإيجابية التي صنعتُها في حياتي، وتلك التي ما
زلتُ أريد أن أصنعها. إنها دعوةٌ للنساء لكي يتطلَّعن إلى مثل ذلك.
٣٢
في تأكيدهن المزدوج على التضامن العِرقي والتمكين النوعي، سبقَت
الشاعراتُ العاملات ظهورَ الحركة النِّسوية في جنوب أفريقيا أثناء
عملية التحوُّل الديمقراطي، وكان المؤتمر الذي عُقد في ١٩٨٨م عن أدب
المرأة (برعاية اتحاد كُتاب جنوب أفريقيا)، شاهدًا على غلبة الأصوات
النِّسوية البازغة. أنطولوجيا المؤتمر تؤكِّد كتابة المرأة باللغات
الأصلية، كما يعبِّر عنه عنوانُها المكتوب بالخوسو والزولو والإنجليزية
Buang Basadi
Khulumani Makhosikazi Women
Speak. وهذه الأنطولوجيا قصائد ومقتطَفات
من الجلسات النقاشية التي تناولَت شِعر العاملات، ومشروعات محو الأمية،
وصورة المرأة في أدب جنوب أفريقيا. في حوار بعنوان «كسر حاجز الصمت»
بين شاعراتٍ سوداوات، عبَّرَت الشاعرة «بويتوميلو موفوكنج
Boitumelo
Mofokeng» عن استيائها الشديد لقلة
عدد من بَقِين يكتُبن من فترة «سويتو
Soweto»، معتبرةً
غياب شبكة كاتبات وتقصير «ستافرايدر
Staffrider» (مجلة
اتحاد الكُتاب) في دعم الكاتبات أهم المعوِّقات، كما هاجمَت النقاد
الرجال بسبب انحيازهم لنوعهم، ودعت النساء للعمل والكتابة عن تجربتهن
مع التمييز. معاناة النساء السوداوات كبيرةٌ بسبب العِرق والنوع، كما
أن الأعراف السائدة تضعُهن في مرتبةٍ أقلَّ من مرتبة الرجال، يُضاف إلى
ذلك أنهن إذا كُنَّ يخضعْنَ للاستغلال الاقتصادي مثل الرجال؛ فإن هناك
في الوقت نفسه استغلالًا جنسيًّا لهن من قِبل الرجال؛ كما ترى أن أدبًا
يكتبه هؤلاء النساء أو تجارب يسجِّلنها ستكون توثيقًا اجتماعيًّا
مهمًّا لحياتهن.
٣٣ قصائد «موفوكنج» نفسها تؤكِّد الدعوة للتحرُّر
والخلاص:
حرِّروا روحي
من القيود
من أصفاد الاسترقاق.
حرِّروا روحي
من الأغلال
من الاضطهاد الجنسي.
حرِّروا عقلي.
تحديدها الاضطهاد الجنسي باعتباره مشكلة، يتناقض
دراميًّا مع استخفافٍ سابق لشاعر
Malibongwe ﻟ «حركة
تحرُّر المرأة المشوَّهة»،
٣٥ والواقع أن «موفوكنج» قدَّمَت للمشارِكات في المؤتمر
بيانًا نسويًّا:
دعونا نزيل الحواجز. دعونا نكسر حاجز الصمت، دعونا نقف لنقول
ما نريد قبل أن يقوم الرجال بذلك من أجلنا. دعونا نقاوم
العقبات الاجتماعية والسياسية التي تمنعُنا من احتلال مواقعنا
المُستحَقة في المجتمع … دعونا نجد المزيد من الوسائل لكي
نشرحَ موقفنا، ولماذا نريد أن نكون جزءًا من المجتمع بكامله.
لا تجعلنَنا ننتظر أن نكون عارًا لأولادنا وأحفادنا من بعدنا.
نحن مديناتٌ لهم. المستقبل لهم.
٣٦
على خلاف شعراء Malibongwe، واجهت «موفوكنج»
النظام الأبوي مباشرةً مستخدمةً بلاغة أمومية مقاتلة لخدمة تحرير
المرأة.
على الرغم من أن بلاغة «روزالين نابو Roseline Naapo» أقل
حدة في نزعتها القتالية، فإن شعرها، بالمثل، يخدم النزعة النِّسوية
بتوثيقه للحياة الصعبة التي تعيشها عاملاتُ المنازل وحيداتٍ في أكواخٍ
صغيرة خارج البيوت البيضاء. هنا غير مسموح لهن باستقبال زائرين، الأجور
هزيلة، مجبَرات على رعاية أطفال البيض ونادرًا ما يرَين أبناءهن، عندما
يكبرن في السن يكون الطرد من الخدمة في انتظارهن:
سيدتي
تذكَّري عندما كنتُ صغيرة وسعيدة،
تذكَّري عندما كنت أستطيع أن ألبِّي ما تريدين
في وقته،
أنا الآن مسنة،
هل خطر ببالك، ولو مرة،
أنني اليوم، في حاجة إليك،
كما كنتِ أنت، في حاجة إليَّ
على مدى ستة عشر عامًا
خطاب «نابو» المباشر يفضَح خطأ أي رؤية تحمل حنينًا
إلى علاقة أخوة بين الأعراق على ضوء الاستغلال الأبيض الواقع على
النساء السوداوات، لكنها بمواجهة «السيدة البيضاء» تترك الباب مفتوحًا
أمام تحوُّل في العلاقة. في المؤتمر الذي عُقِد برعاية اتحاد الكُتاب،
كانت «نابو» تشجِّع عاملات المنازل الأميات وتحفِّزهن على رواية قصصهن.
«قُلن كل ما يُمكِنكُن قولُه حتى وإن كنتن لا تستطعن الكتابة. سيكتبه
أي شخصٍ قريب منكن، ويُمكِن أن يصدر في هيئة كتاب.»
٣٨ ومثل «موفوكنج» و«نابو»، كانت «نيس مالانجي» تحُثُّ
المنظَّمات الأهلية على تحدي التفرقة على أساس النوع، كما تحُثُّ
النساء السوداوات على أن يكتبن:
قصص النضال من أجل تغيير التوجُّهات الأبوية، المشاركة في
التحوُّل المزدوج، والحصول على أجورٍ أعلى وظروف عملٍ أفضل،
وكلها قضايا مفروضة على أجندات المنظَّمات، وما دامت الثقافة
ليست جزءًا من الأجندة نفسها، فإن النساء يفقدْنَ وسيلةً مهمة
لإحداث تحوُّلٍ ثقافي.
٣٩
لتقييم أهمية شعر المرأة السوداء في تلك المرحلة التاريخية، سيكون من
المفيد استدعاء إطاره الاجتماعي والسياسي، وسيكون الاستدعاء هذه المرة
من خلال عدسة «جيرمي كرونين Jeremy Cronin»، أحد أبرز
النشطاء، الذي تظل مقالاتُه في الثمانينيات معبِّرة عن رؤيةٍ نافذة
لدَور شعر «التمرد والعصيان»، ويرى أنه شكلٌ من الخطاب المناهض
للهيمنة، وأنه:
لا يمكن فهمُه إلا في علاقته بسلسلةٍ طويلة من الممارسات
الشفاهية والتعبيرية التقليدية؛ الأغاني، الترانيم، الشعارات،
موشحات الجنازات، الأحاديث السياسية، المواعظ، العبارات
المكتوبة على الجدران. لا يمكن فهمه إلا في إطار أسلوبه
الرئيسي في التمثيل والتلقي … لا بد من أن نضعه في إطار موجة
الانتفاضات المنتشرة، الاعتصامات الجماهيرية، الإضرابات
السياسية، عمليات المقاطعة الاستهلاكية، الجنازات السياسية
الكبيرة (التي تضُم قرابة سبعين ألف نسمة في المرة الواحدة)،
في احتلال المصانع ومقاطعة الإيجارات والانقطاع عن المدارس
والجامعات، في التجمُّعات الجماهيرية والمواجهات الجسدية مع
قوات الأمن أمام الحواجز والموانع.
٤٠
«كرونين»، في تحليله يتناول التقنيات اللفظية مثل المبالغة الصوتية
وإطالة المقاطع الأخيرة التي تعطي بعض الكلمات الإنجليزية قوامًا ورنةً أفريقية.
٤١ (كلمة
Capitalism، على سبيل المثال،
تُنطَق
Cuppat-ta-lismmmmma)، كما
يتناول كيفية تأثير هذه الأساليب الفنية الشعرية في الجماهير عندما
يستمعون إليها على هذا النحو.
٤٢ وعلى الرغم من أن القصائد التي يقوم «كرونين» بتحليلها
كانت تُؤدَّى في الغالب الأعم بواسطة فنانينَ سود من الرجال؛ فإن رؤيته
النقدية النافذة تنطبق بالمثل على شعر «المتمردات». شعراء اﻟ
Malibongwe مثل «مابوزا» و«نتسونجو»
كانوا يتهكَّمون على مهندسي الأبارتايد، ويحشدون الجماهير عن طريق
الراديو، بينما كانت شاعراتُ العمال مثل «مالانجي» و«نايدو» يُلهِمن
النشطاء في احتفالات أول مايو، ويتحدَّثن عن بؤس نساء الريف أمام سكان
المدن، وهكذا كان شعر المقاومة «يجمع ويعبِّئ جماهيرَ كبيرة. كان
يحوِّلهم إلى «جمع» قادر على مواجهة قواتِ شرطةٍ وجيشٍ باطشةٍ جيدة
التجهيز. هذا الشعر المقاوِم فتح — عنوة — فضاءً أمام الناس لكي
يحكُموا أنفسهم في هذه البلاد التي وُلدوا على أرضها.»
٤٣ ربما يكون «كرونين» مبالغًا في مزاعمه؛ إذ لم يحدث أن حمَى
أيُّ أدبٍ للمقاومة المواطنين السود من بطش الشرطة أو هَزَم
الأبارتايد، كل ما هنالك أنه كان يشحنُ المنشقين ويُسهِم في عملية
التحوُّل السياسي.
قضية تلقي شعر المقاومة في جنوب أفريقيا بعد الأبارتايد، قضيةٌ
شائكة. في مقالةٍ مكتوبة بالمشاركة نُشرَت في ١٩٩٥م، طرح أعضاء «مشروع
ديربان للثقافة والحياة العملية» تساؤلًا حزينًا: «هل سيتذكَّر أحد هذه
الأوقات التي نعيشها من خلال أعمالنا؟»
٤٤ على مدى التاريخ، كان الفنانون الثوريون يتعرضون لخطر
الاستخفاف بأعمالهم، وربما نسيانها بمجرد انقضاء الظرف أو انتهاء
الأزمة. ما حدث هو أن التأكيد المتزايد والتركيز على شعر النضال
باعتباره الكتابةَ الوحيدةَ الملائمة، أحدَث حركةً ارتجاعية في ١٩٨٩م
تقريبًا، وهو ما يتبدَّى في دعوة الناشط «ألبي ساكس
Albie
Sachs» لفترة توقُّف لمدة خمس
سنوات، عن دعوى أن «الثقافة سلاح مقاومة»، وذلك بهدف تحرير الفنانين
الذين «ما زالوا واقعين في شَرَك جيتوهات خيال الأبارتايد»، و«إسقاط
عبء المعاناة عن كواهلهم».
٤٥ وعلى الرغم من الجدل الشديد الذي أثاره هذا الرأي بين
النشطاء والباحثين، كانت الأغلبية تؤيد موقف «ساكس»، ويرَون أن على
نقاد الأدب اجتراح عناصر ومحدداتٍ أوسعَ بدلًا من تلك الضيقة» — عندما
يكون المعيار هو مع أو ضد الأبارتايد — وأن على الفنانين أن «يكتبوا
قصائد أفضل ويصنعوا أفلامًا أفضل ويؤلفوا موسيقى أفضل.»
٤٦ بحسب الظواهر، كانت هذه الأهداف الإبداعية تبدو معقولة،
وكان «ساكس» يعترف بالإسهامات التي قدَّمها الفن المناهض للأبارتايد.
الناقد الثقافي «نجابولو نديبل
Njabulo Ndebele» يشارك «ساكس»
قلقه بخصوص هيمنة فن النضال: «كيف يمكن أن نحرِّر أنفسنا من مفاهيم
الثقافة المرتبطة بروح الاضطهاد؟»
٤٧ ونتيجة جزئية لهذا الجدال، كان أن انحسر شعر النضال من
عالم الأضواء الأدبية، وبدأ الشعراء «المناضلون» يعانون «أزمة وضع» في
الثقافة الناشئة.
٤٨ في تناقُضٍ نوعي قد يبدو مثيرًا للسخرية، يُقال إن الشعراء
(الرجال) كانوا مهمَّشين أكثر من الشاعرات إلى حدٍّ ما؛ وذلك لأن
الموضوعات التي كان النساء يتناولنها تعبِّر عن «جنوب أفريقيا جديدة»،
تتبنى المساواة العِرقية والنوعية.
انتعش الدرس النقدي لأدب المرأة السوداء إلى حدٍّ كبير في أوائل
التسعينيات مع اكتساب الحركة النسوية زخمًا جديدًا ونفوذًا قويًّا، من
خلال شهرة «تحالف النساء القومي
Women’s National Coalition
(WNC)»، وهو «منظمة مظلة»، تضم ٥٦٠
عضوًا من الجمعيات النسائية من مختلف الأطياف السياسية، بدأت حوارات
معمقة حول حقوق النوع والدستور الجديد. قام التحالف، بقيادة «فرين
جنوالا
Frene
Ginwala» مدير البحوث في اﻟ
ANC (الآن رئيس برلمان جنوب أفريقيا)
بوضع «ميثاق نسائي» يضاف إلى قوانين الحقوق المعمول بها في الدولة.
يضاف إلى ذلك تحدي التحالف
WNC لكل من الأبارتايد والسلطة
الأبوية. بتأثير وإلهام من التحالف وحركة نساء المناطق الريفية التي
كانت تكافح الأمية بين القرويات، تطورت حركة نسوية سوداء في جنوب
أفريقيا حول ثلاثة افتراضات هي: أن هويات النساء تتشكَّل بناءً على
تواشج عوامل العرق والطبقة والاضطهاد النوعي، وأن النضال النسوي لا بد
من أن يحتوي بداخله الكفاح من أجل التحرر من «الدولة البيضاء الوحشية»،
وأن النساء لا بد من أن «تتحدى وتغير السلطة الأبوية السوداء، على
الرغم من أن الرجال السود كانوا حلفاءنا دائمًا في صراعنا من أجل
التحرر الوطني.»
٤٩
في الوسط الأكاديمي، وسَّع دعاة النسوية مجال اهتمامهم ليشمل شعر
النضال وشعر العمال والشعر المناهض للتفرقة على أساس النوع. بعض
التحليلات أثار جدلًا كبيرًا: فنجد «سيسلي لوكيت
Cecily
Lockett» — على سبيل المثال —
تطالب بضرورة أن يتبنى الدارسون والباحثون البيض «خطابًا أكثر تعاطفًا
مع المرأة» لتحليل كتابة المرأة السوداء التي تعتبرها ذات قيمة
«اجتماعية تاريخية بالأساس».
٥٠ وهناك بين دعاة النسوية البيض من هم أكثر تبصرًا؛ فالناقدة
«ليندا جيلفيلان
Lynda
Gilfillan» تجادل — عن حق — بأن
قصائد
Malibongwe كانت مهمة بالنسبة للتطور
التاريخي ﻟﻠ
ANC، والناقدة «دوروثي دريفر
Dorothy
Driver» تستنتج — منطقيًّا — أن
كثيرًا من النساء السوداوات في التسعينيات، كنَّ يجدن في الكتابة حيزًا
«لاكتشاف أو خلق ذواتٍ جديدة، بعيدًا عن «خداع التلاحم»، ذلك النظام
السياسي الذي ينمِّطهن في عيون الآخر.»
٥١
الناقد الأمريكي «أنتوني أوبراين
Anthony O’Brien»
خصص في دراسته عن أدب جنوب أفريقيا، فصلًا لشعر «مالانجي»، كما أشاد
بالشعر النسوي والعمالي «باعتباره بداية الاندفاعة الراديكالية الأهم
في تحويل ثقافة جنوب أفريقيا إلى ما هو أبعد من تطبيعها في الصورة
الذهنية للرأسمالية الغربية.»
٥٢
وفي أحد أعداد مجلة
Current
Writing (صدر في ١٩٩٠م وكان مخصصًا
للنقد النسوي)، تناول دعاة النسوية السوداء كتاب
Buang
Basadi، فامتدَحَت «زوي ويكومب
Zoe
Wicomb» كلًّا من «موفوكنج» و«مالانجي»
لقرارهما «بعدم حماية السلطة الأبوية» في تحليلهما لمعوِّقات كتابة المرأة.
٥٣ «زَعْم «مالانجي» أنك ليس من الضروري أن تكون صاحب موهبةٍ
خاصة لكي تحكي أو تكتب قصة، أثار انتقاد «سيسي ماكاجي
Sisi
Maqagi» التي اعتبرَت ذلك أحد
الأعراض التي جعلَت النساء السوداوات، على الرغم من مقاومتهن الواعية،
يقبلن دون إدراكٍ صورةً عن أنفسهن تنتقص من قدرهن.»
٥٤ كما أبدت «ويكومب» قلقها بالنسبة لسذاجة الكاتبات
السوداوات، كما عبر عنها تأكيد «نابو» ضرورة بحث الكاتبات الأميات عمن
يكتب لهن:
بصرف النظر عن تقديم نموذجٍ جديد للفن والكتابة (من ذا الذي
يمكن أن يقبل بأمية الكاتب؟!) فإن ذلك يكشف لنا عن جانب من
شروط إنتاج النص وعن المواقف الساذجة من النص المعالج، كما
يشير إلى مجال تساؤل؛ حيث تتصارع الأصوات للهيمنة على النص. إن
ثقافتنا لتفخر بوجود عدد من تلك الكتابات البيوجرافية
والأوتوبيوجرافية الملتبسة لخادماتٍ أميات كتبَتها نساءٌ من
البيض، لا يُمكِن طمسُ أصواتهن.
٥٥
بدفاعهم عن الاهتمام بكيفية إنتاج المعنى النصي إلى جانب المضمون؛
فإن أكاديميين مثل «ماكاجي» و«ويكومب» كانوا، في نظر بعض الكاتبات، غير
عمليين أو مغرقين في النظرية، وفي نظر آخرين نقادًا شديدي
القسوة.
بالإضافة إلى تقييم التلقي النسوي لشعر المرأة السوداء في
الثمانينيات، من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار مدى إسهام ذلك المنجز
الكتابي في مجال دراسات أدب جنوب أفريقيا. هذا الشعر يقدِّم، من وجهة
نظري، ثلاثة إسهاماتٍ رئيسية هي: رؤية جديدة وبصيرة فيما يتعلق بالهجنة
النصية، واستعارات جغرافية ومكانية قوية وطازجة، ودورًا متميزًا في
إعادة تقييم الأدب الشفاهي. بالنسبة لقضايا الهجنة، هناك مسلَّمةٌ
نقدية مقبولة على نطاقٍ واسع مفادها أن الدالَّ المعاصر «أدب جنوب
أفريقيا»، يُمكِن وصفه إما بأنه ممزق أو بأنه ينبثق مجددًا. أحد
مكوِّنات النظرة الأولى في رأي «ليون دي كوك
Leon de Kock» أن أي
مفهوم لأدبٍ قومي متكامل ينطوي على «تمزُّق مرجعي»؛ وذلك بسبب تعدُّد
اللغات والثقافات والأشكال التي تمثِّلها أغنيات الحطَّابين الشفهية،
والملحمة الهولندية للاحتلال الكولونيالي، والغنائيات الإنجليزية
العابرة للحدود القومية، والقصيدة الجديدة بالأفريكانية. وتلك كلها
أمثلة من «المشهد الجنوب أفريقي المتعدد اللغات».
٥٦
بوصفه نتيجة لتاريخ الكولونيالية والأبارتايد، يظل النشر باللغة
الإنجليزية صاحب النصيب الأكبر في مجال الأدب، لكنه لا يقدم سوى جزء
قليل من الشعر الموجود. بسبب هذه الهجنة المربكة، لا يمكننا اعتبار أدب
جنوب أفريقيا حقلًا متكاملًا، إنه موجود فقط في «بلاغة اللفق»؛ حيث يتم
لفق وتشبيك الاختلافات والتماثلات معًا، وحيث تلوح «ظلال الازدواجية» الاستطرادية.
٥٧
على النقيض من ذلك، تراها الناقدة «إنجريد دي كوك
Ingrid de Kok» هجنة صحية، تلك الموجودة في أدب جنوب
أفريقيا، يدعمها إعادة تقييم وإعادة اختراع ما بعد قومية. «دي كوك» تفضل استكشاف «النسيج
الاتصالي»،
٥٨ في هذا الأدب على الرغم من وجود رؤية «ثنوية» تعتبره مثقلًا «بقسوة الماضي»
و«ضبابية المستقبل»؛ وبينما تعترف بأن متون النصوص المكتوبة والشفهية المصنفة جنوب أفريقية
تحتوي على حاشيات وفجوات؛ فإنها ترى تلك الهجنة مدهشة. «أدب جنوب أفريقيا يتفاعل في سوق
كونية، والمؤثرات البينية داخل البلاد تزداد غنًى نتيجة المبادلات التي تتم بينها ومختلف
الأشكال والممارسات العالمية.»
٥٩ وبينما تظهر «ظلال الازدواجية» في الخطاب المستقطب عرقيًّا لبعض قصائد اﻟ
Malibongwe؛
فإن الشعر النسوي والعمالي يبتعد عن لغة الثنائيات ليقدم ذلك «النسيج الاتصالي» الذي
تتكلم
عنه «دي كوك». يضاف إلى ذلك أن شاعرات
Buang
Basadi ونقادهن في مجلة
Current Writing يتفاعلن بقوة مع سوق
أدبية كونية. كلتاهما، «موفوكنج» و«ويكومب» تعترفان «بالتأثير المتبادل» بين الكاتبات
الأفريقيات، والأفريقيات/البريطانيات، والأفريقيات/الأمريكيات، على أعمالهن وبخاصة «بيسي
هيد
Bessie Head»
و«ميريام تلالي
Miriam
Tlali» و«هازيل كاربي
Hazel Carby» و«توني موريسون
Toni Morrison»
و«أليس ووكر
Alice
Walker».
٦٠ وأخيرًا، فإن هذه الهجنة الصحية للشعر النضالي والعمالي والنسوي تتبدَّى في تلك
«الخلطة» السلسة من الإنجليزية واللغات الأصلية.
أما بالنسبة للإسهام الثاني في دراسات أدب جنوب أفريقيا، الخاص
بالاستعارات الجغرافية والمكانية الجديدة؛ فإن شعر المرأة السوداء يقدم
وجهات نظر جديدة في موضوع مألوف. في جنوب أفريقيا، يظهر المشهد الطبيعي
والتخوم وسلاسل التلال والممرات الضيقة، كلها تظهر بقوة كمجازات نقدية
وشعرية. الروائي الأبيض المنشق «بريتين بريتينباخ
Breyten
Breytenbach»، يؤرخ للكولونيالية
وما بعد الكولونيالية باستعارات نوعية وهجينة من وحي البيئة:
ما أودُّ الكتابة عنه هو الاختراق والتوسُّع، والمناوشة
والتزاوج، والاختلاط والانفصال، وإعادة تجميع الناس والثقافات،
عملية التهجين بين الرجال والنساء بالتبادل، بواسطة السماء
والمطر والرياح والتربة.
٦١
ومثله، الناقد «ستيفن جراي
Stephen Gray»، يحلل أدب جنوب
أفريقيا باعتباره شكلًا من أشكال «اجتياز التخوم»، واتجارًا عبر حواجز
لغوية وعرقية ونوعية واجتماعية واقتصادية.
٦٢ مجموعات
Malibongwe
و
Black Manba
Rising و
Izinsingizi
و
Buang
Basadi مليئة بالاستعارات من عالم
الارتباط بالأرض واجتياز التخوم بين الأنواع؛ فنحن نذكر على سبيل
المثال احتفاء مابوزا ﺑ «مانجوانج» بهويتها الأصلية، باعتبارها مكانًا
لتجمع النمور وهويتها الجديدة بوصفه موقعًا للنضال. وهناك التمثيل
الشعري عند «مالانجي» لطفولتها غير المستقرة، بالمعنى الجغرافي؛ حيث
تنقلت أسرتها بين كوخ حقير في «فرايجروند»، ومسكن بدون كهرباء في
«نيانجا إيست»، ثم إلى حياة مختلفة تمامًا في أماكن لتجميع روث البقر …
والتجول في الغابة لجمع الحطب.
٦٣ وكما أشارت «ريتا برنارد
Rita Bernard» في
«فهرست كل المواقع الاستراتيجية للنضال
Cataloguing all strategic sites of
struggle»؛ فإن الشعر المناهض
للأبارتايد قدم صيغة مهمة لرسم خريطة معرفية «أصبحت من خلالها مواقع
الإقصاء أماكن للتمكين».
٦٤ شعر المرأة السوداء أسهم في رسم هذه الخريطة المعرفية بما
قدمه من إضاءات حول تحول هذه المواقع والأماكن الخاصة بالإقصاء العرقي
والنوعي إلى مواقع وأماكن للمقاومة والتذكر.
وبالنسبة للإسهام الثالث في دراسات أدب جنوب أفريقيا، وهو التركيز
على الشفاهية؛ فإن شعر المرأة السوداء في الثمانينيات، سبق جهود دارسي
التاريخ المحدثين لإعادة تقييم الأهمية الثقافية للشعر الشفاهي، عندما
كانت جنوب أفريقيا تحاول تجديد سياسات حكمها وفنونها، وكان الجدال
الأهم هو ما إذا كانت الأشكال الشفاهية تمثل نوعًا أدبيًّا أفريقيًّا
أصيلًا، «ما قبل كولونيالي»، أو أنها «مهجنة» على نحو إشكالي. الباحث
«ماسيزي كونين
Masizi
Kunene» يلقي الضوء على هذا الأمر:
«بالنسبة للأفارقة، انتهك الأدب المكتوب أحد أهم العقائد الأدبية
بخصخصته للأدب»؛ حيث إن قيمته التقليدية تكاثرت «بتوزعها في سياقات
اجتماعية منظمة».
٦٥ بربطه الكتابة سلبًا بالخصخصة، والشفاهية إيجابًا
بالمجتمعية، يبدو أن «كونين» يدعم فكرة أن الأشكال الشفاهية «أفريقية
تمامًا». غير أن شعر المرأة السوداء المناهض للأبارتايد يتحدى مثل هذا
التوصيف، وكذلك شعر النضال بشكل عام؛ لأنه كان عادة ما يكتب وينشر
بالإنجليزية. ورغم ذلك كان ينتشر شفاهة ومجتمعيًّا. «إيزابيل هوفمير
Isabel
Hofmeyr» ناقدة أخرى تحتفي بهجنة
الأدب الشفاهي وتدعي أن دراسته لا تنتمي إلى فضاء «تقليدي» نوعًا ما،
وإنما إلى عالم معاصر معولم، تتنافس فيه الأشكال الشفاهية وتدور
وتتفاعل وتتغير مع مختلف الأشكال الثقافية الأخرى.
٦٦ قصائد المرأة المناضلة والعاملة تكشف عن القوة الكامنة
لهذه التفاعلات؛ حيث إنها تنتهك الافتراضات النوعية ﻟﻠ
Izibongo بتصويرها لنساء منهن يمتدحن
نظيرتهن علنًا.
على الرغم من أن أدب المقاومة في جنوب أفريقيا لا يتم تناوله عادة في
إطار الحرب الباردة، تبدو عملية إعادة تأطيره هذه ضرورية. في آخر
الأمر، اتسعَت رُقعَة الكتابة المناهضة للأبارتايد في الثمانينيات بسبب
الدعم الذي كان النظام العنصري يتلقاه من الرئيس الأمريكي «رونالد
ريجان
Ronald
Regan»، الذي كان يندد بالعلاقة بين
حركة المقاومة والشيوعية ويتعاطف مع الحزب القومي. كان «ريجان»، في
تحدٍّ لإدارة الكونجرس وتلبية لرغبة المحافظين، ينتهج سياسة «ارتباط
محافظ» بحكومة الأبارتايد، التي صدم الجميع عندما امتدَحَها لأنها
«استأصلَت الفصلَ العنصري الذي كان موجودًا في بلادنا ذات يوم.»
٦٧ على النقيض من ذلك، فربما تكون العقوبات الاقتصادية
والمقاطعة الثقافية التي فرضَتها دولٌ أوروبيةٌ تقدُّمية، وبعض المدن
والفنانين الأمريكيين على جنوب أفريقيا في الثمانينيات، ربما تكون قد
عجَّلَت بتفسخ الحزب القومي، والتفاوض من أجل إطلاق سراح «نيلسون
مانديلَّا» من السجن وانتصار اﻟ
ANC الديمقراطي الجديد.
٦٨
لقد أسهَم شعر المرأة السوداء في أدب الحرب الباردة بفضحِه فظائعَ
دولة الأبارتايد، وباحتفائه بالمقاومة والمناضلين، وإصراره على أن
النوع في القلب من الأجندة السياسية ﻟﻠ ANC. هذا الشعر
بتوسيعه لحدود الذاكرة التاريخية، يواصل العمل ضد النسيان.