الفصل الثاني عشر

أكثر دهاءً من المكتب السياسي

السياسة والشعر خلف الستار الحديدي
بيوتر كوهيفزاك
في قصيدتها «النهاية والبداية» التي كتبَتها بعد أربع سنوات من سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية، تتأمل «فيسوافا شيمبورسكا Wisława Szymborska» قدرتنا على إبعاد أكثر الأحداث إيلامًا واعتبارها في ذمة التاريخ، وهو ما يدل على أن نسيان الماضي أمرٌ طبيعي وحتمي في الوقت نفسه. الأكثر من ذلك أنها تبدو مقتنعة بأن القضايا العملية التي يُجبِرنا قدوم السلام على مواجهتها، تصبح هي الأكثر أهمية بعد انتهاء الصراع، وليس النصر أو الهزيمة. السطر الأول من القصيدة يعلن بجسارة أن «بعد كل حرب، لا بد من أن يكون هناك من يقوم بترتيب الأشياء.»١ عملية الترتيب هذه تتخذ أشكالًا عدة، وهي ليست بطولية من الناحية الأخلاقية ولا درامية من الناحية البصرية: «لا صوت، لا فرص للتصوير/الأمر يتطلب سنوات/كل الكاميرات ذهبت/إلى حروب أخرى». «شيمبورسكا» تختتم القصيدة بتفكير في حلول فقد كامل للذاكرة:
من وقتٍ لآخر، لا بد من أن يقوم شخصٌ ما
باستخراج حُججٍ صَدِئة
من تحت شجيرة
ويسحبها إلى مقلب النفايات
أولئك الذين كانوا يعرفون سبب ذلك كله
عليهم أن يُفسِحوا الطريق
لمن لا يعرفون سوى القليل
ثم أقل القليل،
بل لا يعرفون شيئًا.
عندما ظهرَت القصيدة، ربط المراقبون بينها وبين حروب اليوغوسلافيين أكثر منها بنهاية الشيوعية، بما يعني أنه حتى في بداية التسعينيات كانت أحداث أكثر أهمية قد بدأَت تطغى على نهاية الشيوعية. ربما لا تكون هناك جدوى من محاولة تحديد حدثٍ بعينه يكون قد ألهم الشاعرة كتابة هذه القصيدة؛ لأن براعتَها تعتمد تحديدًا على أننا لا نعرف على وجه الدقة أي صراع كان في ذهنها، عندما وضعَت القلم على الورق. بالنسبة لأولئك الذين عاشوا — لسوء حظهم — سنواتٍ طويلة في ظل الحرب الباردة وما زالوا يتذكرون الحقائق المؤسفة على الجانب الشرقي من الستار الحديدي، ربما تكون القصيدة منبهًا مؤلمًا، ولكنها في الوقت نفسه ترياقٌ فاعل لما يطلق عليه اليوغوسلافيون — وهم محقون في ذلك — الحنين إلى الماضي اليوغوسلافي: إلى عالمٍ مثالي لدولةٍ اشتراكية؛ حيث وظائف مضمونة، ودور حضانة، وإجازات مدفوعة الأجر، ومنشقون، وشرطة سرية، ومظاهرات تجوب الشوارع.٢ ربما يكون الأكثر تنبيهًا وإسهامًا في عملية الإفاقة هو اكتشاف الطلاب المعاصرين أن مفاهيم مثل «الاتحاد السوفييتي» و«الانفراج» و«البريسترويكا»، كلها مصطلحاتٌ غريبة عنهم، مثلها مثل تلك الخاصة ﺑ «الإصلاح» أو «الثورة الفرنسية».٣ الأرشيفات التي فُتحَت حديثًا في كلٍّ من أوروبا الشرقية وروسيا وفَّرت مادةً للمؤرخين لفترةٍ قصيرة؛ ولكن خطاب الحرب الباردة بشكلٍ عام، حل محله خطاب عن «العودة إلى الأوضاع السابقة» و«التحوُّل» و«العودة إلى أوروبا»، وأخيرًا عن عضوية الاتحاد الأوروبي. بعد ١٩٨٩م مباشرة، انحسر الاهتمام السابق بآداب ولغات أوروبا الشرقية، ولم يعكس هذا الاتجاه العام حصول كلٍّ من «تشيسواف مييوش Czeslaw Milosz» و«فيسوافا شيمبورسكا»، وأخيرًا «إيمري كيرتز Imre Kertész» على جائزة نوبل للآداب.٤
ربما نكون أمام حالة مفادها أن أي حدثٍ تاريخي جلَل، لا بد من أن يُنسَى لكي يعاد اكتشافه ودراسته بعد عقود من خلال دأبٍ علمي، ومن على مسافةٍ موضوعية، ولعلنا نعود لنهتم بالأحداث التي طال نسيانُها عندما نصل إلى نقطة تكون معرفتنا فيها، كما تقول «شيمبورسكا»: «أقل من لا شيء.» نجاح كُتب «نورمان ديفز Norman Davies» عن مدينة BRESLAU/Wroclaw، ومؤخرًا عن انتفاضة «وارسو»، هذا النجاح يثبت أن هذه الاستجابة المتأخرة للتاريخ لها مميزاتها.٥ ولكن إذا كان للتاريخ مواصفاته الخطية الواضحة والتزامه الشديد بالزمن، فربما يكون من الصعب رؤية الأدب بالأسلوب نفسه. وعلى الرغم من أن حياة بعض الأعمال الأدبية محدودة، وعلى الرغم من أنها نتاج روح عصرٍ معين؛ فإننا بشكلٍ عام لا نقرأ الأشعار أو الروايات لقيمتها التاريخية. الأدب يمكن أن يتجاوز الحدود الثقافية واللغوية وليس التاريخية فحسب. قيمته جمالية في المقام الأول، وكوننا لا نجد مشكلةً في أن نناقش «شكسبير» في إطار التراجيديا الإغريقية، إنما يؤكِّد القدرة غير العادية للأدب على تحريرنا من قيود الحدود الزمنية.٦
والحال كذلك، هل بإمكاننا أن نقول إذَن إن الأدب، أو الفن بشكلٍ عام، هو الأكثر نفعًا وفعالية الآن بين كل ما تبقى من فترة الحرب الباردة؟ مع احتمال استثناء الرواية التاريخية، المؤكد أن هدف الأدب ليس تصوير الواقع أو تمثيله بأمانة، ومن الخطأ النظر إلى الأعمال الأدبية، باعتبارها مصدرًا للمعرفة عن الحياة خلف الستار الحديدي فحسب. إلا أنه بينما كل كتابات أوروبا الشرقية تمثيلية بمعنًى ما؛ فإن علاقتها بمُناخ القمع والرقابة أثناء الحرب الباردة علاقةٌ كاشفة، ولعل أهم قيمة تنطوي عليها هي قدرتها على الإفصاح عن معنى العيش والكتابة تحت ضغط. هذا الجانب من جوانب كتابة أوروبا الشرقية ليس غائبًا عن النقاد في الغرب؛ ففي كتابه الصادر في ١٩٥٦م بعنوان «تحت الضغط Under Pressure» كتب «أ. الفاريز A. Alvarez»:
«كل حركة الفن الطليعي الغربي خلال نصف القرن الأخير كانت عملية هجرةٍ داخليةٍ مستمرة. حتى أكثر كُتابنا انشغالًا بالفكر السياسي يبدو أنهم يحاولون تجديد المجتمع من منظورهم، من الداخل إلى الخارج، وكأن بيئتهم مجرد انعكاسٍ عريضٍ لتوتُّراتهم الداخلية. في بولندا، على الرغم من انحيازها الغربي في الأساليب والاهتمامات، فإن ما يحدُث هو العكس تمامًا؛ الفنانون يجدِّدون نشاطهم من منظور العالم الخارجي: الحقائق الاجتماعية تصبح المعادل للظواهر النفسية، بنفس القوة المرتدة إلى الداخل وعدم القدرة على الهرب. إذا كان هناك فارقٌ جذري بين الفنون على جانبَي الستار الحديدي، فهو أقلُّ في أنواع الضغط الذي يكره الفنانين، منه بالنسبة للاتجاهات التي تُجبِرهم عليها تلك الضغوط.»٧
قيمة هذه الملاحظة هي أن «ألفاريز» يرى الفن على كلا جانبَي الانقسام السياسي مكملًا بعضه بعضًا. الفنانون في كلٍّ من أوروبا الشرقية والغربية ينتمون إلى التراث نفسه، ولكن الظروف السياسية المختلفة أجبرتهم على الاستجابة بطرقٍ مختلفةٍ للضغوط الخارجية. كان من غير العادي أن يكون لناقدٍ غربي مثل هذه النظرة الكلية. أثناء فترة الهيمنة السوفييتية، كان الغرب ينظر إلى كُتاب أوروبا الشرقية بوجهٍ عام باعتبارهم كائناتٍ سياسية، إما منشقة أو متعاونة، يضاف إلى ذلك أن السياسات المحلية كانت تؤثِّر في تلك التوجهات. حتى أثناء انهيار حائط برلين، كان الشيوعيون الأوروبيون وبعض حلفائهم الاشتراكيين يأملون في أن تتحول الشيوعية السوفييتية إلى «اشتراكية بوجهٍ إنساني». في المقابل، كان اليمين ينظر إلى الأدب القادم من خلف الستار الحديدي باعتباره شكلًا من أشكال الاحتجاج على الحكم الشيوعي.٨ هذا الميل إلى تسييس الأدب كان له تأثيره حتى على الكُتاب البارزين مثل «ستيفن سبندر Stephen Spender». في تقديمه لمجلد من الشعر البولندي صدر في أواخر ١٩٨٠م، وبعد أن رصد عدة مصائب ببولندا على مئات السنين، كتب يقول:
«هذه حقائق، ليس على شعر وشعراء منطقتنا من هذا العالم أن يتناولوها. عدم فعل ذلك، لا بد من أن يجعل شاعرًا من الغرب، يقرأ عمل المنشقين البولنديين في هذا المجلد يسأل نفسه (كذا) كيف يستخدم حريته لأغراض كتابة شعره. على عكس هذا العبء الثقيل من المعاناة والاضطهاد والعذاب والظلم، نجده يشعر بأن الكثير من اهتماماتنا كشعراء في الغرب هي اهتماماتٌ تافهة. ربما لا يكون الشعراء الذين تقرأ لهم في هذا المجلَّد أحرارًا، ولكن فقدان الحرية يصبح موضوعهم الأهم. في الوقت نفسه هو تصويرٌ مروِّع لافتقاد الحرية، الذي يبدو أنهم محكومون به لكي يكتبوا تلك التنويعات على موضوع الظلم والاضطهاد. الدولة الشمولية تختار الموضوعات التي يكتب فيها الشعراء، لمجرد كونهم في موقع المعارضة الحادة للشمولية.»٩

اختيار القصيدة التي طلب من سبندر أن يتناولها ربما يكون ظرفًا مخففًا هنا، بالإضافة إلى أنه اعتراف بأن الترجمة كانت عقبة في سبيل الوصول إلى حكمٍ نقدي سليم؛ وعلى الرغم من ذلك تظل أحكامُه مؤثِّرة، كما أنها تُسهِم في النظرة العامة لفكرة الكتابة تحت ضغطٍ سياسي.

من المهم إذَن أن نذكِّر أنفسنا بأن الأدب خلف الستار الحديدي لم يكن سياسيًّا بالأسلوب نفسه الذي كانوا يفهمون به السياسة على الجانب الغربي من الانقسام. بسبب الهيمنة الإمبريالية قامت بعضُ دول أوروبا الشرقية بتطوير تقاليدَ أدبيةٍ محورها ما يدعوه أحد النقاد البولنديين «النموذج الرومانسي.»١٠ الانتفاضات الهنغارية والبولندية في أوائل ومنتصف القرن التاسع عشر، جاءت بشعراء «قوميين» مثل «آدم ميسكيفسكي Adam Mickiewicz» و«ساندور بوتوفي Sandor Potofi»، كما تمخَّضَت عن ثروة من الأدب الثانوي الغارق في السياسات اليومية. هذا النموذج ضعُف إلى حدٍّ ما بعد الحرب العالمية الأولى، عندما حصلَت دول مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا على الاستقلال، ولكن الاحتلال النازي والسوفييتي بعثا الكتابة المكيَّفة سياسيًّا؛ لكن حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن لتؤدي إلى تدعيم «النموذج الروماني» كما كانت الهيمنات السابقة.
كان إحكام سيطرة الدولة في الإمبراطورية السوفييتية يتطلب من الكُتاب استخدام استراتيجية أكثر تطورًا من أجل النجاة والبقاء. في كتابه «العقل الأسير The Captive Mind» الصادر في ١٩٥٣م، يحلِّل «تشيسواف مييوش Czeslaw Milosz» كيف كانت الإمبراطورية الجديدة تُحاوِل السيطرة على عقول مواطنيها، ليس بالقسر والقمع الوحشي فحسب، بل وباستخدام أسلوبٍ يجمع بين الإغواء والضغط السياسي. في الدول التي وجدَت نفسها في مدار النفوذ السوفييتي، كانت السياسة الثقافية تقوم على نظام التحكُّم الحكومي الشامل على النموذج السوفييتي، الذي كان بدَوره يعتمد على أنظمة تطوَّرَت في روسيا القيصرية.١١ كان العنصر الرئيسي في ذلك النظام هو ما يُطلَق عليه «الرقابة الوقائية»، وهو ما كان يعني ضرورة تسليم أي مادةٍ مخطوطة لكي تُعرَض على الرقيب قبل إرسالها للطباعة، وكان الرقباء قد وضَعوا قائمة بعناوين الموضوعات المحظور تناولها، إلى جانب البحث عن الإرشادات والتلميحات والتأويلات المحتمَلة للعبارات العادية. يمكن أن نقول إن الرقيب «الجيد» كان من المفترض أن يعرف ما يطلق عليه دارسو التلقي بالألمانية «أفق توقُّع القارئ.»١٢
بقي هذا النموذج متبعًا في الدول التي اندمجت في الاتحاد السوفييتي حتى سقوط الإمبراطورية، أما في الدول التابعة في أوروبا الشرقية؛ فكانت عمليات الرقابة تدور تدريجيًّا في نظام أكثر ذكاءً، وإن كان أعظم خطرًا. في المرحلة المتأخرة من الإمبراطورية — من ١٩٧٠م تقريبًا وما بعدها — كانت «خلطة» الترغيب والترهيب التي تحدث عنها «ميووش» قد أصبحت أكثر تغلغلًا، وفي ١٩٨٧م كان المثقف المجري «ميكلوس هارازتي Miklos Haraszti» يسمي هذه الظاهرة السلطوية «السجن المخملي»، وهو ما يفسر كيف أن «العقل الأسير»، الذي تحدث عنه «مييوش» كان قد شهد تطورًا كبيرًا في ظرف عقود قليلة:
«لم تَعُد الرقابة مجرد عملية تدخل بسيط من الدولة، ظهرت ثقافة فنية جديدة يتشابك فيها الرقباء والفنانون في حالة عناق، وهي ليست حالة بغيضة كما قد يتخيلها معارضو الرقابة. الدولة أصبحت قادرة على تدجين الفنان، ذلك لأن الفنان جعل الدولة بيته بالفعل.»١٣
هكذا تصنع الشمولية أكثر من فخ للفن. التعاون الضمني خيار، ولكن المقاومة الصلبة للسلطة الشمولية قد تخلق الاستجابة لها بسهولة؛ ولذلك وجد الشعراء الذين كتبوا قصائد معارضة صريحة أنفسهم في موقف كُتاب المنشورات من قبلهم. كانت كتابتهم موضوعية ومنتشرة بين القُراء ولكن حياتها قصيرة، وليست على مستوًى أدبيٍّ جيد دائمًا.١٤ على الرغم من ذلك ربما يكون افتئاتًا على التاريخ أن نقول إن الإمبراطورية السوفييتية وحدها هي التي غيَّرَت «النموذج الرومانسي» للأدب في أوروبا الشرقية؛ فكثير من الكُتاب الذين نَجَوا من الحرب في أوروبا المحتلة بواسطة ألمانيا وجدوا من الصعب الاستمرار وكأن شيئًا لم يكن. كيف تكتب في فترة ما بعد الحرب، كانت قضيةً صعبة بالنسبة لكل الأوروبيين، ولكن عبارة «تيودور أدورنو Theodor Adorno» الجسور التي تقول إن من المستحيل أن تكتب شعرًا بعد «أوشفتز»، كانت ذات قيمةٍ تطهُّرية بالنسبة للغرب فحسب. أما بالنسبة للشرق، كما تحدَّد بموجب اتفاقية يالطا، فإن الحرب لم تَنتهِ في ١٩٤٥م، و«أوشفتز» على الرغم من كل دلالاته المرعبة لم يكن نهايةً للحضارة. على العكس، أثبتَت تجربة «أوشفتز» أن الثقافة برغم هشاشتها، كانت ذات قدرةٍ كبيرةٍ على البقاء، ودائمًا على حساب الحياة الإنسانية.
لم يكُن من قبيل المصادفة أن ينتهي الأمر بالشعر ليكون أفضل ملجأ للقيم الإنسانية. طواعيته وسهولة تكييفه ظهرت بالفعل في روسيا الستالينية قبل الحرب عندما بقي شعر «أوسيب ماندلشتام Osip Mandelshtam» و«آنا أخماتوفا Anna Akhmatova»، لمجرد أنه كان بالإمكان تذكُّره. بعد انقضاء مرحلة الرعب الستاليني، أصبح الشعر أكثر جدوى باعتباره شكلًا من أشكال التواصل الاجتماعي. كان يمكن بسهولة نسخ القصائد القصيرة حتى بالكربون وتوزيعها على دوائر صغيرة من الأصدقاء، وكذلك تسريبها داخل وخارج السجون والمعتقلات. لغة الشعر الاستعارية والملتبسة غالبًا، المعاني التي يمكن أن يستخلصها من يفهمون الرمز، النصوص الموازية، ظلال المعاني، الإشارات المقنعة. كل ذلك كان يجعل للشعر في أوروبا الشرقية جاذبية أوسع منها في الدول الغربية. أما في الدول التي لم يكن مسموحًا فيها للبنى الاجتماعية الرأسمالية بالتطور؛ فكان قرَّاء الشعر يمثلون طبقة اجتماعية مميزة. ما تقوله «ناديجدا ماندلشتام Nadezhda Mandelshtam» في «الأمل ضد الأمل» عن طبقة المثقفين الروسية ينطبق إلى حدٍّ ما على كل أوروبا الشرقية والوسطى:
للشعر، بالفعل مكانة خاصة في هذا البلد. هو الذي يوقظ الناس ويشحذ عقولهم، ولا عجب أن ميلاد الطبقة المثقفة الجديدة لدينا يصحبه تَوقٌ للشعر غير مسبوق. الشعر هو الخزانة الذهبية التي نحفظ بها قيمنا، هو الذي يعيد الناس للحياة ويوقظ ضمائرهم ويستثير أفكارهم. لماذا ذلك؟ لا أعرف، ولكنها حقيقة.١٥

ولكن القضية التي تهمُّنا هنا ليست الطبقة الاجتماعية. ما يتعرض له هذا الاقتباس عن «ماندلشتام» هو الصدام الشكلي بين تقاليد باقية ومبدأ جديد. مبادئ السياسة الثقافية السوفييتية كانت قد تطوَّرَت باكرًا على يد «لينين»، ولكن الشعور القوي بمتضمَّناتها العملية بدأ بعد المؤتمر العام الأول لاتحاد الكُتاب السوفييت في ١٩٣٤م مباشرة.

في هذا المؤتمر، أعلن الحزب الشيوعي «الواقعية الاشتراكية» أسلوبًا وحيدًا لتصوير الواقع في العمل الفني. ولكن التصوير وحده لم يكن ليكفي. كان على الفنان أن يستخدم الفن بفاعلية ونشاط من أجل إعادة صياغة العالم، وإقامة نظامٍ اجتماعيٍّ بروليتاري. بعد ١٩٤٥م تم ازدراء هذا الأسلوب بالجملة في أوروبا الشرقية؛ حيث كان على اتحادات الكُتاب (المفصلة على نموذج اتحاد الكتاب السوفييت) أن تتبنى الواقعية الاشتراكية باعتبارها العرف الفني السائد. وكما كان متوقعًا، أصبح النثر هو النوع الأدبي المفضل في النظام الجديد، وأصبح «مكسيم جوركي Maxim Gorky»، الذي تُرجِم إلى كل اللغات المستخدَمة في المنطقة هو النموذج. كان الشعر أكثر إشكالية لأنه لم يكن النوع الذي يمكن أن يتعايش بسهولة مع تناولٍ واقعي؛ فالشعر الواقعي، حتى وإن كُتب دون ضغطٍ سياسي، سرعان ما يتدهور ليصبح مجرد منشوراتٍ دعائية.١٦ كان ذلك هو السبب في أن بعض الكُتاب الذين لم يريدوا أن يتنازلوا عن فنهم، أو أن يُدبِّجوا المدائح التي تُسبِّح بحمد «ستالين»، انسحبوا من الحياة الفنية النشطة وكرَّسوا أنفسَهم للهجرة الداخلية.
بعد سنواتٍ قليلة من موت «ستالين»، وبعد أن خفَّت وطأة الرعب السياسي، بدأ الشعراء الذين كانوا «مجبَرين على الصمت» يُسائلون أنفسهم ما إذا كان بالإمكان الآن أن يكتبوا بحرية في دولةٍ اشتراكية. كانوا في حاجة إلى التفكير بشأن الأسلوب والموضوع والطرائق الفنية المستخدَمة في الشعر لكي تمكِّنهم من الاحتفاظ بحرية التعبير في ظروفٍ لم يكن مسموحًا لهم فيها بالحرية. كانت الخيارات أمامهم محدودةً لأن الحكومة كانت تحتكر النشر، ذلك الاحتكار الذي لم ينكسر إلا في السبعينيات مع ازدهار حركة النشر الشخصي، في بولندا أولًا، ثم في دول الكتلة الشرقية الأخرى. كان ظهور دور النشر المستقلة أمرًا مهمًّا بالنسبة للشعر، وبحلول منتصف الثمانينيات كان الشعراء ينشُرون في دُورِ نشر «سرِّية» أكثر مما ينشُرون في دُور النشر التابعة للدولة. هذا الوضع المزدوج (النشر من خلال الدولة والنشر الخاص أو السرِّي) كان يعني أن الشاعر يمكِنه أن ينشُر بحريةٍ كاملة سرًّا، وبحذرٍ شديدٍ في مطابع الدولة. في دُور النشر والمطابع التابعة للدولة كانت «عيون» الرقباء مدرَّبة جيدًا على تحديد الإشارات والإحالات، حتى وإن لم تكن مقصودة؛ ولذلك كان من الصعب التنبُّؤ بالحذف أو المنع. كانت عملية «شد الحبل» هذه كثيرًا ما تُوصَف ﺑ «لعبة القط والفأر». كانت الإشارات والإحالات واللغة الرمزية تصبح أكثر «باطنية»، وشك الرقباء يقوى ويصبح أكثر حدة مع كل شكلٍ جديد من القصائد التي يفحَصونها، وربما نجد أفضل تصوير لعبثية هذا الأسلوب في بولندا في إخضاع ترجمة أشعار «جون دن John Donne» و«جورج هربرت George Herbert» للمراقبة لأن المُترجِم كان من المُشتبَه بهم سياسيًّا.١٧ لم تكن الكتابة فقط هي التي تأثَّرَت بالرقابة؛ فالفصام الذي كان يعاني منه النشر المزدوج كان منعكسًا في فِصام القراءة المزدوجة كذلك؛ فعلى الرغم من صعوبة الحصول على المطبوعات السرِّية وما يكتنف ذلك من مخاطرة، كان بالإمكان قراءتها بحرية واستقلالية، أما المطبوعات والنصوص المراقَبة فكانت تتطلب من القارئ مهارةً نقدية، وقراءةً عن كثَب تُحاوِل إعادة بناء ما قد تكون عملية الرقابة قد أحدثَته من تخريب وتشويه. بعض هذه الاستراتيجيات تم تحليلها بالتفصيل قبل وبعد سقوط حائط برلين مباشرة،١٨ لكننا اليوم، وبعد مرور وقتٍ طويل على تلك الأحداث الجِسام، يُمكِننا أن نرى بوضوح أن كثيرًا من الكتابات التي كانت تُعتبر آنذاك موضوعيةً وتمثيلية، لم يُكتَب لها البقاء طويلًا باعتبارها أدبًا جيدًا. هذه المقاييس نفسها يمكن تطبيقها على الشعر السياسي المباشر الذي كانت تنشره المطابع السرية، وعلى شعر التلميح الذي كان يمسُّه قلم الرقيب الأحمر. كان النوع الأول من الكتابة قريبًا من الأحداث السياسية اليومية، ومثل كل الشعر السياسي لا يحظى باهتمام قارئ الشعر، ولا يهم سوى مؤرِّخ الأدب. شعر التلميح المباشر يفقد قيمته عندما تزول الرقابة، وعندما تعجز عين القارئ عن فك شفرات المحذوف، وكل ما كان يمكن أن يكون موجودًا في وجود الرقابة. عندما تعود ذاكرة القمع إلى الماضي البعيد، نجد أحد النقاد المحدَثين ينظر إلى شعر أوروبا الشرقية دون أن يراه «حالة خاصة»:
آها! دعونا نزيل مقياس الظلم هذا ونستبدل
ضوء النيون المبهر للرأسمالية الجديدة. خمسون
عامًا من الهجوم العنيف على الرأسمالي والتنديد به،
والآن عليك أن تبجل المقاول (الذي لا يرى
أيَّ واجب في أن يُبقيك على قيد الحياة)
ماذا يحقِّق ذلك للشعر؟١٩

الواضح أن السؤال يشير إلى الشعر الذي يُكتَب اليوم، لكننا نستطيع أن نوسع المجال لنتساءل كيف أن تغيُّر الظروف يغيِّر قراءة الشعر الذي كُتِب قبل إشعال ضوء «النيون المبهر». ما الاستراتيجيات التي بقيَت، ولماذا؟

عند إعادة قراءة الشعر الذي خرج من خلف الستار الحديدي، يمكننا أن نحدِّد معيارَين يحدِّدان الكتابة التي بقيَت وتلك التي لم تبقَ. الأول هو القدرة على تأطير الظروف التاريخية الحالية، ونسبتها إلى أماكنَ وتقاليدَ أدبيةٍ أخرى، وغالبًا لإمبراطورياتٍ قديمة وإلى العالم الكلاسيكي. الثاني محاولة لوضع الإنسان السياسي الشيوعي على خلفية طائفةٍ كاملةٍ من السلوك الإنساني والحيواني، وذلك بهدف اختبار تفوُّقه، الذي يفصح عن نفسه، على كل الأنماط السابقة من التكوينات الاجتماعية. أسلوبا التناول يتطلبان قَدْرًا كبيرًا من التجرد العاطفي والابتعاد عن الحقائق الكئيبة للعالم الشيوعي، بالإضافة إلى جرعةٍ كبيرة من التشكُّك العلمي، تجاه كل النُّظم الاجتماعية التي نقوم بإنتاجها باعتبارنا بشَرًا. الأسلوبان كذلك يثبتان جدواهما في تشتيت انتباه الرقيب عما يُمكِن اعتباره قابلًا للتطبيق على الظروف الحالية؛ فإذا كانت قصيدةٌ ما تبدو وكأنها مكتوبة عن الإغريق أو عالم الحيوان، يصبح من الصعب شطبها باعتبارها معاديةً للاشتراكية. في آخر الأمر، كان لا بد من ملء المطبوعات التي تصدُر تحت رعاية الدولة بشيءٍ ما، ولم يكن كل الرقباء مدرَّبين جيدًا على القراءة الاستبطانية الدقيقة للغة الشعرية.

العامل الأول واضح على نحو جليٍّ في الشعر البولندي، وكان مستخدَمًا باعتباره وسيلةً فنيةً فاعلة، وإلى حدٍّ بعيد؛ لأن اشتمال بولندا ضمن الإمبراطورية السوفييتية كان في نظر البولنديين عملية إبعاد أو نفي إلى هوامش العالم المعروف. في كتابه «شاهد على الشعر Witness of Poetry» — يضم مجموعة مقالات — يقول «مييوش Milosz»: إنه وُلد على الحدود بين روما وبيزنطة، وهي منطقة في أوروبا كانت في نظر أوروبا الغربية صحراءَ ثقافية.٢٠
المفارقة، أن هذا التهميش الجغرافي والسياسي كان يتناقض بشدة مع المغزى الواسع للتجارب الأيديولوجية، التي كانت دائرةً على حدود الإمبراطوريات القديمة والجديدة. ما كان ليصبح استعارةً شعرية نبع من تجربة عملية. شاعر بولندي آخر هو «زبيجينو هربرت Zbigniew Herbert»، مَرَّ، قبل أن يصبح مواطنًا في «الجمهورية الشعبية»، بتجربة صدام الحضارات تحت حكم أربعة أنظمةٍ أخرى: البولندي، السوفييتي، الألماني، الأوكراني. كانت دول تلك المنطقة باستمرار تحت سيادة إمبراطورياتٍ ودياناتٍ وأيديولوجياتٍ متنافسة، ونتيجةً لذلك كانت قوة جذب التقليد الغربي حاضرة باستمرار، وأكثر مما هي في دولٍ تقع على مسافةٍ أبعد غربًا.
الظاهرة الشعرية التي انبثقَت من هذه التركيبة كانت تعتمد على تناقض بين عالم الإمبراطورية السوفييتية وعالم الغرب، الذي كان مجسدًا بوصفه حضارة كلاسيكية وشرق أوسطية. نتيجة لذلك، يحتشد الشعر المكتوب في أقصى الغرب بموتيفات كلاسيكية، كما تمتلئ تلك القصائد القصيرة، القوية في الوقت نفسه، بالآلهة الإغريق واللاتين. قصيدة «نهاية اللعبة» للشاعر «آرثر مدجيرسكي Artur Miedzyrzecki» تعطينا فكرةً جيدة عن تعقُّد الوضع. تدور القصيدة حول موت الأميرة البولندية «واندا» التي ترفض الزواج من دوقٍ ألماني بناءً على طلب الدولة البولندية:
بدلًا من أن تصبح إمبراطورة ممالك متحالفة،
كما يقترح مستشارو أبيها،
بدلًا من التخلي عن أوهامها الحمقاء،
لصالح صورةٍ تاريخية على مرأًى من العالم،
حيث الحمل بسلالات الحكام،
حيث السعادة القصوى مضمونة حتى للجنين،
والرعاية في المستقبل،
بدلًا من العيش من أجل
هذه الالتزامات الأساسية بالسيادة
التي كانت ترِد على خاطرها مرارًا وتكرارًا،
بواسطة أبيها الملك،
الأميرة «واندا» ترفض عرض الزواج من ملكٍ عظيم،
وتقفز في «الفستيولا»،
وبذلك تنقطع اللعبة،
ويبدأ القرن المظلم
وليس من مؤرخ لكي يسجِّل بعناية
ذلك الحوار بين «كريون» و«أنتيجون» بولندا
كلنا نجيء منها،
على هذه الأرض ذات الوثبات الانتحارية،
التي لم يكن هناك دائمًا مخرج منها،
بينما هناك دائمًا فجوات كثيرة في الوثائق.٢١

هذا مثالٌ جيد على إعادة تفعيل معاني الثقافة اليونانية في الشرق «البربري». لم يكن شرطًا أن يكون لدى القارئ معرفة بالثقافة الكلاسيكية لكي يفهم القصيدة. أتذكَّر شخصيًّا أن «أنتيجون» كان من بين النصوص الدراسية المقررة علينا في المرحلة الثانوية، وكان المنهج يتطلب أن ينظِّم المدرسون مناظرة بعنوان «خيار أنتيجون». لا أعرف حتى الآن لماذا لم تتوقع السلطات أن هذا النص اليوناني الذي يبدو «ميتًا» ستكون له قوةٌ تدميرية كبيرة في إطار النظام الشمولي الجديد، لكن المعجزات كانت تحدث حتى في الدول الملحدة. على الرغم من أننا كنا في الرابعة عشرة من العمر، كنا ندرك أن الدولة كما كان يفهمها الإغريق، لم تكن بالضبط ما نراه من حولنا، وأن رابطة الأسرة في ظل الشيوعية، كانت بالفعل هي الرابطة الوحيدة التي ظلَّت بمنأًى عن نفوذها المفسد. النتيجة، أن قلوبنا كانت تهفو إلى «أنتيجون»؛ لأنها تجاهلَت قانون الدولة ودفنَت قريبها. بعد عدة سنوات، ومع صعود حركة «التضامن» ومجتمعٍ مدني سري، كان أن وصل جيلي إلى استنتاج مفاده أن «خيار أنتيجون» كان في حقيقة الأمر نكوصًا، وأن مجتمعًا مدنيًّا يُمكِن أن يتطوَّر فقط، عندما يكون بالإمكان بناء دولةٍ لا تقوم على مبدأ القرابة. ما هو أكثر من ذلك، السطور الأربعة الأخيرة في القصيدة، حيث يتقاطع الزمنان، الماضي والحاضر بوضوح يوحي بأن المأزق لم يُحَل، وأن الدولة الاشتراكية — بالضرورة — مجرد مرحلةٍ أخرى مؤدية إلى المزيد من الوثبات الانتحارية.

في هذا الإطار، أتمنَّى أن يكون قد أصبح من السهل أن نفهم لماذا أصبَحَت الدروس التي يمكن أن نتعلَّمها من الثقافة الكلاسيكية مهمة جدًّا، ولماذا هاجر الآلهة الإغريق والرومان شمالًا بأعدادٍ كبيرة. بمجرد أن أعاد الشعراء إحياء العالم الكلاسيكي، استطاع القُراء أن يفهموا حقيقة مهمة، وهي أن ورطتهم كانت فريدةً في نوعها. في السابق، تمَّت مواجهة ورطاتٍ ومآزقَ مشابهة، وبالإمكان عقد مقارنة بين حماقات الماضي والحاضر، كما يصوِّرها «هربرت Herbert» في قصيدةٍ بديعة بعنوان «داماستس (المعروفة كذلك باسم بروكرستس) يتكلم»:
إمبراطوريتي المتحركة بين أثينا وميجارا،
حكمت منفردًا غاباتٍ ووديانًا وجروفًا،
بدون النصائح الغبية لكبار السن بهراوةٍ بسيطة،
مرتديًا فقط وقاء ذئب
والرعب الذي يُحدِثه صدى كلمة داماستس،
كان ينقصني رعايا كانوا لي لفترةٍ وجيزة،
لم يعيشوا حتى الفجر رغم أنه افتراء
أن يُقال إنني كنتُ قاطعَ طريقٍ كما يزعم مزيِّفو التاريخ،
الحقيقة أنني كنتُ دارسًا ومصلحًا اجتماعيًّا،
هوايتي الحقيقية كانت الأنثروبومترية٢٢
اخترعتُ سريرًا بمقاييسِ شخصٍ بالغ،
كنتُ أضاهي المسافرين الذين أمسِك بهم بهذا السرير،
أعترف، كان من الصعب تجنُّب تطويل الأطراف وقطع الأرجل،
المرضى ماتوا ولكن كلما كان هناك المزيد ممن يهلِكون،
كنتُ أزداد يقينًا بأن بحثي صحيح.
كان الهدف نبيلًا، التقدُّم يتطلب ضحايا،
كنت أتوقُ لإزالة الفرق بين مختلف الطبقات،
كنتُ أريد أن أعطي شكلًا واحدًا للإنسانية
المتباينة على نحوٍ يثير الاشمئزاز،
لم أتوقف عن بذل الجهد لجعل الناس متساوين،
حياتي أخذَها ثيسيوس قاتل مينوتور البريء،
ذلك الذي كابد المتاهة مع كرة غزلِ امرأة
مدَّعٍ مليء بالخداع بلا مبادئ أو رؤية للمستقبل،
لديَّ أملٌ أساسُه متين بأن آخرين سوف يواصلون جهدي،
وأنهم سيُكملون العمل الذي بدأ بجسارة إلى نهايته.٢٣
لا يوجد طاغية أو مستبد في التاريخ القديم أو الحديث لا يشبه «داماستس». كلهم، لديهم بعض الأفكار الجيدة، والكثيرون منهم يتمنَّون السعادة للإنسانية، ولكن هذه السعادة كانت تنظَّم وفق خطوطٍ معيَّنة وليست طبيعية ولا تلقائية. من أسف أن الإنسانية متباينة «على نحو يثير الاشمئزاز» (السطر ١٩)، ولا بد من فعل شيء لتحسين هذه الأوضاع الشاذة. على خلاف الشخصيات ذات الأصوات المشابهة في مونولوجات «روبرت براوننج Robert Browning» «داماستس» ليس مجنونًا ولا مختل العاطفة. هو ينفذ مشروعه بطريقة عقلانية تمامًا، إلى أن يضع «ثيسيوس»، وهو شخص عادي «بلا مبادئ أو رؤية للمستقبل» (السطر ٢٣)، نهاية لهذه التجربة عن تمام النوع الإنساني التي تكلف الكثير من الدم. ربما لا يحتاج المرء أن يكون رقيبًا مدرَّبًا لكي يكتشف الإشارة إلى المبدأ الشيوعي هنا. المقطوعة الخامسة تتحدث عن المساواة، وبكل مهارة تضع هذا الهدف المثالي تحت ضوء نقدي. يمكن أن يتفق «داماستس» وقوميسار شيوعي على أن التباين الإنساني لا بد من أن يُوقف بكل تصميم، من أجل إكمال «العمل الذي بدأ بجسارة إلى نهايته» (السطر الأخير).

على الرغم من أن القصائد التي اقتبست عنها حتى الآن تنطوي على متضمنات خطرة، نلاحظ كذلك أنها تحتوي على قدر كبير من السخرية الثاقبة، ولعل ذلك شيء آخر مترجم عن اليونان.

هذه المرة على أية حال، ليست اليونان القديمة هي ما أقصده. لو سألني أحد عن الشاعر الأوروبي الأكثر تأثيرًا في أوروبا الشرقية سأجيب بلا تردد: إنه «س. ب. كافافي C. P. Cavafy».

السخرية الحادة، التجرد، الصوت الهادئ، الأسلوب غير المباشر في النظر إلى تاريخ بلاده، ذلك كله حقق له مكانة لائقة في البانثيون. في «قصيدة «هربرت» (النثرية) «من الميثولوجيا»؛ تظهر طبيعة العلاقة بين «كافافي» والشعر الحديث في أوروبا الشرقية:

في البدء كان هناك إله لليل والعاصفة
صنم أسود بلا عيون، كانوا يتقافزون أمامه عراة
ملطخين بالدم. فيما بعد، في زمن الجمهورية،
كان هناك آلهة كُثر، لهم زوجات وأطفال
وأسِرة ذات صرير، وصواعق تنفجر ولكن
دون خطورة. في النهاية، فقط، كان عصابيون
خرافيون يحملون في جيوبهم تماثيل صغيرة من الملح
تمثل إله السخرية. لم يكن هناك إله أعظم في
ذلك الوقت.
ثم جاء البرابرة. كانوا هم أيضًا يثمنون
إله السخرية الصغير. كانوا يسحقونه تحت كعوبهم،
ويضيفونه إلى أطباقهم.٢٤
على خلاف ما هو في قصيدة «كافافي» «في انتظار البرابرة»،٢٥ البرابرة هنا يصلون بالفعل ويحطمون إله السخرية الصغير. في كتابه «فن الرواية» يقتبس «ميلان كونديرا Milan Kundera» عن «رابليه Rabelais»، الذي اخترع كلمة Agelaste المأخوذة عن اليونانية وتصف شخصًا يفتقد روح الدعابة. ثم يكتب «كونديرا»:
لأنهم لم يسمعوا أبدًا ضحك الله؛ فإن «الأجلاست» مقتنعون بأن الحقيقة واضحة، وبأن كل الناس لديهم نفس الاعتقاد، وأنهم بالفعل مثلما يتصورون أنفسهم. بالتحديد، عندما تفتقد موثوقية الحقيقة وفي غيبة الاتفاق الجماعي للآخرين، يصبح الإنسان فردًا.٢٦
السخرية، والقدرة على النظر إلى الأشياء من مسافة، هي ما يميز الثقافة عن البربرية والكُتاب الحقيقيين عن الأدعياء. كان «كافافي» سيدًا من سادة المسافة والسخرية. ناظرًا إلى الثقافة اليونانية من على البعد، كان يستطيع أن يرى ما هو غائب دائمًا عن الآخرين. في قصيدته عن سقوط القسطنطينية لم يكن يتفجَّع على المدينة أو يرثيها، كان يفكر في مأزق الثقافة الديموطيقية عند اليونانيين البونتيين. بنظرة عن كثب، يمكن أن نرى أن رواية «كافافي» للتاريخ اليوناني ليست هي الانتصار غير المشروط للحضارة، كما نحب أن نتصور. «كافافي» يكشف عن هذا التاريخ من خلال صوره المرسومة جيدًا لشخصيات ملتبسة. هنا تظهر الحماقة والعمر إلى جانب الشجاعة والكرامة. الكوارث لا تأتي من الآلهة وإنما يصنعها البشر (في قصائد مثل «في مستعمرة يونانية كبيرة» و«عام ٢٠٠ ق.م.» و«أهل طروادة»).٢٧ هذه الملامح في شعر «كافافي» هي التي ساعدت شعراء أوروبا الشرقية؛ لكي ينظروا إلى مأزقهم نظرة أوسع، والهرب من رثاء الذات ومن ريفيتهم الضيقة. «كافافي» ساعد البولنديين والتشيك لكي يدركوا أن الشيوعية كانت إحدى تجليات الحماقة الإنسانية فحسب، وربما لم تكن الأسوأ. المشترك بين الشيوعية وغيرها من الحماقات كان الفقدان الكامل للمسافة وغياب روح الدعابة. صورة «الأجلاست» وهم يسحقون إله السخرية الصغير ربما تكون أكثر الصور ملاءمةً، لكي تكون في ذهن المرء وهو يقرأ أفضل أشعار أوروبا الشرقية.

في خطاب الشيوعية الملتزم بصرامة، لا مكان للسخرية أو الدعابة أو المفارقة؛ حيث إنها توحي بأن لا وجود لحقائق مطلقة، أو قيم لا يرقى إليها الشك، ولكن لأن السخرية والدعابة عامة بطبيعتها، فإنه يمكن تطبيقها على أي سياق بما يساعد على رفع الاهتمامات المحلية إلى مستوى الأهمية الكونية.

إذا نظرنا إلى قصيدتَين ﻟ «ميروسلاف هولب Miroslaw Holub» و«فيسوافا شيمبورسكا Wislawa Szymborska»، سنرى كيف أن هذا التداخل بين المحلي والعالمي يأتي بطريقة محكمة الترتيب، لدرجة أن أكثر السلطات يقظة كانت تجد صعوبة في اكتشاف وإزالة الأفكار التدميرية المرصعة بها القصائد. قصيدة «هولب»: «الساحر زيتو» مثال جيد على ذلك؛ حيث يستطيع ساحر البلاط هذا أن يحقق للحاكم الحالي كل رغباته، حتى المستحيل منها:
لتسلية سموه، سوف يحوِّل الماء إلى نبيذ،
والضفادع إلى خدم، والخنافس إلى معاونين، وسيجعل
من الفأر وزيرًا، ينحني فتنبت الأزهار من أطراف أصابعه.
ويحط طائر ناطق على كتفه.٢٨
«زيتو» هو ما يطلق عليه الأوروبيون الشرقيون لقب «فنان البلاط» وهو تجسيد لما يقصده «هارازتي Haraszti» بالعلاقة التكافلية بين الفنان والدولة الاشتراكية الحديثة.٢٩ العلاقة التكافلية علاقة طوعية تقريبًا؛ حيث أصبحت الحوافز والمزايا والجوائز وحرية الوصول إلى وسائل الإعلام تحل محل القسر والإجبار. «زيتو» ليس مثل شاعر البلاط الذي لا بد من أن يبقى وفيًّا للتاج باعتباره جزءًا من التعاقد، بمجرد قبوله هذا الشرف. هو حُر، ولكن العلاقة تفسده ويبدأ فقده لأي شعور بالحقيقي وينسى أن لقوَّتِه السحرية حدودًا. ما يذكره بذلك يأتيه من جهات غير متوقعة:
ثم يتقدم تلميذ ويسأل عن جيب الزاوية.

***

يشحب وجه «زيتو» ويعلوه الحزن: آسف جدًّا.
جيب الزاوية بين ناقص واحد وزائد واحد.
لا يمكنك أن تفعل شيئًا حيال ذلك.
ويغادر الإمبراطورية الملكية العظيمة، ويشق طريقه
بهدوء بين حشد رجال البلاط، إلى مأواه في صدفة جوزة.

العلم إذَن وليس الفن هو ما يعيد كلًّا من الفنان وصاحب الجلالة إلى الواقع. القوانين العلمية مجرد قوانين. إنها لا تبين أن هناك نهاية طبيعية لكل غموض أو خفاء فحسب، ولكنها تثبت كذلك أن الطبيعة، على خلاف البشر، لا يمكن إفسادها. لا شك في أن القصيدة تنطلق مباشرة من تجربة «هولب» كعالم، كشخص يعمل ويعيش في إطار نظام دولة فاسد تمامًا، يحاول جاهدًا تطبيق القواعد بأسلوب استبدادي. ولكونه عالمًا وفنانًا، يستطيع «هولب» أن يرى بوضوح أن تعاون الفنان مع السلطة مطوَّق بالتباسات أخلاقية، ومن هنا فهي مسئولية الفنان أن يعرف النقطة التي يكون التعاون مع الدولة بعدها مدمرًا. نجاح «هولب» في هذه القصيدة يعتمد على مزج غير عادي بين المعرفة الرمزية والمعرفة العلمية. على السطح، يبسط «هولب» ما تود أن تسمعه الأنظمة الشيوعية — المهم هو العلم الموضوعي وليس نوعًا من السحر الأسود — وعليه فهي تستخدم العلم لدعم ضروب مختلفة من الرؤى الأيديولوجية اليوتوبية، من الهندسة الاجتماعية إلى المشروعات الحمقاء المدمرة للبيئة. بأسلوب ثاقب الذكاء وفكه في الوقت نفسه يبين أن العلم إذا احترمناه بالفعل؛ فإنه يمكن أن يكشف القناع عن كل الغوامض والالتباسات الأيديولوجية.

ليس وراء «شيمبورسكا» أي تعليم علمي، وعلى الرغم من ذلك كثيرًا ما نجده موضوعًا لشعرها. مثل «هولب»، استطاعت أن تهرب من لقب «الشاعر المنشق». الحقيقة أنها نجحت في حجب نفسها عن الاهتمام العام، لدرجة أن اختيارها لجائزة نوبل كان مفاجئًا لكثير من المراقبين الغربيين كما جاء في التعليقات الصحفية آنذاك.٣٠ في كلمتها في حفل استلام الجائزة قالت إن كتابتها كانت ترفدها حقيقة مهمة، وهي أنها لا تستطيع أن تتوقف عن الدهشة أمام ما تراه من حولها: «في لغة الشعر، حيث لكل كلمة قيمتها، ليس هناك شيء عادي، ولا شيء مألوف؛ لا حجر، لا سحابة فوقنا، لا نهار، لا ليل، ولا أي حياة على الأرض.»٣١
الوصول إلى هذا الموقف، يعني إلقاء الشك على كل شيء بما في ذلك قدرة الشخص ذاتها على الفهم، وإذا كانت «شيمبورسكا» قد حققت ذلك على مستوى لغوي فقط؛ فإننا يمكن أن نضعها — وبشكل ملائم — في إطار التقليد الشكلاني الروسي، ولكن الشك بالمعنى الشكلاني والفني الدقيق لم يكن هدفها، على الرغم من قدرتها على استخدام البولندية على نحو لم يتمكن منه سوى قلة من الشعراء البولنديين.٣٢ شك «شيمبورسكا» كلي ومتعدد الطبقات، وكانت كلية شكها هي التي وضعتها على مسار تصادمي مع النظام الشمولي.
كل هذه الصفات يمكن أن نجدها في «ترنيمة»، إحدى قصائد مجموعتها «كم كبير» المنشورة في ١٩٧٦م. الترنيمة في جوهرها ترتيلة رثاء أو ندم أو شكر، وهي مستخدمة هنا لتوصيل أفكار الشاعرة عن أحوال الدنيا الغريبة، ولكن لب قصيدة «شيمبورسكا» يتناقض مع الموضوع؛ لأن الرثاء أو الندم هما عن حالة الحدود المنقوصة، وهو موضوع لا يرتبط بدقة بالترنيمة بوصفها شكلًا أدبيًّا. القصيدة تبدأ بالتفجُّع غير المعتاد: «يا لتلك الحدود السرية التي يصنعها الإنسان للدول!»٣٣ ولكن بمجرد أن ننتقل إلى السطر الثاني نجد أن هدف «شيمبورسكا» ليس العرض، وإنما تسليط الضوء على تناقض ظاهري بين الطبيعة وبين ما يشيده الإنسان. الحدود التي عادة ما تكون تحت حراسة مشددة ليست ذات أهمية إلا في العالم الإنساني. الطبيعة نتجاهلها ولا تقيم لها وزنًا.
هل أنا في حاجة لذكر كل طائر يطير أمام الحدود
أو يحط على متراس هناك؟
طائر حناء، ضعيفًا لم يزَل، ذيله في الخارج
بينما منقاره الراشح باقٍ في الداخل. لو لم يكن ذلك يكفي
فلن يتوقف عن الاهتزاز.

ولكن بعد أن تقيم مقارنة تكشف عن التباين بين العالمَين الإنساني والطبيعي، تنطلق «شيمبورسكا» فورًا لكي تقوض هذا التعارض الثنائي المؤسس على سراب نظام طبيعي.

وكيف يمكن أن نتكلم عن نسق عام
إذا كان وضع النجوم نفسه يتركنا في شك:
ماذا يضيء لمن؟
لا أتحدث عن الاندفاع الأحمق للضباب!
والغبار الذي يهبُّ على السهوب
وكأنها ليست مقسومة!
والأصوات التي تهبط على المنافذ الهوائية،
ذلك الصرير التآمري، تلك الغمغمات غير المفهومة!
وحده كل ما هو إنساني، يمكن أن يكون غريبًا.
الباقي نباتات مختلطة، رحًى مدمرة ورياح.

ما يصبح واضحًا في النهاية هو أن انفصال العالم الإنساني، الذي كان الوضع الافتتاحي في القصيدة، هو وهم آخر وبناء آخر من أبنية العقل البشري. من وجهة نظر الكون، إن كان للكون وجهة نظر؛ فإن العالم الإنساني هو «الغريب». انفصالنا عن الطبيعة ليس ظاهرة موضوعية، هو بنية مؤسسة على إدراك ذاتي عميق. هذا الفحص الراديكالي الشديد السخرية للواقع، يحتوي على جوهر أسلوب «شيمبورسكا» في التناول. من ناحية يمكن النظر إلى القصيدة باعتبارها لعبًا ماهرًا على موضوع ثنائية الطبيعة والثقافة، باستثناء أنه لا يوجد أثر لخطاب فلسفي هنا. الخطاب الشعري نابع من التفحص الراديكالي لما نراه في الغالب عاديًّا، وكذلك من التفحص المازح لعاداتنا الذهنية.

في إطارها التاريخي، كانت القصيدة مدمرة على نحو مزدوج. تقييد الحركة كان أحد الأسلحة الرئيسية في الدول الشيوعية، وحائط برلين أصبح رمزًا لطبيعة الإمبراطورية السوفييتية التعسفية. بيان أن الحدود كانت مجرد أشياء شاذة من نسج الخيال الإنساني، كان فكرة جَسورًا، ولكن الزعم أن الفوضى، وليس النظام، كان هو جوهر الوجود، كان يعني إنكارًا للمبدأ الماركسي القائم على فكرة الحتمية التاريخية. حتى المفردات والعبارات مثل «أرض أجنبية» و«متراس الطريق» و«فوضى» و«تهريب» و«مياه إقليمية» و«تآمري» و«مخرب»، كلها كانت تنتمي لقاموس الخطاب العام لوصف كل ما هو غريب أو معادٍ للدولة الاشتراكية؛ وعليه يصبح من الصعب أن نشير إلى سطر بعينه في القصيدة ونقول إنه يحيل إلى ظروف بعينها في العالم الشيوعي.

في ١٩٩١م، بعد أن انطلقت دول «الكتلة الشرقية» انطلاقة جسورًا نحو الحرية، هزت المشهد الأدبي البولندي قصيدة قصيرة كتبها «زبيجينيو ماتشج Zbigniew Machej»، الذي لم يكن معروفًا على نطاق واسع آنذاك. القصيدة التي تحمل عنوان «نبوءة قديمة» تقدم رؤية ملتبسة للأدب في عالم لم تَعُد القوة السياسية فيه تقيد الحرية الفنية. بالنسبة لفنان عرف شراك وتعرجات السياسات الثقافية في دولة اشتراكية، قد يكون من الصعب السباحة في بحار هذه الحرية المكتسبة حديثًا. قصيدة «ماتشج» موجهة وقاسية في مباشرتها.
الأيدي التي نزعت الأشواك،
سوف تنظف نفسها،
قبل أن تصافح الأيدي التي صنعت السياط.
الكرامة والرغبة
ستجدان ملجأً تحت نفس السقف،
سيرقد الذئب إلى جوار الشاة السوداء
والبطة القبيحة،
أحلام التجارة بالجملة لبيع الفاكهة الغريبة
سوف تحجب التوق إلى الفن الخالص.٣٤

القصيدة لا تقدم فجر الحرية على نحو مثالي، وإنما باعتباره وقتًا مربكًا بما فيه من تنازلات، سوف يتعلم فيه الذئب والشاة السوداء والبطة القبيحة كيف يعيشون في سلام تحت سقف واحد. ما حدث أن التطورات السياسية في أوروبا الشرقية منذ ١٩٩٢م أثبتت أن نبوءة «ماتشج» كانت دقيقة. الرقابة والاضطهاد السياسي زالا عن الأدب، ولكن قوانين السوق فرضت منظومةً مختلفةً من القيود والعوائق.

كانت الاستجابة الفورية للتغيير دعوة للغة شعرية جديدة، والاعتراف بأن الأدب المكتوب خلف الستار الحديدي كان لا بد أن يودع في ذمة التاريخ. الشعراء الشبان الذين كانوا يريدون الانفكاك من أسر الماضي، بدءُوا ينظرون إلى شعراء مثل «هربرت» و«شيمبورسكا» باعتبارهم عقبةً في طريق تجديد التقليد الأدبي، رغم أنه لم يكن لديهم تصور واضح لهذا التجديد. يمكن أن نفهم أن الاستراتيجيات الشعرية التي ظهرت في أوروبا الشرقية، في الفترة ما بين ١٩٤٥م و١٩٨٩م، قد تكون ذخرًا للمواهب الفنية الصاعدة وعبئًا عليها في الوقت نفسه. عندما نُلقي نظرة عامة على شعر الحرب الباردة، سيكون من التبسيط المُخل أن نعتبر الظروف السياسية العاملَ المؤثر الوحيد وراء نموه وتطوره. في آخر الأمر، ليس هناك نظام حكم بمقدوره أن يحوِّل ناشطًا سياسيًّا إلى شاعر متميز، إن لم يكن ذلك الناشطُ شاعرًا في المقام الأول.

لا شك أن القيود السياسية أو الوجودية، بمعنًى أشمل، المفروضة على الكاتب كانت تستدعي ردًّا فنيًّا؛ ولكن كون هذا الرد كان لا بد من أن يتم تحت ضغط الرقابة، أدى إلى تطور جماليات فنية وبلاغة شعرية معينة؛ حيث يصبح لكل كلمة وزنها، ويصبح الشاعر والقارئ شريكَين في محاولتهما للفهم المتبادل.

سيكون من غير الواقعي أن نتوقع بقاء هذا التقليد قويًّا متماسكًا في الأزمنة المعاصرة، عندما لا تهتم الأيديولوجيات السائدة كثيرًا بالتعبير الفني، وتحول الفنان، في الغالب الأعم، إلى منتج عليه أن ينافس من أجل الحصول على التمويل والاهتمام العام. على الرغم من ذلك، لا شك أن أفضل شعراء الحرب الباردة لم ينجحوا فحسب في التغلب بذكاء على عملاء وأدوات المكتب السياسي، وإنما استطاعوا كذلك أن يبدعوا شعرًا يستطيع البقاء فيما يطلق عليه «شيموس هيني Seamus Heaney»: «أطلس الحضارة.»٣٥
١  Szymborska, “The End and the Beginning,” in Szymborska, “View with a Grain of Sand: Selected Poems,” trans. Stanislaw Boranezak and Clare Cavanagh (New York: Harcourt Brace and Company, 1955), pp. 178-9, line 1 .
٢  تناول الكاتبان اليوغوسلافيان Dubravka Ugrešić وSlavenka DraKulić هذا الموضوع كثيرًا في مقالاتهما. انظر:
• Ugrešić, “The Culture of Lies” (1955).
• DraKulić, “How We Survived Communism and Even laughed” (1988).
٣  أنا مدين بهذه الملاحظة لعديد من الزملاء الذين يقومون بتدريس الأدب والتاريخ في المستويَين الثاني والثالث بالمملكة المتحدة، ودول «الكتلة الشرقية» السابقة.
٤  تعتمد هذه الملاحظة على عملي في الهيئة الاستشارية ﻟﻠ Arts Council’s Literary Translation في أواخر التسعينيات.
٥  انظر: Davies, “Microcosm: A Portrait of a Central European City (2002) and ‘Rising’ 44” (2003).
٦  انظر:
• Italo Calvino: “Why Read the Classics” (1991).
• Zbigniew Herbert: His Poem “Why the Classics,” in Herbert, Selected Poems, trans. P. D. Scott and Czeslaw Milosz (Manchester: Carcanet, 1985), pp. 137-8.
٧  Alvarez, “Under Pressure: The Writer in Society: Eastern Europe and the USA” (Harmondsworth: Penguin, 1965), pp. 23-4 .
٨  تناولتُ هذه القضايا على نحوٍ أكثر تفصيلًا في مقالٍ لي بعنوان: “Before and After: The Burning Forest Modern Polish Poetry in Britain,” The Polish Review, 1 (1989), 57–71.
٩  Spender, “Introduction” to Anthony Graham, ed., Witness Out of Silence: Polish Poetry Fighting for Freedom” (London: Poets and Painters Press, 1980), p. 9 .
١٠  Interviews with Maria Janion in Katarzuna JanowsKa, “Rozmowy na nowy wiek” (2001) and Maria Janion, “Do Europy-tak, ale razem z naszymi umarlymi” (2000) .
١١  يقوم الآن مركز أبحاث اللغات في فنلندة بمشروعٍ بحثيٍّ مقارن عن الرقابة الروسية في فنلندة في القرن التاسع عشر، كما يُمكِن الاطلاع على تحليلٍ مفصَّل عن الرقابة في بولندا مع وثائقَ أصلية في: “The Black Book of Polish Censorship” (1984). Jane Leftwithch Curry, ed.
١٢  انظر: Hans Robert Jauss, “Towards an Aesthetic of Litrary Reception” (1977).
١٣  Haraszti, “The Velvet Prison: Artists under State Socialism,” trans. Katalin and Stephen Landesmann (1987; New York: The Noonday Press, 1987), p. 5 .
١٤  Michael March’s anthology, “Child of Europe” (1990) ؛ حيث تجد أمثلةً كثيرةً عن هذا النوع من الكتابة.
١٥  Mandelshtam, “Hope against Hope,” trans. Max Hayward (1970; London: Penguin, 1976), p. 400 .
١٦  ربما يكون «فلاديمير ماياكوفسكي Vladimir Mayakovskii» هو أبرز مثالٍ دالٍّ عند تطبيق مبادئ الواقعية الاشتراكية على الشعر.
١٧  Stanislaw Barańczak, “Breathing Under Water and Other East European Essays” (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1990), pp. 61–95 .
١٨  انظر: Stanislaw Barańczak, “A Fugitive from Utopia: The Poetry of Zbigniew Herbert” (1987), Barańczak, “Breathing Under Water and Other East European Essays” (1990), Seamus Haeney, “The Government of the Tongue” (1988).
١٩  Chris Miller, “On Not Writing the East Europen Poems,” PN Review, 30: 5 (2004), p. 69 .
٢٠  انظر: Milosz, “Witness of Poetry” (1983). من الجدير بالذكر كذلك أن واحدةً من أهم قصائد الشاعر الروسي «جوسيب برودسكي Josip Brodsky» تحمل عنوان «فرار من بيزنطة».
انظر: Brodsky, A Flight from Byzantium وذلك في “Collected Poems in English,” ed., Ann Kjellberg, trans. Anthony Hecht, et al., (2000; Manchester: Concanet: 2001), p. 12.
٢١  Miedzyrzecki, “End of the Game,” in Daniel Weissbort, ed .
٢٢  الأنثروبومترية: دراسة قياس الجسم البشري لأغراض التصنيف الأنثروبولوجي المقارن.
٢٣  Herbert, “Damastes (Also Known as Procrustes) Speaks,” in Herbert, “Robert from the Besieged City and Other Poems,” trans. John and Bogdana Carpenter (1983); New York: The Ecco Press, 1985, p. 44, lines 1–24 .
٢٤  Herbert, “From Mythology”, in Herbert, “Selected Poems”, p. 93 .
٢٥  Cavafy, “Waiting for the Barbarians,” in Cavafy “Selected Poems,” trans. Edmund Keely and Philip Sherrard (London: Horgarth Press, 1975), p. 14 .
٢٦  Kundera, “The Art of the Novel,” trans. Linda Asher (1986; London: Faber and Faber, 1988), p. 159 .
٢٧  Cavafy, “In a Large Greek Colony, 200 B.C, Trojans,” in Cavafy, “Selected Poems,” p. 112 .
٢٨  Holub, “Zito the Magician,” in Holub, “The Fly,” trans. Edward Osers, George Theiner and Ian and Jamila Milner (NewCastle upon Tyne: Bloodaxe Books, 1987), p. 51, lines 1–4 .
٢٩  Haraszti, Valvet Prison, p. 8 .
٣٠  انظر مقال «جوليان إشروود Julian Isherwood» بعنوان: “Obscure Polish Poetess is Awarded Nobel Prize”.
وذلك في عدد «ديلي تليجراف» بتاريخ ٤ / ١٠ / ١٩٩٦م، وكذلك مقال «ماريان مكدونالد Marian McDonald» بعنوان: Poetry’s Mozart Is Nobel Winner وذلك في عدد الإندبندنت، بتاريخ ٤ / ١٠ / ١٩٩٦م.
وقد نشر شعرها بالإنجليزية في PN Review في ١٩٨٢م، وكذلك في The Modern Poetry in Translation في ١٩٧٥م، كما نشرت The Cambridge Quarterly مراجعة نقدية لأشعارها في ١٩٨٧م.
٣١  Szymborska, Poeta I Swiat (Stockholm: The Nobel Foundation, 1996), unpaginated My Translation .
٣٢  للمزيد عن هذا التوجه في الشعر البولندي يمكن الرجوع إلى أعمال Boleslaw Lesmian (1877–1937) وEwa Lipska (المولود في ١٩٤٥م).
٣٣  Szymborska, “Psalm,” in Szymborska, View with a Grain of Sand, pp. 95-6, line 1 .
٣٤  Machej, “An Old Prophecy,” in Donald Pirie, ed., “Young Poets of a New Poland,” trans. Donald Pirie (London: Forest Books, 1993), p. 150, lines 9–14 .
٣٥  Heaney, “The Government of the Tongue” (London: Faber and Faber, 1988), pp. 54–71 .

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤