الفصل الثالث عشر
المُعادي لأمريكا
«جراهام جرين» والحرب الباردة في خمسينيات القرن
العشرين
في كتابه «حياة أخرى
Another
Life» (١٩٩٩م) يتذكر «مايكل كوردا
Michael
Korda» (أحد محرِّري دار نشر
Simon and
Schuster) يتذكر «جراهام جرين
Graham
Greene» وقد انتابته هواجسُ شديدة
بخصوص علاقته المعقَّدة بالولايات المتحدة. كان «جرين»، وهو طالب في
أكسفورد، قد التحق لفترةٍ قصيرة بالحزب الشيوعي، ومُنع ذات مرة من دخول
الولايات المتحدة، وغالبًا ما كان يجد صعوبة في الحصول على تأشيرة
دخول. ولأنه كان مقتنعًا بأن «مكتب التحقيقات الفيدرالي
(
FBI) يحتفظ بملفٍّ خاص به، يقوم
بتحديثه باستمرار»، «لم يكن لديه أدنى شك في أن مراسلاته ومحادثاته
التليفونية كانت تحت المراقبة.»
١ بعد إمكانية الوصول إلى هذا الملف الذي ذكره «كوردا»
(٣٢٤)، بموجب قانون حرية تداول المعلومات، اتضح أنه كان عبارةً عن
«مظروف صغير» يحتوي بعضَ قصاصات، وتقريرًا عن حضور «جرين» «مؤتمر
المثقفين العالمي» الذي عُقد في وارسو في ١٩٤٨م.
٢ كان «جرين» يعتقد أن هذا الملف «مزيَّف»، وأن يكون اﻟ
FBI قد أخفى الملف «الحقيقي» الذي لم
يستطع «كوردا» أن يجد له أثرًا في أي مكان (٣٢٥). انشغال «جرين» الشديد
بهذا الأمر «وكأنه كأس المسيح المقدَّسة» (٣٢٣) يكشف عن أمورٍ كثيرة عن
المؤلف في فترة الحرب الباردة. الواضح أنه كان يعتبر نفسه معاديًا
للولايات المتحدة، ولكن فحص كتاباته في فترة الحرب الباردة يثبت لنا أن
عداءه للولاياتِ المتحدة وتدخلاتِها الخارجيةِ لم يجعل منه مؤيدًا
ونصيرًا سوفييتيًّا، والحقيقة أن «جرين» كان يجد تلك الثنائية الشائعة
واللافتة في الحرب الباردة، مزعجة إلى حدٍّ بعيد. كانت الستالينية
والاستبداد السوفييتي أمورًا بغيضة، وكذلك كانت «الحرية» الغربية التي
توثِّق حركة الفرد ونشاطه في ملفاتٍ سرية، وفي هذا السياق كان «جرين»
يبحث عن «أرض وسطى».
عندما نتحدث عن فترة الحرب الباردة، إنما نتحدث عن فترةٍ زمنيةٍ
محدَّدة (من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى سقوط الكتلة الشرقية في
١٩٨٩ و١٩٩٠م)، وبخاصة تلك السنوات المشحونة الممتدة من أواخر
الأربعينيات، وربما حتى أزمة الصواريخ في أكتوبر ١٩٦٢م. فيما بعد، كان
التعايش يبدو — على نحوٍ مطرد — أمرًا عاديًّا، كما ظهر في اتفاقيات
مثل معاهدة التجارب النووية في ١٩٦٣م، بينما كانت المركزية السياسية
الشيوعية المتنامية تعني أنه لم يَعُد بالإمكان النظر إليها باعتبارها
خطرًا داهمًا. على الرغم من ذلك، بقيَت العلاقات الأمريكية السوفييتية
عدائية على نحوٍ مخيف لمدة عشرين سنةً على الأقل بعد الحرب العالمية
الثانية. في مثل هذا السياق، كان المثقَّف غالبًا ما يجد نفسه في حالة
خصام مع الروح السائدة، والحقيقة، كما نعرف جيدًا، أن كثيرًا من
الكُتاب والفنانين في الولايات المتحدة كانوا على القوائم السوداء، غير
قادرين على العمل في مجالاتهم وربما مسجونين بسبب احتقارهم للكونجرس.
في بريطانيا، كانت الهواجس الأمنية شديدةً كذلك، وإن كان مَن تحدَّوا
توجُّهات الحرب الباردة لم يكونوا منبوذين كما كان الحال في الولايات
المتحدة؛ إذ لم يكن هناك نظير ﻟ «جو مكارثي» في بريطانيا.
٣ اتخاذ موقفٍ معادٍ بشدة لأمريكا من قِبل كاتبٍ بريطاني مثل
«جرين»، لم يكن يعني إذَن أنه غيرُ وطني، والحقيقة أن مثل هذا الفرق لا
بد من اعتباره العكس.
الكُتاب البريطانيون استجابوا للفترة التالية للحرب مباشرةً بطرقٍ
مختلفة، ويرى النقاد أنه كانت هناك «استدارة داخلية» في الرواية والشعر،
٤ نحو القضايا المحلية السائدة في مسرحياتٍ مثل «انظر خلفك
في غضب
Look Back in Anger
» (١٩٥٧م) وفي رواياتٍ متنوِّعة مثل
«جيم المحظوظ
Lucky Jim
» (١٩٥٤م) و«غرفة على السطح
Room at the Top
» (١٩٥٧م)، إلا أنه كان هناك جانبٌ آخر
من الأدب الروائي البريطاني — وجرين مثالٌ دالٌّ هنا — كان يستغل
الاهتمامات العالمية. كانت روايات الجاسوسية مثلًا قد أصبحَت منتشرة،
وكانت تجنح إلى تأكيد ظنون القُراء في وجود عالمٍ سرِّي خلف الواقع
العادي. قصص «إيان فليمنج
Ian
Fleming» الذائعة عن «جيمس بوند»
كانت تُبرِز انتصار الغرب والسلعة على الدهماويين والسلطويين الكثيرين،
الذين يمثِّلون منظماتٍ معاديةً متخفِّية وإن كانت منتشرة مثل «سبكتر
Spectre» و
Smersh. كان الإحساس
بوجود عالمٍ سرِّي شائعًا في تلك الفترة لأن الحرب الباردة، على خلاف
الحرب العالمية الثانية، لم تكن مرئيةً للشعوب الغربية إلى حدٍّ بعيد،
لم تكن تظهر إلا في حروب بالوكالة في كوريا أو فيتنام وفي الخطاب
العام. من هنا، كان أدب الحرب الباردة الروائي يعني، بالنسبة لعددٍ
كبيرٍ من المراقبين مثل «لين ديان بيني
Lynn Dianne Beene»،
رواياتِ الجاسوسية.
٥ والحقيقة أن الجواسيس وأعمال الجاسوسية تظهر في أعمال
كُتاب لا يُعتبَرون عادةً من مؤلفي أعمال الجاسوسية، ومنهم على سبيل
المثال «إليزابيث باون
Elizabeth Bowen» ورواية
The Heat of the Day
(١٩٤٩م)، أو «سي بي سنو
C. P.
Snow» ورواية
The New Men
(١٩٥٤م).
لكننا عندما نتحدث عن تأثير الحرب الباردة في الأدب، لا بد من أن
نسأل أنفسنا ماذا نعني بذلك؟ هل أدب الحرب الباردة الروائي هو ذلك الذي
نُشر خلال الحرب الباردة؟ هل هو الأدب الذي يتناول قضاياها، أو على
نحوٍ أكثر تحديدًا، الصراع بين القوى العظمى؟ أم تُراه ذلك الأدب الذي
يُبرِز جمالياتٍ خاصة سواء في أسلوب السرد أو التناول؟ وهل هناك بالفعل
خطابُ حربٍ باردة؟ في أي نقاشٍ عن التحقيب ستكون هناك أسئلةٌ كثيرةٌ
مشابهة، ولعله من الأفضل لأغراضنا الحالية أن نطرح ذلك بالنسبة لمؤلفٍ
واحد هو «جراهام جرين»، ونحن نتعرف على تأثير الحرب الباردة الواسع على
المجتمع والأدب؛ الخوف من الدمار النووي، خمود الجدال السياسي، الرؤية
الكونية المانوية، البارانويا والشعور بالأزمة والعجز بين الدول وبين
المواطنين — بالتأكيد — في ظل سيطرة القوتَين العظميَين. بعد الحرب
العالمية اتجه أدبُ جرين الروائي نحو هذه الهموم الجيوسياسية، وعليه
يصبح مثيرًا للاهتمام أن يظل «روبرت هيوسن
Robert Hewison» على
رأيه بأن أعمال جرين متجذِّرة في ذلك «العالم القديم الملتبس»، عالم الثلاثينيات.
٦ يرى «هيوسن» أن «جرين تجنَّب محلية معظم كُتاب الرواية
الإنجليز، بأن جعل أحداثَ رواياته تدور في الخارج، وفي أماكنَ كانت
مرشَّحة لأن تكون مشحونةً سياسيًّا إلى حدٍّ كبير … ولكن المصالح
السياسية المتعارضة والمعاناة التي تُحدِثها في عالم الواقع، هي
انعكاسٌ للصراع الدائم بين مبادئ الخير والشر الذي يتم حله مؤقتًا،
بعون الله، عن طريق المعاناة.»
٧ مثل هذه الملاحظة يمكن تقديمها فقط عن طريق غض البصر
الطوعي عن المحتوى الواضح السياسي لكُتب «جرين». المؤكَّد والصحيح أن
رواية مثل «الأمريكي الهادئ
The Quiet American» مرتبطة من
ناحية الموضوع والأسلوب بأعماله الباكرة، لكنه سيكون من التبسيطِ
المخلِّ اعتبار الإشارات المعاصرة في الرواية قناعًا لطبيعة موضوعاته،
أو اعتبار الكتاب فعل «انتقام» من الولايات المتحدة لرفضها مَنحَه
تأشيرة دخول.
٨ الحقيقة أن هذه الرواية من أهم الانتقادات لسياسة أمريكا
في الحرب الباردة، التي يُمكِن أن نجدها في الأدب الروائي في
الخمسينيات؛ بالإضافة إلى أنها إلى جانب روايتَيه الأخريَين «الرجل
الثالث
The Third Man
» (١٩٥٠م) و«رجلنا في هافانا
Our Man in Havana
» (١٩٥٨م) تُبرِز إحساس «جرين» الحاد
بالتوترات السياسية للمرحلة.
٩
باعتباره مواطنًا بريطانيًّا كثير السفر إلى الخارج، كان «جرين»، على
نحوٍ مضاعف، خارج إطار المتصارعَين الرئيسيَّين في الحرب الباردة،
الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. على الرغم من أن الكثيرين من
أبطاله (د. في «العميل الموثوق
The Confidential Agent» (١٩٣٩م)
و«رو» في «وزارة الخوف
The
Ministry of Fear» (١٩٤٣م) أو
«فولر» في «الأمريكي الهادئ
The Quiet American») كانوا
يعرفون أن عليهم في النهاية أن يختاروا جانبًا من الجانبَين. كان
«جرين» يجد من الصعوبة أن يفعل ذلك، كما كان يحاول جاهدًا أن يتجنب
التصنيف الأيديولوجي؛ فقد رفض في الثلاثينيات مثلًا أن «ينحاز» إلى أي
طرفٍ في الحرب الأهلية الإسبانية. «جرين» يشارك «إي إم فورستر
E. M.
Forster» موقفه في «ما أومن به
What I Believe
» (١٩٣٨م)، وهو أنه يضع الولاءات
الشخصية والمشاعر فوق القضايا السياسية أو القومية: إن الإخلاص الأعمى
لمفاهيمَ كبرى مجرَّدة عن الفضيلة أو القومية أو الأيديولوجية، لا بد
من أن يكون مدمرًا لكل ما هو إنساني.
١٠ في «وزارة الخوف»، نجد اقتباسًا عن «تولستوي» عن هذا
الشأن: «عندما أتذكَّر كل ما اقترفتُ من شرور، كل ما عانيتُ وشهدتُ من
جرَّاء عداء الأمم، يتكشَّف لي أن سبب ذلك كله يُوجَد في تلك الأكاذيب
الكبرى المسمَّاة بالوطنية وحب الوطن.»
١١ على نحوٍ دال، كان «الدكتور فورستر»، من الطابور الخامس
النازي، قد سجَّل هذه العبارة ذات مرة ثم عاد ليمحوها.
«الرجل الثالث
The Third
Man»، وهو عمل ربما يكون معروفًا
بوصفه فيلمًا سينمائيًّا أكثر منه كتابًا،
١٢ يستكشف كذلك قضايا مثل الولاء الشخصي والإيمان في مواجهة
الانقسامات الواضحة للحرب الباردة. «الرجل الثالث»، وهي روايةٌ بوليسية
أكثر منها روايةً جاسوسية، تتناول بالتفصيل تجاربَ وممارساتِ «رولُّو
مارتينز
Rollo
Martins»، الذي دعي بواسطة صديق
قديم، «هاري لايم
Harry
Lime»، إلى فيِنَّا. شيئًا فشيئًا
يكتشف «مارتينز» أن صديقه يستخدم المدينة المحتلة قاعدة للابتزاز. هذه
الرواية القصيرة تقدم فيِنَّا ما بعد الحرب، بوصفها مدينةً مقطَّعة
الأوصال بما يعكس حقائق الحرب الباردة، أما بالنسبة ﻟ «جرين» فهي
تذكِّره بالثلاثينيات، عندما كانت صورة «الحدود» ملمحًا متكررًا في
الأدب البريطاني.
١٣ هذه الصورة كانت تروقُ للكاتب الذي يبدأ عمله: «رسالة إلى
صديقٍ ألمانيٍّ غربي» بتقدير لفكرة الحدود،
١٤ وهو الوضع الذي أسفر في ألمانيا عن انقسامٍ واضح بين الشرق
والغرب كان يروق له. «الرجل الثالث» لا تركِّز على الصراع بين الشرق
والغرب، بَيدَ أن الصعوبات مع السوفييت ليست بعيدةً عن مركز الكتاب.
القطاع الروسي من المدينة مأوًى لمعظم أولئك المتورطين في ابتزاز
«لايم» (ابتزاز يعمل «كأنه حزبٌ سلطوي» كما يقول الراوي)،
١٥ كما أن عمليات الاختطاف في القطاعات البريطانية والفرنسية
والأمريكية من المدينة تُوحي بالخطر الدائم، خطر الاختراق السوفييتي
لمناطق النفوذ الغربي. يأتي على نفس الدرجة من الأهمية استخدام «جرين»
لنظام الصرف الصحي، وهو ما يشير إلى الطبيعة المسامية للحدود أو
قابليتها للاختراق، واستخدامه لتقسيم فيِنَّا إلى قطاعات، وكذلك إلى كل
«الحدود» التي صنعَتها الحرب الباردة.
هناك وجهٌ غريبٌ آخر في هذه الرواية — الرجل الثالث — ولكنه ليس
مُنبَتَّ الصلة بما سبق ذكره، وهو أنها سرعان ما أصبحَت مرتبطة
بالجاسوسية والفضائح. لعل المسئول عن ذلك شهرة الفيلم السينمائي، ولكن
بعد انشقاق كلٍّ من «جي بيرجس
Guy Burgess» و«دونالد ماكلين
Donald
Maclean» اللذَين كانا من المفترض
أن يلقيا مساعدةً لانشقاقهما، أصبحَت «الرجل الثالث» هي «العبارة السحرية».
١٦ يرى «أ. أ. دي فيتيس
A. A. Vitis» أن
«جرين» في عنوانه (الرجل الثالث) كان رجع صدًى لقصيدة «ت. إس إليوت
T. S.
Eliot» «الأرض الخراب
The Waste
Land» (مَن ذلك الثالث الذي يسير
إلى جوارك دائمًا؟)، وأنه يستخدم «الثالث» كما سبق أن فعل «إليوت» لكي
يشير إلى تلك اللحظة في الطريق إلى «إيموس
Emmaus» عندما يسير
المسيح مجهولًا بين حوارييه بعد قيامته.
١٧ هكذا تصبح عودة «هاري لايم» رمزًا لقيامة تجديفية. على
الرغم من ذلك، ليس من السهل قطع الصلة بالجاسوسية: «لايم» لديه اتفاق
مع الروس،
١٨ والرجل الثالث، يتضح بعد انشقاق «بيرجس» و«ماكلين»، أنه
صديق «جرين» «كيم فيلبي
Kim
Philby» الذي كان مراقبًا ذات يوم،
واستخدم الصرف الصحي لإنقاذ الثوار أثناء انتفاضة فيِنَّا المشئومة في
١٩٣٤م. (كانت الصحف قد ألمحت إلى أن «فيلبي» كان هو الرجل الثالث وذلك
قبل انشقاقه بوقت طويل).
١٩ ولاء «جرين» وامتنانه ﻟ «فيلبي» تجده في تقديمه لكتاب
«فيلبي» الصادر في ١٩٦٨م بعنوان «حربي الصامتة
My Silent
War»، على الرغم من أن استقالة
«جرين» المفاجئة من اﻟ
SIS، جهاز الاستخبارات السرية
(
Secret Intelligence
Service) في ١٩٤٤م، ربما يكون قد
عجل بها اكتشاف أن «فيلبي» كان يعمل لحساب السوفييت،
٢٠ (كان «جرين» ينكر دائمًا مجرد الشك في ذلك).
على ضوء ما سبق، ربما يكون من المهم اعتبار رواية «الرجل الثالث»
كاشفة لهُوية «فيلبي» كما يبدو أن «شلدن
Sheldon» يعتقد،
٢١ وكما يبدو لكل ذي عينَين. والمؤكَّد أننا إذا اعتبرنا أن
«مارتينز» هو «جرين» (مارتينز يدَّعي أن كتابه التالي سيكون بعنوان
«الرجل الثالث»)،
٢٢ سيمكننا بكل سهولة قراءة «لايم» — الصديق القديم صاحب
الحياة السرية — باعتباره فيلبي. على الرغم من ذلك، بينما بقي «جرين»
وفيًّا ﻟ «فيلبي»؛ فإن النظير الروائي ﻟ «جرين» يقتل «لايم».
كما يوحي هذا التطور، فإن موقف «جرين» من الحرب الباردة كان مختلفًا،
على نحو ملتبس، مع توجُّه خطاب الحرب نحو اختزال الفروق السياسية في
ثنائياتٍ بسيطة كل تركيزها على دعم أحد الطرفَين؛ الولايات المتحدة أو
الاتحاد السوفييتي. هذا التوصيف، كما أشار «برتراند راسل
Bertrand
Russell»، كان يتجاهل الشقاق بأن
يجعله متطابقًا «في ذهن العامة، مع دعم «العدو»، «الشيطان»، الروس
الأشرار فوق كل تصوُّر. الطريف في الأمر، أن يصبح من الصعب مساءلة
الصراع نفسه.»
٢٣ مع تعاطفه المتزايد مع الشيوعية، لم يكن «جرين» ستالينيًّا،
٢٤ وفي الوقت نفسه كان شديد الاستياء من الإجراءات الأمريكية
المُعادية للشيوعية والسياسة الخارجية الأمريكية التي تفتقر إلى
الخبرة. «جرين» وجد «أرضًا وسطى» في الكنيسة، وخاصة عندما وقفَت، كما
حدث في بولندا، في وجه الاستبداد،
٢٥ لكن دعم الكنيسة ﻟ «مكارثي» الكاثوليكي، كما عبرت عنه
تصريحات الأسقف «فلتون شين
Fulton Sheen» والكاردينال
«سبلمان
Spellmann» كان بغيضًا بالنسبة له.
٢٦ بعد أن واجه هذا الانشطار في ولائه، سافَر «جرين» إلى عدد
من الدول النامية؛ حيث كانت الاشتراكية والشيوعية تتطوَّران على امتداد
خطوطٍ بعيدةٍ عن النموذجَين السوفييتي أو الصيني. في أعقاب ذلك، وبخاصة
بعد زياراته لفيتنام، زاد تأييده لمصالح دول العالم الثالث الصغيرة
وزعمائها مثل «هوشي منه
Ho Chi
Minh» و«كاسترو
Castro» و«ألليندي
Allende» و«توريجوس
Torrijos» في نضالهم ضد الولايات
المتحدة.
في الخمسينيات، كانت كتابات «جرين» الصحفية تعكس، مثل أعماله
الروائية، منظورَه للحرب الباردة. من بين المقالات العديدة التي كتبها
وتتناول قضايا الحرب الباردة، نذكُر مقالَين مهمَّين هما: «عودة تشارلي
شابلن: رسالة مفتوحة
The
Return of Charlie Chaplin: An Open Letter
» (١٩٥٢م) و«رسالة إلى صديقٍ ألمانيٍّ
غربي
Letter to a West German
Friend» (١٩٦٣م) في المقال الثاني،
يضع «جرين» الكاثوليكية إلى جوار الشيوعية بوصفها نظامًا اعتقاديًّا.
٢٧ من ناحية أخرى، تقدِّم الرأسمالية الغربية النزعة
الاستهلاكية، وبذلك تبقى خاوية من الناحية الروحية: «في عالمٍ يقوم على
التجارة؛ حيث يسود منطق الربح والخسارة، يكون المرء عادةً توَّاقًا إلى
ما هو غير عقلاني، الرأسمالية ليست عقيدة، وعليه فهي ليست قوةً مغناطيسية.»
٢٨ يمكن أن نفهم من ذلك أن النزعة الاستهلاكية كانت مرادفًا
للعقيدة، ولكن وراء مديح «جرين» للشيوعية على اختلاف صورها، هناك مزيج
من المثالية والرغبة الثورية في ثقب المعتقدات الغربية السائدة عن
الأيديولوجيا. في «رسالة إلى صديق ألماني غربي»، على سبيل المثال، نجده
يقول: «يميل الغرب إلى أن يُلصق دوافع بطولية بكل أولئك الذين يهربون
عبر الحائط أو من خلاله. المؤكد أن لديهم الشجاعة لكي يفعلوا ذلك، ولكن
منهم «يختار الحرية» لأهداف رومانسية، أو بسبب حب فتاة أو أسرة، أو
أسلوب حياة، وكم منهم يغويه مستوًى اجتماعي يتضمَّن أجهزة راديو
ترانزستور وجينز أمريكي وسترات جلدية؟»
٢٩
الرسالة المفتوحة إلى «شابلن»، «أحد الليبراليين العظام في زماننا»
٣٠ تحتوي على بعض أبرز تعليقات «جرين» على قضايا الحرب
الباردة. على الرغم من أنه كان يتطلع إلى التفرقة بين المواطنين
وحكوماتهم في عالم ما بعد نورمبرج،
٣١ كان «جرين» يرى هيستريا مفارقة في الولايات المتحدة. يتخيل
تقديم أفلام «تشارلي شابلن» دليلًا على نشاط معادٍ لأمريكا، لأنها
تتحدى السلطة،
٣٢ وهي نقطة تلمس صميم الحيرة الأمريكية في الخمسينيات؛ لأن
أمريكا تحتفي في أدبها وسياستها بحرية الفرد غير المقيدة. من هنا كان
الأدب يمتلئ بشخصيات ثورية عصية على الاحتواء: من «ناتي بمبو
Natty
Bumpo» و«هك فن
Huck
Finn» إلى «إدنا بونتلييه
Edna Pontellier
» و«هولدن كولفيلد
Holden
Caulfield». أبطال الأدب الأمريكي
هؤلاء، هم أبناء «جيفرسون
Jefferson» و«إمرسون
Emerson» و«ثورو
Thoreau». لكن ثقافة الحرب الباردة
السياسية والفنية لم تقدِّم سوى القليل جدًّا من النماذج المتسامحة.
ملاحظات «جرين» عن «شابلن»، تُكبِر رفض بريطانيا المشاركة في الحملة
التي تقودها الولايات المتحدة لاستئصال الشيوعية المحلية «لأنها تقع
على مسافة أقرب من الخطر، فإنها (بريطانيا) متحررة من المظاهر القبيحة للخوف.»
٣٣ ولأن تعليقاته كانت تجيء مباشرة بعد انشقاق «ماكلين»
و«بيرجس»؛ فهي تعبر بكل وضوح عن التزامه بالديمقراطية الليبرالية، كما
أنه يلمع من خلال إشارة إلى «تيتوس أوتس
Titus Oates»، إلى
أن بريطانيا كانت قد استوعبت درس المكارثية منذ زمن بعيد.
٣٤ لكن «جرين» ينتهي إلى أن «عار أي حليف هو عارنا، وبهجومهم
عليك (يقصد شابلن)؛ فإن مطاردي الساحرات يؤكدون أن ذلك ليس شأنًا
وطنيًّا. إن اللاتسامح في أي دولة يجرح الحرية في أي مكان في العالم.»
٣٥
إدانة «جرين» للسياسة الداخلية الأمريكية تأتي متسقة مع نفوره
المتزايد تجاه الولايات المتحدة، وهو ما يتضح بقوة في «الأمريكي
الهادئ»، الرواية التي ما زال تنبؤها مثيرًا للدهشة، رغم أنها ليست من
بين أفضل أعماله. تدور أحداث الرواية في السنوات السابقة مباشرة على
مؤتمر جنيف (١٩٥٤م) الذي قسم فيتنام، وهي مروية على لسان «توماس فولر
Thomas
Fowler» المراسل العسكري ﻟﻠ «تيمز»
في سايجون أثناء الانتفاضة الشيوعية ضد الحكم الفرنسي، وتفصِّل علاقة
البريطانيين ﺑ «ألدن بايل
Alden Pyle» المخبر السري
الأمريكي، الذي كان يقدم المساعدات السرية ﻟ «قوة ثالثة» معادية
للشيوعية قبل مقتله. الرواية إذَن تلامس لحظة استبدال السلطة
الكولونيالية الفرنسية بالسلطة الأمريكية. وكما لو كان الكاتب يحاول أن
يؤكد استبدال السلطة، نجده يبدأ وينتهي ﺑ «فولر» الذي يخبرنا بأنه كان
يراقب القاذفات الأمريكية أثناء تفريغها عندما قتل «بايل». هذه النقطة
تتكرر مع اختلافات واضحة في اللغة المستخدمة بما يؤكد زيادة التورط
الأمريكي. في المرة الأولى يقول «فولر»: «كان بمقدوري أن أرى الكشافات
عندما أنزلوا الطائرات الأمريكية الجديدة»؛ وفي المرة الثانية تصبح
اللغة أكثر حدة ووضوحًا: «توقفت لبعض الوقت وأنا أراقب تفريغ القاذفات
الأمريكية. كانت الشمس قد غابت وكان العمل يتم على ضوء المصابيح القوسية.»
٣٦ «الطائرات» أصبحت «القاذفات». الكشافات أصبحت المصابيح
القوسية. «أنزلوا» أصبحت القيام ﺑ «تفريغ». في إطار زمن السرد، اللحظة
هي نفسها تقريبًا، ولكن وصف «فولر» الذي يزداد قوة يؤكد الحضور
الأمريكي المتزايد.
زار «جرين» فيتنام أربع مرات في أوائل الخمسينيات، وكتب عن الأوضاع
هناك في «باري ماتش» و«صنداي تيمز» وغيرهما.
٣٧ ولأن هذه المقالات الصحفية كانت مكتوبة عندما كانت كوريا
بؤرة الاهتمام الإعلامي؛ فإنها قدمت تقييمًا ذكيًّا للحرب وتمثيلًا
استثنائيًّا لبيئة خاصة، والحقيقة أن الصور الوصفية التي قدمها «جرين»
— مثل تلك عن المشهد الطبيعي حول «فات ديم
Phat Diem» وتجربة
القصف العمودي — تظهر كما هي بدون أي تغيير في «الأمريكي الهادئ».
كتابات «جرين» الصحفية تعبر بوضوح شديد، مثل الرواية، عن انزعاجه
للوجود الأمريكي في فيتنام ولسياسة الاحتواء.
٣٨ في مقاله الأول «الهند الصينية: تاج أشواك فرنسا» (١٩٥٢م)
كتب يقول: «تبدو الشعارات الغربية وكل ذلك الحديث الذي يرويه السياسيون
عن ضرورة احتواء الشيوعية، أنها يمكن أن تنطبق هنا على جزء صغير فقط من الصورة.»
٣٩ بعد عامَين سنجد الأمريكيين يلفتون اهتمامه: «كان البار
صاخبًا الليلة، كانت الأصوات الأمريكية العالية شديدة الإزعاج. في ١٩٥١
و١٩٥٢م لم يكن هناك أمريكيون كثيرون.» كانوا هناك، وبعلم الجميع،
لحماية استثمارٍ ما، ولكن «ألم يكن بالإمكان تلافي هذا الاستثمار؟»
(التأكيد لجرين).
٤٠ كان «جرين» يدرك أن الحرب كانت أكثر تعقيدًا مما كان يوحي
به خطاب الحرب الباردة. كان يتوقع — بكل ذكاء — كيف سيكون مسار التورط
الأمريكي، ويعرف جيدًا أن الحل كان في أيدي الفيتناميين أنفسهم:
«فيتنام لا يمكن أن تصمد بدون الفيتناميين أنفسهم، والجيش الفيتنامي لا
يستطيع أن يتصدى لأبناء وطنه الذين يدربهم «جياب
Giap» منذ ١٩٤٥م، إلا بمساعدة ضباط
فرنسيين هنا أو هناك.»
٤١
بصورة عامة، كانت الولايات المتحدة في أواخر الأربعينيات وفي
الخمسينيات تتعامل مع الشيوعية باعتبارها كتلة واحدة هائلة، مركزها
الأيديولوجي المؤذي المسيطر هو موسكو. «جرين» أدرك بسرعة أن ذلك لم يكن
هو الحال في فيتنام؛ حيث كان اﻟ «فيت منه
Viet Minh» يبدون
مثالية أبعد ما تكون عن الستالينية.
٤٢ كان جرين، بالفعل، يعتقد أن اهتمام الغرب بالشيوعية يختزل
الصراع الفيتنامي على نحو مُخل؛ لأنه يلغي الناحية القومية من حساباته للمشكلة،
٤٣ لكنها كانت هي مكمن الصعوبة تحديدًا، كما أدرك الأمريكيون
فيما بعد. كانت المشكلة التي يراها «جرين» هي أن ميل الأمريكيين لقراءة
الحركات القومية الأصلية باعتبارها شيوعية، هو ما سيجعلها كذلك
بالفعل.
لم يكن «جرين» ملتزمًا بالشيوعية قط، ولكنَّ تجربته في فيتنام ولقاءه
ﺑ «هوشي منه
Ho Chi
Minh» أقنعته بأن الشيوعية كان
يمكن أن توجد بعيدًا عن الستالينية والنفوذ السوفييتي.
٤٤ الرواية تعكس هذا الموقف بدرجةٍ ما، من خلال تعليقات
«فولر»، ولكن الكتاب لا يفعل الكثير لكي يؤكِّد الشيوعية بوصفها
مستقبلًا قابلًا للنمو والحياة بالنسبة لفيتنام. بدل ذلك، كان الدفع في
اتجاه الهدف الليبرالي لتقرير المصير، كما كان الأمر في الكتابة
الصحفية. عندما يقول «بايل» إن الفيتناميين «لا يريدون الشيوعية»، يرُد
«فولر» «إنهم يريدون أرزًّا يكفيهم … لا يريدون أن يطلق أحدٌ عليهم
النار … لا يريدون أن يرَوا بشرَتَنا البيضاء من حولهم لنقول لهم ماذا
يريدون» (٩٤). «فولر»، الذي يتكلم باعتباره ممثلًا لسلطةٍ كولونياليةٍ
قديمة تعلَّمَت «ألَّا تلهو بأعواد الثقاب» (١٥٧)، يجادل من أجل انسحاب
النفوذ الغربي من فيتنام وإقامة دولةٍ مستقلة (٩٦). الوضع هنا متشابه
مع موقف «كونراد
Conrad» المُعادي للكولونيالية في
رواية «قلب الظلام
The Heart
of Darkness» (١٩٠٢م). في
الحالتَين، لا أحد يفهم الدولة أو الشعب المحتل جيدًا، ولكن رحيل
النفوذ الأجنبي ضروري إذا كنا نريد أن نجد طريقًا إلى الأمام. وكما
يقول «فولر»: «لا لزوم لنا هنا، إنها بلادهم» (١٠٧)، نجده يفكِّر بينه
وبين نفسه قبل ذلك، على نحوٍ يذكِّرنا ﺑ «كونراد»، ويقول: «كانت تلك
أرض باروناتٍ متمردين. كانت مثل أوروبا في العصور الوسطى. ولكن ماذا
كان الأمريكيون يفعلون هنا؟ لم يكن كولومبس قد اكتشف بلادهم بعدُ»
(٣٧).
عند النظر إلى «الأمريكي الهادئ» في سياقها، يتبدى لنا نقد «جرين»
الشديد لسياسات الحرب الباردة الأمريكية بأساليبَ مختلفة؛ فمن ناحية،
يقول «فولر» ساخرًا «الشبان الأمريكيون يشهدون» (١٣٣)، وعندما يلاحظ أن
قميص «بايل» كان، إلى حدٍّ ما، معقولًا في لونه وتصميمه، يتساءل «ما
إذا كان متهمًا بالقيام بنشاطٍ معادٍ لأمريكا» (٧٣)؛ ولكن، بمعنًى
أشمل، نحن أمام رواية تستخدم اللغة والمجازات المتيسرة لتمثيل وضع، هو
بالأساس خارج الرؤية المزدوجة للحرب الباردة؛ حيث يرى «جرين» أن فيتنام
— وربما أكثر من فيِنَّا بعد الحرب — تعبِّر عن الطبيعة المسامية
للتفكير المزدوج. الوسائل التي استطاع أن يمثِّل بها الوضع، على أية
حال، كانت محدودة بالفترة الزمنية. قضية الارتباط السياسي مؤطَّرة بلغة
الوجودية الفرنسية بعد الحرب (نجد «فولر» مثلًا يستخدم المصطلح الفرنسي
engagé)، كما أن مشكلة الانحياز إلى
طرف مقدمة من خلال إشارات إلى «باسكال
Pascal». على سبيل
المثال، «فيجوت» الضابط الفرنسي الذي يحقق جريمة قتل «بايل» يقتبس:
«فلنزن المكسب والخسارة … في رهاننا على الله لا بد من أن نقدِّر
الاحتمالَين … إذا ربحت فأنت تربح كل شيء، وإذا خسرتَ فأنت لا تخسر
شيئًا»؛ وردًّا على ذلك يقدِّم «فولر» اقتباسًا آخر: «كلاهما … من
يختار الرأس ومن يختار الذيل على خطأ. كلاهما مخطئ. الطريق السليم هو
ألَّا تراهن بالمرة.» (١٣٨). «فولر»، بالطبع، لا يمكن أن يبقى غير
متورط، وهكذا يصبح شريكًا في موت «بايل». على أن عدم القدرة على
الاحتفاظ بالحياد هي كذلك ملمح من ملامح أعمال «جرين» السابقة، وبخاصة
روايته «العميل الموثوق
The
Confidential Agent»؛ حيث يُقال إن
مشكلة الانحياز إلى طرف «ليست مسألة أخلاقيات بقَدْر ما هي مسألة وجود».
٤٥ مثل هذه الملاحظة قريب من تعليق «مسيو هنج
Monsieur
Heng» في الأمريكي الهادئ: «عاجلًا
أو آجلًا … على المرء أن يختار طرفًا إذا كان يريد أن يظل إنسانًا.»
(١٧٤).
«جرين» يميل إلى استخدام الشرق من زاويةٍ مقيَّدة بأكثر من نصف قرن
من الخطاب الإمبريالي، وهو ميل مستمدٌّ من إخلاصه ﻟ «كونراد» والأدب
الروائي لمرحلته؛ فهو يرمز على سبيل المثال إلى فيتنام كما يراها
بشخصية «فونج»، تلك السيدة الفيتنامية التي يتنافس عليها «فولر»
و«بايل»، والتي يربط «فولر» بينها وبين الدولة على نحوٍ جوهري، «لقد
رأيتُ الزهور على ثوبها بجانب القنوات في الشمال، كانت أصيلة مثل
العشب» (١٤). هكذا، المنافسة بين أمريكي وإنجليزي ليست بين رؤيتَين
مختلفتَين لفيتنام فحسب، هي كذلك ثنائيةٌ استشراقية تتأسس بين غرب
(رجولي ونشط وعقلاني)، وشرق (أنثوي وصامت وغامض). مثل المستشرقين
الذكور، يتحدث «فولر» و«بايل» على نحوٍ نموذجي عن «فونج» (التي تفتقر
إلى «موهبة التعبير» (١٣٤))، وعن الرعايا الكولونياليين الذين تم
إسكاتهم. «فولر» يقول مثلًا: «أولئك الناس لا يعانون من الوساوس»
(١٣٣)، وفي موضعٍ آخر يقول «بايل»: «أولئك الناس ليسوا معقَّدين.»
ويرُد عليه «فولر»: «هل هذا ما توصَّلتَ إليه في غضون أشهرٍ قليلة؟ سوف
تصفهم فيما بعدُ بأنهم مثل الأطفال» (١٧٦). في هذه الحالة، «فولر»
ينتقد لغة «بايل» التي تجنح إلى التجريد، إلا أنه يقوم هو الآخر
بالتجريد ويصف الفيتناميين بأنهم «طفوليون» (١٠٤).
الموضوعات والجو العام والمواقف والشخصيات في أعمال «جرين» السابقة حافلة بالمجازات
الأخرى التي يستخدمها في «الأمريكي الهادئ». المثلَّث الغرامي بين «فولر» و«فونج» و«بايل»
على سبيل المثال هو أحد ملامح رواية:
The End of
the Affair (١٩٥١م)، بينما الانشغال بالذنب والخيانة
قضايا واضحة في أعماله:
The End of the
Affair و
The
Heart of the Matter (١٩٤٨م)،
و
The Ministry of
Fear. علينا بالطبع أن نتحرك بحذَر عندما نحاول أن ننسب
المزاعم الموجودة في «الأمريكي الهادئ» إلى «جرين»؛ وذلك بسبب الإغراء بالمطابقة بينه
وبين
«فولر» على الرغم من عدم الجدارة الواضحة بالنسبة للأخير. علاقة «فولر» ﺑ «فونج» تلون
كل
تعاملاته مع «بايل» الذي يبدو وكأنه قرين ظِلِّي له، كما يشير «بريان توماس
Brian Thomas».
٤٦ على الرغم من ذلك تشي اللهجة العامة عند «جرين» بتشكُّكٍ عميق في القيم
الأمريكية المُغرِقة في المادية؛ حيث يقول من خلال «فولر»: «كنت غاضبًا، كنت ضجرًا منهم
جميعًا … ومن كل شيء … مستودعات الكوكاكولا، المستشفيات المحمولة، السيارات الواسعة،
البنادق القديمة.» مُنهيًا كلامه بأن «بايل لم يكن يعرف شيئًا عن الأمر برمته (أكثر من
الفرنسيين)» (٣١).
يشعر قارئ «الأمريكي الهادئ» بجبرية تتخلَّل العمل، رغم صعوبة تحديد
نصيب الرؤية الاستذكارية من ذلك. موقف «فولر» الضَّجِر من الحياة
يتناقض تناقضًا بيِّنًا مع «براءة» «بايل» التي تصل إلى درجة السذاجة.
وكما في أدب «هنري جيمس
Henry
James» الروائي، الذي كان «جرين»
من أشد المعجَبين به، نجد هنا استخدامًا لمجازٍ قديم وهو أن تعقُّدات
العالم القديم وممارساته الأصلية، تسحق براءة العالم الجديد.
٤٧ في الخمسينيات كان كثيرٌ من النقاد الأمريكيين يعبِّرون عن
انزعاجهم بسبب نزعة «جرين» المُعادية لأمريكا، وعندما نقرأ بعض
تعليقاتهم اليوم نعرف مدى تأثير المُناخ السياسي على الاستجابة
الأدبية. كثيرون كانوا يَشكُون من أن «جرين» يسيء تمثيل الحالة
الأمريكية، ومن أنه كان يلوم الولايات المتحدة بسبب أعمالٍ عدائية
إرهابية، وأنه فشِل في أن يقدم صوتًا حقيقيًّا معاديًا للشيوعية في
الرواية. المراجعة النقدية التي نشرها «روبرت جورام ديفيز
Robert Gorham
Davis» في «نيويورك تيمز» كانت
تعتبر الشخصيات الأمريكية في الكتاب نماذج «كاريكاتورية … فظَّة أو
مبتذَلة في الغالب، مثل شخصيات «جان بول سارتر
Jean Paul
Sartre».
٤٨ على الرغم من أن مراجعة «ديفيز» لا تعوزها الدقة — بايل،
ناهيك عن فونج، شخصيةٌ جافَّة عديمة الحيوية على الرغم من أننا يمكن أن
نعتبر ذلك من صنع «فولر» وليس «جرين» — يمكن أن نرى الآن أن الكثير من
النقد السلبي وبخاصة في الولايات المتحدة، كان يحفِّزه عاملان نابعان
من ثقافة الحرب الباردة؛ الأول هو العداء الواضح لأي شيءٍ كان يُمكِن
أن ينتقد السياسة الأمريكية والولايات المتحدة بشكلٍ عام. وكما يشير
«ستيفن جي ويتفيلد
Stephen J.
Whitfield»؛ فإن كل الأصوات التي
كانت تعارض الولايات المتحدة، بما في ذلك المعتدل منها، كانت مدانة
ومستهجنة باعتبارها أصواتَ شيوعيين مغفَّلين ومهيَّجين وجواسيس.
٤٩
العامل الثاني كان هو التأثير الأكثر عمومية للنقد الجديد على نقاد
الأدب. في ذروة الخمسينيات كانت الأساليب النقدية الجديدة تتملَّق
مصالح الحرب الباردة؛
٥٠ حيث كانت تثبِّط مناقشة المحتوى السياسي للعمل الفني لحساب
الشكل والتعليق على الظرف الإنساني. في هذا السياق، كان النقد يميل نحو
رفضِ مضامين «جرين» السياسية، أو على الأقل لا يعتبر المضمون جزءًا
رئيسيًّا متكاملًا مع العمل. بدل ذلك، كان الكتاب يناقش في علاقته بالوجودية
٥١ أو في علاقته بموضوعات دينية، كما كان يفعل «هيوسن
Hewison».
٥٢ وكما يرى «ديفيز
Davis» في مراجعته، «يمكن اعتبار
«الأمريكي الهادئ» وثيقة الصلة بروايات «جرين» الدينية الباكرة أكثر
مما كانت توحي به طبيعتها الجدلية في البداية. في تلك الروايات يتم
الوصول إلى الله فقط عَبْر المحن والكروب؛ لأن الدين ينطوي دائمًا على
مفارقة في طلبه.»
٥٣ الاهتمامات الدينية وسيلةٌ مفيدة في أدب «جرين» الروائي،
ولكن التأكيد النقدي على هذه القضايا، وبخاصة في الخمسينيات
والستينيات، جعل ﻟ «جرين» جاذبيةً خاصة، كما أعطى النقاد فرصة لتفادي
الأخطار المحتمَلة للتعبير السياسي.
٥٤ لا يعني ذلك أنهم كانوا مضللين في تناولهم لعمل جرين أو ﻟ
«الأمريكي الهادئ»، والحقيقة أن أحد أفضل القراءات وأكثرها تفصيلًا
للرواية، هي قراءة «بريان توماس
Brian Thomas»، التي
تضع في اعتبارها استخدام «جرين» لمصطلح الرومانس، صامتة على الرغم من
ذلك عن الجدل السياسي والتاريخي في الكتاب.
٥٥ هناك كذلك قدْرٌ من الصدق، رغم أنه مقدَّم بسخرية، في ربط
«أ. ج. ليبلنج
A. J.
Liebling» بين «فولر» و«بوجارت»:
٥٦ ما هو أبعد من استغلال الرواية للمثلث الغرامي — فولر
وفونج وبايل — أن الكتاب يذكِّرنا ﺑ «كازابلانكا
Casablanca» في إصرار «فولر» المتكرر
على أنه، مثل «ريك بلين
Rick
Blaine» ليس متورطًا، لمجرد أن يجد
نفسه غير قادر على البقاء بعيدًا بعد مشاهدة الدمار الذي تصنعه محاولات
«بايل» الطائشة للعمل مع الجنرال «تي»، والأهم بسبب عدم اكتراث «بايل»
بالمعاناة التي سببها. يقول «فولر»: «عندما رأى جثة ميت، لم يمكنه —
حتى — أن يرى الجراح.» ولكنه رأى بعد ذلك «خطرًا أحمر، أحد جنود
الديمقراطية.» (٣٢).
إصرار «بايل» على هزيمة الشيوعية بأساليبَ مريبة أخلاقيًّا، هو
الجانب القوي المعبِّر من الرواية بالطبع. «جرين» كان يرى أن القوى
الغربية كانت تتبنى الأساليب نفسها التي يدينون منافسيهم بسببها؛ فهم
يرون مثلًا أن «الاعتبارات الأخلاقية لا مكان لها في أعمال الجاسوسية».
٥٧ بذلك، كان «جرين» يكرِّر سؤال «جون لو كاريه
John le
Carré» المخلص: «إلى متى يمكن أن
ندافع عن أنفسنا … بوسائلَ من هذا النوع، ونظل هذا النوع من المجتمع
الجدير بالدفاع عنه؟»
٥٨ بالتالي، من العبث أن نتشاجر حول تمثيل «جرين» لأمريكيين
مثل «بايل»، أو نتجادل حول نقاطٍ مؤكَّدة، مثل دور الجنرال «تي» الذي
تجاهله التاريخ فيما بعدُ.
المشكلة التي يتم التركيز عليها هي وعي «جرين بالطبيعة الشاملة
لثنائية الحرب الباردة. مع الحاجة إلى احتواء الاتحاد السوفييتي
والشيوعية في فترة الحرب الباردة؛ فإن استعارة الحد كانت تعني الإصرار
على أن المضمون المُحتوي كان يتجسد في فضاء متناهٍ؛ وبالتالي يتم تصوره
بوصفه مجتمعًا «مغلقًا»؛ ولكن ذلك الكيان الذي يحتوي هذا المضمون لم
يكن محددًا: إنه كل ما هو خارج ذلك المحتوي؛ وبالتالي فهو «مفتوح» وحر.
التفكيك، رغم ذلك، وكما علمنا «جاك دريدا
Jacques Derrida»
٥٩ يعترف بأن المضمون والوعاء الذي يحتويه لا وجود لهما
مستقلَّين، كما أن المراقب — سواء أكان مثل «جرين» أو «فولر» — لا يمكن
أن يظل، مفهوميًّا، خارج الإطار. الوعاء والمضمون، المحتوى والكيان
الذي يحتويه، مرتبطان بثبات في كلٍّ من التفكير التفكيكي وفي نصوص
«جرين». كما يقول «بياترس
Beatrice» في
Our man in
Havana: «لقد علمتنا أن «هناك
شيئًا أعظم من وطن الإنسان»، من خلال عصبة الأمم وحلف الأطلنطي اﻟ
NATO واﻟ
SEATO، ولكنها لا
تعني لمعظمنا أكثر مما تعنيه كل الحروف الأخرى
U.S.A و
U.S.S.R. لم نَعُد
نصدِّقك عندما تقول إنك تريد السلام والعدل والحرية. أي حرية تلك؟»
٦٠ النقطة الأساسية نيتشوية: «من يصارع الوحوش لا بد من أن
ينتبه حتى لا يصبح هو نفسه وحشًا، وعندما تحدِّق طويلًا في هاوية، تأكد
أن الهاوية تحدِّق فيك كذلك.»
٦١
صعوبة «جرين» هي أن أي محاولة للانفكاك من ثنائية الشرق والغرب تفشل
دائمًا، وبدلًا من الوصول إلى جميعة، نجده يُعيد بناء البنية الأصلية.
في «الأمريكي الهادئ» يتوقع «جرين» هذه النقلة ما دام بحث «بايل» عن
خيارٍ ثالث في فيتنام يعيد بناء الثنائية مع أمريكا باعتبارها القوة
الجديدة. في مرحلةٍ معيَّنة نجد «دومينجوس» المساعد الآسيوي ﻟ «فولر»
يشرح له:
«كان «بايل» يتحدث عن القوى الكولونيالية القديمة؛ إنجلترا
وفرنسا، وكيف أنكما لم تستطيعا أن تتوقعا أن تكسبا ثقة
الآسيويين. قلت: «هاواي، بورتريكو، نيومكسيكو.» ثم طرح عليه
شخص ما سؤالًا مألوفًا عن فرص قيام حكومة هنا تضرب اﻟ «فيت
منه»، وقال إن قوة ثالثة يمكن أن تقوم بذلك. كان يجب أن توجد
دائمًا قوة ثالثة متحررة من الشيوعية ووصمة الكولونيالية
الديمقراطية الوطنية، كما أطلق عليها.»
قلت: «كل ذلك في «يورك هاردنج»، لقد قرأها قبل أن يأتي إلى
هنا، تحدث عنها في أول أسبوع له، ولم يتعلم شيئًا.»
(١٢٤).
ازدراء «فولر» ﻟ «يورك هاردنج
York Harding»، وهو
مؤلَّف وضعته مجموعة من المفكرين الأمريكيين عن السياسة الخارجية، هذا
الازدراء يشير إلى سذاجة التوجهات الأمريكية التي كان يتم تكريسها على
نحو روتيني في النصوص المدرسية في الخمسينيات.
٦٢ على أن فكرة «القوة الثالثة» محاولة أخرى للهرب من التفكير
في ذلك. على الرغم من ذلك، فإن الفكرة ستفشل — حتمًا — لأنها تظل مقيدة
بخيارات الحرب الباردة: أي إن «القوة الثالثة» ستكون سلاحًا في يد
الأمريكيين؛ ولذلك فإن تركيبة المخرج الوحيد من المأزق إذَن، هو ذلك
الذي يصفه «باسكال
Pascal»، المتمثل في عدم الاختيار
بالمرة، وهو الموقف نفسه الذي اختاره «سارتر
Sartre»: «المسألة
هي أن كل شيء يضيع إذا كنا نريد أن نختار بين القوى التي تستعد للحرب …
العميل التاريخي دائمًا هو ذلك الشخص الذي يساعد فجأة على ظهور طرف
ثالث أثناء الأزمة. طرف لم يكن مرئيًّا حتى ذلك الوقت.»
٦٣ بالنسبة ﻟ «سارتر» كان ذلك الطرف ما زال مطلوبًا اختراعه
في ١٩٤٧م. بحث «جرين» الخاص عن مخرج من الثنائيات ملمح متسق في أعماله،
وبهذا المعنى فإن نضاله هو نضال «بايل» وأمريكا كذلك. المشكلة التي
يمكن أن تساعد في تفسير ضعف «الأمريكي الهادئ»، هي استحالة أن نجد
وسيلة للخروج من البنية المفهومية والخطاب اللذين يتم احتواؤنا
فيهما.
بحلول أوائل الستينيات، كانت الحرب الباردة قد دخلت مرحلة جديدة حيث
أصبح «من الصعوبة بمكان رؤية مستقبل يمكن أن تتم فيه إزاحة أو قلب أو
تحويل الشيوعية السوفييتية.»
٦٤ أدب «جرين» الروائي بعد ذلك، كان يتوقع ويعكس الحالة
النفسية المتغيرة بعد جدية «الأمريكي الهادئ»، ولكنه ظل شديد التشكك في
الأهداف الأمريكية. بصور مختلفة، كان «جرين» يتوسل الكنيسة والليبرالية
وشيوعية العالم الثالث أو مزيجًا من لاهوت التحرير، في بحث متواصل عن
وجه إنساني للشيوعية.
٦٥ شخصيات كثيرة مثل «الدكتور ماجيوت
Dr.
Magiot» (في
The Comedians
(1966)) و«ليون ريفاز
Leon
Rivas» (في
The Honorary Consul
(1973))، أو «موريس كاستل
Maurice
Castle» (في
The Human Factor
(1978))، تظهر لنا من خلال
مفاهيمها المختلفة للشيوعية محاولات «جرين» الدءُوب لتصور مستقبل خارج
ثنائية الحرب الباردة. بهذا المعنى فإن الكثير من روايات «جرين» التي
كتبها بعد الحرب، ينتمي إلى أدب الحرب الباردة؛ لأن هذه السرديات تأتي
استجابة للظروف التي أثرت فيها الحرب الباردة إلى حدٍّ كبيرٍ، إن لم
تكن من إملاءاتها. عند النظر إلى «جرين» نشعر دائمًا أن الأجواء
الاجتماعية والسياسية والثقافية التي صنعتها الحرب الباردة كانت مثالية
بالنسبة لمزاجه وشواغله في موضوعاتها. «جرين» المتحفظ، الكتوم، كان
يبدو منذورًا لعالم يعاني من الانقسام والخيانة: هكذا — على الأقل —
يقدم لنا حياته في عملَين، هما:
A Sort of Life
(1971)، و
Ways of Escape
(1981)، وكلا الكتابَين من نتاج مرحلة
الحرب الباردة، بما يجعلنا نتساءل كيف استطاع أن يحول ميراث الشك في
الحرب الباردة إلى همٍّ ذاتي ويقرأَه عكسيًّا في ماضيه. أما وقد انقضت
الحرب الباردة؛ فبالإمكان الآن إعادة تقييم أعمال «جرين» في ضوء ما
قالته آنذاك وما تقوله لنا الآن.