الفصل الرابع عشر
الوسط المُستبعَد
المثقَّفون والحرب الباردة في أمريكا اللاتينية
يكاد يكون مصطلحُ «الحرب الباردة» غيرَ كافٍ لتعريف فترةٍ كانت تدورُ
فيها حروبٌ ساخنة، بواسطة الاتحاد السوفييتي ضد الدول التابعة المنشقة،
وبواسطة الولايات المتحدة الأمريكية ضد «الشيوعية». لم تكن الهدنة
المسلَّحة بين القوى العظمى ممتدةً إلى العالم بأَسْره، الذي كان، على
الرغم من ذلك كله، أسيرَ منطقِ المواجهة الثنائي القطبية. في أمريكا
اللاتينية، كانت الفترة من الحرب العالمية الثانية إلى التسعينيات
شاهدًا على تدخُّل الولايات المتحدة في جواتيمالا وجمهورية الدومينيكان
وجرينادا، وأزمة خليج الخنازير، والعمليات السرية، كما كانت في النهاية
شاهدًا على الهزيمة الثقافية والسياسية لليسار؛ تلك الهزيمة التي عجَّل
بها وصولُ حكوماتٍ عسكرية إلى السلطة برعاية الولايات المتحدة. مع هذا
السيناريو، من السهل أن نُغفِل حقيقةً مهمة، وهي أن تلك الفترة كانت في
الوقت نفسه، فترة إبداع وتجريب، وثقة في التحرُّر من التبعية السياسية
والاقتصادية، فترة لقاء بين السياسي والثقافي. لم تكن مادة الحرب
الباردة هي القوى العظمى ونفوذها فحسب، كانت مادتها أيضًا تلك القصة
الأخرى التي تم خنقُها في آخر الأمر، القصة التي لعبَت فيها
الإنتلجنسيا الأدبية دورًا رئيسيًّا. هذا الدَّور يُمكِن فهمُه في إطار
ما يصفه «باسكال كازانوفا
Pascale Casanova» ﺑ «الجمهورية
العالمية للآداب»،
١ والتطلع إلى عالميةٍ مُنطلِقة من المركز، وبالأحرى من
باريس، التي كانت المغناطيس الذي جذَب أجيالًا من كُتاب أمريكا
اللاتينية، والمقياس الذي يُمكِن بحسبه تقييمهم. الحرب الباردة غيَّرَت
هذه العلاقة. صحيحٌ أن باريس بَقِيَت هي المغناطيس، ولكن الفترة من
١٩٤٥م إلى ١٩٨٩م كانت فترة تنافُس بين الولايات المتحدة والاتحاد
السوفييتي على الهيمنة الثقافية، ووضع الحرية في مواجهة السلام. وبينما
كان عددٌ قليل من كُتاب أمريكا اللاتينية منجذبين نحو أحد الطرفَين،
كانت الأغلبية تحاول أن تجد فضاءً ثالثًا، فضاءً يتوافق مع كلٍّ من
الطموح السياسي إلى شكلٍ فريد من التقدُّم في أمريكا اللاتينية،
والطموح الثقافي إلى تحرير أدبها ليكون أكثر من مجرد محاكاةٍ ونقل. كان
على الأصالة أن تجد حلولها السياسية والأدبية على السواء؛ أو الفضاء
الثالث بين الحدَّين المتطرفَين للحرب الباردة. وعلى الرغم من أن هذه
الطموحات أخفقَت سياسيًّا، فقد كانت إيذانًا بازدهار أدب أمريكا
اللاتينية في الستينيات وأوائل السبعينيات.
حتى قبل أن تبدأ الحرب الباردة، كانت أمريكا اللاتينية عُرْضَةً لذلك
المزيج من الدعاية والإقناع الراسخ الذي كان يَسْري تحت مُسمَّى «القيم
الأمريكية»؛ ففي أثناء الحرب العالمية الثانية كانت هناك آلةٌ دعائيةٌ
هائلة، وضعَها مكتب «نلسون روكفلر
Nelson Rockefeller»
لشئون نصف الكرة، تقوم بضَخ الأموال في كل أشكال الأنشطة — من محطات
الإذاعة والسينما إلى معارض الفنون والمطبوعات — بهدف التأثير في عقول
وقلوب أبناء أمريكا اللاتينية، دعمًا للهدف «المشترك».
٢ وبعد الحرب، ركَّز كلٌّ من الاتحاد السوفييتي والولايات
المتحدة اهتمامه على أوروبا، على الرغم من أن منظمة الحرية الثقافية
التي أُنشِئَت لموازنة النفوذ السوفييتي وتجنيد المثقَّفين إلى جانب
القضية الأمريكية، كانت لها مراكزُها أيضًا في مدنٍ كثيرة في أمريكا
اللاتينية، كما كانت تصدر مجلة
Caudernos. هذه
المجلة التي كان يرأس تحريرها التروتسكي الإسباني «جوليان جوركين
Julian
Gorkin»، لم تكن منذ البداية على
اتصال بالكُتاب الشبان، الذين كان الكثيرون منهم معنيين بقضايا التخلف
والفساد، أكثر منهم بالكوزموبوليتانية المجردة التي تروِّج لها
الصحيفة؛ والتي كانت، اتساقًا مع سياسات الولايات المتحدة، تُبدي عدمَ
ثقة في المشروعات الوطنية المستقلة، ولكن الولايات المتحدة كان لديها
أسلحة أقوى تأثيرًا لخدمة سياساتها، متمثلة في أفلام هوليوود وبرامج
الإذاعة والتليفزيون والمجلَّات الأمريكية الشعبية التي تصدُر
بالإسبانية، وكانت «ريدرز دايجست
Reader’s Digest»
أبرز نموذجٍ للصحف التي تعبِّر عن أسلوب الحياة الأمريكي، دون اللجوء
إلى الأسلوب المباشر في الدعاية المكشوفة.
٣
كان حتميًّا أن يقوم كلا الجانبَين بمحاولات لكي يغازل المثقفين.
الاتحاد السوفييتي منح الشاعر «بابلو نيرودا
Pablo Neruda»
والروائي «جورج أمادو
Jorge
Amado» حضورًا أوروبيًّا بارزًا من
خلال مؤتمر السلام، بينما حاولَت الولايات المتحدة التودُّد للمثقَّفين
بدفاعها عن حرية الكاتب. تقليديًّا، كان كُتاب أمريكا اللاتينية يقومون
بدَورٍ تربوي، ولكن ما يميِّز كُتاب الستينيات هو أنهم لم يكونوا
يُعَلِّمون جمهورهم من خلال كتاباتٍ تعطي دروسًا أخلاقية، وإنما من
خلال القراءة النقدية. في معظم الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة
كانت التربية من نصيب الأكاديمية أو الصحافة الثقافية، وفي أمريكا
اللاتينية كان الكاتب مُثقِّفًا عامًّا له قاعدته الراسخة في الصحف
والمجلات ويستخدمها بشكلٍ مؤثِّر. «بورخيس
J. L. Borges»
و«فوينتس
C.
Fuentes» و«باث
O.
Paz» و«ليما
J. L. Lima»
و«ماركيث
G. M.
Marquez» و«يوسا
M. V.
Liosa» و«كورتاثار
J.
Cortazar» و«باستوس
A. R.
Bastos» و«أرجيداس
J. M.
Arguedas» — والقائمة تطول — كل
هؤلاء أدخلوا نظرياتٍ جديدةً للقراءة والفهم، ولتفسير أعمالهم وأعمال
معاصريهم ومَن سبقوهم كذلك. هؤلاء الكُتاب وغيرهم، وضعوا قوائمَ ذخيرة
مرجعية وكتاباتٍ نقدية جدَّدَت ونقَّحَت جينالوجيات الأدب، وفي الوقت
نفسه كانت تُحافِظ على استقلاليته عن الواقع. قراءة «يوسا» الملهمة
لرواية القرن الخامس عشر، رواية الفروسية:
Tirant Io Blanc،
كانت نقدًا — ضمنيًّا — للواقعية المُبتذَلة. كل أعمال «بورخيس» هي —
مجازًا — قراءة. «كورتاثار» قدَّم نظريات للقراءة والإبداع في روايته
«الحجلة». في كتابه «دون كيخوته: أو نقد القراءة»، يَعقِد «فوينتس»
مقارنةً بين زمن ثربانتس وزمنه. يقول «فوينتس»: «كأنه كان يتنبأ، كأنه
كان يرى مسبقًا كل تلك الحِيل القذرة للطبيعة الأدبية الذليلة، ثربانتس
يكسر ذلك الوهم بأن الأدب مجرد نقل للواقع، ويخلق واقعًا أدبيًّا أقوى
بكثير ومن الصعب الإمساك به، واقع روائي، رواية هي في وجودها، على جميع
المستويات، نقد للقراءة.»
٤ خلال عقد الستينيات كله، أصبح الكُتاب محكِّمين للذوق
الأدبي، وبخاصة بالنسبة لذلك الجيل الأصغر من الدارسين والنقاد. وجود
الشباب في ملتقيات القراءة والمؤتمرات والتجمُّعات الجماهيرية، التي
كان الكُتاب يتحدثون فيها في السياسة والأدب والثورة، هذا الوجود كان
شهادةً مدهشةً على القوة المستمرة ﻟ «مدينة الأدب»، كذلك فإن وجود
أيديولوجية للجمالي أو الفني دعم موقف الكُتاب في دعاواهم بأن الأدب
كان منطقة حرة. مثل «فلوبير
Flaubert»، الذي كان — بحسب
«ناتالي ساروت
Nathalie
Sarraute» — يتصور كتابًا مُنبَتَّ
الصلة بالعالم الخارجي، مُكتفيًا بنفسِه بفضل قوة التماسُك الداخلي
لأسلوبه، مثلما تُمسِك الأرض بنفسها في الفراغ،
٥ مثل «فلوبير»، كان ما يُعرف بجيل الازدهار في الستينيات
يرى الأدب نموذجًا مستقلًّا يمكن أن يكون مثالًا للسياسة. كان
«فوينتس»، على سبيل المثال، يعتقد أن التجديد الخلاق الذي يُمارَس في
الأدب بالفعل، يمكن أن يتحقَّق سياسيًّا كذلك في المكسيك، «إن بلدًا
مثل بلدنا، باستمراريته ووجوده التاريخي يمكنه أن يقيم يوتوبيا ثورية
غنية، بدءًا من تلك الإنجازات الثقافية، من جهد الاختيار هذا الذي يفصل
بالفعل ذلك الواقع التحرُّري المعيش عن الأثقال الميتة الظالمة.»
٦
ولكن الموقف المستقل، الذي يدَّعيه الكُتاب عادة، ووضعهم كأنبياء
علمانيين، هذا الموقف وهذا الوضع كانا عُرضةً الآن لهجومٍ عاصفٍ من كلا
الجانبَين. من ناحية، كان وضعهم باعتبارهم مُرْسين لتقاليدَ جديدةٍ
يواجه تحديات من قِبل العصابات، ومن ناحيةٍ أخرى كانت همومهم الوطنية
تُواجِه ضغوطَ السوقِ العالمية، وعلى الرغم من ذلك كان بعضهم، لفترةٍ
قصيرةٍ في الستينيات، يعتقد أن الثقافة والسياسة قد تلاقتا — في سعادة
— في كوبا.
كانت الثورة الكوبية في ١٩٥٩م، التي وصفَت كوبا بأنها أول «منطقة
محرَّرة» من الأمريكتَين، تحديًا خطرًا للهيمنة الأمريكية. كانت، قبل
كل شيء، تحرُّرًا وطنيًّا طرح نفسه نموذجًا لدول أمريكا اللاتينية
والعالم الثالث الأخرى؛ فعلى الجبهة الثقافية اجتذبَت عددًا كبيرًا من
المتعاطفين من بين الكُتاب والمثقَّفين، ساعد على ذلك جوائزها الأدبية،
ومجلتها Casa de las
Américas، وتحدِّيها لجارتها
الشمالية، وحملتها الناجحة لمحو الأمية، وتبنِّيها لقضايا العالم
الثالث. لمعادلة هذا التأثير الكبير، كان أن بدأَت الولايات المتحدة
عمليةَ تمويلٍ سرية لمجلة «العالم الجديد Mundo Nuevo» التي
كانت موجَّهةً إلى جيل من الكُتاب، جيل الازدهار الأدبي الذي كان قد
بدأ يَلفِت الاهتمام العالمي. كانت «موندو نيفو» الصادرة في باريس
برئاسة تحرير «إمير روديجز مونيجال Emir Rodríguez
Monegal» (أكاديمي من أوروجواي) تركز
اهتمامها على الأدب المعاصر، وتحاول بحذَرٍ شديد أن تكون بعيدةً عن
الدعم المكشوف لسياسات الولايات المتحدة. الحقيقة أنه لولا الكشف عن
تمويل المخابرات المركزية لها، وفضح عدم مصداقيتها مما أدَّى إلى
إغلاقها، لولا ذلك لكان دفاعها عن حرية الفنان واستقلالية الأدب والفن
بطاقةً رابحة، وبخاصة عندما بدأَت كوبا تطلُب انحيازًا غير مشروط
لقضيتها.
كانت الثورة الكوبية هي العامل المساعد في حروب الستينيات وأوائل
السبعينيات الثقافية، التي حرَّضَت النقاد على المدافعين، والملتزمين
على غير الملتزمين؛ وعلى خلاف الاتحاد السوفييتي الذي كان يُنمي خلطة
كئيبة من الواقعية بين مؤيِّديه، ظهرَت كوبا في البداية أقل جمودًا
وأكثر إبداعًا في ممارساتها الثقافية، وأكثر حرصًا على الخروج من
نخبوية المثقَّفين. في السنوات الأولى، كانت كوبا تبدو قادرةً على
الجمع بين الطليعة السياسية والطليعة الأدبية، رغم أنه سرعان ما ظهر
نقيضُ المثقَّف الملتزم، وذلك عندما أصبح الالتزام يعني المشاركة في
الحروب الثورية.
إن تمثيل مرحلة الحرب الباردة باعتبارها مجرد فترة تباعُد بين
الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، يعني إغفال حروب التحرُّر
الوطني، تلك التي لعبَت فيها كوبا دورًا نشطًا، بإرسال قواتٍ إلى
الكونغو ولواندا وأنجولا. مثل هذه الأنشطة يؤكِّد حقيقةً مهمة، وهي أن
تلك كانت مرحلة تحرُّر وثورة من وجهة نظر العالم الثالث؛ وكما يشير
«جورج كاستانيدا
George
Castaneda» فإن «تشي جيفارا
Che
Guevara» كان يجسِّد روح العصر
Zeitgeist هذه، بثقته في أن
تغيُّراتٍ سريعة كانت على وشك أن تحدث، وأن الفعل الثوري سوف يُسرع
بتغيُّرات جوهرية.» حكم «كاستانيدا» شديد القسوة؛ حيث يزعُم أن كتاب
«جيفارا»، عن مثل هذا الفعل، الصادر في ١٩٦١م بعنوان «حرب العصابات
Guerrilla
Warfare»، «ساعد في تعبئة شباب
أمريكا اللاتينية باسم القضايا العادلة»، إلا أنه «لا بد من أن يُعتبر
مسئولًا كذلك عن الدم الذي سُفك هدرًا والأنفس التي زُهقَت والأجيال
التي أُبيدَت.»
٧ وسواء أكان بالإمكان اعتبار «جيفارا» مسئولًا أم لا، فلا
شك أن من الصحيح أنه لم يكن متسامحًا مع أولئك المثقَّفين الذين كانوا
يقفون موقف المتفرِّج، في وقت كانت تبدو فيه الثورة وشيكةً في أفريقيا
وأمريكا اللاتينية. الحقيقة أن العديد من الشعراء والكُتاب ماتوا في
النضال، كان من بينهم شاعر بيرو «خابيير هيرود
Javier
Heraud» والشاعر الأرجنتيني
«فرانشيسكو أوروندو
Francisco
Urondo»، والكاتب والصحفي «رودولفو
وولش
Rodolfo
Walsh»، أما الحدث الأكثر مأساوية فهو
مقتل «روك دالتون
Roque
Dalton» على يد أعضاء من مجموعة
حرب العصابات التي ينتمي إليها.
٨
هذا الإصرار من جانب «تشي جيفارا» وغيره من القادة الثوريين على أن
الوقت كان قد حان للالتحاق بالثورة، قسَّم الكتاب بين الشهداء وأولئك
الذين كانوا يقفون موقف المتفرِّجين، ولكنه كذلك قلَّل من أهمية «مدينة
الأدب» نفسها؛ أي المكانة القديمة للمثقَّف الإنساني. في الوقت نفسه
لحق ضررٌ كبير بمكانة كوبا كقائدٍ ثقافي بهروب مثقَّفين منشَقين مثل
«جيرمو كابريرا إنفانتي
Guillermo Cabrera Infante»،
وبسبب التقارير التي كانت تَتْرى عن اضطهاد الشواذِّ جنسيًّا ومُعارِضي النظام.
٩ ولكن الاستهجان العام للشاعر «إيبرتو باديا
Heberto
Padilla» لكتابته شعرًا «ضد
الثورة» في ١٩٦٩م، وسجنه لفترة قصيرة واعترافه بالذنب في ١٩٧١م، كان
ذلك هو الذي كسر ما كان يبدو جبهةً متحدةً للكُتاب. على الفور، استقال
«بارجاس يوسا» من مجلس تحرير مجلة
Casa de las
Américas وأصبح معارضًا شديدًا، ومع
مجموعة من المثقَّفين الأوروبيين ومثقَّفي أمريكا اللاتينية، وقَّع
رسالة احتجاج شديدة اللهجة، شبَّهَت ما حدث بالأساليب الستالينية،
معبِّرة عن الرغبة في أن تعود الثورة الكوبية إلى تلك اللحظة عندما
كانت تُعتبَر «نموذجًا للاشتراكية». كان «ماركيث» و«كورتاثار» من بين
من لم يوقِّعوا الرسالة.
١٠
ما يتم إغفاله عادة، هو أن الولايات المتحدة، كذلك، كانت تعاقب
منتقدي سياساتها ومعارضيها بقسوةٍ بالغة. مصير «آنخل راما
Angel
Rama»، مثقَّف أوروجواي الذي سكَّ
مصطلح «مدينة الأدب» ليصف العلاقة التاريخية للمثقَّف بالسلطة، مثال
على السياسات الثقافية المُستقطِبة في الستينيات والسبعينيات، التي لم
تكن تسمح بأي فضاءٍ لأي موقفٍ مختلف ولو بدرجةٍ محدودة. مثل كثيرٍ من
مُعاصِريه، كان «راما» يرى ثقافة أمريكا اللاتينية (بالإضافة إلى
اقتصادها وسياستها) عمليةً متصلة، للأدب فيها دورٌ كبير؛ كما كان يجادل
بأن المثقَّفين، منذ الغزو، كانوا يتمتَّعون بوضعٍ مميزٍ نقلَهم من
السياسة الواقعية إلى مشروعاتٍ مثالية كانوا يُحاوِلون تنفيذها. وكما
أشار فإن التصميمات الشبكية لمدن العالم الجديد كانت تصوِّر هذه
المحاولة لإضفاء شكلٍ مادي على تصميمٍ مجرد. انقسامٌ ثقافيٌّ عميق، كما
كان «راما» يعتقد، جاء ليفصل المثقَّفين عن سواهم، اللغة المثقَّفة عن
اللغة الشعبية، المرتفع عن المنخفض، وهو انقسام وفصل سيبقيان حتى في
القرن العشرين، إلا أنه، على الرغم من ذلك كله، كان يُجادِل بأن
التحديث فتحَ الطريقَ أمام ثقافةٍ ديمقراطيةٍ متحرِّرة من الاعتماد على
المدنية الكبيرة. المسرح والصحافة والأدب الشعبي وفَّرَت أساليبَ
لتحصيل المعرفة لم تكن بالضرورة تمُر عَبْر مؤسَّسَات النُّخَب في الجامعة.
١١
باعتباره محررًا أدبيًّا لمجلة «مارشا
Marcha» ذات النزعة
اليسارية، كان «راما» يكتب مراجعاتٍ نقديةً عن الكُتاب المعاصرين، كما
كان يكتب عن السياسة الثقافية الكوبية، وأحيانًا موضوعاتٍ سياسيةً
صِرفة، كما علَّق على تمويل المخابرات المركزية لمجلة «موندو نيفو
Mundo
Nuevo»، ودخل في جدلٍ عنيفٍ مع
محرِّرها — ومواطِنِه — «إمير رودريجز مونيجال
Emir Rodríguez
Monegal».
١٢ انتقَد بشدةٍ سياسة كوبا في تعامُلها مع كُتابها، وعلى
الرغم من ذلك هاجمَه بضراوةٍ الكاتب الكوبي المنفي «رينالدو أريناس
Reinaldo
Arenas»، باعتباره مؤيدًا لكاسترو.
١٣ عندما أوقفت الحكومة العسكرية مجلة «مارشا» في ١٩٧٣م عاش
منفيًّا، في البداية في كاراكاس ثم في الولايات المتحدة حيث شغل وظيفة
في جامعة ماريلاند، وهنا كان عليه أن يتعلَّم كيف يعيش «في بطن الوحش»،
١٤ على حد تعبيره، وبموجب ما سوف تصفه مجلة
The
Nation بالمادة السقيمة في قانون
ماكارون
McCarron
Act، سوف تُصدِر إدارة الهجرة
والتطبيع أمرًا بترحيله.
١٥ سبب ذلك ليس معروفًا، وإن كان من المحتمل أن تكون حكومة
أوروجواي العسكرية كانت تحاول أن تُظهِر، من خلال سفارتها، دَورَها
القوي في الحرب على الشيوعية بالمساعدة في الكشف عن المتعاطفين معها،
وذلك على الرغم من أن «راما» كان دائمًا صاحب موقفٍ مستقل. عبثية تلك
الاتهامات فضَحَها «راما» نفسُه في مقدمة «مدينة الخوف». من بين
الاتهامات التي وُجهَت إليه أنه كان المحرِّر الأدبي لمجلة «مارشا»،
التي وُصفَت خطأً بأنها كانت من بين مطبوعات الحزب الشيوعي، وأنه كان
من بين المشاركين في تأسيس دار النشر
Biblioteca
Ayacucho، التي قيل إنها كانت تنشر دائمًا
أعمال الكُتاب الشيوعيين، والحقيقة أن تلك الدار التي أطلقها «راما»
عندما كان يعيش في كاراكاس نشَرَت طبعاتٍ من إسهاماتٍ مهمة في ثقافة
أمريكا اللاتينية، بما في ذلك شعر مرحلة ما قبل كولومبوس وكتابات من
مرحلة الاستعمار والقرن التاسع عشر؛ ومن بين كثيرٍ من الكُتاب
المحدَثين في المجموعة كان هناك شاعران بارزان هما «نيرودا
Neruda» و«سيزار بايخيو
César
Vallego»، وكلاهما كان عضوًا في
الحزب الشيوعي، إلا أنه كان من المستحيل أن يتم تجاهلهما.
١٦ قضية «راما» تبنَّاها فرع نادي القلم الدولي الأمريكي،
ورابطة الكُتاب في أمريكا، وجمعية دراسات أمريكا اللاتينية، ومحرِّرو
جمعية الأدب المقارن الدولية، والكثير من منظمات حقوق الإنسان ولكن دون
جدوى. ما يدعو للسخرية في الأمر، هو أن «راما» كان يعمل، قبل ترحيله،
في مكتبة الكونجرس على مقال عن تقصِّي العلاقة بين المثقَّف والسلطة،
ويجادل من أجل جعل المهام الثقافية ديمقراطية.
١٧ كتابه «مدينة الأدب» نُشر بعد مصرعه في حادث سقوط طائرة في
١٩٨٣م.
مغزى طرد «راما» يتجاوز حدود التفاصيل الأقرب إلى النوادر. تخيَّل،
مثلًا، شخصًا مثل «ريموند وليمز
Raymond Williams»
يُطرد من منصبه بدلًا من أن يصبح أستاذًا للدراما في جامعة كمبردج، أو
شخصًا مثل «ستيوارت هال
Stuart
Hall» لا يستطيع أن يتعاون في
التجربة المثيرة للجامعة المفتوحة. الفارق ينطق بالكثير، وعلى الرغم من
ذلك، فإن «راما» كان يقوم بدَورٍ مختلف عن أدوارهما. كان مثقفًا
مستقلًّا، لم يحصل على درجة الدكتوراه، ونقده، مثل نقد «وليمز»، كان
مرتبطًا «بالثقافة» بالمعنى الأشمل «باعتبارها عملية اجتماعية تأسيسية
تخلق أساليبَ حياة محدَّدة ومختلفة.»
١٨ في أمريكا اللاتينية، كما أوضح «راما»، كان المثقَّفون
يقومون بدورٍ أكثر فعاليةً في تشكيل فكرة «أمريكا»، ثم فكرة «الرابطة
القومية» فيما بعدُ.
«راما» جاء بمفهومَين مهمَّين في دراسة الإنتلجنتسيا، القناع
والمثاقفة، لكي يفسِّر الأسلوب الذي يتفاوض به الكتاب عن التسليع من
جهة، والطبقات الشعبية من جهةٍ أخرى. «القناع»، وهو صورةٌ مستعارةٌ من
«نيتشه
Nietzsche»،
١٩ يصف استخدام الماضي لكي يُخفي الجوانب المسلَّعة للحاضر،
وهي استراتيجيةٌ كانت مستخدمةً في الكتابة الحداثية في أواخر القرن
التاسعَ عشَر وأوائل القرن العشرين. أما «المثاقفة»، وهو مصطلحٌ
يُناقِش على نحوٍ أوسعَ في النقد في أمريكا اللاتينية، فهو يُستخدَم
لوصف الأسلوب الذي تستطيع أن تُترجم به ثقافة خاضعة للهيمنة نفسها في
تلك التي تُهيمن عليها،
٢٠ وهي عملية اكتشَفها «راما» من خلال كتابة «خوسيه ماريا
أرجيداس
José Maria
Arguedas»، الذي سجَّل إيقاعات
وحساسية «الكيشوا
Quechua» بالإسبانية. ما أريد أن
أؤكِّده هنا، هو استثمار «راما» في عملية تحويل الثقافة إلى
الديمقراطية، وفي التحرُّر (كلمةٌ أساسيةٌ أخرى في قاموسه) من حساسيةٍ
محتلة؛ وعلى الرغم من توجيه النقد إليه من باحثين كُثر؛ لأنه قدَّم
حلًّا ثقافيًّا أكثر منه سياسيًّا لمشكلات أمريكا اللاتينية، فإنه كان
مُنغرسًا بقوةٍ في التقاليد الأمريكية اللاتينية للمثقَّف الإنساني
العام والناقد المستقل، وهو ما كان يتبنَّاه كثيرٌ من معاصريه.
٢١
•••
عندما أثبتَت الشيوعيةُ الكوبيةُ فشلَها، علق كثيرون آمالهم في
التحرُّر على «طريق تشيلي للاشتراكية» الذي رسمه «سلفادور الليندي
Salvador
Allende»، وبعد إسقاطه في ١٩٧٣م،
علَّقوا آمالهم على ثورة الساندينستا
Sandinista في
نيكاراجوا. ما الذي كان تشي جيفارا يتمنَّى أن يحقِّقه في بوليفيا أو
كولومبيا، عن طريق حرب العصابات في ماركيتاريا، أكثر من منطقةٍ
محرَّرة؟ بلديات وقراقولات
Caracoles الزاباتستا المستقلة هي
تجلياتٌ أحدثُ لتصورٍ مماثلٍ لم يختفِ تمامًا على الرغم من هزيمة معظم
حركات حرب العصابات.
٢٢ إلا أنه كان هناك جانبٌ فاسد في المنطقة المحرَّرة. أثناء
محاولة «سنديرو لومينوسو
Sendero Luminoso» للسيطرة على
جنوب بيرو، قُتل سبعون ألفَ شخص، وفي كولومبيا تحوَّلَت أرضُ العصابات
المحرَّرة لإنتاج الكوكا.
وراء معظم هذه المشروعات كانت هناك فكرةٌ مفادها أن دول أمريكا
اللاتينية يجب أن تشق طريقها نحو الحداثة، إلا أنه حتى عندما صادق
الروائيون على هذا الطموح على نحوٍ واضح، كانت المحاكاة الأدبية في
رواياتهم مُستخدَمة لاستكشاف عمليات التحرُّر وفشَلِها السياسي، وأنا
أتحدث هنا عن روايات الستينيات التي دشَّنَت أدب أمريكا اللاتينية في
الثقافة الكونية، وطابقَت بين الواقعية السحرية والغرابة وأصالة
المنطقة. وهم يفيدون من الماضي، يذكِّروننا بالتاريخ الطويل للمناطق
المحرَّرة من أمريكا اللاتينية منذ الغزو وبعده. الأدب والسياسة
يلتقيان في فانتازيا مجتمعٍ عادلٍ مؤسَّس في فضاءٍ تم تنظيفه من كل
الإخفاقات السابقة. الفاتحون الإسبان كانت تداعب خيالهم أحلام كتلك؛
ففي القرن السادس عشر قام «لوب أجيري
Lope Aguirre»
بمحاولةٍ فاشلةٍ لإقامة مجتمعٍ حرٍّ مستقل عن الإمبراطورية الإسبانية،
و«بارتولومي دي لاس كاساس
Bartolome de las Casas» أنشأ
المجتمع المسيحي في فيرا باز، والمبشِّرون الجيزويت الذين اجتنبوا
خطيئة الترف الأوروبي، أقاموا أبرشياتٍ محليةً في المنطقة التابعة الآن
لباراجواي والبرازيل والأرجنتين؛ حيث كان السكان الأصليون يعيشون حياةً
جماعيةً في العمل والصلاة. في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
اجتذَبَت القارة جماعاتٍ تولستووية وفوضوية. كان المجتمع البديل تصورًا
نقيضًا ونقيًّا لبؤس الدولة الواقعية — الرأسمالية التي تسيرها السوقُ
والشيوعية البيروقراطية على السواء — وكان عادةً ما يتم تخيُّله عودة
إلى العلاقات ما قبل الرأسمالية. كان لذلك أيضًا سوابقُ تاريخية في
معاداة الرأسمالية الكاثوليكية. «الحوافز اللامادية»، التي كان جيفارا
يدافع عنها عندما كان وزيرًا للاقتصاد في كوبا، بالإضافة إلى الموقف
المُعادي للمادية عند الطليعة العسكرية وبخاصة «توباماروس
Tupamarus» أوروجواي، كل ذلك كان
بمثابة تذكِرة بالإدانات القديمة للربا. على أن عدم الثقة في النقود لم
يكن مقصورًا على الطليعة في أمريكا اللاتينية؛ فنانون من أصحاب
المفاهيم ألقَوا بالنقود في السين وبالدولارات في البورصة. كان «ماركس»
قد كتب يقول إن «النقود هي القدرة الاغترابية للبشرية»، كما ربط عدم
الثقة في اقتصاد المال بين السياسة والفن، وظهر في النصوص والأحداث
الأدبية بين الهيبيز والحركات السياسية، وهو يُعاوِد الظهور حتى اليوم
من وقتٍ لآخر، على الرغم من أن لا التقشُّف المثالي للعصابات، ولا
البساطة المثالية للمزارعين يُمكِن الإبقاء عليهما بسهولة في منطقة
العولمة السريعة، وهو درسٌ كان لا بد من مواصلة تعلُّمه في الستينيات
وأوائل السبعينيات.
٢٣ كما يشير «فيلكس جواتاري
Felix Guattari» فإن
مثل تلك التخيُّلات طرَحَت سؤال «ماذا إذا كان بالإمكان التوقُّف عن
اعتبار قيمة الاستخدام وقيمة التبادل متعارضتَين. البديل عن رفضِ أن
الأشكال المعقَّدة من الإنتاج والطلب عودة إلى الطبيعة، أو أنها تُعيد
إنتاجَ الفجوةِ بين الأشكال المختلفة للإنتاج المطلوب، وإنتاج ما هو
نافعٌ اجتماعيًّا.»
٢٤ فإن الكُتاب استكشَفوا هذه المجتمعاتِ البديلةَ وهم على
وعيٍ تامٍّ بفشلهم التاريخي. في كتابه «حرب نهاية العالم»، يكتب
«بارجاس يوسا» عن محاولة القرن التاسعَ عشرَ بواسطة أتباع «أنطونيو
كونسيليرو
Antonio
Conselheiro» لإقامة مجتمعٍ دينيٍّ
في شمال شرق البرازيل مستقلًّا عن الدولة الجمهورية.
٢٥ ردًّا على ذلك، قامت الدولة العلمانية بإرسال جيشٍ ليُبيد
أولئك المتمردين عن آخرهم؛ وفي عمله «أنا الأسمى» يصف «أوجستو روا
باستوس
Augusto Roa
Bastos» باراجواي بعد الاستقلال
عندما عزَلَت نفسها تحت حكم الدكتور «فرانسيا
Francia»، عن
التجارة والعلاقة بالدول الأخرى، في محاولةٍ لأن تكون بمنأًى عن النفوذ
الأجنبي. الرواية تتناول بالتفصيل كفاح الدكتور «فرانسيا» المستحيل لكي
«يملي» مكانَه الخاصَّ على التاريخ، بينما يحمي شعب باراجواي من
التلوُّث بأوروبا، ولكنه يُهزَم في النهاية، ليس بواسطة جيشٍ غازٍ،
وإنما بفنائه الخاص.
٢٦ في رواية «ماركيث»: «خريف البطريرك» نجد الحاكم المستبد،
الذي يستحضر إلى الذهن «تريخيو
Trujillo» رئيس جمهورية
الدومينيكان، و«بيثنتي جوميز
Vicente Gomez» الرئيس الفنزويلي،
نجده في النهاية مجبرًا على بيع محيط بلاده للقوى الأجنبية.
٢٧ مشروع الاستقلال الوطني أو الإقليمي الذي تقدِّمه هذه
الروايات يجمع بين الخصوصية والغرابة. غرابة الدكتور «فرانسيا» أو
بطريرك «ماركيث» تمثِّل نوعًا من الأصالة، ولكنهما لا يستطيعان إيقافَ
زحفِ القوى الكونية للتحديث الرأسمالي. يبدو أن ما كان يشغل المؤلفَين،
هو مشكلةٌ أخلاقية طرحتها «خيليان روز
Gillian Rose» في
كتابها «الحداد يليق بالقانون»، الذي تكشف فيه عيوبَ تطرُّفاتِ
الجماعية والليبرالية؛ فبينما الجماعية، كما ترى روز، لا تكترث
بالحريات الفردية (ومن هنا خطَر الشمولية التي يفضَحها روائيو فترة
الازدهار)، فإن الليبرالية تستدعي «إعمال وظيفة الشرطة لاحتواء نتائج
اللامساواة»، وهي النتيجة التي كان أن ظهرَت على نحوٍ واضحٍ عندما
وصلَت الأنظمة العسكرية إلى السلطة في السبعينيات.
٢٨ في صيغةٍ مختلفةٍ نوعًا ما من المنطقة المحرَّرة، نجد
رواية «ماركيث»: «مائة عام من العزلة» التي سحَرَت وما زالت، جيلًا
كاملًا، تصور لنا «ماكوندو» كمنطقةٍ تصبو لأن تكون خارج التاريخ ولكنها
تُصبِح ضحية للتاريخ. عُزلتُها تدمِّرها وكذلك السفاح القربي الذي
تأسَّسَت عليه، ويصبح محكومًا عليها بالعودة إلى الطبيعة. مثل رواياتٍ
أخرى مؤسَّسة على سوابقَ تاريخية، فإن «أصالة» ماكوندو لا يمكن فصلُها
عن عزلةٍ كانت العولمة تتهدَّدها بالفعل.
التمثيلات الروائية عن المناطق المحرَّرة لا تُترجِم الإخفاقات
التاريخية فحسب، وإنما تنعكس كذلك على الأدب نفسه. كان المشروع
العلماني للإنتلجنتسيا هو خلق جمهورٍ مفكِّر قادر على القراءة والفهم
على مستوًى رفيع، وهو مشروعٌ أحبطَه مجتمع المعلومات الذي كان من نبت
التحديث، كما أحبطَته أيضًا إزاحة الإنتلجنتسيا الأدبية بواسطة خبراء
لم يكن أسلوبهم العقلاني ليسمح بالخيال أو يعترف به، وهذا هو سبب لجوء
أو اعتماد كثيرٍ من الروائيين على الموروث وعلى السحر، وعلى بقايا
الماضي الذي كان من المُفترَض أن تتخلص منه الإنتلجنتسيا. حتى «بارجاس
يوسا»، وهو عقلاني، يُنهي رِوايتَه «حرب نهاية العالم» بكلماتِ عجوز،
تُعلِن بعد سحق المتمردين، أنها رأت زعيمَ متمردين ميتًا يَلحَق
بالملائكة في الجنة؛ وبينما كان الأدب يسعى إلى إزاحة الدين وتحدِّي
الله، تبدو رواية «يوسا» وكأنها تُوحي بعدم إزاحة الأسطورة أو تهميش
المقدَّس تمامًا.
بينما أدب أمريكا اللاتينية مرتبط بالمشروع العلماني للحداثة، فإنه
كثيرًا ما يستعيد أو يستحضر أطياف الماضي المُربِكة للعقلانية
والمشوِّهة لها. إلى جانب الأسطورة، كان الدين عنصرًا مهمًّا آخر،
سيدخل كذلك عالم السياسة والثقافة في أواخر الستينيات. لاهوت التحرير،
والالتزام نحو الفقراء الذي أبداه الأساقفة في مؤتمر ميدلين في ١٩٦٨م،
خرَّب التقليد العلماني الذي كانت الإنتلجنتسيا تَتبنَّاه، واجتذب
نوعًا مختلفًا من المفكِّرين أو المثقِّفين؛ القساوسة الذين نظَّموا
مجتمعاتٍ قاعديةً لمناقشة السياسة وليس الدين فحسب، وشجَّعوا محو
الأمية، وكانوا يؤمنون بأن الفقراء سيرثون الأرض. في مناخ الستينيات
والسبعينيات الثوري لم يكن مستغربًا أن ينجذب أولئك القساوسة إلى
القضية الثورية. «كاميلُّو توريس
Camillo Torres»
الكولومبي (وكان الشاعر إرنستو كاردينال من أشد المُعجَبين به)، أخذ
الخطوة القصوى، وقُتِلَ وهو يحارب في صفوفِ جيشِ العصابات. كثيرٌ من
قساوسة الجيزويت كانوا نُشطاء في قضية الساندينيستا في نيكاراجوا، وبعد
إطاحة الرئيس «سوموزا
Somoza» أصبحوا أعضاءً في
الحكومة. «إرنستو كاردينال
Ernesto Cardenal» خدم لفترة
وزيرًا للتربية، وهو الذي أسَّس ورش الشعر التي كان يشارك فيها فلاحون
وجنود وربَّات بيوت.
٢٩
أثناء فترة إعداده ليكون قسيسًا في كولومبيا، زار «كاردينال» عددًا
من المجتمعات المحلية التي كانت نُظُمها العقائدية تتعارض مع
الرأسمالية. مجموعته الشعرية الصادرة في ١٩٦٩م بعنوان «في الثناء على
هنود أمريكا»، وهي كولاج (مزيج إبداعي) من استشهاداتٍ من نصوصٍ محلية،
تُمكِّننا، كما يقول «جوردون برذرستون
Gordon Brotherston»
من «تذوُّق الإيقاعات والصور وأصول الكلمات … حتى مادة النصوص السابقة
والتقاليد الأدبية والثقافية التي تنتمي إليها.»
٣٠ إحدى هذه الرباعيات التي يبدو فيها تأثُّره الشديد بالشاعر
«إزرا باوند
Ezra
Pound»، تصف الربا بأنه «خطيئةٌ في
حق الطبيعة» (بسبب الربا، الذي هو خطيئة في حق الطبيعة، يصبح خبزك أسوأ
من الخرقة البالية، خبزك جافٌّ مثل الورق).
٣١ كان «كاردينال» منجذبًا إلى الجماعات الأهلية التي كانت
تُحافِظ على القيم المجتمعية. في كولومبيا، زار مجتمعًا كان يتحاشى
التجار لأنهم «يصنعون اللامساواة»: «النقود لا تنتشر، لا تدور بين
الناس، ولكنهم لديهم عملاتٌ كثيرة؛ عقود وأسنان قردة وتماسيح».
٣٢ في قصائده، كان يُحيي ذكرى تلك المدن، وهي الآن خراب،
«التي لم تكن بها قادة ولا إداريون ولا أُسَر أو عائلاتٌ حاكمة ولا
أحزابٌ سياسية.»
٣٣ كان يحتفي بحضارة الإنكا القديمة في «تاهوآنتنسويو
Tahuantinsuyu» لأن شعبها لم يكن
لديه «نقود»، و«لأن ناسها لم يكن لديهم نقود، لم تكن هناك دعارة أو
سرقة، كانوا يتركون أبواب منازلهم مفتوحة.»
٣٤
قرب انتهاء فترة تدريبه باعتباره قسيسًا، وعملًا باقتراح «توماس
ميرتون Thomas
Merton» أعلن «كاردينال» قراره
بإنشاء مجتمعٍ تأمُّلي مكرَّس للصلاة والتأمُّل الروحي، في «سولنتنامي»
على نهر «سان جوان» في نيكاراجوا. أعلن ذلك في رسالةٍ كتبَها إلى صحيفة
كانت تصدُر بالإنجليزية والإسبانية (إل كورنو إمبليما دو – البوق
المزيَّن بالريش) وكانت تحرِّرها «مارجريت راندال
Margaret
Randall» و«سيرجيو موندراجون
Sergio
Mondragon»، وتجمع بين شعراء
الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. بعد أن خطَّط له بوصفه مجتمعًا
تأمُّليًّا في نيكاراجوا، التي كانت ما تزال تحت حكم «إنستاسيو
سوموزا»، تحوَّلَت سولنتنامي تدريجيًّا إلى مُتحفٍ ومزارٍ للفُرجة،
أصبحت مكانًا، الفن فيه مُستوعَب في الحياة اليومية، والموعظة تعكس
مزيجًا خاصًّا من الماركسية (التي نمت بزيارات كاردينال لكوبا) ولاهوت
التحرير الذي صالَح بين الماركسية والإيمان بالله.
كانت الإنتلجنتسيا العلمانية لمدينة الأدب، قد انتقلَت في معظمها من
الفقر وبؤس الحياة عند أدنى مستوًى، بينما كان الكثير من القساوسة
يتصدَّون لمشكلات الفقراء. عندما أعلَن مؤتمر الأساقفة في ميدلين
(١٩٦٨م) التزامَه بالفقراء، أصبح أعضاءُ الكهنوت المتعاطفون مع لاهوت
التحرير نشطاء في إنشاء مجتمعاتٍ قاعدية، ولقاءاتٍ ومؤتمراتٍ ساعدَت في
رفع الوعي من خلال مناقشة الأناجيل، وشجَّعَت على محو الأمية،
٣٥ وقد سجَّل «كاردينال» هذه الأنشطة وفصَّلها في كتاب له،
وكلها كانت تؤكِّد التفوق الأخلاقي للفقراء والحاجة إلى الثورة من أجل
إحداث تغيير، وفي الوقت نفسه كانت تحتفي بجمال الحياة في البيئة
الطبيعية الرعوية المحيطة، وتُعيد تصور المدينة مجتمعًا يجمعه الحب. لم
تجتذب سولنتنامي الجناح الراديكالي فقط من الكنيسة الكاثوليكية، وإنما
الكُتاب والمفكِّرون كذلك، نحو مجتمعٍ كان فيه الفلاحون يصبحون
مصوِّرين وحرفيين، وكان يبدو وكأنه يحقق المشروع القديم لقطاعاتٍ من
الطليعة، كانت تؤمن بأن الجمالي هو النموذج للعمل الذي لا يُعاني من
الاغتراب. وفي عام ١٩٧٧م، بعد أن بدأ «كاردينال» وغيره من أعضاء
المجتمع دعم قضية الساندينستا والمشاركة فيها، قام «سوموزا» بقصف
المجتمع وإزالته من الوجود، وذلك قبل أن يسقُط هو نفسُه بفترةٍ
قصيرة.
كان الروائي الأرجنتيني «خوليو كورتاثار» أحد الذين زاروا سولنتنامي،
وكان في تلك الفترة مقيمًا في باريس، ويحاول أن يخفِّف من ابتعاده عن
أمريكا اللاتينية بالمشاركة في سياستها ولو من على البُعد. قصته «رؤيا
سولنتنامي» بمثابة قدَّاس للمثال المجتمعي، ولمدينة الحروف التي حمَت
الأدبي من تدخُّل الواقع السياسي. مروية على لسان الشخص الأول، تبدأ
القصة بوصف لزيارة إلى سولنتنامي بأسلوبٍ ينطوي على تعالٍ مُزعِج.
الكُتاب وغيرهم مذكورون بأسمائهم الأولى دون تكلف، إرنستو (كاردينال)
وسيرجيو (راميريز). «كورتاثار»، الذي لم تكن تنقُصه الحنكة، والذي جاب
العالم مترجمًا، يستكشِف شخصيةً تعود إلى فطريةٍ ساذجة عندما تُواجِه
فلاحين مصوِّرين في سولنتنامي. هنا كانت «مرةً أخرى الرؤيا الأولى
للعالم»، «النظرة النظيفة لشخصٍ يصف محيطه كترتيلة مديح.»
٣٦ على الرغم من ذلك، تؤكِّد فطرية الراوي رؤيته المستقطبة
للعالَم منقسمة بين البراءة والشر. بعد عودته إلى باريس، وبينما يتأمل
شرائح الصور التي التقطها لرسوم سولنتنامي، يكتشف أنها، فوق كونها
مجمَّدة في الماضي الرعوي، تسجِّل عنف الحاضر؛ وبدلًا من الرسوم
البدائية، يظهر أمامه الآن كل رعب عمليات الموت والاختفاء القسري التي
هي حقائقُ يومية في القارة؛ قنبلة تنفجر في بيونس أيرس، إعدام الشاعر
«روك دالتون» بأيدي أعضاء من جماعته. مستخدمًا تقسيمًا يقوم على الجنس
لكي يصل إلى فكرته، يجعل «كورتاثار» الفتاة الفرنسية «كلودين» تمثِّل
وجهة النظر الغثة لشخص لا يمكنه أن يرى سوى ما هو واضح، أو بعبارةٍ
أخرى لا يرى أبعد من الصور الرعوية الساكنة … المجمَّدة في الماضي،
بينما يرى الراوي، الأمريكي اللاتيني الرعب القادم على نحوٍ معجز.
الاقتناع بأن الفن والأدب يعجزان عن تناول الرعب بدرجةٍ كافية، هذا
الاقتناع عمَّقَته سياسة الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى. وكما كتب
«كورتاثار» إلى أحد مراسليه «كل يوم يصبح من الأكثر صعوبةً بالنسبة لي
أن أقرأ الأدب كما اعتدتُ، تاركًا نفسي، تجرفُني الحماسة مع كل كتاب،
كما لو كان هناك شخصٌ ما يتحدث إليَّ من وراء ظهري. في كل لحظةٍ يعود
إليَّ الشعور بالخطر، وكل مرة أُمضي وقتًا أطول، أستمع إلى راديو
الموجة القصيرة بحثًا عن أخبار، أطول من الوقت الذي أمضيه في القراءة
أو الاستماع إلى تسجيلات.»
٣٧ في ذلك الوقت كان نشطًا في منظَّمات في المنفى وأدلى
بشهادةٍ أمام محكمة «راسل»
(Russell Tribunal) عن التعذيب.
وعندما عاوَد النظر في «الحجلة» في ١٩٧٥م، وهي روايةٌ تجريبية أحدثَت
ضجةً كبيرةً عند صدورها لأول مرة في ١٩٦٣م، كتب يقول: «كل شيءٍ يبدو
مختلفًا، كل شيءٍ يبدو بعيدًا وعبثيًّا.»
٣٨
•••
تحت عنوان «الثورة»، تلاقت الثقافة والسياسة، وهي نتيجةٌ كانت محلَّ
اهتمام لفترةٍ طويلة بين قطاعاتِ الطليعة في كلٍّ من أوروبا والأمريكتَين.
٣٩ أحداث الستينيات، حركة الفن المفاهيمي، الهيبيز … كل ذلك
شرع في تمزيق المألوف والعادي كوسيلةٍ لتحدِّي الوضع القائم. أساليبهم
تبنَّتْها كذلك طليعةٌ مناضلة وخاصة «التوباماروس
Tupamaros» وحركة العصابات في
أوروجواي، التي قامت بأعمالٍ مذهلة، كان من بينها سرقات البنوك وتوزيع
الأموال على الفقراء. الفنانون عرفوا كيف يستخدمون المسرح العام لتنظيم
الانشقاق. حتى في ظل الأنظمة العسكرية مثل نظام «بينوشيه
Pinochet» في تشيلي؛ حيث تم إسكات
المعارضة، كان فنَّانو الطليعة بإمكانهم أن يعرضوا عددًا من الأعمال
على المسرح.
٤٠
بيد أن الحرب الباردة نزلَت بمخالبَ باردةٍ على مثل تلك المشروعات.
قَصْف سولنتنامي وطَرْد «راما» من الولايات المتحدة باعتباره شيوعيًّا،
كانا مجردَ دلائلَ على أن العنوان الذي يمكن وسمُ الناسِ تحته بأنهم
أعداءُ الدولة، كان يسيطر على قطاعٍ أكبر من الناس. الحكومات العسكرية
في المخروط الجنوبي لم تكن تميِّز بين الاشتراكيين المعتدلين والطلبة
الراديكاليين … حتى أُسَرهم … وتعتبرهم كلهم أعداءً ينبغي القضاء
عليهم. «الحرية» العامة … المجرَّدة … أصبحت مصطلحًا أجوفَ في وقتٍ
كانت تدور فيه الحروب الأهلية بين الكونترا والساندينستا في نيكاراجوا،
وبين حكومة السلفادور وجيش تحرير. كان من الصعب أن تتنافَس حركات حرب
العصابات، المتسرِّعة في التعبير عن موقفٍ ثوري، مع رعب الدولة.
٤١ الموت والاختفاء القَسْري والنفي … كل ذلك سيقضي على
الآمال الطوباوية، والتسليع تحت ظل الليبرالية الجديدة سوف يشجِّع على
فقدانِ ذاكرةٍ جماعيٍّ عن الماضي الحديث.
٤٢ حتى المكسيك التي كان يُوجَد بها رئيس مدني، سجلت رقمًا
قياسيًّا في عدد الاختفاءات القَسْرية؛ وفي الثمانينيات كان هناك في
جواتيمالا ما يقرب من مائتَي ألف حالة وفاة في أعمال عنف، معظمُها بين
السكان الأصليين. في المخروط الجنوبي، كان عنف التحوُّل من مشروعات
الاستقلال الوطني إلى الرقابة والصمت، ثم من صَمْت الدكتاتوريات إلى
انتقالاتٍ جريحةٍ للديمقراطية، كان عنف عمليات التحوُّل تلك يثبِّط أي
محاولة لإحياء أي مشروعٍ يوتوبي؛ ولأن الحكومات العسكرية لم تنتصر في
حربها على الشيوعية فحسب، وإنما وصفَت كذلك الأساس لنموذجٍ جديدٍ من
الدولة، فقد أدخلَت هيكلةً نيوليبراليةً إلى جانب اقتصاد المعلومات.
كان العسكر هم وكلاء التغيير في المقام الأول، وكانوا ينتزعون
المعلومات بالتعذيب والقمع، كما كانوا يدركون إمكانيات التليفزيون من
أجل السيطرة على المعلومات والتحكُّم فيها. بعد العسكر كان هناك دَور
الإنتلجنتسيا المُحترِفة من ذوي التعليم والثقافة البراجماتية أكثر
منها إنسانية.
المشروع العلماني الذي بدأَه التنوير تحوَّل إلى محاكاةٍ ساخرةٍ
كئيبةٍ في العالم المتحرِّر من الأوهام لتلك الدول المتقدِّمة
تكنولوجيًّا. الأسوأ من ذلك كله أن الناس عندما وجدوا أنفسهم يبحثون عن
قبورٍ مجهولة، ويُحاوِلون التعرُّف على أجداث أطفالهم وآبائهم وسط
رُكام العظام، فقدوا ذلك الحُلم إلى الأبد، «حُلم المنطقة
المحرَّرة».
كانت «المنطقة المحرَّرة» بمثابة رمز لدولةٍ متخيَّلة، مستقلة، ذاتية
الاكتفاء. هذه الفكرة أصبحَت قديمةً عندما تغيَّر مفهوم قومية الدولة
نفسه في التسعينيات، وأصبحَت الدول هي التي تقوم بتسهيل عمليات
العولمة، كما أصبحَت فكرة الاستقلال الوطني نفسه تُعتبَر عبثية، على
اعتبار أن الحدود الوطنية أو القومية أصبحَت مسامية وقابلة للاختراق
بسهولة. وعندما وقَّعَت المكسيك، وهي دولة ذات أيديولوجيةٍ قوميةٍ
قوية، اتفاقيةَ التجارة الحرة مع كندا والولايات المتحدة، كان ذلك يعني
أنها وقعت ذلك التغيير المهم في دور الدولة.
الكاتبُ الروائي والصحفي الأرجنتيني «رودولفو وولش
Rodolfo
Walsh» هو الذي سجَّل ذلك النقش
على ضريح مدينة الحروف في مستهل مرحلة العنف، وكان قد عمل في كوبا في
أوائل سنوات الثورة. في سنة ١٩٧٢م كتب رسالةً إلى «روبرتو فرناندز
ريتامار Roberto Fernández
Retamar» محرِّر المطبوعة الكوبية
Casa de las
Americas، يصف فيها مُناخ الرقابة
والقمع في الأرجنتين، الذي كان إيذانًا باستيلاء العسكر على السلطة في
١٩٧٦م.
سوف تفهم أن الأشياء الوحيدة التي يمكن أن يكتب، وسوف يكتب،
عنها المرء هي بالضبط تلك التي لا يُمكِن كتابتُها أو ذِكرُها؛
الأبطال المحتملون، الثُّوار، كلهم يحتاجون إلى الصمت؛ الأشياء
الإبداعية الوحيدة هي تلك التي ما زال العدو يجهلها،
الاكتشافات الممكِنة في حاجة إلى بئر تختبئ فيه، كل الأشياء
تحدث في العمق، وكذلك الأمل؛ من يعرف لا يقول، ومن يقول لا
يعرف. أفضل ثمار الجهود الفكرية يتم إحراقها يوميًّا، ثم يُعاد
تشكيلها في اليوم التالي … ثم تُحرق. على الرغم من ذلك فإن هذا
التغيُّر المؤلم غير عادي. الحياة الآن، بالنسبة للبعض، مليئة
بالمعنى على الرغم من أن الأدب لا يستطيع أن يُوجَد. صمت
المثقَّفين، انهيار الازدهار الأدبي، انتهاء الصالون الأدبي،
تلك هي الشهادة المرعبة على أن أولئك الذين لا يستطيعون أن
يجعلوا أنفسهم يُسهِمون في الثورة الشعبية الدائرة، على الرغم
من بطء حركتها، ما زالوا على موقفهم وهو أنهم لن يصبحوا شركاء
في ثقافة المستبِد، أو أن يقبلوا مزايا دون شعورٍ بالذنب، أو
أن ينأَوا بأنفسهم عن معاناةِ وكفاحِ الناس الذين هم الأبطال
الحقيقيون للتاريخ.
٤٣
«الأدب لا يمكن أن يُوجَد»، كما كتب «وولش
Walsh»، الذي كان
أحد أعضاء مجموعة كُتاب الأرجنتين الذين انضموا إلى «المونتونيروز
Montoneros»، وهو جناحٌ وطنيٌّ مناضل
من حركة «البيرونست
Peronist». كان من بينهم أيضًا
«خوان جيلمان
Juan
Gelman» و«باكو أوروندو
Paco
Urondo» اللذان كانت حياتُهما
مأساويةً بعد ذلك. «أوروندو» انتحر بعد أن وقع في كمينٍ للجيش.
«جيلمان»، الذي أرسلَته الحركة إلى روما عانى كثيرًا، عندما ألقى
الجيشُ القبضَ على ابنه وزوجته الحامل. تم إعدامُ الابن وأُخذَت الزوجة
إلى أوروجواي حيث وضَعَت طفلَها ثم قُتلَت. تُرِكَ الطفل للتبني مثل
كثيرين غيره ممن وُلدوا لسُجناء سياسيين. أمضى «جيلمان» ثلاثة عقود
تقريبًا وهو يُحاوِل تتبع الطفل، ثم نجح بعد توسُّل لرئيس أوروجواي، في
الحصول على معلوماتٍ أدت إلى معرفة مكانه. على خلاف «وولش» لم يظن
«جيلمان» أبدًا أن الأدب كان مستحيلًا، أو أنه «لا يمكن أن يُوجَد».
كتب في شعره عن التعذيب والهزيمة، معاتبًا رفاقَه الشعراء بسبب
هَواجسِهم عن موتهم الشخصي،
٤٤ كما كتب يسأل عما يُساعِد الناسَ الذين دُمرَت آمالهم،
«شيء غريب! بقايا الأفكار الإنسانية مكدَّسة في الجوار، في المكان الذي
سقطَت فيه في زمن اليأس …»،
٤٥ شعره لا يقبض فقط على عجز اللغة التي كان مطلوبًا منها
آنذاك أن تكون شاهدًا على الرعب، وإنما كان يُفيد كذلك من صوفية «خوان
دي لاكروز
Juan de la
Cruz» و«سانتا تيريزا
Santa
Teresa» وتبصُّرهما الروحي، بحثًا
عن لغة تعبِّر عما لا يعبَّر عنه؛ صوت الصمت. كثير من قصائد «جيلمان»
كُتبَت في أواخر السبعينيات؛ ولذا تسير عكس النزعة القوية التي لا
يُمكِن الإبقاء عليها لحركات العصابات، باستدعاء عالَمٍ أنثوي من
الحياة العائلية وحُب الأسرة ونكران الذات. كانت — في الحقيقة — صورة
المرأة كمقيمةٍ للحِداد هي ما يشغل وسط المسرح. أمهات «بلازا دي مايو»
اللائي أهدى إليهن «جيلمان» قصيدةً طويلة.
٤٦
أما مصير «وولش» فكان أكثر مأساوية. كان عضوًا في عددٍ كبير من
الجماعات المقاتلة قبل أن ينضم إلى «المونتونيروز
Montoneros» في ١٩٧٦م، بعد أن وصل
العسكر إلى السلطة. في ذلك العام قُتلَت ابنته «ماريا فيكتوريا»، التي
كانت عضوًا في المونتونيروز، عندما داهمَها الجيش في المكان الذي كانت
مختبئة فيه. في فعلٍ من أفعال اليأس، كتب «وولش» رسالةً مفتوحة إلى
الحكومة العسكرية ووزَّعها؛ في هذه الرسالة فصَّل جرائمهم؛ الآلاف من
حالات الاختفاء القسري، معسكرات الموت، التعذيب، القبض الجُزافي على
المدنيين من غير أعضاء العصابات وتصفيتهم. كتب كذلك أن تلك الجرائم لم
تكن الأسوأ. كانت الجرائم الاقتصادية هي ما يفسِّر أيضًا الفقر
المخطَّط الذي يخيِّم على الأرجنتين؛ بسبب السياسة التي يُملِيها صندوق
النقد الدولي. «وولش» يعترف في السطور الأخيرة من الرسالة بأنه كتبها
«دون أملٍ في أن يستمع إليَّ أحد، أنا واثقٌ من أنني سوف أُضطهَد، إلا
أن التزامي ثابتٌ بأن أكون شاهدًا على هذه الظروف الصعبة.»
٤٧ بعد أيام، أُطلِق عليه الرصاص ليلقَى حتفَه في قلب مدينة
بيونس أيرس. جثَّتُه اختفَت.
في مناقشته لخطاب نهاية اليوتوبيا في كتابه «ذكريات الفجر الكاذب»،
يوحي «أندرياس هيوسن
Andreas
Huyssen» بأن اليوتوبي في ألمانيا
صاحبة الماضي المؤلم كان له وجودٌ زمني أكثر من الاختفاء، وذلك في
«التحوُّل من التوقُّع والتطلُّع للمستقبل إلى الذاكرة والماضي»؛
٤٨ وهذا يصدُق، إلى حدٍّ بعيد، عن كثيرٍ من الأدب الروائي
الحديث والشعر في أمريكا اللاتينية؛ حيث يُحاول الكُتاب أن يجمعوا
شظايا الآمال والطموحات المحطَّمة. الكاتبة الماركسية «كارمن بولُّوزا
Carmen
Boullosa» كتبَت سلسلة من الروايات
«التاريخية» التي تُعيد — مرارًا وتكرارًا — تصوُّر الإخفاقات
التاريخية؛ مصر التي أذعنت للإمبراطورية الرومانية في «كليوباترة
تترجَّل»، مجتمعات القراصنة في الكاريبي والسكان الأصليين في زمن الغزو؛
٤٩ كما تكتب «دياميلا إيلتت
Diamela Eltit» عن
اللغة والمجتمعات المتشظِّية التي لم تعُد تمثِّل أمة.
٥٠ الذاكرة تَم تعريضُها للخطَر والعطَب عندما حاولَت
الحكومات ما بعد الدكتاتورية إحياء الماضي على نحوٍ يمحو تجربة عائلات
الذين اختفَوا قسرًا وغيرهم من الضحايا، وفي كثيرٍ من الدول كانت
النساء (الغائبات تقريبًا عن مدينة الأدب) هم من يقُمن بالدَّور البارز
في استعادة الذاكرة والاهتمام باللغة والحَكْي في الحقبة
الجديدة.
إن ظهور أولئك الفاعلين الجُدُد على الساحة — ليس النساء فقط، بل
والسكان الأصليين والأمريكيين من أصولٍ أفريقية — هو ما يبعَث الحيوية
والنشاط الآن في ثقافة أمريكا اللاتينية بعد الحرب الباردة.