الفصل الثالث
فوضى أم موقع بناء؟
استجابة المسرح البريطاني للحرب الباردة وتداعياتها
من الملامح اللافتة للتأريخ الحديث للحرب الباردة، ذلك الإصرار على
حشد مصطلحات مرجعية مستمدة من تفاصيل العمل المسرحي. محلِّلو الحرب
الباردة الذين يعملون في مجالات عدة تتراوح بين التاريخ السياسي
والدبلوماسي والعلاقات الدولية، يستخدمون هذه المصطلحات للمساعدة على
فهم بنية وحركة ومدى الصراع الكوني الدائر؛ كما أن نظرة عامة كيفما
اتفق على الدراسات الصادرة حديثًا توضح هذا الأمر. «جون إلسوم
John
Elsom» على سبيل المثال، يرى أن نهاية
الحرب الباردة كانت تتميز بعملية «مسرحة» واضحة للأحداث.
١ «دوجلاس مكدونالد
Douglas MacDonald» يرى أن الصراع
كان يتم على «مسرح» عمليات متفرد، يملؤه على حدِّ تعبير «نيد ليبو
Ned
Lebow» «ممثلون»
٢ سابقون. «نعوم تشومسكي
Naom Chomsky» يعتقد
أن أبطال الحرب الباردة كانوا، غالبًا، «يتنكرون» لكي ينخرطوا فيما
يطلق عليه «جون لويس جاديس
John Lewis Gaddis» «قالب مسرحي بلاغي».
٣ «سين جرينوود
Sean
Greenwood» يشير إلى الصراع
باعتباره «لعبة» دبلوماسية، بينما يرى «توني شو
Tony
Shaw» أنه ينبغي فهمه باعتباره معركة
غير مباشرة يتم إبرازها، في جزء منها، من خلال «كلمات وصور».
٤
هذا الإقرار الشائع بالأساس الأدائي لسياسات القوى الكبرى ليس غريبًا
بالطبع، ولكن يبدو أنه اكتسب زخمًا خاصًّا في عمليات التقييم التي
تستعيد الحرب الباردة؛ وهو ما يساعد في حدِّ ذاته، وإن بدرجةٍ ما، في
عملية تفسير الدور الرئيسي للإنتاج المسرحي في أي عملية لتقصي النشاط
الثقافي خلال تلك الفترة؛
٥ وذلك لأن المسرح، كما يهدف هذا الفصل إلى أن يوضح، تم
استخدمه لكي يكسر أسلوب أسطرة الصراع وتناول الحقائق السياسية التي
يعتمد عليها على جانبي «الستار» الحديدي، إن جاز لنا استخدام هذا
المصطلح السائد عن الحديث عن الانقسام الجيوبوليتيكي.
التحرر من الوهم، والرغبة
إحدى خصائص الدراما البريطانية اليسارية في فترة ما بعد ١٩٤٥م،
إبرازها لتحرر عميق من الوهم بالنسبة للأحزاب اليسارية المزعومة
ولنظم الدولة، وبخاصة فيما يتعلق بالاتحاد السوفييتي السابق، بينما
نجدها في الوقت نفسه باقية على التزامها الصارم بالرغبة في بديل
اشتراكي لخطايا ومظالم الرأسمالية الغربية، وهو منظور نجد تعبيرًا
واضحًا عنه في مسرحية «آرنولد ويسكر
Arnold Wesker»
الشهيرة: «حساء دجاج بالشعير» (١٩٥٨م): «إذا كان عامل الكهرباء
الذي جاء لإصلاح الفيوز يتسبب في إحراقه، فهل يتعيَّن عليَّ أن
أبقى دون كهرباء؟»
٦ هكذا تتكلم «سارة كان
Sara Kahn»
القوية إبان الغزو السوفييتي للمجر؛ وعلى أية حال فإن الجيل
الراديكالي من كُتاب الدراما الذي خرج من أحداث ١٩٦٨م الثورية (مثل
«هوارد برنتون
Howard
Brenton» و«ديفيد هير
David
Hare» و«ديفيد إدجار
David
Edgar» و«جون مكجراث
John
McGrath» و«تريفور جريفث
Trevor
Griffiths»)، هو الذي استجاب
بكل إصرار، كلٌّ على طريقته، للتقلبات الأيديولوجية والسياسية
للمرحلة المتأخرة من الحرب الباردة. هذه الكتابة الدرامية بشكل
عام، تمثل نقلة واسعة من دعم إمكانية التغيير الثوري في أواخر
الستينيات وأوائل السبعينيات، إلى أسلوب في التناول أكثر مساءلة
(ويأسًا أحيانًا)، للأيديولوجيا الاشتراكية والممارسة السياسية في
العقود التالية.
إن نزعة الشك المتنامية حول آفاق وتوقعات الاشتراكية الثورية في
بريطانيا، يمكن بالطبع تأطيرها تاريخيًّا في علاقاتها بالتغيرات
الأشمل في الثقافة السياسية. هذه التغيرات ستشمل المزيد من خيبة
الأمل والتحرر من الوهم في صفوف اليسار بالنسبة للسياسات
البرلمانية والمؤسسات البريطانية، وبخاصة حزب العمال إبان الصراع
الصناعي الحاد في أوائل السبعينيات، والصعود العنيد ﻟ «اليمين
الجديد» والتاتشرية في الثمانينيات، وأخيرًا الانهيار الشديد
لاشتراكية الدولة «الموجودة بالفعل» منذ ١٩٨٩م. هذا الإطار
التاريخي هو الذي يساعد على فهم المسارات المسرحية المحددة لكُتاب
الدراما الذين حاولوا تقديم وجهات نظر سياسية بديلة ومعارضة في
أعمالهم. في منتصف السبعينيات، على سبيل المثال، رفض «إدجار»
الأشكال النمطية الكاريكاتورية لمسرحياته الباكرة، التي كانت تتسم
بالطابع الدعائي-الإثاري للاشتراكية، وكان رفضه لصالح الواقعية
الاجتماعية؛ وهو شكل فتح الباب أمام ارتباط أقوى بعلم النفس الفردي
في وقت انحسار اليسار البريطاني (كما يتجلى في «القضاء والقدر»
(١٩٧٦م)، و«أعياد أول مايو»
٧ (١٩٨٣م)). «هوارد باركر
Howard Barker»
نأى عن أسلوبه الساخر الخشن في مسرحياته الباكرة عن حالة إنجلترا
(مثل «المخلب» ١٩٧٥م،
٨ و«تهديد السجن» ١٩٧٨م) لكي يركز، قانطًا، على تراجع
حزب العمال عن الاشتراكية («حياة الولد الصاخب» ١٩٨٠م، و«عاطفة في
ستة أيام» ١٩٨٣م، و«طفل محزون» ١٩٨٥م). إن تأملات «باركر» للتاريخ
ورفضه التام والنهائي للأيديولوجيا، هي أساس «مسرح الكارثة» العنيد
لديه: إعادة صياغة للتراجيديا كما تجلَّت في الثمانينيات، التي
تعطي مكانة خاصة للموضوع المرغوب فيه.
٩ صعود التاتشرية، كان يتميز بانبعاث لهجة الهجاء
والسخرية التي تجد أفضل تعبير عنها في الانتقادات الذكية عند
«كاريل تشرشل
Caryl
Churchill» («نقود خطرة» ١٩٨٥م)
١٠ وعند «ستيفن بيركوف
Steven Berkoff»
(Sink the
Belgrano! (1986))، وفي
المقابل فقد حاولت كتابة «برنتون
Brenton» في هذه
الفترة أن تظهر شكل وتكوين يوتوبيا اشتراكية، كما في «شعر دموي
١٩٨٤م» و«جرينلاند ١٩٨٨م».
١١
مع التسليم بوجود عدد كبير من دراسات الحالة، فإن هذا الفصل يركز
تحديدًا على كيفية تناول سياسات الحرب الباردة في ثلاث مسرحياتٍ
قدِّمت في بريطانيا في المراحل الختامية، أو بعد انتهاء الصراع.
هذه المسرحيات هي «قوة الكلب
The Power of the
Dog» ﻟ «باركر» (١٩٨٤م)، و«عيد
العنصرة
Pentecost» ﻟ «إدجار»
(١٩٩٤م)، و«بعيدًا
Far
Away» ﻟ «تشرشل» (٢٠٠٠م).
١٢ أما الهدف فهو محاولة استكشاف أحد الأساليب
الاستراتيجية التي حاولت المسرحيات عن طريقها دحض ذلك المنطق
المزدوج لسياسات الحرب الباردة الذي تم توثقيه كثيرًا، وذلك من
خلال استدعاء هذه المسرحيات لفضاءات «هامشية» وبخاصة تلك الأوروبية
الشرقية. ولكي نمضي في هذا الاتجاه، سوف يطرح الجزء الأول من
تناولنا طرفًا من النقد الذي وجه إلى ما يسمى بالتفسيرات الواقعية
للحرب الباردة. لقد تبنت التحليلات الواقعية معنًى محددًا للصراع،
باعتباره تنافسًا ثنائي القطبية تدفعه مصالح جيوسياسية لتكتل كل
قوة. وكمقدمة منطقية لهذا الفصل، فإن التأكيد الجديد الذي شملته
الدراسات التاريخية للحرب الباردة في التسعينيات إنما هو تأكيد
يتحدى وجهات النظر الواقعية وقدرتها على البقاء، كما أنه تأكيد يجد
تكييفًا مسرحيًّا في هذه النماذج من الكتابة الدرامية. السياقات
المسرحية لهذه الأعمال بعيدة عن نطاقاتها المحلية وانتقالية وغير
ثابتة وعلى هوامش الصراع «الثنائي القطبية»، وبمعنًى ما في مناطق
طرفية حيث الاحتمال بألَّا تكون قبضة أيديولوجية الحرب الباردة غير
محكمة. إن إحدى السمات المميزة للعرض المسرحي الحي، هي قدرته على
إيجاد حيز مكاني لاستعاراته، وعلى هذا الأساس سوف أضع في اعتباري
كيفية تناول هذه الأعمال للعوالم المسرحية التي تلقي الضوء على
«التكلفة الإنسانية لسياسات القوة»، بالإضافة إلى التوقعات وحجم
الرعب المرافق لظهور أوروبا الجديدة سنة ١٩٨٩م.
١٣
أبعد من الواقعية
أكثر تحليلات الحرب الباردة ذكاءً في العقود القليلة الماضية،
مستمدة من التطورات التي تمت في نظرية العلاقات الدولية. كثير من
هذه التدخلات كان معنيًّا برسم مسار (يقال إنه أرثوذكسي أو تعديلي
أو لعله ما بعد تعديلي) لتفسيرات الحرب الباردة، وبخاصة لتحدي
المحاولات النقدية لعزل أصولها المفترضة. «ليبو
Lebow» يلخص على نحو مفيد
التفسيرات الأربعة العامة الأكثر شيوعًا للحرب الباردة، وكلها
تفسيرات قابلة للتبادل: الوضع الواقعي الذي يفهم الصراع باعتباره
«صراع قوة» تنافسيًّا بين دول-أمة، أخذ يتعاظم بسبب البنية ثنائية
القطبية لعالم ما بعد الحرب، وتفسير «الأفكار» الذي يرى أن الحرب
الباردة كانت في الأساس حريقًا أيديولوجيًّا هائلًا تصاعد من
الثورة البولشفية، وتفسير «السياسات المحلية» الذي يفهم الحرب
الباردة من زاوية طموحات الزعماء لبسط سيطرتهم على الأجندات
المحلية، وأخيرًا تفسير «القادة» الذي يعزو الأهمية الرئيسية
لأعمال السياسيين الأفراد وشخصياتهم.
١٤ ويخلص إلى أن هذا البحث المتواصل عن السببية كان يطغى
دائمًا على أهمية العملية، والاعتماد المتبادل في النظام البيئي
للحرب الباردة العابر للحدود القومية.
في سياق مشابه، يجادل «جاديس
Gaddis» بأن
سقوط الشيوعية هيأ الفرصة لإعادة التفكير على نحو شامل بخصوص
المنهجيات المألوفة التي تجنح إلى ضم كل تواريخ الحرب الباردة معًا.
١٥ إن ما يؤرقه تحديدًا، هو أن المؤرخين والمنظرين
محتاجون إلى تبنِّي تفسيراتٍ ذات تسلسلٍ تاريخيٍّ يمكن أن تصف على
نحوٍ صحيحٍ بيئة الحرب الباردة المتغيرة، وبنيتها وعملياتها عبر
المكان والزمان؛ ولذلك ربما يكون الوضع الواقعي هو ما كان عرضةً
للتفحص الواسع منذ سقوط حائط برلين. التفاهمات الواقعية للحرب
الباردة حققت زخمًا في الأربعينيات بناءً على القيد القوي الذي جاء
به «مبدأ ترومان»، أو الفكرة المؤسسة للثنائية القطبية: في هذه
اللحظة من تاريخ العالم، لا بد من أن يكون من حق كل دولة أن تختار
بين أساليب بديلة للحياة.
١٦ الواقعية الكلاسيكية تتطابق على نحو أكيد مع القول
المأثور ﻟ «هانز جي مورجنتو
Hans J.
Morgenthau» وهو أن «جميع الدول
تسعى لتحقيق مصالحها الوطنية التي تعبر عنها بلغة القوة»،
١٧ كذلك فإن «روبين براون
Robin Brown»
يلفت النظر في تأملاته العميقة عن الواقعية، إلى الأهمية البالغة
لكتاب «كينيث وولتز
Kenneth Waltz»: «نظرية
السياسة الدولية» الصادر في ١٩٧٩م، الذي ذاعت شهرته كأحد أحجار
الزاوية لواقعية جديدة بازغة في الثمانينيات؛ لأن «العامل الحاسم
في النظام الدولي» بالنسبة ﻟ «وولتز»، كما يقول «براون»، «هو تَوزع
القوة الذي يقرره عدد الأقطاب أو دول القوى العظمى الموجودة في
وقتٍ ما»؛
١٨ وفي هذا السياق تقدم الواقعية أسلوبًا واحدًا لتفسير
الاستقرار، والمدى الزمني المتوقع للحرب الباردة، كما تقدم كذلك
أسلوبًا لتفسير الاستقطاب الشامل للدول الأمة خلال تلك
الفترة.
من وجهة نظر الواقعية، تبدو إذَن الحرب الباردة بمثابة منظومة
متناسقة ثنائية القطبية للقوة الكونية، نتج عنها فترة استقرار
فسرها «جاديس» بوصف سيئ ذاع في ١٩٨٦م، عندما وصفها ﺑ «السلام الطويل.»
١٩ هذا «السلام الطويل»، أصبح، بكلمات «ييل فيرجسون
Yale
Ferguson»، و«ري كوسلوفسكي
Rey
Koslowski»: «دلالة على مأسسة
ممارسات الثنائية القطبية للحرب الباردة، ومن هنا أصبحت هي نفسها
جزءًا من صرح ثقافة الحرب الباردة.»
٢٠ الدراسات الواقعية للحرب الباردة تميل إلى لفت
الانتباه إلى المشتركات في بنية واستراتيجية القوتَين العظميَين،
التي تشكل أساس الخطاب المكرور عن الفوارق الأيديولوجية بينهما.
الواقعية، من هنا، تجعل الثنائية القطبية والاستمرارية البنيوية
وأهمية الدول الأمة أشياء مادية في فرضية استقرار يعتمد على
الهيمنة، من المتصور أنه يضمن درجة من الأمان الكوني في العصر
النووي الصاعد.
٢١
إلا أن النماذج النظرية الواقعية واجهت تحديات من أفكار نقدية
مختلفة على مدى العقدَين الماضيَين. معتمدة بصور مختلفة على
إلهامات ما بعد البنيوية وما بعد الاستعمار، استندت هذه الكتابات —
بعبارة جرينوود
Greenwood — على «نزع صفة
القطبية عن تاريخ الحرب الباردة» وإعادة تأطير الصراع على أنحاء
تكشف عن مداه وتأثيره وترابط مكوناته.
٢٢
يجادل «ريتشارد كروكات
Richard Crockatt» على سبيل
المثال، بأن «التعريف الواقعي للبنية يستبعد وضع التأثير المتبادل
في الاعتبار.» الأمر الذي يصفه «أود آرني
Odd Arne» ﺑ
«الإطار الاجتماعي والثقافي الذي تعمل بداخله دولةٌ ما.»
٢٣ ويجادل «ديفيد رينولدز
David Reynolds»
بأن الحرب الباردة لم تكن من تأسيس تكتلات قوًى متناغمة تقوم على
تناسق بنيوي، وإنما كانت بالأحرى نتيجة تقاطبات متنوعة ومناطق
تهميش مارست تأثيرات وضغوطًا مختلفة على المستوى الإقليمي أو المحلي؛
٢٤ والحقيقة أن «وولتر لافيبر
Walter LaFeber»
يتشكك في فكرة وجود حرب باردة مفردة ومتسقة، مجادلًا بأنه كان هناك
ما لا يقل عن أربع حروب باردة تتراكم في الوقت نفسه.
٢٥
وهناك تحدٍّ آخر للواقعية يركز على ما يمكن أن يسمى بالبنية
المعمارية الجيوبوليتيكية، وبخاصة فيما يتعلق باضمحلال
الدولة-الأمة. «جاديس
Gaddis» يرى أن الحرب الباردة
سوف يتم تذكرها «ليس كصدام وصل إلى درجة كبيرة بين القوى الكبرى،
وإنما باعتبارها نقطة وصل إليها الصعود الطويل لدولةٍ ما إلى ذروته
ثم بدأ يضعف.»
٢٦ كما يرى «مارتن ووكر
Martin Walker»
أن «الأهمية الحقيقية» للحرب الباردة كانت في «قيامها بدور العامل
المساعد في صنع الاقتصاد الكوني غير العادي الذي سوف يسود مستقبلنا.»
٢٧ النموذج الواقعي لتوازن قوًى يستند إلى استقلالية
الدولة-الأمة، سوف يضعفه «لاعبون جدد وقضايا جديدة» انطلقت في حقبة
العولمة التي تلت الحرب الباردة،
٢٨ كما يقول «براون
Brown». من بين
أولئك «اللاعبين الجدد»: «إرهابيون ومؤسسات متعددة الجنسية ووكالات
استخبارات وتجار مخدرات»، يعملون على نطاق كوني وعبر الحدود بين
الدول؛ أما «القضايا الجديدة» الناشئة فهي «التلوث وزيادة السكان
والانتشار النووي واستنفاد الموارد والفقر.»
٢٩ مركزًا على الفترة الأخيرة من الحرب الباردة، يأتي
اقتناعه المهم بأن الواقعية الأرثوذكسية لا يمكنها على نحو صحيح أن
توقف انهيار الدولة الأمة، التي تعتبر هذه القضايا الضارة من
الأعراض الملازمة لها.
هذا المشروع المنتشر في نظرية العلاقات الدولية لفهم أهمية
التفاعل والاعتماد المتبادل تحت راية الهيمنة ثنائية القطبية،
أعتقد أنه يجد نتيجة منطقية مسرحية مثيرة في المسرحيات التي نعرض
لها في هذا الفصل. كل مسرحية منها تشحذ — على نحو متميز — عناصر
العرض المسرحي لكي تمحو القوى التحتية المحركة للصراع. عن طريق
تمزيق البِنى السردية الأرثوذكسية، والتركيز على المحاولات
المستميتة للأفراد للإفلات من قوقعة الحرب الباردة المتعجرفة،
وبتقديم عوالم مسرحية طرفية منتزعة من إقليميتها؛ فإن هذه التدخلات
تضع نهاية للثنائيات القطبية التي تميز الخطاب الواقعي. بذلك،
فإنها تُحدث عملية إزالة مسرحية للثنائية القطبية، عملية شكوكية
تسائل الصراع، وتُشكل رؤية أكثر تعقيدًا لحقائق الحرب الباردة
السياسية.
قوة الكلب
«الحرب الباردة» مصطلح مراوغ؛ لأنه استعارة وليس استعارة
في الوقت نفسه. معناه يحوم ملتبسًا بين الحرب وما يشبه
الحرب. العداء المطلق ونقائض السلام، تصحبها غيبة حرب
حقيقية. «التفاعل المتبادل» يتجمد أو لعله ينخفض إلى
مونولوجات أيديولوجية وسياسية، القطبية تتميز بالجمود
والبرود، في الوقت نفسه نجد الحرب الحقيقية مُزَاحة في
اتجاه الأطراف، ومصاغة في صراع إقليمي ومحلي لا علاقة
كبيرة له بالقطبية؛ وهكذا تظهر الحرب الباردة في فضاءات من
نوع ثالث في شكل عسكرة وموت، وكآثار مدمرة.»
٣٠
التأثير الرئيسي للحرب الباردة بالنسبة ﻟ «آندرز ستيفانسون
Anders
Stephanson» كان يمارَس على
الهوامش، في المحليات الطرفية المبعدة استراتيجيًّا عن «الوضع
الأيديولوجي والسياسي» لدى الأقطاب المعنية بالصراع. تعليقاته تقدم
نقطة بداية مفيدة لفهم استراتيجية «باركر» المسرحية في «قوة
الكلب»، وهي مسرحية قدمت لأول مرة في ١٩٨٤م في فترة صعود الواقعية الجديدة.
٣١ هدف المسرحية، كما يقول أحد النقاد، هو «تقديم شريحة
من التاريخ الأوروبي الحديث، وتشريح صور مختلفة من التسجيل
والتقديم التاريخي.»
٣٢ هي عمل من أعمال التأمل التاريخي الفاضح، الذي يتجنب
بأسلوب ماكر قواعد الواقعية التسجيلية؛ وقد أوضح «باركر» ذلك
قائلًا: «إن ما يجعل مسرحياتي التاريخية كذلك بالفعل، على عكس أن
تكون مسرحية متشرِّدين على أيِّ نحو، هو أنها تشير إلى نوعٍ من
وجهات النظر التاريخية المسكوت عنها، والتي هي نوع من الميثولوجيا الشعبية.»
٣٣ بالنسبة لباركر، فإن أحداث الحرب العالمية الثانية
المدمرة والمعاناة العظيمة لأوروبا بعدها، تمثل «تاريخًا سرديًّا»
تم إدراجه في ميثولوجيا الحرب الباردة.
٣٤ أحداث المسرحية تدور في المراحل الختامية للحرب
العالمية الثانية عندما يدخل الروس أوروبا، وتحمل عنوانًا فرعيًّا
هو «لحظات في التاريخ والتاريخ المضاد» وتضم أحد عشر مشهدًا خشنًا،
تدور أمامًا وخلفًا في حركة مكوكية. من أبهة الكرملين إلى منطقة
نائية مدمرة «في مكانٍ ما من السهول البولندية». (٩)
المشهد الافتتاحي يكشف عن أنه إعادة تشريع غريب لاتفاق النِّسَب
سيِّئ الذكر الذي عقده «تشرشل» و«ستالين» في موسكو في أكتوبر ١٩٤٤م.
٣٥ «مكجروت
McGroot»، وهو كوميديان ومهرج
اسكتلندي لاذع السخرية، يُستدعَى لكي يعرض في قاعة الاحتفالات في
الكرملين، بينما كان «ستالين» المصاب بالبارانويا و«تشرشل» السكران
يُقَطِّعان أوروبا الشرقية. المشهد يكتسب قوَّتَه المسرحية، ليس
فقط من الأحاديث الجانبية الفلسفية لمكجروت فحسب («التاريخ! سأخبرك
ما التاريخ، إنه امرأةٌ يغتصبها عشرة جنود في قريةٍ ما في
منشوريا.») (٤)؛ وإنما أيضًا من ذلك الجهد الفاشل لاثنَين من
المترجمين، يحاولان أن يترجما بدقة حوار المقايضة المتبادل بين
رجلَي الدولة، والمثقل بمختلف الاحتمالات:
ستالين
:
أمر مؤسف ألَّا أستطيع أن ألتقي امرأة في قطار ما لم تكن
المرأة والقطار مخصصَين لي، وإن كان هذا يلغي، بالطبع،
أهمية المناسبة. المصادفة، التي هي جوهر التجربة، قد
استؤصلَت من حياتي!
المترجم الإنجليزي
:
يقول، مثل هذه الفرص لا تأتي في طريقه عادة.
ستالين
:
هل حدث أن التقى تشرشل امرأةً جميلة في قطار؟
المترجم الإنجليزي
:
يسأل — الدلالات مضحكة — ما إذا كنتَ أنت، تشرشل، قد
التقيت امرأة في عربة سكة حديد.
تشرشل
:
لقد التقيتُ زوجتي.
المترجم السوفييتي
:
يقول إنه التقى السيدة تشرشل (مولوتوف ينفجر
ضاحكًا).
تشرشل
:
وماذا يثير الضحك بخصوص زوجتي؟ (٥)
بعد هذا الحوار الأخرق الفاشل، ينتقل الزعيمان بسرعة إلى
المماحكة حول غنائم النصر، وبكل صلافةٍ مجنونة يدخل «تشرشل»
و«ستالين» في عمليةٍ محمومة لاغتصاب الأراضي، ورسم خريطة أوروبا
الجديدة التي سوف تتفرع جراحيًّا على امتداد محور شرقي غربي؛ وهو
مشهد، كما يرى أحد النقاد، يحتوي في كبسولةٍ واحدة «كل قذارة السلطوية».
٣٦ السياسيون ثملون بالشراب أو بأيقونيتهم، «تصبح على خير
أيها العبقري البشع تصبح على خير.» تلك هي العبارة المعبرة التي
يودع بها «تشرشل» الزعيم السوفييتي (١٨)، إنهما يتحدثان بعبارات
مسهبة طنانة، تربك كل محاولات المترجمين للفهم ويلتهمان الدول
الأوروبية بدم بارد.
المشاهد في الكرملين موضوعة جنبًا إلى جنب سلسلة من الأحداث
المشحونة التي تدور في أراضي بولندا الخراب. اكتساح السهول
البولندية كناية عن أوروبا المدمرة، وتحديدًا عن واحدة من تلك
المناطق المتقدمة، كما يعبر عن ذلك «ستيفانسون
Stephanson»، التي تمثل
المحيط الجيوبوليتيكي للحرب الباردة. المشهد مرقط على المسرح
بمقابر جماعية، وجثث معلقة، وشتات ضائع، وحطام مخلفات كارثة تجل عن
الوصف. عارض أزياء مجري سابق يساوم لاستعادة جثمان امرأة ميتة
يفترض أنها أخته المفقودة. مجندة روسية من المشاة تصاب بسكتة
دماغية وهي تحاول أن تصور أهوال الحرب التي لا نهاية لها، وأخرى
تجد أن الانضباط الحزبي يتآكل بسبب رغبتها الجنسية الجامحة في جندي
روسي. في مكان آخر، يقوم أحد الضباط بإخصاء نفسه يأسًا، كما تنخرط
مجموعة من الجنود الروس في طقوس سرية كاذبة، في محاولة لتخفيف قبضة
الجمود الحزبي الصارمة، وفي الوقت نفسه يجلس «ستالين» بعد عودته
إلى قلعته في موسكو يجتر، على نحو دونكيشوتي، مشاهد دمار
أوروبا.
… فوضى؟ أم موقع بناء؟ موقع البناء بالنسبة لقليل
التجربة هو جوهر الفوضى، أما بالنسبة لرئيس العمال فهو ليس
سوى المرحلة الأولى من المشروع. أنا رئيس العمال، ولينين
هو الذي وضع المشروع، وبالطبع إذا كنت تجلس في بركة صغيرة
بأقدام عارية ملطخة بالدم، سيكون من الصعب عليك أن تتذوق
جمال البناء. (٢٨)
الاستجابة ذات الحدَّين من «جدانوف Zdhanov»،
المثقف السوفييتي الذي هو طرف في هذا التأمل، تحل شفرة العبارة
المجازية لمسرحية باركر: لا أحد يغفل التاريخ، سواء أكان يفهم هدفه
أو لا يفهمه. (٢٨)
ويلاحظ «توني دين
Tony
Dunn» أن بنية مسرحية «قوة
الكلب» تجمع بين ذرى وأعماق بنية القوة، بتركيزها على «الصبغة
الوسطى»، على الرجال والنساء الذين عليهم أن يقوموا بالأعمال
القذرة في التاريخ.
٣٧ إلا أنه على الرغم من تركيزه المتواصل على الآثار
المزلزلة للحرب، فإن شبكة من الرغبة تتسرب إلى كتابة «باركر»
الدرامية، الأمر الذي يجذب أبطاله نحو تعبير ذاتي له إمكانية تمزيق
تلك السترة الضيقة المعهودة للأيديولوجيا. في مشهد يظل عالقًا
بالذاكرة، نجد «آركوف» — وهو ضابط روسي — يواجه «جلوريا» وهي موظفة
سابقة في جهاز الاستخبارات الألماني طردت من مخبئها بعد الانسحاب،
محاولًا القيام بمبادرة شفقة عفوية، فيحثُّها على التخلص من زيها
الرسمي لكي تتفادى إطلاق النار عليها بواسطة الجنود الروس، وعندما
يندفع نحوها نجدها تخلع ملابسها في استسلام، متصورةً أنه مصمِّم
على اغتصابها. هنا، وفي حالة يأسٍ تامٍّ، يصوِّب «آركوف» النار على
ذكره، وينتهي المشهد بتوسُّله الذليل لها: «ثقي الآن ثقي» (٢٥).
وفي لحظة تكثيف موازية بالقرب من نهاية المسرحية، نجد «سورج» —
ضابط روسي — يعبِّر عن شوقه لإيلوانا، اللاجئة المجرية، «عندما
وقعت عيناي عليك، وعلى الطين الذي يلطخ ربلة ساقك، وحذائك
المتهالك، شعرت … كم هي نقية … وعبر كل هذه الفوضى، فإنها تسير كما
كانت …» (٣٩) في عالم «باركر»، الرغبة هي نقيض الأيديولوجيا
الحمقاء، وهي القوة المتقلبة التي تجعل تحوُّل الذات والآخرين
ممكنًا. «باركر» يضع خيبة أمله الجذرية والعميقة في الأيديولوجيا
السياسية في إطار ركود الحرب الباردة، وعلى الرغم من ذلك فإن «قوة
الكلب» تعبر على نحو جيد عن القوة الافتدائية للرغبة الفردية،
وبالنسبة له، تشير المسرحية إلى «قدرة الأفراد على التجربة البديلة
والتاريخ الشخصي، وكلاهما واقع تحت السياسات الجمعية التي تغمره.»
٣٨ في هذا السياق، فإن التفاعلات المتبادلة المحمومة
والمتشظية التي يتم تقديمها وسط دوامة السهول البولندية، تقدم
منظورًا عكسيًّا عن ذلك التشوه الكوني الشديد البشاعة المنطلق في
الكرملين. تراكميًّا، فإن الأثر هو قلب الشعار الواقعي رأسًا على
عقب، فالبنسبة لباركر، الفوضى — وليس الاستقرار — هي بمثابة مقدمة
منطقية، وشرط مسبق لعالم ناشئ ثنائي القطبية يتشكل على ظهر
مظروف.
عيد العنصرة
كانت الشيوعية نوعًا من الإسبرانتو، تحاول خلق لغة محكمة
خالية من الصعوبات أو المشكلات الموجودة في اللغة بشكل عام.
٣٩
كانت استجابة «إدجار
Edgar» للحرب الباردة هي
كتابة ثلاثية مسرحية تتناول ظهور القومية في الجمهوريات السابقة
التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي، وتصور في مجملها — على نحو
درامي — ذلك التحول من «ما بعد الشيوعية إلى كولونيالية الكوكا».
٤٠ تقع أحداث كل مسرحية في دولة متخيلة، تقع بشكل مؤقت،
على الحدود بين الشرق والغرب، الأمر الذي يمكن «إدجار» من توسيع
قواعد التوثيق المسرحي؛ لكي يسبر أغوار العمليات المعقَّدة لتكون
الهُويَّة في مناطق هامشية سابقة، خارجة من أجواء الحرب الباردة.
تقع أحداث مسرحية «شكل الطاولة
The Shape of the
Table» (١٩٩٠م) في أحد القصور
الباروكية في دولة أوروبية شرقية غير محددة الاسم. السياسيون
والناشطون (في المسرحية) يتجادلون حول التغيرات الثورية التي تؤثر
في دولتهم، بينما تصبح الطاولة الدبلوماسية الطلسمية — التي تتلاحم
حولها الأحداث — هي الدافع للتشكلات الإقليمية التي يمكن أن ترشح
عن ذلك. مسرحية «ورطة السجين
The Prisoner’s
Dilemma» (٢٠٠١م)، تركز على
الجمهورية السوفييتية السابقة (المتخيَّلة)، «قفقازيا»، التي
تمزقها صراعات داخلية متنامية نتيجة للحرب الباردة. سلسلة
المفاوضات المتاهية التي تعرضها المسرحية، تلقي الضوء على إحباطات
النشاط الدبلوماسي والإنساني في دولة دمرتها حرب، كان الغرب
متورطًا فيها تمامًا. مسرحية «عيد العنصرة
Pentecost» (١٩٩٤م)،
٤١ التي احتفى بها أحد النقاد باعتبارها «أول مسرحية
تتناول رأسيًّا المشكلات التي خلقها تحلُّل الشيوعية»
٤٢ تسائل قابلية الهوية الوطنية المتماسكة للحياة، عندما
تكون الدولة عرضة لعاصفة عاتية من قوًى خارجية ممتدة إلى ما هو
أبعد من الحدود الإقليمية.
تدور أحداث المسرحية داخل كنيسة مهجورة في دولةٍ ما — لا اسم لها
— قابعة في إحدى زوايا جنوب أوروبا الشرقية؛ وهكذا — مثل «باركر» —
يموضع «إدجار» مسرحيته في منطقة هامشية تحملت عنف الصراع الأوروبي
الحديث كله. في مشهد متقدم، نرى «جابريلَّا»، أمينة المتحف الوطني،
تصعد سُلمًا وتبدأ في تفكيك أحد جدران الكنيسة القديمة حجرًا
حجرًا. العلامات الموجودة تحت الأحجار تكشف عن طرس تاريخي. حديثًا،
كان هذا المبنى مستخدمًا كمستودع لتخزين البطاطس، قبل ذلك كان
«متحفًا للإلحاد وثقافة التقدميين»، ونقطة ترانزيت للنازية، وكنيسة
كاثوليكية، وكنيسة أرثوذكسية، ومسجدًا تركيًّا في فترة الحكم
العثماني، وقبل ذلك كله كان إسطبلًا لخيل نابوليون.(٥) بكلمات
تحذيرية متشظية ﻟ «بوجوفيك Bojovic»، القس الأرثوذكسي
العنيف الذي يقدم أوراق اعتماده الوطنية النظيفة في المشاهد
الافتتاحية:
هناك شيء ما لا بد أن تفهمه بخصوص هذا البلد. سيظل هذا
البلد الحاجز الأخير دائمًا. لروسيا من أعلى وللمسلمين من
أسفل، وكما كان دائمًا منذ أيام البيزنطيين. أنت واقف على
شرفة جدار حصن أوروبا. انتبه! (٢٤)
تبدأ المسرحية كشريط بوليسي ثقافي بجابريلَّا وأوليفر — مؤرخ فني
إنجليزي — وهو يقوم بفحص لوحةٍ جصية تم الكشف عنها تحت ما يصفه
«إدجار» بجداريةٍ بطوليةٍ ثوريةٍ ضخمة في الكنيسة
(
XX). تحمل اللوحة أساليب
منظورية شديدة التعقيد، ربما سابقة على «جيوتو»، ويُشار على الفور
إلى أن هذا الاكتشاف ينطوي على متضمنات ذات علاقة بالهزات الأرضية
بما يستدعي جينالوجيا «الإنسان الأوروبي» (٧٥). في النصف الأول من
المسرحية تكون القطعة الجصية محور جدالٍ سياسي شديد السخونة
ومصالحَ طائفية متنافسة: قساوسة أرثوذكس وكاثوليك، وقوميون، ووزير
في الحكومة، ومؤرخ فني أمريكي عنيد، كلٌّ منهم يقدِّم منظورًا
مختلفًا عن القيمة الروحية والثقافية والاقتصادية للرسم، بالنسبة
لأمةٍ محاصرة خارجة من جليد الحرب الباردة. «قضايا النسبة تصبح هي
قضايا الاستحواذ والهوية»،
٤٣ كما يلاحظ أحد النقاد.
قبل نهاية الفصل الأول، تحتل الكنيسةَ فجأة مجموعةٌ من اللاجئين
المسلحين متعددي الألوان الذين يطلبون اللجوء إلى الغرب؛ رجال
أفغان وموزمبيقيون وروس إلى جانب نساء بوسنيات ورومانيات وكرد
وسيرلانكيات وفلسطينيات. هؤلاء المتمردون يأخذون الشخصيات الأخرى
رهائن، ويبدءُون في استخدام القطعة الجصية باعتبارها ورقة ضغط
ومساومة في محاولة للحصول على اللجوء. هذا الجَيَشان البنيوي
مستخدم بوصفه نقطة ارتكاز للمسرحية، محولًا صفتها الظاهرية بتركيز
انتباه الجمهور على قضايا السرد واللغة والتبادل الثقافي في
أوروبا.
في الفصل الثاني، وفي مشهد يستدعي المصدر التوراتي لعنوان
المسرحية، يتشارك اللاجئون جوانب من موروثهم الثقافي المتنوع،
بتبادل القصص الشعبي والأغاني والحكايات، ويتحدثون بلغاتٍ مختلفة
ويتواصلون بالإيماءات والإشارات المتعدِّدة المستلهَمة من الثقافة
الشعبية الغربية؛ ومع زيادة وتيرة الجو المشحون، يندفع في النهاية
رجالٌ مسلحون خارجون من الحائط، يحطمون القطعة الجصية و«يحرِّرون»
الكنيسة من الاحتلال. هذا التتابع الميلودرامي الأخير يفيد في
تسجيل نقاشٍ سياسي وأيقوني واضح في صورة حائط يتم تحطيمه. على
الرغم من العنف تصل المسرحية إلى نهايتها بسلاسة في الوقت الذي يتم
فيه حل عقدة القصة البوليسية الأصلية؛ حيث نفهم أن اللوحة الجصية
كان قد رسمَها عربي في المنفى، عندما ذهب إلى الغرب في أوائل القرن
الثالث عشر هربًا «من أخطار تفوق الخيال» (٩٨). هذا الحَدْس هو
الذي يؤدي ﺑ «ليو
Leo»، مؤرخ الفن الأمريكي،
إلى أن يصوغ الفرضية الرئيسية المتعلقة بالمسرحية: «نحن بالأساس
جماع كل الشعوب التي غزتنا، نحن — كرهًا لا طوعًا — ضيوف على بعضنا
البعض»، (١٠٤). مسرحية «عيد العنصرة»، بتركيزها على اللاجئين
والهجوم العِرقي وأخذ الرهائن، تصبح بمثابة رؤية نافذة في توقعها
لتداعيات سياسية أوسع لسقوط الاتحاد السوفييتي؛ فهي تقدِّم منطقةً
مهمَّشة من الكتلة الشرقية السابقة، تكابد لكي تؤكد هويةً قومية في
وجه ذلك العدد الكبير من «اللاعبين الجدد والقضايا الجديدة» التي
حدَّدها «براون
Brown» من قبلُ، والتي تربك
الحدود الإقليمية في حقبة العولمة. هكذا كان الأمر بصورةٍ ما.
النقاء الثقافي، في نظر «إدجار»، وهم تحافظ عليه عزلةٌ صارمة من
صنع أيديولوجية الحرب الباردة، التي انطلقَت منذ ١٩٨٩م على شكل
قوميةٍ مشاكسة وشيطنة للآخر تكره الأجانب. المشاركة في الأغاني
والطقوس والحكي في المسرحية، بالإضافة إلى ملاحظات «ليو» في
اللحظات الختامية تفتح الفرصة أمام أوروبا جديدة، تتسم بدلًا من
ذلك بالتعددية في إطارٍ تاريخي، من خلال جهاز الشريط السينمائي
البوليسي الفني؛ يؤكد «إدجار» على نحوٍ دقيق ما هو أكثر من الأثر
المتبقي للالتزام الاشتراكي، وكما قال أحد النقاد، فإن مسرحية «عيد
العنصرة»: «تحتفي بتنوُّع التعبير عن الذات في ثقافة ما بعد حداثية
تمضي إلى ما هو أبعد من استقطاب الحرب الباردة.»
٤٤
بعيدًا
يقلقني تمامًا أن نكون على وشك دخول الألفية الجديدة دون
أساليبَ جديدة للنظر إلى العالم بلا خوف، أن تكون السرديات
الكبرى الوحيدة التي ما زالت على المنصة هي الأصولية
المسيحية والقومية، وذلك الشكل المتطرف من التسويق الذي
يُلقي بظلاله على السلطوية.
اليسار، والوسط الليبرالي — حقيقة — مرتبك وليس لديه
نموذجٌ صالح، وأعتقد أن هذا مخيفٌ جدًّا في وضع تنشأ فيه
دولٌ جديدة لديها آمالٌ كبرى، وتنهض ضد الواقع نفسه.
٤٥
قلق «إدجار» بسبب النتائج السياسية للحرب الباردة، يجد صداه
تحديدًا في هموم «تشرشل» المسرحية في تلك الفترة التي حاولَت أن
تلهم هذا «الواقع الفاسد» تعبيره الدرامي. مسرحيتها «الغابة
المجنونة» (١٩٩٠م) تتناول أثر الثورة الرومانية على أسرتَين،
وتنتهي بمجموعةٍ كبيرة من الأصوات الفردية التي تمثِّل وجهاتِ نظرٍ
مختلفة عن خروج الدولة من الحكم الشيوعي. بعد عشر سنوات، تقدِّم
مسرحية «بعيدًا» (٢٠٠٠م) رؤيةً أكثر نبوئية لعالم أصابه الصراع
الحزبي باضطرابٍ شديد.
٤٦ عُرضت المسرحية للمرة الأولى بعد حرب كوسوفا مباشرة؛
أي بعد أشهرٍ قليلة من الغزو الروسي الثاني لشيشان، وفي الشهر نفسه
الذي تم فيه إسقاط «سلوبودان ميلوسيفيتش» في صربيا. بعد فترةٍ
قصيرة من انتقال العرض إلى «وست إند» في لندن، أطلقَت مقدونيا
حملةً ضد الثوار الألبان، في محاولة لتقسيم البلاد إلى مناطقَ
إثنية. موضوع المسرحية يطلق متضمنات اجتماعية سياسية أوسع، دون أن
يجعل مرجعيتها واضحةً أو قابلة للاختزال. نهج «تشرشل» المميز في
هذه المسرحية — بعيدًا — هو إزالة السببية من تجربة الجمهور مع
العنف، سواء أكان منقولًا أم مقترحًا، وهذا يتحقق عَبْر حوارٍ يأتي
في عبارات قصيرة مشذبة تطمر السياق الاجتماعي العنيف للمسرحية، في
نسيجٍ فاتن لليومي الذي يجمع بين العادي والسوريالي المدهش
بالقَدْر نفسه. هذا الأمر يمكن إدراكه بالقرب من نهاية المسرحية
عندما يعلن «تود
Todd» (إحدى الشخصيات) عن
أوراقه الثبوتية العسكرية بنبرةٍ دفاعية:
لقد قتلتُ ماشية وأطفالًا في إثيوبيا، وقتلتُ بالغاز
قواتٍ مختلطة؛ إسبانًا ومبرمجي كمبيوتر وكلابًا، لقد
مزَّقتُ طيورًا بيدي؛ لذا لا تتصوروا أنني لا يمكن
الاعتماد عليَّ. (٤٠)
على الرغم من هذه الملاحظات الغريبة الأقرب إلى الهمجية؛ فإن
الحوار كله أقل مما تقتضيه الحقيقة، يحاول أن يجعل الجمهور يتقبل
ما يحمله من أفكار بمعناها الظاهري. الإطار في مسرحية «بعيدًا»،
كذلك، ضعيف، والنص مزوَّد بتفاصيلَ قليلة، بل ربما بأقل ما يمكن من
التفاصيل: أحداث الفصلَين الأول والثالث تجري في «منزل هاربر» في
منطقة ريفية نائية (٩)، الفصل الثاني مكانه محيط «صانعي القبعات»
وهو بيئة لا تستلفت النظر (٢٢)، وكما يدل عنوان المسرحية، فإن
أحداثها تدور في أحد «فضاءات النوع الثالث» البعيدة بتعبير
«ستيفانسون Stephanson». منطقة هامشية،
مجهَّلة ومبتذَلة في الوقت نفسه، يزلزلها عنفٌ متزايد لا تفسير له،
يبدو أن جذوره موجودة في مكانٍ آخر مجهول وغامض.
في الفصل الأول، فتاة صغيرة، «جوان»، تعيش مع زوجة عمها «هاربر»،
تسألها عن بعض الاضطرابات الغريبة التي تحدث في الخارج وجعلتها تظل
مستيقظة. في كل مرة، تحاول فيها «هاربر» أن تفسِّر ﻟ «جوان» ما
تراه أو تسمعه، تعاجلها الفتاة بملاحظةٍ أخرى تبدِّد صدقية
تفسيراتها:
جوان
:
سمعت ضوضاء.
هاربر
:
بومة؟
جوان
:
صرخة.
هاربر
:
هي بومة إذَن. هنا تُوجَد كل أنواع الطيور. قد ترَين
طائرَ الصفَّار الذهبي. الناس يجيئون إلى هنا خصوصًا
لمشاهدة الطيور، وأحيانًا نصنع الشاي أو القهوة أو نبيع
زجاجات المياه؛ لأنه لا يوجد مقهًى والناس لا يتوقعون ذلك،
ويشعرون بالعطش. في الصباح سترين كم أن المكان
جميل.
جوان
:
كان أقرب إلى صوت إنسانٍ يصرخ.
هاربر
:
عندما تسمعين بومة تشعرين كأن شخصًا يصرخ.
جوان
:
كان شخصٌ يصرخ!
يتبيَّن أن «جوان» كانت قد شهدَت حافلة وصلَت ليلًا محملة
بمصابين غارقين في دمائهم، رجال ونساء وأطفال، وكانت قد رأت عمَّها
يضرب أولئك الأسرى بعصًا معدنية، وهو يسوقهم إلى كوخٍ انتظارًا
لترحيلهم في الصباح التالي. «هاربر» تحاول طمأنة «جوان»، فتقول إن
زوجها كان يضرب بعض الخونة — فقط — في المجموعة، بينما كان يساعد
الآخرين على الهرب من عدو، وتقول ﻟ «جوان» إن ما رأته ينبغي أن
يظلَّ سرًّا: «أنتِ الآن جزء من حركةٍ كبيرة تحاول أن تجعل الأمور
أفضل، ولا بد من أن تكوني فخورةً بذلك.» (٢٠)
الفصل الثاني الذي تدور أحداثه «بعد عدة سنوات» (٢٢) يضم سبعة
مشاهدَ قصيرة. الآن «جوان» تعمل صانعة قبَّعات وتجلس بجوار زميلها
«تود»؛ حيث يقومان بصنع قبعاتٍ غريبة الشكل، سوف يتم تحكيمها في
عرضٍ قادم. وهما يعملان، يأسيان للإدارة الفاسدة والأجر الهزيل
وظروف العمل التعسة. في المشهد الرابع تكون القبَّعات قد اتخذت
شكلًا غريبًا … «ضخمة وقبيحة» (٢٨) المشهد الخامس عبارة عن نقلةٍ
مسرحية واحدة تمزق العمل على نحوٍ مروِّع:
اليوم التالي. رَكْب من الأسرى في ثيابٍ ممزقة، مسلسلين
ومضروبين، يعتمر كلٌّ منهم قبَّعة، يسيرون في طريقهم إلى
الإعدام. القبعات ضخمة وأكثر غرابةً مما كانت في المشهد
السابق. (٣٠)
في المشهد التالي نجد «جوان» مبتهجة لأنها فازت في مسابقة
القبعات، أما حزنها الوحيد فلأن القبعات سريعة التلف ولن يتبقَّى
منها سوى القليل من أجل الأجيال القادمة؛ تقول صراحة: «أمرٌ محزن
أن تُحرق القبَّعات مع الأجساد» (٣١). هذا التوالي يصنع قوةً
درامية، وليس ذلك نتيجةً للصراع أو الجدال وإنما نتيجة استخلاصه
الواضح من ظرفٍ سياسي، ظرف تصفه «إلين آستون
Elaine
Aston» بأنه «تلك الثغرة التي
تتسع بين حياة الناس اليومية والسياسي»،
٤٧ وهي ثغرة تجد لها نتيجةً منطقية مرئية في صورة تلك
القبَّعات الطقسية التي تكلِّل رءوس أولئك الأسرى المحكومين وهم
يجُرُّون الخطى نحو الإعدام، وكذلك في قبول «جوان» الواضح للعنف
الذي كانت تتساءل عنه باعتبارها طفلةً في الفصل الأول.
هكذا ترسم بنية المسرحية خريطة مسار للعنف الحزبي المحلي المستتر
في الفصل الأول، وصولًا إلى القتل الجماعي برعاية الدولة، الذي
أصبح طبيعيًّا كمشهدٍ معتاد عندما نصل إلى منتصف المسرحية. من
ناحيةٍ ثانية، نجد العنف وقد تصاعدت وتيرتُه بشكلٍ ملحوظ في الفصل
الثاني الذي تقع أحداثه «بعد عدَّة سنوات» (٣٤). «جوان»، المتزوجة
من «تود» الآن، تعود إلى زوجة عمها بحثًا عن ملجأ مؤقَّت من حرب لا
نهاية لها. الجو مشحون لأن «هاربر» متوترة الأعصاب؛ حيث إن وجود
«جوان» عندها يعرِّض حياتها للخطر. المعركة في الخارج شاملة
ومحتدمة وكل شيء مشارك فيها؛ الزنابير عادت على خيول، الفراشات
تتخذ وضع الهجوم، البط البري ينحاز للكوريين، أطباء الأسنان لم
يعودوا محل ثقة، القطط التي «انحازت للفرنسيين» تقتُل الأطفال
الرضع (٣٥)؛ ثم تنتهي المسرحية فجأة بحديث من «جوان» تصف فيه ما
شاهدَته وهي في طريق عودتها من الحرب يتضمن:
الفئران تدمى من أفواهها وآذانها وذلك أمرٌ طيب، كذلك
كانت الفتيات على جانبَي الطريق. كان الأمر مرهقًا فكل شيء
كان قد تم تجنيده. كانت هناك أكوام من الجثث وعندما تتوقف
لتنظر تجد من قُتل بالقهوة ومن قُتل بالدبابيس وبالهيروين
والبترول ورشاش الشعر والنشاء ونبات قفاز الثعلب. كانت
رائحة الدخان تملأ الجو؛ حيث كنا نحرق العشب غير الضروري.
البوليفيون يعملون بحذَر وكان ذلك يتم سرًّا لكيلا ينشروا
الفزع. كنا نعاني من الضوضاء، وكان هناك ألوفٌ ماتوا بسبب
الضوء في مدغشقر. من سوف يعبِّئ الظلام والصمت للمعركة؟
(٤٣-٤٤)
حديث يمثِّل الكلمة الأخيرة في الخلل الذي خلَّفَته الحرب
الباردة. العنف الذي لا يهدأ، العنف واسع النطاق الذي استولى على
الكون الفيزيقي والصراعات الاعتباطية التي تُذكيها الولاءات التي
تتشكل ويعاد تشكيلها. الحاجة إلى التجنيد والانحيازات العشوائية
كانت تولِّد عالمًا من الاستقطابات المتعددة، كلٌّ منها حادب على
إلغاء الآخر. الإطار المنزلي المنزعج في الفصلَين الأول والثالث لا
يقدِّم أي سلوى مادية أو عاطفية لأيٍّ من الشخصيات، بل لعله عوضًا
عن ذلك يصبح معادلًا للقلق. حتى الزائرون من الأقارب يصبحون خطرًا
محتملًا على الأمن والسلامة. نعرف أن جهاز التليفزيون أصبح خزانة
لعرض «المحاكمات»، وكانتين العاملين مكانًا للمراقبة والتجسس (٢٦).
بنية الفصول الثلاثة في مسرحية «بعيدًا»، ترسم تصعيدًا قاسيًا من
المحلي والمنزلي إلى الكوني والعام. بالتخلي عن الأصول والتاريخ
والسببية تحول المسرحية ذلك التناقض التام للاستقرار الواقعي
السائد إلى دراما. «تشرشل» تركز البؤرة على العنف الذي ينتشر مثل
الفيروس من مقاطعةٍ ريفيةٍ نائية في الفصل الأول؛ لكي يلتهم العالم
بأَسْره بالوصول إلى الفصل الثالث. زمن المسرحية القصير نسبيًّا
كان سببًا في عمق تأثيرها في الجمهور (استغرق العرض ربع الساعة
عندما قُدمَت في رويال كورت.) النهاية المفاجئة التي لا تقدم حلًّا
تقليديًّا متناغمة ومتسقة تمامًا مع تجربة مسرحية يميزها توجس عميق
وتشاؤم شديد. «بعيدًا»، تعاير — باقتصاد درامي مبهر — طائفة من
مظاهر القلق المعاصر حيال الانبعاث المفاجئ للصراعات الكونية
المهلكة، وكذلك حيال النتائج والآثار الفاجعة للحرب الباردة،
بالإضافة إلى القلق بشأن قدرة أولئك الذين لم يتأثروا مباشرة على
أن يظلوا بمنأًى من تلك النتائج والآثار.
وختامًا
فإن الاستدعاء الدرامي ﻟ «فضاءات من نوعٍ ثالث» في هذه
المسرحيات، يركز على الهوية الشخصية والجمعية في حالة تحوُّل؛ حيث
يكافح الأفراد سعيًا نحو نماذج جديدة لفهم الذات والفهم المتبادل.
كلاهما، «باركر» و«إدجار» يقومان بصياغة وعي دءُوب نحو «الآخر»،
يربك الاستجابات السحرية لأوروبا أخرى تقسمها أيديولوجيا الحرب
الباردة. في الوقت نفسه، تقدم «تشرشل» عالمًا مسرحيًّا كابوسيًّا
يتخلله عنف غير منطقي بوصفه مبدأً من مبادئ هذا العالم. كلها
مجتمعة، تتحدى هذه المسرحيات منطق المفاهيم الواقعية لثنائية الحرب
الباردة القطبية بخصوص «استقرار الهيمنة» و«توازن القوى».
المسرحيات تنسف محددات الواقعية الدرامية: الخصوصية المحلية
الوثائقية تطرح جانبًا لصالح مشاهد مجردة عريضة، تعمل باعتبارها
استعارات عن حقائق الحرب الباردة السياسية وهي أكثر تعقيدًا
ومراوغة. التأكيد كله على شكوكية سياسية لاذعة، والنتيجة سلسلة من
الاستثارات المسرحية المقنعة التي تحاول استكشاف تأثير الحرب
الباردة على مستوى التجربة الفردية، وإعادة تأطير جوانب تاريخها
وتراثها الراسخ.