هذا الفصل من الكتاب يسائل ذلك الغياب البادي للخوف النووي من
الاتجاه الأدبي السائد، وبعد رسم الطريق الذي ترسخت عبره المخاوف
النووية للحرب الباردة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، ينتقل
الاهتمام إلى أدب ما بعد الحداثة الذي ظهر بعد هذه الفترة، وعلى الرغم
من التركيز على تلك النصوص النادرة التي ينصبُّ اهتمامها على القلق
النووي، وعلى تحديد بعض المجازات الرئيسية في مثل تلك النصوص، يرى أنه
لا بد من قراءة القسم الأكبر من أدب ما بعد الحداثة ومناقشته، شكلًا
ومضمونًا، في ضوء الإطار النووي. على سبيل المثال، مشاعر البارانويا
السائدة في الأدب الروائي ما بعد الحداثي، إلى جانب الإرجاء المتكرر
للنهاية، والتركيز على العلاقات المشحونة بين اللغة والواقع، كل ذلك
يتشابه في أوجه مهمة مع التأثير النفسي للقلق النووي.
بروز المخاوف النووية للحرب الباردة
ليس من الصعب معرفة سبب قلق «فوكنر» وخشيته أن تسيطر المسألة
النووية على الأدب. عندما قام في منتصف القرن لإلقاء كلمته، كان
يخاطب عالمًا يتزايد إدراكه للخطر النووي. حدود الصراع والتباعد
التي ستميز السنوات التالية كان يتم رسمها، كما كان من الواضح أن
الأسلحة الذرية هي التي تقوم بإعداد قالب العلاقات الدولية بين
القوى الكبرى الناشئة. في السنوات الخمس التالية للحرب العالمية
الثانية، تشققت أوروبا بطول خطوط الصدع التي أعطاها إعلان «ونستون
تشرشل» (١٩٤٦م) صورتها الباقية، عندما أعلن أن «ستارًا حديديًّا قد
أسدل عبر القارة».
٤ برلين التي كانت مدينة مقسمة في قلب قارة مقسمة، كانت
قد عرفت الحصار بالفعل، والجسر الجوي الذي كان الأول في سلسلة
أزمات في تاريخها مع الحرب الباردة. حلف «الناتو» تشكل في ١٩٤٩م،
وبعد ست سنوات سوف يتشكل خصمه حلف «وارسو». كان من الواضح كذلك أن
عداوات الحرب الباردة، رغم تركزها في أوروبا، سوف تترك أثرها على
الصراعات حول الكرة الأرضية: كانت الحرب الكورية قد بدأت قبل أشهر
قليلة، وكان «ماو تسي تونج» يقود الآن قوات شيوعية في جمهورية
الصين الشعبية التي كان قد تم إعلانها.
كانت واضحة كذلك أهمية التكنولوجيات النووية بالنسبة للمرحلة
الجديدة، كما كان الأمريكيون على وعي بقوة هذه الأسلحة. في ١٩٤٥م،
لم تضع القنبلة نهاية سريعة للعداء مع اليابان، ولكن التصوير
الوثائقي الذي قام به «جون هيرسي
John Hersey»
لدمار هيروشيما غطى صفحات عدد كامل من مجلة «نيويوركر» في ٣١ أغسطس
١٩٤٦م، وسرعان ما وجدت مادته سبيلها إلى صحف وإذاعات وكتب عدة.
٥
عندما ألقى «فوكنر» كلمته، كان قد مر عام تقريبًا على نجاح
الاتحاد السوفييتي في تجربته الأولى، كما كان ذلك أيضًا قبل شهر من
أمر «ترومان» بصنع القنبلة النووية الأقوى. في العقد التالي سوف
تظهر صور الاختبارات النووية على غلاف مجلة «تيم»، كما سيتصاعد
القلق بشأن الآثار البيئية الناجمة عن التفجيرات النووية، وسوف
يتعلم تلاميذ المدارس في تمارين الدفاع المدني كيفية التصرف
والوقاية لتفادي الأخطار، كما سيتصاعد السباق التكنولوجي مع
الاتحاد السوفييتي ويستغله «جون كينيدي» في انتخابات ١٩٦٠م الرئاسية.
٦ كذلك ستشهد الخمسينيات ظهور جماعات الضغط المعارضة
للنشاط النووي، وإن كان تركيزها سيكون في أوروبا أكثر منه في
أمريكا. (تجدر الإشارة إلى أن الجالس إلى جوار «فوكنر» في حفل تسلم
جائزة نوبل، كان «برتراند رسل».)
بنهاية الخمسينيات، كان الخطر النووي قد تأكد باعتباره ملمحًا
أساسيًّا لحياة الحرب الباردة، وفي أوائل الستينيات ظهرت
استراتيجية الدمار الشامل المتبادل: الإبادة الشاملة التي كانت
مرجأة باعتبارها رادعًا عن المواجهة المباشرة بين الولايات المتحدة
والاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم من أن القضايا النووية كانت قد
أصبحت أقل أهمية في الفترة ما بين أزمة الصواريخ الكوبية وأوائل
الثمانينيات (ربما لأن المزيد من التجارب كان يتم تحت الأرض، وربما
لأن قضايا مثل الحقوق المدنية وفيتنام كانت تشغل أهمية أكبر)، نجد
الصراع النووي الكوني يتأكد في الخيال العام بأوائل التسعينيات،
باعتباره نتيجة محتملة للحرب الباردة، وفوق ذلك أن الصورة العامة
عن هذه الحرب هي أنها ستكون طوفانًا أو جائحة كبرى تدمر الحضارة،
وربما تُنهي الحياة الإنسانية على كوكب الأرض.
٧
أين، إذَن، كان أدب ذلك العصر النووي؟ المؤكد أن هناك قدرًا
كبيرًا من النصوص الأدبية التي تظهر فيها القنبلة بوضوح. في ١٩٩٠م
كتب «بول بريانز
Paul
Brians» يقول إن هناك «ما يزيد
على ألف عمل تصور الحرب النووية ونتائجها» مكتوبة بالإنجليزية،
٨ وعلى الرغم من ذلك تبدو القضايا النووية مقصورة على
جيتوهات أدب الخيال العلمي، وروايات الحرب الباردة المثيرة: كما
عبَّر عن ذلك «مارتن إيمس»، عندما أشار إلى ندرة التغطية التي يقوم
بها التيار الأدبي الرئيسي للقضايا النووية قائلًا: «هناك رواية
واحدة تقريبًا من بين كل أربع من روايات الخيال العلمي، تتطرق إلى
ما هو أبعد من الهولوكوست.»
٩ وعندما يتناول هذا الأدب القضايا النووية على نحو
مباشر، نجد توجهًا مفهومًا — ربما لأسباب تتعلق بالاهتمام بالحكي
والإثارة — نحو جعل الصراع الكوني ونتائجه أو تجنبه بصعوبة، البؤرة
الرئيسية. التأكيد دائمًا نجده على النهاية: على استبعاد الخطر
الداهم كما في الروايات النووية المثيرة، أو على تصوير الصراع
النووي الذي يزيل التوتر النفسي الناجم عن انتظار القنبلة رغم ما
يسببه من رعب؛ فإن المقصود بالإشارة الرمزية إلى «تجربة الحرب
الباردة» ليس الصراع النووي وإنما الترقب والانتظار المثير: خطر
الصراع لا يتحقق. النصوص التي حددها «بريانز» نابعة من مثل هذا
الترقب، وهذا الترقب نفسه — بالمعنى السردي — يتم حله وإزالته من
خلال رؤيا النهاية. «جان بودريار
Jean
Baudrillard» يكتب عن الصورة
الزائفة لما بعد الحداثة أنها تتضمن «علامات بديلة عن الحقيقي
ذاته»، وأننا ينبغي أن نرى ذلك بوصفه عملية مستمرة في الأدب
الروائي للكارثة النووية.
١٠ تمثيلات هذه الأعمال ﻟ «الحقيقي» تحل محل الصراع نفسه،
ذلك الصراع الذي يتم إرجاؤه ويغيب بشكل دائم خلال الحرب الباردة.
«بودريار» يبدو أقل إقناعًا عندما يكتب عن الحرب النووية في مقاله
«استراتيجيات مهلكة». جدله بأن مدى واتساع القوة المدمرة يلغي «أي
مكان للحرب»، كما يلغي «إمكانية المشهد» (لأنه لن تكون هناك أي
وجهة نظر لرؤية حرب نووية)، وهي أسلوب حقيقي لقول شيء غير حقيقي
وخطر: إن التدمير المتبادل المؤكد ميكانزم منطقي للحفاظ على السلام.
١١ الذي يسيء الأدب الروائي للكارثة تمثيله، هو التجربة
اليومية للعيش مع القنبلة، وذلك بالتحديد لأنه يركز على تلك
اللحظات عندما تتوقف تلك التجربة عن أن تكون يومية.
التصوير المباشر لنوعية الحياة المتوقعة مع خطر القنبلة، والآثار
النفسية والثقافية للعيش مع الخطر على امتداد فترة زمنيةٍ ما، هي
أكثر ندرة ولا يلتفت إليها النقد الأدبي لتلك الفترة إلا بشكل
عارض.
«النقد النووي» المزعوم من منتصف الثمانينيات إلى أوائل
التسعينيات قدم أسلوب تناول مقبولًا ومثمرًا، لتصوير القضايا
النووية في اللغة والأدب، ولكنه بالمثل شغل نفسه كثيرًا بأعمال عن
مقدمات الحرب وعن الحرب نفسها أو عن بيئة ما بعد الهولوكوست، وذلك
— إلى حدٍّ بعيد — بسبب البيئة السياسية الضاغطة التي تم إنتاجه فيها.
١٢
أدب القلق النووي
أين — بدلًا من ذلك — ينبغي أن نبحث عن تصوير حالات الإثارة في
الحرب الباردة، وعن تأثير العيش مع الخطر الدائم للصراع النووي؟
بينما قد يكون للأدب الروائي للحرب النووية الذي حدده «بريانز»،
جذوره في عمليات التشويق والإثارة المستمرة (إلى جانب الإثارة
الحسية)؛ فإن الصور الحقيقية تظهر عندما نبحث عن تصوير القلق
النووي في مجموعة من النصوص ما بعد الحداثية، وليس في تصوير
الكارثة نفسها، وهو ما قد يكون الموضوع الرئيسي للصراع في رواية،
كما في عمل «تيم أوبراين Tim O’Brien» «العصر النووي
The Nuclear
Age» (١٩٨٥م)، كما نجده ممثلًا
مرارًا وتكرارًا من خلال شخصيات ومشاهد وقضايا ثانوية كما في «كتاب
دانييل The Book of
Daniel» (١٩٧١م) عند «إي إل
دوكترو E. L.
Doctrow»
وEnd
Zone عند «دون ديليلُّو
Don
DeLillo» (١٩٧٢م) و«الحريق
العام The Public
Burning» (١٩٧٧م) عند «روبرت
كووفر Robert
Coover» و«قوس قزح الجاذبية
Gravity
Rainbow» (١٩٧٣م) عند «توماس
بينكون Thomas
Pynchon» أو «احتفال
Ceremony» (١٩٧٧م) عند «ليزلي
مارمون سيلكو Leslie
Marmon Silko». ويظهر أحيانًا
بنبرة أقل حدة؛ حيث يتم التعبير عن القلق الذي يتماس مع المخاوف
النووية، وإن كانت أصوله غير مسماة، كما في «صخب أبيض
White
Noise» (١٩٨٤م) عند «دون
ديليلُّو» و«بلد الأشياء الأخيرة The Country of Last
Things» (١٩٨٧م) عند «بول أوستر
Paul
Auster»، وهذه القائمة ليست
شاملة بالطبع، ولكنها تشير إلى الموضع الذي يمكن أن يبدأ منه النقد
الأدبي المهتم باستثارة تمثيلات القلق النووي.
تمثيل القلق النووي الصامت أو المرجأ في هذه النصوص عبارة عن
تصوير أكثر دقة لذهنية الحرب الباردة، عن تلك المعالجة التي تعتمد
الإثارة الحسية (وهل يمكن أن تكون سوى ذلك؟) لنهاية العالم في
الأدب الروائي، الذي يتناول الكارثة النووية، لكنه على الرغم من
لحظات الخوف الملموس مثل أزمة الصواريخ الكوبية في ١٩٦٢م، كان
الخطر النووي في مراحل أخرى يبدو احتمالًا بعيدًا، أو يبدو وكأنه
يتراجع إلى الخلفية لكي تغرقه تنافرات الحياة اليومية. كان بعض
علماء النفس يرون أن هناك سببًا نفسيًّا لعدم الاعتراف المباشر
بالمخاوف النووية. في «أسلحة غير مبررة
Indefensible
Weapons» (كتاب تأملات مؤثر
بالاشتراك مع «ريتشارد فولك
Richard Falk»)
يستنتج «روبرت جاي ليفتون
Robert Jay Lifton» من عمله
مع الناجين المضارين من هيروشيما أن الطريقة التي يفهم بها الناس،
ويتعلَّمون أن يعيشوا مع خطر القنبلة تنطوي على «خدر نفسي» أو كبح
للرعب الذي يحفظ وهم الحالة السوية.
١٣ الأسلحة النووية، كما يرى «ليفتون»، نادرًا ما تكون في
مقدمة عقول الناس، وإنما تكمن في الخلفية؛ حيث «يظل إطار حياتنا
يتدخل على نحو مستمر في بيئتنا الذهنية.»
١٤ وكما هي الحال بالنسبة لبيئتنا الذهنية، يكون من
المعقول أن نفترض أن الخوف النووي يتسرب أيضًا إلى بيئتنا الثقافية
والأدبية، من خلال سلسلة غذاء البنى الافتراضية التي تستخدمها
عقولنا في تعاملها مع العالم. إمكانية الحرب النووية ينبغي ألَّا
تسيطر علينا، ولكنها مستقبل محتمل لا بد من استيعابه، مجرد استيعاب
أو فهم مثل ذلك الذي يحدث في النصوص التي أشرنا إليها، باعتبارها
روايات قلق نووي.
يختار «ليفتون» عدم الحصانة — أو التعرض الدائم للخطر — باعتباره
«الحقيقة الوجودية المركزية للعصر النووي»،
١٥ ولتصوير أشكال معينة من عدم الحصانة هذه، نجد النصوص
مرتبطةً على نحو خاص بالقلق الذي يتهدَّد الفضاءات المنزلية ووحدة
الأسرة المرتبطة بها؛ أما الخطر فيتمثل غالبًا في الخوف من الموت
القادم من الفضاء، من أعلى، كما أن شعور الفرد بتعرُّضه الدائم
للخطر غالبًا ما يجد التعبير عنه في صورة فضاءات مرغوبة أشبه
بالرحم، إلى جانب خيبة الأمل والشك في الفاعلية السياسية.
جدير بالذكر كذلك، معنى الخطر الذي يمثله شيء يأتي بعد إنذار
ضئيل، أو دون إنذار (كما في نموذج إنذار الدقائق الأربع الذي يمكن
أن يكون نذيرًا بالحرب النووية في بريطانيا) هناك دائمًا حقيقة
بديلة تلوح وراء الاعتياد الظاهر في الحياة، هذه الحقيقة تهدد
بالاختراق، وهكذا تصبح الحياة عبثية، ومع هذا الإحساس بالعبث يطلق
العنان للأشكال ما بعد الحداثية.
عدم الحصانة هذا، أو التعرض الدائم للخطر، يعبر عنه «وليم»،
الراوي في رواية «أوبراين»
The Nuclear Age، بوضوح شديد؛
فهو أحد الذين عَمَّدهم «مايكل ماندلبوم
Michael
Mandelbaum»، بوصفهم «الجيل
المسكون بالقلق النووي»، المولود بين ١٩٤٠م و١٩٥٠م، الجيل الذي
كانت صور اختبارات القنبلة النووية الهيدروجينية مألوفة بالنسبة له
في الصحف والأفلام، الجيل الذي شارك في تمارين التدريب على الوقاية
من الغارات ونضج إدراكه للموت، وتصادف مع المرحلة التي كان فيها
القلق النووي في متناول الوعي العام.
١٦ المقصود أن يكون الخوف غير عادي، ولكنه في الوقت نفسه
يستحضر المواءمات والإنكارات التي ينبغي على كل فردٍ القيام بها؛
لكيلا يصيبه الشلل من جراء الرعب. الرواية التي صدرت في ١٩٨٥م
تتوقع أن تقوم الحرب الباردة بعد عقدٍ من الزمان، عندما يعاني
«وليم» ذات ليلة من تكرار المخاوف النووية المرهقة، وبينما
يتملَّكه الرعب في منتصف الليل يترك فراش الزوجية، ويقوم لكي يحفر
ملجأً في الحديقة لكي يحميه من القنبلة، وبينما يروي قصة حياته وهو
يقوم بالحفر، يتذكَّر كيف كان يشعر بالراحة وهو طفل، عندما كان
ينام في ملجأ منزلي «دافئ ومسور وآمن … سوف أعترف حتى بأن دوافعي
قد تكون مستقرَّةً في سعي سلفي للمأوى … الخُلْد في جحره. السلحفاة
في صدفتها.»
١٧
وعلى الرغم من أن «وليم» لا يذكر ذلك؛ فإن السلحفاة في صدفتها
يمكن أن تستدعي أشهر فيلم أمريكي عن الدفاع المدني أيام الحرب
الباردة، الذي تنضم فيه السلحفاة «بيرت» إلى تلاميذ المدارس في
تدريبات الوقاية من الانفجار النووي؛ يتكرر كذلك أسلوب الانبطاح
على الأرض ابتغاءً للسلامة، في حال ظهور القلق النووي في الأدب
الروائي. في رواية «العالم السفلي
Underworld»
(١٩٩٧م) ﻟ «دون ديليلُّو» نجد «ماتي» عند التصوير الاستعادي للحرب
الباردة، يشعر «بالأمان والسلامة وهو على الأرض» أثناء التدريب على
تلافي أخطار الغارات وهو طالب بالمدرسة،
١٨ وبالمثل نجد «دانييل» في رواية «دوكترو»: «كتاب
دانييل» يختار «بن كوهن» صديق العائلة، لكي يتعاطف معه لأنه يعمل
في خطوط مترو الأنفاق:
إنه عمل جيد بالفعل. أنت تحت الأرض في حصن منيع له نوافذ
عليها قضبان، وباب ثقيل مصنوع من الصلب يغلق من الداخل …
لو سقطت قنبلة، ربما لن تشعر بها، لو هبت عاصفة لن يصيبك البلل.
١٩
هذه الحماية من أخطار القنبلة ومن العاصفة، تتناقض بشدة مع حالة
منزل أسرة «دانييل»، الذي نراه في حال حرب باردة معرضًا للأخطار
بشكل واضح:
كان ذلك على النحو الذي تقتلع فيه الرياح التل، وتحمله
لكي تلقي به على فناء المدرسة عند منزله تمامًا. وأثناء
العاصفة تجعل الجدار الداخلي بالقرب من الباب الأمامي يغرق
في الماء تمامًا. كان ذلك هو ما يزعج «دانييل». لم تكن
السماء توفر أية حماية، كانت مفتوحة تمامًا.
٢٠
بالمثل، نجد «سلوثروب» في رواية «بينكون» «قوس قزح الجاذبية»
يخشى الموت، ويتوقع أن يأتي من مكان خفي. رغم أن هذا الخوف هو من
قنابل V–2 التي يبدو أنها تطارده في
أرجاء لندن في أثناء الحرب العالمية الثانية؛ فإن الرواية توضح أن
هذا الانشغال بالصواريخ له بعدٌ نووي في مشهدها الختامي، عندما
يوضع صاروخ في اللحظة نفسها فوق السينما التي من المفترض أن القارئ
يجلس فيها.
الركض فزعًا بحثًا عن غطاء واقٍ، يصحبه غالبًا في هذه النصوص
انتقال من النشاطية السياسية وعدم الثقة — إن لم يكن الشك — في
جدوى الفعل الفردي. قيام «وليم» بحفر ملجأ في رواية
Nuclear
Age يتزامن رفضه للنشاطية
الراديكالية لمعاصريه؛ إذ نجده يقول وهو يشرع في حفر الملجأ «كفى حملات»؛
٢١ وفي رواية
The
Book of Daniel، تشكك «دانييل»
في الفعل السياسي يتناقض مع تورط أخته في الحركات الاحتجاجية في
الستينيات. العجز الجنسي الذي يعاني منه «وليم» و«دانييل»، الذي
ضاعفه عدم قدرتهما على مقاومة القوى الاجتماعية والسياسية الهائلة
عليهما، تصحبه علاقاتهما الغاضبة والعدوانية والسيئة بأسرهما.
ولأنهما لا حول ولا قوة لهما في الحياة العامة، يحاولان إخضاع
وإذلال زوجتَيهما وأبنائهما: وليم يقيِّد زوجته وابنته ويكاد
يقتلهما، «دانييل» يتعامل مع أسرته بسادية مفرطة عندما يهدد زوجته
بقداحة السجائر في السيارة، ويقذف ابنه في الهواء لدرجة تصيب الولد
بالرعب.
في هذه الأعمال، هناك علاقة ملتبسة بالفعل السياسي، وهو ما ترى
«ليندا هتشيون
Linda
Hutcheon» أنه أحد ملامح ما
بعد الحداثة؛ وكما تشير فإن «النقد الموجود في فن ما بعد الحداثة
مقيد بتواطئه مع القوة والهيمنة، وهو نقد يعترف بأنه لا يستطيع
الفكاك من أسر ما يريد القيام بتحليله.»
٢٢ نصوص القلق النووي تبرز وعيًا حادًّا بالأسلوب الذي
تصبح به العلاقات والفضاءات الشخصية والعائلية أكثر عرضة للتسييس،
بواسطة قوًى خارجية، لكنها تبرز في الوقت نفسه خواص ذاتية فردية
تشكِّلها خطابات وقوًى من خارجها، بدرجة يصبح معها الفعل الفردي
المؤثر محدودًا جدًّا، وبإبرازها مساحة السياسة؛ فإنها تكشف وتنقد
أفعال القوة، وتجعل في الوقت نفسه على النقيض من ذلك، من الصعب
مقاومة القوة إن لم يكن استحالة ذلك؛ لذلك، بالطبع، علاقة كبيرة
بمجال سياسات الحرب الباردة الواسع والتأثير الكبير للرأسمالية،
كما هو بخطر الدمار النووي. الأدب الروائي عند «بينكون» الذي
يتَّسم بجنون الارتياب (أدب البارانويا)، وخاصة بنيته الغامضة حول
«أولئك» الذين يتلاعبون ﺑ «سلوثروب» في «قوس قزح الجاذبية»، ربما
يكون خير معبر عن هذا الشعور العام بالتعقد والمجال الواسع لأفعال
القوة، ويمكن أن نجده بالقدر نفسه عند «ديليلُّو» (في خيوط اللغة
والثقافة والأعراف التي تنسج أحاديث «جلادني» في رواية
White
Noise مثلًا) وعند «كوفر
Coover» (حيث نجد
Uncle
Sam في رواية
Public
Burning عبارة عن تشويه قبيح
لبطل كارتون يحارب القوى الشيوعية ﻟ «الفانتوم» ويتحدث مباشرة إلى
ريتشارد نيكسون)، وحتى في عمل رائد من روايات ما بعد الحداثة مثل
رواية جوزيف هيللر
Catch
22: Josph Heller (١٩٦١م)؛
(حيث يكتشف يوساريان أنه ليس هناك مركز لهياكل القوة المهلكة التي
يصبح على دراية بها).
حلول القوة هذا في السياق النووي، يتم عبر القلق من تلوث
الفضاءات المنزلية والجسدية. بعد بزوغ العصر النووي سرعان ما أصبح
تلوث البيئة نتيجة للإشعاع عنصرًا رئيسيًّا في ميثولوجيا الأسلحة
الذرية؛ فبعد عام واحد من سقوط القنبلة هيروشيما، استطاع «هيرسي»
أن يستخدم — بهدف التأثير الدرامي — فجوة المعرفة بين سكان المدينة
في ١٩٤٥م وقرائه الذين سرعان ما أصبحوا على علم بآثار الإشعاع في
الشهور الاثني عشر التالية. عندما كان الناس يشاهدون في «هيروشيما»
وهم يتقيئُون على جانب أحد الطرق خارج المدينة، وعندما كانت صور
الأشعَّة تعرض في مستشفى الصليب الأحمر في المدينة، لم يكن «هيرسي»
في حاجة إلى أن يقدم أي تعليق لقرائه لكي يخمنوا سبب هذه الظاهرة.
٢٣
أدب الدفاع المدني كذلك أبرز فكرة التلوث هذه. أحد الأفلام
القصيرة الدالَّة «المنزل في الوسط» (١٩٥٤م) ينسج حكايته عن
الاستعداد النووي حول مشهد سينمائي لثلاثة منازل تتعرض لاختبارات نووية.
٢٤ منزلان مهملان (الجدران كالحة والقمامة تحيط بهما)
ويتم تدميرهما بسرعة، أما الثالث الرمزي الموجود في المنتصف فنظيف
وأكثر قدرةً على تحمل النيران ومقاومة الأثر المدمر للقنبلة. هنا،
القيام بالواجبات المنزلية يتم باعتباره جزءًا من الطبيعة
الأمريكية، بينما القذارة ليست أمريكية. (في أوائل الخمسينيات كانت
لجنة رصد الأنشطة المُعادية لأمريكا مشغولةً باستئصال المشتبه
بأنهم شيوعيون ممن كانوا يوصفون بأنهم عدوى قذرة تصيب كيان الأمة.)
هذا النوع من الأفكار سرعان ما وجد طريقه إلى أدب القنبلة. «ظلٌّ
على المجمرة
Shadow on the
Hearth»، إحدى الروايات المهمة
التي تناولت أدب الكارثة في ١٩٥٠م، وهي من تأليف «جوديث ميريل
Judith
Merril» تحكي عن «جلاديس»،
السيدة التي تحاول الإبقاء على أسرتها متماسكة بعد هجوم نووي على
مدينة نيويورك. الرواية مليئة بتفاصيل عن الروتين المنزلي، وبخاصة
تأمين الأبواب والنوافذ وتنظيف المنزل الموجود بإحدى الضواحي، وعلى
الرغم من وصف أحد النقاد المعاصرين للرواية بأنها فجة وسطحية؛ فإنه
لم ينتبه إلى أسلوب السرد المعقد الذي يهمل الفضاء المنزلي البعيد
عن السياسة.
٢٥ على امتداد الرواية بالكامل، تحاول «جلاديس» تأمين
المنزل ضد الأخطار القادمة من الخارج: الإشعاع والسرقة وشخصيات في
السلطة يتهددونهم جنسيًّا، ولكن مرضًا إشعاعيًّا ينتقل إلى ابنتها
من حصان دمية كانت تلهو به. سردية «ميريل»، وهي تقليدية في جوانب
كثيرة، تشير مسبقًا إلى القلق النووي الذي لا يوجد حل له في بعض
النصوص ما بعد الحداثية: حالة الطوارئ النووية تنتهي في آخر
الكتاب، ولكن «جلاديس» تظل تتساءل: «هل يمكن أن يبقى أي شيء في
أمان مرة أخرى؟»
٢٦
المنزل مقدم في الثقافة الأمريكية باعتباره عالمًا سويًّا، تماسك
الأسرة ومنزل الضاحية الصغير يوفران الوهم بالحماية من الأخطار
الخارجية. قرار «وليم» في رواية «العصر النووي
The Nuclear
Age» بهجر منزل الأسرة له
مغزًى إذَن. عندما يشرع في حفر ملجأ للوقاية من القنبلة، يقارن
المنزل الذي تتصاعد منه رائحة الشمع ومواد التنظيف بحفرة الحديقة
ويعلق قائلًا «السلامة يمكن أن تكون قذرة جدًّا.»
٢٧ بعد ذلك يتخيَّل لقاءً بين زملاء الجامعة القدامى
الذين كانوا ثوريين ذات يوم، وقد توقفوا عن ترديد أناشيد الاحتجاج
«امنحوا السلام فرصة» لصالح صخب إعلاني عن منتجات ومواد تنظيف:
«السيد نظيف سوف ينظف لك منزلك كله بكل ما فيه.»
٢٨ هنا نجد النزعة الاستهلاكية متضمنة، منتجات التنظيف
تباع مع وعد بمنزل آمن. وهم السلامة والأمان يطمس الواقع السياسي
«القذر» الذي تمثله الصواريخ المنصوبة حول كوكب الأرض.
في مشهد من رواية «ديليلُّو» «العالم السفلي
Underworld» بعنوان «٨ أكتوبر
١٩٥٧م»، يتم تطوير هذا الارتباط بين النظافة المنزلية والبيت
باعتباره ملجأً آمنًا والحرب الباردة على نحو مثير.
٢٩ «إيريكا ديمنج» التي يركز عليها المشهد، وهي ربة بيت
في إحدى الضواحي، تقوم بواجباتها المنزلية (تنظيف البيت) بينما
يقوم زوجها بغسل السيارة وتلميعها في الخارج. ابنهما «إيريك» في
غرفة النوم. على الرغم من هذه الحياة الروتينية التي تبدو عادية
ومريحة، «إيريكا» تشعر بالانزعاج. وعلى نحو غريب. بداية هناك
ملاحظات بسيطة مرتبطة بالحرب الباردة تُلقي بظلالها على المنزل
وتسبب لها القلق. كريمة الدجاج التي تقوم بصنعها في المطبخ توصف
بأنها «بياض فلزي». ابنها مختبئ في غرفته بالدور العلوي يمارس
العادة السرية في عازل طبي يذكره بنظام التسليح الذي يفضله.
٣٠ على العشاء، تدرك «إيريكا» مصدر قلقها عندما ينتقل
الحديث إلى «سبوتنيك»، القمر الاصطناعي الذي كان الروس قد أطلقوه
حديثًا، والذي كان يدور في مداره فوقهم. كما هي الحال بالنسبة لخوف
«وليم» وتوقعه للخطر وشعوره الدائم بأنه عرضة له (في رواية
The Nuclear
Age)، وإحساس «دانييل» بأن
منزله معرض لأخطار العاصفة (في رواية
The Book of
Daniel)، نجد تجربة الحرب الباردة
مقدمة في شكل شعور مقيم بعدم الأمان بشكل دائم، وبخاصة من خلال
هشاشة البيئة المنزلية وقابليتها للاختراق. من المهم كذلك أن
«إيريكا» تحاول معادلة قلقها بالانغماس — بكل حرص — في الروتين
المنزلي، وأن ذلك كان «أفضل وسيلة لتحسين حالتها النفسية» كما يقال
لنا، كما تحاول أن «ترفع من معنوياتها بأن تقوم بعمل اجتماعي من
أجل الكنيسة.»
٣١ ومن المواقف الدالة أيضًا أنها تفشل في تنظيف المنزل؛
لأن مكنسة «إيريكا» المستقبلية تذكرها بالقمر الاصطناعي الذي يدور
فوقهم. الحقيقة أن الفضاءات الجسدية أيضًا يتم التنازل عنها مثل
الفضاءات المنزلية. «إيريكا» تقدر كيف أن قفازاتها تحمي يديها من
آثار الطعام والجراثيم، بينما تقوم بغسل الآنية، ولكن أحد قفازاتها
ليس موجودًا؛ إذ إن «إيريك» قد استلفه — كما تظن — لأسباب «تخشى أن
تسأل عنها.»
٣٢ وكما تمرض ابنة «جلاديس» بسبب الإشعاع الذي ينتقل
إليها من الحصان الدمية؛ فإن محاولات إيريكا للتخلص من الجراثيم لا
تهدئ من قلقها، كما أنها لا تستطيع أن تطرد عن ذهنها الفورة
الجنسية السرية التي ظهرت على ابنها.
ينبغي إذَن النظر إلى المنزل باعتباره المكان الذي تتجمع فيه
الآليات ذات الصلة بقلق الوقت. هناك إذَن خطاب قوي عن العدوى مرتبط
بالأثر الخبيث لمخاوف الحرب الباردة بالمنزل والأسرة والجسد نفسه،
والأخطار القادمة من الخارج.
بعبارة أخرى، خطر اختراق المظاهر اليومية هو الخوف من أن تفرض
حقيقةٌ بديلةٌ أخرى نفسَها، وبسرعة. القلق النووي يتم التعبير عنه
من منظور الوعي بأن ما نمارسه باعتباره أمرًا عاديًّا، قد ينقلب
رأسًا على عقب فجأة، لكي يحل محله شكل آخر من الحقيقة. «جوناثان
سكيل
Jonathan
Scheel» يعبِّر عن ذلك بوضوح
في كراسة بيئية عن الخطر النووي، كانت قد نشرت لأول مرة في مجلة
«نيويوركر»، مثل «هيروشيما» ﻟ «هيرسي»، وذلك قبل أن تصدر في كتاب
ذاع صيته فيما بعد: «نحن الآن في طريقنا إلى العمل، نسير عبر شوارع
المدينة، ولكننا بين لحظة وأخرى قد نجد أنفسنا واقفين في سهل خالٍ
تحت سماء مظلمة، نبحث عن بقايا أطفالنا المحترقين.»
٣٣ حتى سلفًا، قبل صنع القنبلة الأولى كان يتم تصور الخطر
النووي على هيئة هجوم مفاجئ غير مسبوق على الأوضاع المعتادة. يصف
«ريتشارد رودس
Richard
Rhodes» في كتابه المفصل
The Making of
the Atomic Bomb عالم
الفيزياء «إنريكو فيرمي
Enrico Fermi» وهو يطل من
نافذة مكتبه على الشوارع المزدحمة في مانهاتن في أواخر
الثلاثينيات، فيقول: «جعل كفَّيه على شكل كوب وكأنه يمسك بكرة،
وقال بكل بساطة: «قنبلة صغيرة بمثل هذا الحجم» ولم يكن يمزح، «وسوف
يختفي كل شيء».»
٣٤ هذا الوعي بأن القنبلة يمكن أن تجعل هذا العالم يتغير
جذريًّا وبسرعة، يحدِّده «ليفتون» بأنه باعتباره الجانب الرئيسي في
تجربة الحرب الباردة. يقول: «فوق كل شيء، سوف نحيا حياة ثنائية.»
٣٥
المجانبة النفسية لعالَمين ينتجان عن القلق النووي (واحد نحن فيه
والآخر تهدد به الحرب النووية)، يعني أن العوالم «التخيلية» تتصادم
فجأة مع العوالم «الحقيقية»، ووسط حقائق كثيرة متناقضة، يتناغم أدب
ما بعد الحداثة مع هذه التصادمات بشكل خاص. وكما يقول «بريان
مكهالي Brian
McHale» فإنه أدب يميزه
انشغاله بالهموم الوجودية، ومن هنا فهو يتناول مسائل مثل:
ماذا يحدث عندما تكون عوالم مختلفة في حال مواجهة، أو
عندما تنتهك الحدود بين العوالم؟ ما الشكل الوجودي لنصٍّ
ما وما الشكل الوجودي للعالم (أو للعوالم) التي يعكسها؟
٣٦
سوف تظهر أسئلة مشابهة كثيرة عند تمثيل الحياة الثنائية لتجربة
الحرب الباردة. مع افتراض القلق بشأن عالم بديل (العالم الذي يمكن
أن ينجم عن مواجهة نووية)؛ فإن نصوص القلق النووي تجعل الحقيقة
الأخرى (حقيقة الحياة اليومية) محل إنكار ولو لبعض الوقت. مجانبة
«مكهالي» لأسئلة العوالم الأخرى وأسئلة عن النصوص، أمر وثيق الصلة
بموضوعنا. بالنسبة له، كما هو بالنسبة لآخرين من نقاد ما بعد
الحداثة، العالم بالضرورة «بنية نصية»، يقرؤها كلٌّ منا عبر شبكة
دلالات ثقافية مرجعية. في اهتمامه بقوس المستقبلات البديلة، يتضمن
القلق النووي تخصيبًا متبادلًا مثيرًا للاهتمام للعلاقة بين النصوص
والعوالم المختلفة. وكما يتم التعليق عليه غالبًا، فإن المستقبل
النووي يوجد في الفن فقط، وإن حدث فربما لا يكون تمثيله أو حتى
الوعي به ممكنًا.
٣٧ إنه موجود إذَن في المستقبل الشرطي، وعلى الرغم من ذلك
فإن خطر حضوره كان يلوح أثناء الحرب الباردة. كان هو «إطار حياتنا»،
٣٨ كما يقول «ليفتون». بسبب رفضه الانقضاء؛ فإنه يحبط في
النهاية. ولإعادة إنتاج قلق العصر على نحو دقيق يحتاج الأدب بالمثل
أن يرفض هذا الحل، وبالطبع فإن النصوص ما بعد الحداثية تتفوق في
إحباط دوافعنا للحصول على نهايات.
نهاية رواية «أوبراين»: «العصر النووي The Nuclear
Age» التي يتعلم فيها «وليم» أن يتعايش
مع خوفه النووي، مثيرة للاهتمام على نحو خاص. فبجانب الهولوكوست
النووي المتخيل الذي يصل إلى ذروته، وهولوكوست القتل الأكثر
شخصانية الذي يهدد به أسرته، هناك خيبة الأمل التي تمثلها الأشياء
التي لا تحدث. بالإضافة إلى أن الرواية تقدم ذلك باعتباره حلًّا
زائفًا: عودة «وليم» للحياة العادية خداع ذاتي طوعي، أدب روائي
مريح، مطمئن، يكبح الوعي بالخطر النووي. هو خطر لا يمكن التخلص
منه. يمكن إنكاره فحسب. الجملة الختامية من سردية «وليم» جديرة
بالاقتباس كاملة لتصوير ذلك:
سوف أعيش حياتي مقتنعًا بأن ذلك عندما يحدث في النهاية،
عندما نسمع عواء منتصف الليل، عندما تحترق كانساس، عندما
لا يحدث ما يحدث، عندما لا يردع الردع، عندما تنتهي اللعبة
أخيرًا، نعم. حتى آنذاك، سوف أتمسك بإيمان راسخ، واثقًا
حتى النهاية من أن
E لن تكون مساوية
تمامًا ﻟ
mc2، ومن أنها
استعارة خادعة، ومن أن المعادلة النهائية لن تكون متوازنة.
٣٩
«وليم» يكبح الوعي بحقيقة واحدة لكي يستمر مع الأخرى، «الحياة
العادية» تعتبر عبثية عندما يفكر في البديل. إنكار يعتمد على خفة
يد لغوية، محولًا المعادلة (
E =
mc2)
التي تتنبأ بالإطلاق الهائل للطاقة التي تحدث أثناء الانشطار، إلى
استعارة، على افتراض أن الاستعارات منبتة الصلة بالواقع تمامًا. في
بداية الرواية، كان تأكيد «وليم» للخطر النووي يعتمد على إنكاره
للاستعارة: «لا استعارات، القنابل حقيقية.»
٤٠ في النهاية، يعتنق القوة الاستعارية للعلم وراء
القنبلة وكأن ذلك سيجعل الخطر أقل حقيقة. على أن هناك موقفًا
ثالثًا يبزغ من النص رغم عدم إدراك «وليم» له. كلاهما … الموقف
والاستعارات حقيقي، والأمر ليس خيارًا بين أحدهما. يدل على ذلك
القصائد التي كتبتها «بوبي» زوجة «وليم» له، وهي ملمح مهم ومتكرر
في الرواية، مستخدمة مصطلحات مرتبطة بالتكنولوجيا النووية
والسياسات العالمية للحرب الباردة، مثل «الانشطار» و«توازن القوى»
نجدها تنسج قصائد عن زواجهما المضطرب. هناك استعارات قوية للأزمة
المنزلية، ولكنها تدلُّ كذلك على كيفية اختراق لغة القوة والنفوذ
والتفكير المصاحب لذلك للمجتمع، بدءًا من عالم الأسرة الصغير إلى
عالم السياسات الدولية الواسع. هذا كلُّه يوحي بقابلية الحيوات
الشخصية للاختراق بواسطة مؤثرات خارجية، شبيهة بتلك التي تمرُّ بها
«جلاديس» في رواية
Shadow
on the Hearth و«إيريكا» في
رواية
Underworld.
البؤرة التي نراها على اللغة في The Nuclear Age
باعتبارها قضيةً مشحونةً ومحلَّ خلافٍ في تمثيل القلق النووي، يعاد
إنتاجها في رواية End
Zone عند «ديليلُّو». في إحدى
المدارس النائية في صحراء تكساس، نجد لاعب الكرة الأمريكي الساخط
«جاري هاركنس» يتذكر ما حدث وهو مستغرق في القراءة عن الحرب
النووية:
أصبحتُ مفتونًا بكلمات وعبارات مثل الإعصار الحراري،
والتزيد في القتل، واحتمالية الخطأ الدوري، وبيئة ما بعد
الهجوم، والردع الصارم، وحدود معدلات الجرعة، وحرب
التشنجات. السعادة في هذه الكلمات كانت بالغة التأثير، كما
أعتقد، تهمس على استحياء عن دورات دمار عظيمة لدرجة أن لغة
حروب العالم القديم أصبحَت مضحكة، الحروب نفسها أصبحَت بدائية.
٤١
اللغة الوهمية للاستراتيجية النووية تصبح حقيقيةً هنا، وتجعل
الحقيقة الرهيبة «حروب العالم السابق» نفسها غير حقيقية. هذا
الالتباس — كون الكلمات نفسها وهمية ومراوغة وسريعة الزوال في
الوقت الذي هي فيه حاضرة وذات ثقل ومغزًى — يعبر عن علاقة ما بعد
حداثية بين اللغة والحقيقة. على الرغم من ذلك؛ فإنها تأخذ معنًى
أكثر عمقًا في عصر نووي قلق، وعالم لم يخبره أحد لا يوجد إلا في
كلمات، يمكن أن ينتهي فجأةً على نحو مرعب، نافيًا التجربة
اليومية.
وحيث إن الهولوكوست النووي ممثل في هذه النصوص مباشرة، فإنه بهذه
الصفة يُلقي بظلاله على الحياة اليومية. في رواية
End
Zone ينفجر جهاز نووي فوق
بروكسل، وتتصاعد التداعيات سراعًا؛ فتُدمَّر مدن من بينها واشنطن
ونيويورك ولوس أنجلوس، وفي رواية The Nuclear Age
ينظر «وليم» من نافذة طائرته ليرى الانفجارات النووية تضيء
الولايات المتحدة من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي. على الرغم
من ذلك فإن هذه الصور الأيقونية لنهاية العالم في الحرب الباردة،
وإصابته بجائحة نووية، هي قصص داخل قصص: في الأولى يلعب «جاري»
لعبة حرب مع مفكر عسكري استراتيجي، وفي الثانية نجد «وليم» يهلوس.
ما يميز هذه الكتب عن روايات الكارثة النووية الأكثر تقليدية إذَن،
هو أن صور النهاية (سحابات الفطر والمدن التي تمَّت تسويتها
بالأرض) موضوعة تحت الحذف: ليس متوقَّعًا أن نعلِّق الشك ونفترض
أنها تحدث. هي تتلاعب بأشكال مختلفة من النهايات — وبخاصة النتيجة
النهائية للحرب الباردة — ولكن نهاياتها الفعلية مخيبة للآمال (كل
ما يحدث أن «وليم» يتوقف عن الخوف من الحرب، و«جاري» يُنقَل إلى
المستشفى).
قصة «دوجلاس كوبلاند
Douglas Coupland» القصيرة
«الشمس الخطأ
The Wrong
Sun» (١٩٩٤م)، نشرت بعد انتهاء
الحرب الباردة، وإن كانت جذورها ضاربةً في تجلياتها، تجعل من
المزاوجة بين القلق النووي وإرجاء النهاية مبادئ لبنيتها المركزية.
كلاهما له جذوره في الشعور بالتشظي. القصة في قسمَين؛ الأول:
«التفكير في الشمس» يروي فصولًا من الرعب النووي اللحظي في حياة
الراوي مثل سماع صافرة إنذار وتوقع سقوط قنبلة، عندما تمرق طائرة
نفاثة فوق مدرسته. على الرغم من وجود بعض شعور بالجماعية هنا — هو
يزعم أنها تجارب مشتركة على نطاق واسع —
٤٢ فإن تأثير رواية هذه الأحداث هو خلق الانطباع عن حياة
تشظيها الصور المتقطعة لنهاية نووية تقحم نفسها على الوعي.
كل لحظة قصيرة من لحظات توقع النهاية متروكة دون حل؛ هناك شيءٌ
ما متوقع ولكنه لا يقع، الحياة العادية تستمر إلى أن يطل مرة أخرى
توقع وميض نووي. الشعور بالتشظي مستمر في الجزء الثاني «الموتى
يتكلمون
The Dead
Speak». هناك رواة كُثر
متفرقون يصفون اللحظة أثناء حياتهم العادية: «كنت بجوار البراد في
المطبخ عندما حدث ذلك»، «كنت أصفف شعري عندما حدث ذلك»، «كنت في
المول عندما حدث»،
٤٣ وفجأة تتوقف حياتهم عندما يقتلهم انفجار نووي غير
متوقع. يوجد شكل من الوضوح هنا، هنا نقطة انحلال في عقدة الرواية:
القنابل تسقط والحيوات تنتهي؛ إلا أنه لا توجد مقدمات ولا عواقب
لتلك اللحظات. هي نهايات بدون بدايات. «الموتى يتكلمون» يعادلها
نقيضها «التفكير في الشمس». لا توجد قصة رئيسية تتوسطهما أو تصل
بينهما. قصة «كوبلاند» تقدم إحساسًا قويًّا بتجربة الحرب الباردة
باعتبارها «حياة مزدوجة». كل النتائج المحتملة لإحجام الحرب
الباردة عن الاستخدام النووي — سقوط القنبلة أو عدم سقوطها — على
الدرجة نفسها.
القلق النووي هو الموضوع الرئيسي لرواية «أوبراين»: «العصر
النووي
The Nuclear
Age» وقصة «كوبلاند» «الشمس
الخطأ
The Wrong
Sun»، كما أنه أحد الملامح
الرئيسية لرواية «منطقة النهاية
End Zone». في
الأعمال الروائية ما بعد الحداثية الأخرى التي ذكرناها في هذا
الفصل، يبرُز القلق النووي من الخلفية إلى جانب تشكيله لبؤرة النص
الأمامية. «كتاب دانييل» مثلًا يقدم قصة روائية عن تأثير المناخ
السياسي للولايات المتحدة على «آل روزنبرج» الذين تم إعدامهم؛ بسبب
تسريبهم المزعوم لأسرار ذرية إلى الروس. كذلك فإن رواية
Ceremony ﻟ «سيلكو» رغم أن
أحداثها تدور في صحراء نيومكسيكو، بعد أن أصبحت موقع تجربة أول
قنبلة ذرية بفترة قصيرة، معنية على نحو مباشر بالتحدي الذي يمثله
ذلك لذاتية وتوقعات سكان أمريكا الأصليين، أكثر مما هي بمخاوف
الحرب الباردة. وعلى الرغم من أن وتيرة التمثيل المباشر للقلق
النووي تقل في هذه النصوص وغيرها، نجد أشكالًا أخرى من القلق
المصاحب ممثلة بقوة؛ فرواية
The Book of
Daniel مشغولة بتعرض وحدة الأسرة
لقوًى عنيفة مدمرة كما ذكرنا من قبل، ورواية
Ceremony مليئة بصور عن تلوث
الأرض والجسد والذهن.
٤٤
في هذه الصور القوية ثقافيًّا التي تبرز مدى التعرض للخطر
والتلوث، ومع الإحساس بالعيش في مرحلة النهاية، يعبِّر القلق
النووي عن نفسه بقوة ويصبح ملموسًا. الإرجاء الدائم للنتيجة
النووية، والشعور الملازم لحقيقة بديلة كامنة خلف اليومي وتنتظر
تأكيد نفسها، كل ذلك يخلق مشكلات للسرديات الواقعية المشدودة إلى
بِنًى غائية، والسبب أنه لم يكن هناك حل لمشكلة الخوف أثناء الحرب
الباردة. من ناحية أخرى فإن السرديات ما بعد الحداثية في رفضها
لأساليب النهايات التقليدية، وبإحساسها بالعبثي، وبانشغالها بألعاب
اللغة، تقيد القلق المتوقع لفترة الحرب الباردة تمامًا. مثل هذه
التمثيلات نادرًا ما تكون مباشرة، ونادرًا ما كان يتم التعليق
عليها، بَيدَ أن النصوص التي ناقشناها هنا ليست سوى نقطة بداية،
يمكن أن ننطلق منها نحو تحليل أكثر شمولًا لأثر القلق النووي على
ثقافة ما بعد الحداثة.