الفصل الخامس

الحُمر والسُّود

الرواية التاريخية في الاتحاد السوفييتي وأفريقيا ما بعد الاستعمار١
إم. كيث بوكر، ودوبرافكا جوراجا
في مقال مهم — وإن كان مثيرًا للجدل — نشر في عام ١٩٨٦م، يحاول «فردريك جيمسون Fredric Jameson» تأكيد قيمة التحليل الدقيق الواعي الذي قام به مثقفو «العالم الأول» لأدب «العالم الثالث»، ذلك التحليل الذي يعتبره الناقد وسيلة للوصول إلى أشكال معينة من التجربة الاجتماعية، لم يكن لها وجود في الغرب تقريبًا؛ نتيجة المجانسة التي أحدثتها ثقافة ما بعد الحداثة في الرأسمالية المتأخرة.٢ الآن نتذكر مقال جيمسون (وغالبًا ما يوجَّه إليه النقد)، وبخاصة تفصيله لفكرة مؤداها أن «المجاز القومي» قد يكون الشكل الضروري لأدب العالم الثالث. في الوقت نفسه؛ فإن النقطة الأساسية فيه — وهي أن العالم الثالث مصدر مُهم للطاقات الثقافية الجديدة في مرحلة الرأسمالية المتأخرة — قد تكون مُغفلةً تمامًا الآن، والسبب أنها كانت مقبولة على نطاق واسع فكانت تبدو واضحة بذاتها. العقدان اللذان يكوِّنان هذه الفترة، شهِدا انفجارًا حقيقيًّا في دراسات ما بعد الاستعمار، وهو ما أدى إلى قبول واسع للفكرة التي ترى أن الدراسة الواعية والدقيقة للنصوص الغربية ليست مجدية فحسب، بل إنها كذلك ضرورية لكل من يحاول أن يفهم الثقافة العالمية في ذلك الظرف التاريخي. عندما نفهم كيف أن الظواهر الثقافية، مثل الرواية الأفريقية، قد تعمل حسب مبادئ فنية مختلفة عن تلك التي كانت تحكم نصوصًا مركزية من الذخيرة الغربية؛ فإننا في الوقت نفسه نحصل على فهم أفضل لتاريخانية المعيار الفني بشكل عام، ونتعلم كيف نتحدى الزعم التقليدي بالعمومية، الذي طويلًا ما دعم الأسس والمعايير الفنية البرجوازية الغربية.
الاحترام الجديد الذي نوليه اليوم للظواهر الثقافية بعد الاستعمار مثل الرواية الأفريقية، لم يُكتسب بسهولة؛ فقد مرَّت العملية بكفاح صعب كان لا بد من التغلب فيه على إرث طويل من القوالب النمطية الاستعمارية؛ وفي الوقت نفسه فإن الظواهر الثقافية الأخرى التي تتحدى هيمنة المعايير الفنية البرجوازية الغربية ما زالت لم تتغلب بعد على أنماط مشابهة. على سبيل المثال يظل من المتعارف عليه والشائع في الغرب ذلك الرفض لمعظم الإنتاج الثقافي الكبير للاتحاد السوفييتي (وبخاصة ذلك الذي يندرج تحت عنوان الواقعية الاشتراكية)؛ باعتباره «تفاهات أيديولوجية»، وانعطافًا تعسًا من الأدبي إلى السياسي أسفر عن أكثر من نصف قرن من الإفقار الثقافي، لم ينتج فيه جهاز الثقافة الروسي — الذي كان قويًّا ذات يوم — شيئًا له قيمة حقيقية. تصوير «ريجين روبن Régine Robin» المعروف للواقعية الاشتراكية باعتبارها «جمالية مستحيلة»، ليس سوى أحد أشكال الرفض الدبلوماسي للأدب السوفييتي، الذي كانت دراسته على مدى جيل كامل يسودها النقد العنيف في مرحلة الحرب الباردة الباكرة بأقلام معارضين ألداء للسوفييت مثل «مارك سلونيم Marc Slonim» و«جليب ستروف Gleb Struve».٣ حتى كتاب «كاترينا كلارك Katerina Clark» «الرواية السوفييتية The Soviet Novel»، الذي ربما يكون أكثر الأعمال الغربية موضوعية في دراسة الواقعية الاشتراكية، والصادر أثناء الحرب الباردة، هذا الكتاب يجنح إلى التركيز على التطابق بين الصور النمطية والحبكات الرئيسية في روايات الواقعية الاشتراكية، دون أن يسائل فكرة أن الواقعية الاشتراكية تحكمها مثل هذه الأدوات، وما إذا كانت تلك الأدوات مقيدة مثلها مثل فكرة الأعراف الأدبية الغربية.٤
كانت هناك بالطبع دراسات عديدة داخل الاتحاد السوفييتي تشير إلى ثراء إنجازات الثقافة السوفييتية، وتحاول كذلك تفسير الطرائق التي تعمل بها الواقعية الاشتراكية حسب جمالياتها الفنية الخاصة التي تختلف جذريًّا عن تلك الخاصة بالرواية البرجوازية الغربية،٥ ولكن هذه الدراسات كانت مرفوضة في الغرب بشكل عام، باعتبارها أمثلة على الانحدار نفسه نحو «الأيديولوجية» التي جعلت استهجان الواقعية الاشتراكية نفسها ظاهرة مسلمًا بها. في الوقت نفسه في مرحلة البريسترويكا،٦ ربما كان المتوقع أن تجد المعايير الفنية الغربية مكانًا لها في الاتحاد السوفييتي شأن كل منتجات الأيديولوجيا البرجوازية الغربية، وبدأ نقاد سوفييت كبار مثل «يفجيني دوبرنكو Evgeny Dobrenko» يصورون الواقعية الاشتراكية مستخدمين الكثير من المصطلحات التي كانت مستخدمة في الغرب لفترة طويلة، ربما على الأقل مع الميزة الظاهرة لقراءة الأعمال التي كانوا يهزءون بها، وهو الشيء الذي لم يكن بالإمكان قوله من قِبَل نظرائهم الغربيين.
على إثر سقوط الاتحاد السوفييتي، هناك أمل في أن نبدأ تقييم إنجازات الثقافة السوفييتية على نحو أكثر معيارية وموضوعية، كما أن هناك ما يدل على خطوات باكرة في هذا الاتجاه. نذكر هنا على سبيل المثال ذلك العدد الخاص من المجلة الفصلية South Atlantic Quarterly (التي يحررها «دوبرنكو» و«توماس لاهوسن»)، التي يبدي كثير من المشاركين بالكتابة فيه استعدادهم للاعتراف بأن الواقعية الاشتراكية جديرة بدراسة تفصيلية، باعتبارها نظامًا فنيًّا، بدلًا من رفضها واعتبارها مجرد نتيجة بائسة للشمولية الستالينية الجدانوافية.٧ في مقاله في هذا العدد، يقول «دوبرنكو»: إن جماليات الواقعية الاشتراكية ظهرت استجابة للذوق العام لدى جمهور القراء السوفييت، أكثر مما كانت نتيجة لإملاءات البيروقراطية الستالينية، كما تزعم الدراسات الغربية التي يصفها «دوبرنكو» بالسخف.٨

هذا الفصل من الكتاب الذي بين يديك يسعى للمشاركة في تقييم الثقافة السوفييتية، عن طريق استكشاف بعض التماثلات والتشابهات الكثيرة بين الواقعية الاشتراكية السوفييتية وأدب أفريقيا بعد الاستعمار، الأمر الذي يوحي — منطقيًّا — بأن الواقعية الاشتراكية جديرة ببعض الاحترام المماثل لذلك الذي أعطيناه لأدب ما بعد الاستعمار في السنوات الأخيرة، وسوف يكون تركيزنا على نحو خاص على الأهمية المركزية للرواية التاريخية في كلٍّ من الأدب السوفييتي بعد الثورة والأدب الأفريقي بعد الاستعمار.

أوجه الشبه بين الأدب السوفييتي والأدب الأفريقي واضحة بالطبع إلى حدٍّ ما، ومن دواعي السخرية أن يصبح معترفًا بها في خطاب الغرب عن الحرب الباردة، الذي كان عادة ما يلجأ إلى تنميط استعماري لوصف السوفييت بأنهم بدائيون غير غربيين؛ وهكذا فإن «وليم بيتز William Pietz» يشير إلى أن رسم أو تحديد صور نمطية استشراقية معينة للروس، لم يساعد فقط في «تبرير السياسة العملية للاحتواء، بل إنه أسهم كذلك في نظرية جديدة للأساس النفسي «للأيديولوجيا» أي لكل الحجج السياسية لليسار.»٩ فوق ذلك، فإن مثل هذا التنميط كان مقدمًا باعتباره تفسيرًا ﻟ «عنصر الذعر الاجتماعي المدعوم من الدولة الذي كان جليًّا في التاريخ الأوروبي في القرن العشرين.»١٠ المؤكد أن الدراسات السوفييتية كانت خطابًا متطورًا بالمعنى الذي يقصده «فوكو Foucault»، وبالأسلوب الذي يربطه إدوارد سعيد بالاستشراق؛ أي إن الدراسات السوفييتية لا تقول لنا سوى القليل عما كان يحدث في الاتحاد السوفييتي بالفعل، بينما تقول الكثير عن مخاوف وفتنة الغرب.
في هذا الإطار؛ فإن التشابه الأكثر وضوحًا بين الأدب الروائي الأفريقي ونظيره السوفييتي هو أن كلَيهما سياسيٌّ بطبيعته، وأن المؤلفين في الأدبَين يدركون الطبيعة السياسية المحددة لمحاولتهم الإسهام في تشكيل هُويَّاتٍ ثقافيةٍ جديدة في مجتمعاتهم. الطبيعة السياسية الواضحة للواقعية الاشتراكية السوفييتية أسهمت أثناء الحرب الباردة في مأسسة أساليب تناول نقدية وشكلانية جديدة في الدراسات الأكاديمية الغربية. مثل هذه الأساليب أعلن شكلًا من الحداثة (إذا كان متحللًا من الالتزام تاريخيًّا، على الأقل من وجهة نظر النقاد الشكلانيين) ليكون المعبر عن الفن الأدبي الراقي، بينما يعتبر أي فن سياسي عملًا منحطًّا من أعمال الدعاية.١١ مثل هؤلاء الباحثين أنفسهم يكررون (ربما دون وعي) أسلوبًا رئيسيًّا من أساليب الدعاية الغربية أثناء الحرب الباردة، عندما كانت الحداثة سيئة السمعة (أو على الأقل غير ذات صلة)، بينما الحداثة المحتفى بها الآن كانت في مواجهة واقعية اشتراكية يفترض أنها ساذجة، باعتباره دليلًا على الانفتاح الثقافي وتقدم الغرب المستنير مقارنة بالاتحاد السوفييتي الجاهل.١٢ هذا الخطاب أسهم بطرق واضحة في انتشار وجهة النظر السائدة (وخاصة بين علماء الدراسات السوفييتية الغربيين الذين كان جل همهم فضح فقر الثقافة السوفييتية) عن أن الواقعية الاشتراكية لم تكن قادرةً على إنتاج أدب حقيقي.١٣ على أن الكثير من الروايات السوفييتية (وربما معظمها) التي يمكن أن تصنف باعتبارها من روايات الواقعية الاشتراكية، مُحكَمة من ناحية الشكل ومن ناحية مضمونها الأيديولوجي الداعم للنظام السوفييتي، وبدرجة لا تقل عن معظم الروايات الغربية في دعمها للرأسمالية.١٤ في الوقت نفسه، فإن أعمال الكُتاب الموالين للسوفييت مثل «مكسيم جوركي Maxim Gorky» و«ميخائيل شولوخوف Mikhail Sholokhov» و«فالنتين كاتايف Valentin Kataev» و«أندريه بلاتونوف Andrei Platonov»، ذات قيمة أدبية واضحة حتى من وجهة نظر الجماليات الفنية الغربية. إن ما يهمُّنا إدراكه هو ليس أن الواقعية الاشتراكية يمكن تبريرها استنادًا إلى الجماليات الفنية الغربية، بل إنها تقوم على مسلَّماتٍ فنيةٍ مختلفةٍ (ومتعارضة بدرجة كبيرة) عن تلك المسلَّمات التي ترفد المفاهيم البرجوازية ﻟ «الكيف» الأدبي.
الشيء نفسه لا بد من أن يقال عن الأدب الأفريقي بعد الاستعمار، الذي يصور بوضوح شديد عدم إمكانية فصل الفن عن العالم الاجتماعي، ويبين كيف أن المعايير الفنية ليست عامة أو ثابتة زمنيًّا، بل إنها تظهر بوصفها استجابةً لظروف وتطورات تاريخية معينة، وكما يقول «شينوا أتشيبي Chinua Achebe» — بغضب شديد — في محاضرة له عن العلاقة بين الفن والمجتمع في عالم ما بعد الاستعمار؛ فإن الصلة الوثيقة بين الأدب والسياسة في ذلك العالم تفصح عن أن «الفن للفن» ليست سوى «قطعة أخرى من براز الكلاب الذي أزيلت عنه الرائحة.»١٥ مثل هذه المعايير، على أية حال، كانت تطبق على الأدب الأفريقي. الناقد الأفريقي البارز «أبيولا أيريل Abiola Irele» على سبيل المثال، يرى أن النقاد الأفارقة كانوا يشعرون بالضغط لكي يمتثلوا للأساليب الشكلانية الغربية في تناولهم للأدب، وذلك لكي يثبتوا أن الأدب الأفريقي جدير بالاهتمام النقدي الجاد؛ وهكذا كان نقاد الأدب الأفريقي يترددون قبل أن يناقشوا المتضمنات الاجتماعية والسياسية لذلك الأدب؛ لأن التوجهات الغربية تعتبر مثل هذه المناقشات ضربًا من البدائية الساذجة. «أيريل» يرى أن القراءة الاجتماعية للأدب الأفريقي ضرورية:
اهتمام الكُتاب الواضح بتناول القضايا المباشرة للحياة الاجتماعية، وسرد التوترات التي تعترض حياتهم — ونسبة تعبيرهم المتخيل لعالم تجاربهم الخاصة بكل تجسده الوجودي — كل ذلك يبدو لي وكأنه لا يترك أمام الناقد الأفريقي خيارًا آخر سوى أن يعطي الأسبقية للدفعة المرجعية القوية لأدبنا.١٦
وبالمثل، يؤكد «إيمانويل أوبيتشينا Emmanuel Obiechina» مرارًا وتكرارًا، في تقديمه الممتاز لكتاب «الرواية في غرب أفريقيا»، التورط الاجتماعي والسياسي لتلك الروايات، التي غالبًا ما تكون تعليمية في محاولتها إقناع القارئ لتأييد أفكار سياسية معينة:
لأن الرواية في جنوب أفريقيا ظهرت في وقت كان يموج بتغيرات اجتماعية واقتصادية واسعة؛ فإن الكُتاب يبدون اهتمامًا كبيرًا بتأثير تلك الظروف، تلك هي ملابسات الحياة، وتلك هي الأساليب التي يشعر بها الناس بالضغوط، وتلك هي الضغوط التي تحتاج إلى التعبير عنها.١٧
ولعل أقوى الردود على النقد الشكلاني الغربي للأدب الأفريقي، تلك التي جاءت من النقاد النيجيريين: «شينويزو Chinwizu» و«أونوشيكوا جيمي OnwucheKwa Jemie» و«أيهيشيكو مادوبيكي IhechuKwu Madubuike». في كتابهم المهم المثير للجدل «نحو تحرير الأدب الأفريقي Toward the Decolonization of African Literature»، يراجع النقاد الثلاثة تفصيلًا أعمال النقاد الغربيين مثل «إيوستاس بالمر Eustace Palmer» و«تشارلز لارسون Charles Larson» (سلونيم وستروف الأدب الأفريقي) لكي يكشفوا القناع عن افتراض تفوق الثقافة الغربية الكامن وراء أعمال أولئك النقاد، حتى وإن استماتوا في محاولاتهم الظهور بمظهر المدافعين عن قيمة الأدب الأفريقي. لقد لعب النقاد الثلاثة «شينويزو» و«جيمي» و«مادوبيكي» دورًا كبيرًا ومؤثرًا بإصرارهم على ضرورة أن يولي نقَّاد الأدب الأفريقي اهتمامًا جادًّا لدور الموروث الشفاهي الأفريقي في تطور الأدب الأفريقي الحديث. تأكيد الحوار بين الأدب الأفريقي والأدب الأوروبي على حساب تجاهل «أفريقية» الأدب الأفريقي، في نظر النقَّاد الثلاثة، ليس سوى استمرار خبيث للهيمنة الأوروبية الاستعمارية في أفريقيا. في الوقت نفسه، نجد أن «شينويزو» وزميلَيه على وعي تام بأن الكُتاب الأفارقة قد تأثروا بالنماذج الغربية؛ بحيث أصبحت الرواية الأفريقية ظاهرة ثقافية وهجينًا معقدًا يتضمن وجهات نظر ثقافية غربية وأفريقية؛ وعليه فإنهم يشيرون إلى أن «الرواية الأفريقية هجين الحكي الشفاهي الأفريقي والأشكال الأوروبية المستوردة، كما أن هذا الأصل الهجين تحديدًا هو ما يجب أن يوضع في الاعتبار أولًا.» عند الحكم على الرواية الأفريقية.١٨
وبينما كان «شينويزو» وزميلاه يتعرضون للنقد أحيانًا باعتبارهم «متطرفين»؛ فإن فكرتهم قُدِّر لها النجاح في الوسط الأكاديمي الغربي، الذي أصبح يعترف الآن — على نحو روتيني — باختلاف المعايير الفنية الأفريقية عن المعايير الغربية، وبأن من الضروري الحكم على الروايات الأفريقية بمعاييرها وليس بالمعايير الغربية، ولكن الواقعية الاشتراكية السوفييتية لم تكن سعيدة الحظ هكذا، بعد قرابة نصف قرن من الاحتقار والرفض الواسعَين على يد النقاد الغربيين، لكنَّ كثيرًا من الأسباب التي تحتم علينا تجنب التطبيق الأعمى للمعايير الفنية الغربية على الرواية الأفريقية، توحي كذلك بأننا ينبغي علينا أيضًا تجنُّب التطبيق الإجمالي للمعايير الفنية البرجوازية على الروايات السوفييتية بعد الثورة. أحد أسباب ذلك هو أن الكثير من الأدب الأفريقي بعد الاستعمار هو في الوقت نفسه أدب ما بعد الثورة؛ لأنه يركز على عملية حصول الكثير من دول أفريقيا على استقلالها عن طريق ثورات معادية للاستعمار. وهكذا فإن روايات الكاتب الكيني الراديكالي «نجوجي وا ثيونجو Ngugi wa Thiongo»، وبخاصة «شيطان على الصليب Devil on the Cross» (١٩٨٧م) تركز بالأساس على ثورة مستقبلية مأمولة، على نحو يستدعي غالبًا أعمالًا روسية مثل رواية «الأم» لمكسيم جوركي (١٩٠٧م). بالإضافة إلى ذلك فإن روايات نجوجي من «حبة قمح A Grain of Wheat » (١٩٦٧م) إلى «ماتيجاري Matigari»، تستلهم طاقات مهمة من تمرد «الماو ماو» ضد الحكم البريطاني في الخمسينيات، كما أن «الماو ماو» يشغلون كذلك مكانًا مركزيًّا في روايات كينية كثيرة أخرى، من بينها رواية «تشارلز مانجوا Charles Mangua»: «ذيل في الفم A Tail in the Mouth » (١٩٧٧م) ورواية «ميجا موانجي Meja Mwangi»: «هيكل لكلاب الصيد Carcase for Hounds » (١٩٧٤م) ورواية «طعم الموت Taste of Death » (١٩٧٥م) للكاتب نفسه. بالمثل هناك روايات من زيمبابوي مثل «عظام Bones» (١٩٨٨م) ﻟ «شينجيراي هوف Chinjerai Hove»، و«حصاد الشوك Harvest of Thorns » (١٩٨٩م) ﻟ «شيمر شينوديا Shimmer Chinodya»، تتناول حرب تحرير زيمبابوي الطويلة الشاقة من الحكم الأبيض، بينما تركز رواية «مايومبي Mayombe » (١٩٨٤م) ﻟ «بيبيتيلا Pepetela» على حرب استقلال أنجولا عن الحكم البرتغالي. مثل روايات الحرب هذه، تستدعي الأهمية المركزية للحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية) في أعمال رئيسية تنتمي إلى مدرسة الواقعية الاشتراكية مثل رواية «أناتولي إيفانوف Anatoli Ivanov»: «النداء الخالد The Eternal Call» (١٩٧١–١٩٧٧م)، ورواية «ألكساندر فادييف Alexander Fadeyev»: «الحارس الشاب The Young Guard » (١٩٤٥م)، ورواية «بوريس بوليفوي Boris Polevoi»: «قصة رجل حقيقي Story of a Real Man » (١٩٤٦م)، ورواية «يوري كريموف Yuri Krymov»: Tanker Derbent (١٩٣٨م)، ورواية «كونستانتين سيمونوف Konstantin Simonov»: «أيام وليالٍ Days and Nights » (١٩٤٤م)، ولكن الروايات الأفريقية عن الحرب ضد الاستعمار تستدعي، على نحو أكثر مباشرة، أهمية الحرب الأهلية من ١٩١٧م إلى ١٩٢٠م في الواقعية الاشتراكية السوفييتية الباكرة، وذلك من خلال أعمال مهمة مثل رواية «ديمتري فريمانوف Dimitri Furmanov»: «تشاباييف Chapayev » (١٩٢٣م) ورواية «شولوخوف Sholokhov»: «الدون الهادئ Quiet Flows Don (١٩٢٨م)، ورواية «ألكساندر سيرافيموفتش Alexander Serafimovich»: «الفيضان الحديدي The Iron Flood » (١٩٤٢م)، ورواية «فادييف Fadeyev»: «الحشد The Rout » (١٩٢٧م)، ورواية «نيكولاي أوستروفسكي Nikolai Ostrovsky»: «تقسية الصلب How the Steel was Tempered» (١٩٣٢–١٩٣٤م)، ورواية «ألكسي تولستوي Alexei Tolstoy»: «المحنة The Ordeal» (١٩١٩–١٩٤١م). كل هذه الأعمال تركز بشكل رئيسي على تلك اللحظة الباكرة الحاسمة في التاريخ السوفييتي. الحروب الأهلية مهمة كذلك في الأدب الروائي الأفريقي، رغم أن ذلك يظهر على نحو أكثر قتامة وبخاصة في الأعمال التي تتناول حرب نيجيريا-بيافرا الأهلية (١٩٦٧–١٩٧٠م)، مثل رواية «شوينكا Soyinka»: «موسم الضياع Season of Anomy » (١٩٧٣م)، ورواية «إليشي أمادي Elechi Amadi»: «النفور Estrangement» (١٩٨٦م)، ورواية «بوشي إيميشيتا Buchi Emecheta»: «الوجهة بيافرا Destination Biafra » (١٩٨٢م)، ورواية «فستوس إياي Festus Iyayi»: «أبطال Heroes» (١٩٨٦م).
بالإضافة إلى أوجه الشبه هذه من ناحية الموضوع وبشكل عام، يجب ألا ننسى أن كثيرًا من كُتاب أفريقيا في مرحلة ما بعد الاستعمار كانوا متأثرين، على نحو مباشر، بالثقافة الروسية والسوفييتية وبالماركسية عمومًا؛ حيث يرى الفيلسوف والروائي الأفريقي «ف. ي. موديمبي V. Y. Mudimbe» أن الماركسية كانت أهم المؤثرات في الفكر الأفريقي في الفترة من ثلاثينيات إلى خمسينيات القرن العشرين،١٩ بل إنه يلاحظ أكثر من ذلك أن الماركسية بالتوازي مع النقد العام للاستعمار، تظل حاضرة بقوة إلى اليوم في الفلسفة الأفريقية، وهو اعتراف من ناقد يعمل من منظور فوكوي٢٠ إلى حدٍّ ما؛ كذلك هناك كُتاب وشعراء ومفكرون مثل «إيمي سيزار Amié Césaire»، و«ليوبولد سنجور Leopold Senghor»، و«كوامي نكروما Kwame Nkrumah»، و«جوليوس نيريري Julius Nyerere» الذين قدموا إسهامات مهمة بمحاولتهم لتكييف الاشتراكية مع الإطار الأفريقي. في الوقت نفسه، كما يشير نقاد مثل «إيمانويل نجارا Emmanuel Ngara»، و«جورج ججلبيرجر George Gugelberger»، كان للماركسية تأثير مهم، ليس في الفلسفة والسياسة الأفريقية فحسب، بل كذلك في الأدب، الذي لا يمكن الفصل بينه وبين الفلسفة والسياسة،٢١ ولعل «نجوجي Ngugi» هو أشهر مثال على هذه الظاهرة؛ إذ نجده عندما يذكر الروائيين الذين تأثر بهم في تطوره باعتباره كاتبًا، يضمن قائمته أسماء روسية مثل «نيقولاي جوجول Nikolai Gogol»، و«فيودور دوستيفسكي Fyodor Dostoevsky»، و«ليو تولستوي Leo Tolstoy»، و«جوركي Gorky»، و«شولوخوف Sholokhove»، بالإضافة إلى «أونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac»، و«وليم فوكنر William Faulkner»، و«جورج لامنج George Lamming».٢٢ كذلك ينبغي ألَّا نقلِّل من شأن الدور المباشر الذي لعبه الدعم السوفييتي في نمو الثقافة الأفريقية بعد الاستعمار، فقد أصبح «أوسمان سمبيني Ousman Sambène»، مثلًا، أبا السينما الأفريقية بعد أن درس في مدرسة السينما في موسكو، كما كان كتاب آخرون مثل «نجوجي»، و«إياي»، يعملون ويدرسون في الاتحاد السوفييتي بدعم رسمي من الحكومة السوفييتية، والحقيقة أن الاتحاد السوفييتي قدم دعمًا ماديًّا ومعنويًّا هائلًا لكثير من الكُتاب الأفارقة، الذين كانوا في بداية الطريق لتطوير فنونهم في السنوات الأولى من الاستقلال الرسمي بعد الحكم الاستعماري، بينما كان الكُتاب الروس، والسوفييت منهم، يقدمون نماذج مهمة للروائيين الذين كانوا يبحثون عن أشكال جديدة بعيدًا عن الهيمنة الغربية.
الجدل الكلاسيكي الذي قدمه «جورج لوكاتش Georg Lukács» في كتابه «الرواية التاريخية The Historical Novel» معلنًا أن الروايات التاريخية العظيمة للقرن التاسع عشر، كانت هي التعبير النموذجي عن الواقعية الأدبية، وعن أيديولوجية البرجوازية في الأيام الأولى من صعودها للسلطة في أوروبا، هذا الجدل جعل بالإمكان توقع أن تحتل الرواية التاريخية مكانة مركزية في ذلك المشروع الأدبي.٢٣ الحقيقة أن «لوكاتش» يقدم هذه الرؤية في إطار يحث فيه الكُتاب الاشتراكيين على اتباع نموذج أسلافهم الغربيين. التاريخ عنده، باختصار، ليس العالم الخاص بالبرجوازية فحسب، بل بأي طبقة ثورية يحدث أن تكون هي العامل الرئيسي في التغيير التاريخي في أي وقت. بحلول القرن العشرين، يجادل «لوكاتش» في موضع آخر، بأن «الطريق إلى الاشتراكية متطابق مع حركة التاريخ نفسها.»٢٤ هذا التاريخ الذي استخدمته البرجوازية طويلًا لشرعنة سلطتها الجديدة في أوروبا الحديثة، يصبح عند «لوكاتش» الأرضية الرئيسية التي يمكن تحدي الهيمنة البرجوازية عليها. كان يبدو أن الكُتاب السوفييت يوافقون على ذلك، وكان أحد الملامح المميزة للواقعية الاشتراكية السوفييتية هو رؤيتها لنفسها باعتبارها أدبًا ما بعد ثوري، يسهم في عملية تحول تاريخي ثوري، ويستمد منها طاقاته في الوقت نفسه.
بالنسبة ﻟ «لوكاتش» (وغيره ممن لديهم إدراك حقيقي لجدلية التاريخ)، ليس هناك أي تناقض بين الاعتقاد بأن الكُتاب الاشتراكيين الحديثين محتاجون للبحث عن نماذج في أعمال كتاب برجوازية القرن التاسع عشر من أمثال «وولتر سكوت Walter Scott» و«بلزاك Balzac»، والاقتناع بأن الاشتراكية جزء من تحول تاريخي مستمر سيضع الانتصار التاريخي السابق للبرجوازية موضعًا للمساءلة، وفي آخر الأمر فإن الانتصار التاريخي الذي من المقرر أن يرويه التاريخ البرجوازي، هو في نظر الفكر الماركسي مجرد مرحلة — لا أكثر — في عملية تاريخية أطول تؤدي في النهاية إلى انتصار الاشتراكية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظاهرة الكلية للواقعية الاشتراكية السوفييتية تمثل محاولة لمقارعة البرجوازية على ما كان في الماضي أرضية لها، والصراع من أجل السيطرة على التمثيل التاريخي للمشروع السوفييتي، وليس من قبيل المصادفة مثلًا أن الكثير من أعظم أعمال الواقعية الاشتراكية مثل «الدون الهادئ» ﻟ «شولوخوف»، و«حياة كليم سامجن» (١٩٢٧–١٩٣٦م) ﻟ «جوركي»، و«بطرس الأول» ﻟ «ألكسي تولستوي» (١٩٢٩–١٩٤٥م) تنتمي بوضوح إلى جنس الرواية التاريخية، أو أن أعمالًا رئيسية أخرى معنية بالتاريخ على نحو جادٍّ (مثل «الأم» و«تقسية الصلب» يمكن أن تعتبر روايات تاريخية، حتى عندما يكون الحاضر هو موضوعها، مثل روايات «بلزاك»). أحد أوجه نفاذ بصيرة التاريخ الثوري، أن التاريخ ليس الماضي فقط، وإنما الحاضر والمستقبل كذلك.
على أن أتباع الواقعية الاشتراكية السوفييت ليسوا الوحيدين من بين كتاب القرن العشرين، الذين حاولوا التغلب على تقاليد وقواعد البرجوازية، والتاريخ البرجوازي الغربي، والانتقال إلى ما هو أبعد منها. على سبيل المثال، مع افتراض وجود تأثير مادي للاستعمار على التاريخ الأفريقي، وتأثير رمزي للتأريخ الاستعماري على الخيال الأفريقي، يبدو التاريخ ساحة رئيسية للصراع بالنسبة للكُتاب الأفارقة الساعين إلى مقاومة سيطرة المركز الأوروبي على هوياتهم الثقافية. هكذا لن يكون من الغريب أن يستخدم الكُتاب الأفارقة الروايات التاريخية كثيرًا، باعتبارها جزءًا من برنامج طويل لتوليد هويات ثقافية جديدة في مرحلة ما بعد الاستعمار، يتجاوز ذلك التراث البرجوازي الأوروبي في كتابة التاريخ، ويتفادى تعريف الهوية على ضوء الماضي الاستعماري. كل رواية من روايات «نجوجي»، على سبيل المثال، تتناول لحظة معينة من تاريخ كينيا، وكلها مجتمعة من «النهر في الوسط The River Between» (١٩٦٥م) إلى «ماتيجاري Matigari » (١٩٨٧م)، تشكل سردية تاريخية شاملة تروي حكاية كينيا، منذ الأيام الأولى للاحتلال البريطاني إلى الفترة المعاصرة في مرحلة ما بعد الاستعمار، مع التركيز على التراث الكيني في المقاومة.
إن «نجوجي» يعلن صراحةً أن التاريخ الكيني هو الذي يقدم الإلهام الرئيسي لأدبه الروائي، بما يعني أن «كفاح الشعب الكيني ضد السيطرة الأجنبية» هو «الموضوع المتساوق» في هذا التاريخ على مدى السنوات الأربعمائة الماضية.٢٥ على نحو مشابه (وإن كان أقل تحديدًا من الناحية السياسية)؛ فإن «أتشيبي Achebe» يحاول في أعمال روائية مثل «الأشياء تتداعى Things Fall Apart» (١٩٥٨م) أن يزود قراءه من الأفارقة بتصوير واقعي لماضيهم قبل الاستعمار، يخلو من التشوهات والصور النمطية المفروضة على ذلك الماضي في الكتابات الأوروبية. في الوقت نفسه فإن روايات «أتشيبي» من «الأشياء تتداعى» إلى «كثبان النمل في حقول السافانا Anthills of Savannah» (١٩٨٧م) تتتبع مجتمعة تاريخ الاستعمار القديم والجديد في نيجيريا. أمثلة أخرى على الرواية التاريخية الأفريقية نجدها لدى «نادين جورديمر Nadine Gordimer» واهتمامها بتاريخ «الأبارتايد» في أعمال مثل «ابنة بيرجر Burger’s Daughter» (١٩٧٩م) و«رياضة الطبيعة A Sport of Nature » (١٩٨٧م)،٢٦ كما نجدها في تصوير «سمبيني» الدرامي لإضراب عمال السكة الحديد (١٩٤٧-١٩٤٨م) في المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، وذلك في عمله «غابات الله الصغيرة Gods Bits of Woods» (١٩٦٠م) وإعادة القص الخيالي لتاريخ تنزانيا عند «إم جي فاسانجي M. G. Vassanji» في «كيس الخيش The Gunny Sack » (١٩٨٩م)، وفي ثلاثية «نور الدين فرح Nuruddin Farah» «تنويعات على موضوع دكتاتورية أفريقية Variations on the Theme of an African Dictatorship» (١٩٧٩–١٩٨٣م) عن فترة سياد بري في الصومال، ومحاولة «بن أوكري Ben Okri» الإمساك بروح تاريخ نيجيريا الحديث، من خلال واقعية سحرية بنكهة أفريقية في رواية «طريق الجياع The Famished Road » (١٩٩١م)، وتصوير «يامبو أولوجيم Yambo Ouologuem» للتاريخ الأفريقي باعتباره دورة لا نهائية من العنف في رواية «مجبول على العنف Bound to Violence » (١٩٦٨م)، وعند «آي كوي آرماه Ayi Kwei Armah» في رواية «ألفا موسم Two Thousand Seasons » (١٩٧٣م)، وهي صيغة أكثر إيجابية وأسطورية من التاريخ الأفريقي (ربما ردًّا على كتابة أولوجيم).

الأهمية المركزية للتاريخ في كلٍّ من الروايات السوفييتية والأفريقية نابعة من عدة مصادر، ليس أقلها أن كلًّا من الروس والأفارقة كان عليهم أن يواجهوا، لفترة طويلة، محاولات إقصاء ثقافاتهم من السرديات التاريخية البرجوازية لأوروبا الغربية. في حالة أفريقيا، لقي هذا الإقصاء اهتمامًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، وهو أمر معروف جيدًا الآن. يلاحظ «نجوجي»، على سبيل المثال، أن تاريخ الشعب في النضال ضد الاستعمار وهو ما يعتمد عليه في أعماله بشكل رئيسي، غائب فعلًا من التاريخ الرسمي لكينيا، ويستمر الأمر كذلك حتى في فترة الاستقلال الاسمي؛ لنرى أن الحدث الرئيسي في تاريخ كينيا الحديث هو الاحتلال نفسه وليس المقاومة. هذا الأسلوب في التأريخ يسترشد بالتراث الاستعماري المؤلم، الذي لعب دورًا رئيسيًّا في السيطرة الاستعمارية الأوروبية على أفريقيا بتصورها مكانًا دون تاريخ، وقارة غارقة في ماضي العصور الوسطى غير قادرة على التحرك إلى الأمام، إلى أن جاء إليها المحتلون الأوروبيون بالطاقات والمعارف الجديدة. تصف «كاترين كوكري-فيدروفتش» هذه الظاهرة مشيرة إلى أن:

التواريخ الاستعمارية أبقت طويلًا على أسطورة أفريقيا جنوب الصحراء، التي يتم غزوها بسهولة وتفيد هي من المسالمة، وبحسب هذه التواريخ فإن السكان المحليين قد تم إنقاذهم في آخر الأمر، بفضل «السلام الاستعماري»، من الصراعات الداخلية بين الحكام المحليين الصغار، الذين لم يكفوا عن الإغارة على أراضي جيرانهم بحثًا عن العبيد أو الماشية.٢٧
كما يلاحظ «موديمبي Mudimbe» أن مثل هذه التواريخ «لا تتحدث عن أفريقيا ولا عن الأفارقة، وإنما هي — بالأحرى — عملية اختراع وغزو قارة واتهامها ﺑ «البدائية» و«الفوضى»، إلى جانب ما ينجم عن ذلك من وسائل لاستغلالها، وطرق من أجل «تجديدها».٢٨ لن يكون مستغربًا إذَن أن يرى «نجوجي» التاريخ باعتباره أرضية مهمة ينبغي أن يتحدى فوقها كتاب أفريقيا المعاصرون ذلك الإرث الثقافي الاستعماري. استعادة التاريخ الكيني للمقاومة الوطنية ستصبح مشروعًا مركزيًّا لأدب «نجوجي» الروائي في مرحلة ما بعد الاستعمار، سعيًا للمساعدة في تقديم ماضٍ صالح لأبناء وطنه من الكينيين؛ لكي يبنوا عليه حاضرًا ومستقبلًا قابلَين للحياة.
كتابة الاستعمار للتاريخ، التي يتصدى لها «نجوجي» تعتمد على تعارض قطبي بين أوروبا وباقي العالم، تعارض من ذلك النوع الذي حدده إدوارد سعيد باعتباره مركزيًّا في الخطاب الاستشراقي بوجه عام (والأفريقي بالتبعية)؛٢٩ والواقع أن أوروبا، في نظر سعيد، تعتمد بشكل رئيسي في هويتها الثقافية على فكرة أن «الهوية الأوروبية أسمى من هويات كل الشعوب والثقافات غير الأوروبية.»٣٠ من ناحية أخرى، فإن أوروبا نفسها ليست وحدة متناغمة كما يقول سعيد، كما أن «أوروبا» التي يصفها في كتابه «الاستشراق»، هي في واقع الأمر أوروبا الغربية التي بدأت، في عصر التنوير، تنمي بداخلها شعورًا بالتفوق الأخلاقي والثقافي، ليس بالنسبة لغير الأوروبيين فحسب، وإنما للأوروبيين الشرقيين كذلك.٣١ كانت الصورة الناتجة لأوروبا الشرقية (مع تركيز خاص على مناطق مثل روسيا والبلقان) باعتبارها بلادًا بدائية وبربرية يحكمها طغاة ويسكنها بدو شبه متوحشين، هذه الصورة تبدو متوافقة مع الرؤية الاستعمارية لأفريقيا، كما تقدم، في الوقت نفسه، أرضية مهمة لقدر كبير من الرطانة الغربية حول الحرب الباردة، يمكن رؤيتها متأججة بسبب الرعب من الشيوعية، ومخاوف عرقية من بدائية أوروبا الشرقية. في الوقت نفسه، فإن المخاوف الاستشراقية لروسيا (التي تمتد إلى ما وراء شرق الصين) مرتبطة بالاستعمار بشكل مباشر، مثلما كان البريطانيون يبررون توسعهم الإمبراطوري في القرن التاسع عشر، على أساس أنه كان ضروريًّا لمواجهة خطر التوسع الروسي.٣٢
خطاب أوروبا الغربية عن روسيا كان يتصور الروس دائمًا شعبًا بلا تاريخ، وهو يشبه كثيرًا أسلوب تصور الأفارقة في التواريخ الغربية الاستعمارية. كُتاب القرن التاسع عشر في روسيا مثل «ألكساندر بوشكين Alexander Pushkin» و«جوجول Gogol» و«دوستيفسكي Dostoevsky» و«ليو تولستوي Leo Tolstoy» كانوا مهمشين في التاريخ، كما سيكون كُتاب أفارقة مثل «نجوجي» فيما بعد. في دراسته المهمة عن أدب دوستيفسكي الروائي، على سبيل المثال، يقول الناقد «ميكايل هولكست Michael Holquist» إن الهويات الهشة وغير المستقرة لشخصيات دوستيفسكي، تعكس الأسلوب الذي أدى به الشعور بالوجود خارج التيار الرئيسي للتاريخ الأوروبي إلى شعور ملتبس بالهوية الثقافية في روسيا القرن التاسع عشر بشكل عام. وعلى الرغم من قوة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، يرى «هولكست» أن «الشك في وجود أدب قومي، وليس إثبات وجود ثقافة روسية، كان هو الشعور السائد في أوائل القرن التاسع عشر»،٣٣ ثم يلقي الضوء على هذه الفكرة بعد ذلك بالإشارة إلى عمل «بيوتر تشادايف Pyotr Chaadaev» أحد مفكري القرن التاسع عشر بأنه:
قطعًا للشك في تاريخ مؤسسات روسية معينة، سياسية وثقافية، يعلن صراحة أن الروس لم يكن لديهم ماضٍ بالمرة: «التجربة التاريخية لم يكن لها وجود بالنسبة لنا. مرت عصور وأجيال دون فائدة، وكأن قانون البشرية العام كان معلقًا» ويواصل كلامه عن الروس وكأنهم كانوا «خارج الزمن».٣٤
وفوق ذلك كله، يرى «هولكست» أن محاولات شخصيات دوستيفسكي استخدام السرد وسيلة لتطوير شعور بالذات، يوازي مشروع القرن التاسع عشر الروسي الأوسع لتطوير السرد التاريخي لخلق شعور بالهوية القومية؛ والحقيقة أن الأدب في نظر «هولكست» كان يعتبر ميدانًا مهمًّا لمحاولات تأسيس هوية ثقافية مستقرة في القرن التاسع عشر؛ والنتيجة أن «التاريخ في روسيا كان كثيرًا ما يُعادَل بالتاريخ الأدبي.»٣٥ في الوقت نفسه، على الرغم من أن كُتابًا مثل «جي آر درجافن G. R. Derzhavin» و«إن إم كارامزين N. M. Karamzin» كانوا قد سعَوا بقوة لإيجاد صوت أدبي روسي؛ فإن المقتضيات الخاصة بالتاريخ الروسي تركت كُتاب القرن التاسع عشر الأوائل مثل «بوشكين» و«جوجول» دون تقاليد أدبية روسية يؤسسون عليها. وهكذا كان مثل أولئك الكُتاب مجبرين على محاولة خلق تقاليدهم ومواضعاتهم الخاصة، وفي الوقت نفسه محاولة تفادي سيطرة تقاليد ومواضعات الغرب والحصول على الاعتراف والاحترام من نظرائهم الغربيين.

بهذا المعنى، فإن وضع الكُتاب الروس في القرن التاسع عشر يسبق مباشرة ذلك الوضع الذي وجد فيه كُتاب ما بعد الاستعمار أنفسهم في العقود الأخيرة، ولأنهم كانوا يستخدمون اللغات الأوروبية ويتناولون الأنواع الأدبية الأوروبية؛ فإن كتاب أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والكاريبي كانوا يسعون بكل قوة لكسب احترام عالم غربي قوي، ما زال يسيطر عليه مفهوم التنوير القديم، وهو أن القدرة على القراءة والكتابة متطلب أساسي من متطلبات الإنسانية الحقة. إلا أن كُتاب ما بعد الاستعمار، وهم يحاولون إثبات قدرتهم على الكتابة بشروط الغرب، كان عليهم في الوقت نفسه محاولة الإسهام في تطوير الهويات الثقافية إلى ما هو أبعد من إرث السيادة الاستعمارية السابقة. الوضع الثقافي والتاريخي لروسيا في القرن التاسع عشر، يختلف تمامًا عنه في أفريقيا ما بعد الاستعمار؛ فبينما كان كثير من الروس في القرن التاسع عشر يتبعون خطى بطرس الأكبر، كانوا يحاولون إدخال تنوير أقصوا عنه طويلًا؛ فإن الأفارقة بعد الاستعمار ما زالوا يكافحون للتعامل مع نتائج تنوير فُرض عليهم عنوة، أثناء مرحلة الاستعمار. بهذا المعنى فإن المشروعات الثقافية للكتاب الروس في القرن التاسع عشر وكتاب أفريقيا بعد الاستعمار مختلفة تمامًا، على الرغم من أننا ينبغي أن نتذكر كذلك أن شخصيات رئيسية مثل «جوجول» و«دوستيفسكي»، قد وقفوا بثبات إلى جوار دعاة السلافية في الحروب الثقافية الثنوية التي اندلعت في مجتمعهم، وشجبوا النفوذ الغربي باعتباره «تلوثًا أخلاقيًّا ورُوحانيًّا» لروسيا الحقيقية (المسيحية الأرثوذكسية).

من عدة أوجه إذَن؛ فإن الكُتاب الروس الذين يشبهون كُتاب أفريقيا بعد الاستعمار في وضعهم التاريخي، ليسوا شخصيات القرن التاسع عشر مثل «بوشكين»، و«دوستيفسكي»، و«ألكسي تولستوي». الأدب السوفييتي نفسه، قبل كل شيء، هو أدب ما بعد استعمار بمعنًى ما. الفترة من بطرس الأكبر إلى ثورة أكتوبر، يمكن النظر إليها باعتبارها مرحلة شبه استعمارية، كانت روسيا فيها مستغلَّة من قِبَل الرأسمالية الغربية الناشئة، أو على الأقل خاضعة للسيطرة؛ وإن لم يكن ذلك حرفيًّا بواسطة القوى الأوروبية الغربية، سيكون مجازيًّا، بواسطة الخطاب الاستعماري للتنوير الغربي الذي كان يعتبر نفسه التجسيد العام للحداثة. طبيعة الثورة الروسية وكونها ذات مرحلتين، تنطوي في الوقت نفسه على محاولات روسيا التغلب على هذا الإرث. ثورة مارس يمكن النظر إليها إذَن باعتبارها قطيعة ضرورية مع الماضي الإقطاعي لروسيا القيصرية، بينما ثورة أكتوبر تحمل هذه العملية أبعد من ذلك نحو رفض مُعادٍ للاستعمار، ولأيديولوجية البرجوازية الغربية التي كانت قد تسرَّبت تدريجيًّا إلى روسيا، وكانت في حالة انتصار مؤقت في الفترة من مارس إلى أكتوبر ١٩١٧م. باختصار، الثورتان الروسيتان معًا تمثلان بالتحديد الحركة المزدوجة نحو التحرُّر، التي كان «فرانز فانون Frantz Fanon» يراها ضروريةً في أفريقيا المستعمرة: الاستقلال عن الحكم الأوروبي الأبيض أولًا، ثم ثورة طبقية لقلب البرجوازية المحلية التي يمكن أن تصل إلى السلطة في لحظة التحرر.٣٦
وثاقة الصلة بين عمل «فانون» والوضع السوفييتي ما بعد الثوري (وكذلك الأدب السوفييتي بعد الثورة)، يمكن أن نراها بوضوح في رواية جوركي «كليم سامجن Kalim Samgin»، أحد أهم الأعمال الأدبية التي ظهرت في الاتحاد السوفييتي، التي لم تُقرأ على نطاق واسع في الغرب، برغم سمعة جوركي الإيجابية نسبيًّا هناك (مقارنة بغيره من الكتاب السوفييت)، وربما أيضًا بسبب الطول المفرط للعمل (أربعة مجلدات – ثلاثة آلاف صفحة).

«كليم سامجن» عمل غير عادي من أعمال ما بعد الثورة؛ بسبب بطلها البرجوازي وتركيزها على الفترة السابقة على ثورة أكتوبر؛ والحقيقة أن أوجه الشبه بين هذا العمل، وهو أهم أعمال «جوركي» بعد الثورة، والصورة النمطية الغربية لروايات الواقعية الاشتراكية (البطل الإيجابي والنهاية السعيدة، وحسم كل الصراعات لصالح التقدم نحو الاشتراكية)، وذلك بالرغم من مكانة «جوركي»، التي لا تنازع، كأب للواقعية الاشتراكية السوفييتية. كل روايات «جوركي»، في الحقيقة، تختلف بشكل رئيسي عن وجهة النظر الغربية النمطية للواقعية الاشتراكية، مثلها في ذلك مثل معظم الروايات السوفييتية؛ فهي تصور براعة النمط، الذي باستعادته يبدو مجرد مثال آخر على دعاية الحرب الباردة الغربية، ولقطة ذات رؤًى هستيرية لجماعات شيوعية تجتاح الغرب، وتقوم بالسلب والنهب والاغتصاب على طول الطريق.

«كليم سامجن»، عمل أساسي من أعمال الواقعية الاشتراكية، يصور الضرورة التاريخية للثورة الروسية عن طريق التفصيل الملحمي للميلاد المجهض للبرجوازية الروسية، التي كانت تصارع من أجل النفوذ والسلطة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. بهذا المعنى، فإن «جوركي» يسير مباشرةً على خطى الروائيين التاريخيين (كتاب الرواية التاريخية) مثل «سكوت Scott» تحديدًا، كما يرى «لوكاتش».
عند «لوكاتش» «الروايات العظيمة في الأدب العالمي، وخاصة روايات القرن التاسع عشر لا تصور انهيار المجتمع بقدر ما تصور عملية تفسخه. كل رواية تتناول إحدى مراحل هذه العملية، الهدف الأساسي للرواية هو تمثيل الأسلوب الذي يتحرَّك به المجتمع.»٣٧ وهكذا فإن روايات «سكوت» تسرد عملية كنس كاملة لأسلوب حياة بكامله في اسكتلندة الإقطاعية التي كانت تسيطر عليها عشيرة؛ صحيح أنها تتناول هذا الأسلوب بتعاطف، بينما تتناول أفوله باعتباره أمرًا حتميًّا، وليس باعتباره نوعًا من الحنين للماضي، مثلما تتناول «الدون الهادئ» ﻟ «شولوخوف» أُفول المجتمع الزراعي للقوزاق، عندما كانت روسيا تتحرك نحو الاشتراكية. في الوقت نفسه، إذا كان «سكوت» يصور أفول المجتمع الاسكتلندي الإقطاعي، باعتباره متطلبًا تاريخيًّا ضروريًّا لصعود الرأسمالية البريطانية؛ فإن «كليم سامجن» تحكي عن تحلُّل المجتمع البرجوازي في روسيا حتى قبل حدوثه بالكامل، وهكذا لا يكون «جوركي» صدًى ﻟ «سكوت» فحسب، بل إنه يتوقَّع الوضع بعد الاستعمار كذلك. الرؤية البصيرة الرئيسية لرواية «كليم سامجن» هي أن البرجوازية الروسية الناشئة كانت بالفعل متفسخة قبل الأوان، وبالأسلوب نفسه الذي كان «فانون» يتخيل به تفسخ البرجوازية الأفريقية بعد الاستعمار قبل الأوان أيضًا، تلك البرجوازية التي ستصل إلى السلطة متأخرة تاريخيًّا، وهكذا تصبح مجرد صدًى لصعود سلفها الأوروبي. من هنا يمكن الإشارة إلى صحة ملاحظة «ماركس» الشهيرة عن التكرار الحتمي للأحداث التاريخية، باعتباره مأساة أولًا، ثم كمهزلة بعد ذلك. «كليم سامجن» واضحة تمامًا في تصويرها تفسُّخ البرجوازية الناشئة في روسيا ما قبل السوفييتية، فتعطي — بين أشياء أخرى — الكذبة للخيال الغربي المعروف بأن روسيا ستصبح ديمقراطية حديثة لو سمح لحكومة «كيرنسكي KerensKy» بأن تمضي في طريقها دون تدخُّلٍ وقحٍ من لينين والبولشفيك.٣٨ فوق ذلك، فإن «جوركي» يجعل قدرته الثورية حتمية لا مفر منها، عندما يجعل بطله يسقط ميتًا، «رمزيًّا»، لحظة وصول «لينين» المنتصر إلى بطرسبورج في طريقه للسلطة. هكذا يعلن وفاة البديل البرجوازي وميلاد الاشتراكي.
للمقارنة، يمكن أن نورد نصًّا مثل نص «آرماه Armah»: «الجميلون لم يولدوا بعد The Beautiful Ones Are Not Yet Born” (١٩٦٩م) الذي يستخدم منظورًا فانونيًّا٣٩ واضحًا، لكي يفصل هموم غانا في مرحلة ما بعد الاستعمار، ولكنه ينتهي بصورة إيجابية عن مستقبل يوتوبي ممكن، سيولد فيه «الجميلون» في النهاية عندما يكتشف البطل (وهو رمزي دون اسم) حافلة تحمل صورة زهرة (رمز تقليدي لإعادة الميلاد) تحيط بها أسطورة تتكرر في عنوان الكتاب.٤٠ وكما يقول «نيل لازاروس Neil Lazarus»؛ فإن هدف «آرماه» في هذا الكتاب هو أن «يصف الشروط المسبقة للتغيير والقيود القائمة لكي يتم ذلك، كما أن الرواية مصاغة وفقًا لافتراضٍ يرى أن المرء يمكنه أن يطمح بحق إلى إحداث تغيير ثوري في عالمه، من خلال معرفة المرء به ورؤيته كما هو فحسب.»٤١ «لازاروس» هنا يعبر عن فكرة أن عمل «آرماه» يشبه مسرحيات «برتولت برخت Bertolt Brecht»، ولكن «جوركي»، ربما، يقدم تناظرًا أكثر مباشرة. إن رسالة «الجميلون» لا تشبه رسالة «كليم سامجن» في عدة جوانب مهمة فحسب، ولكن العنوان والرسالة المصاحبة لرواية «آرماه» يمكن ملاحظتها بوضوح بالقرب من نهاية عمل «جوركي» الأوتوبيوجرافي «جامعاتي My Universities » (١٩٢٣م)، عندما يقول المزارع المستنير «بارينوف Barinov» ﻟ «جوركي» الصغير: «الأشرار هم الحقيقة، ولكن أين الطيبون؟ إنهم، حتى، لم يُخترعوا بعد. لا.»٤٢

ليس «آرماه» وحده بالطبع هو الذي تأثر ﺑ «فانون» من بين كتاب أفريقيا؛ فالمعروف أن «فانون» هو الذي قدم أهم أساس نظري لرؤيا «نجوجي» السياسية، كما أن التأثير القوي ﻟ «فانون» (وللفكر الماركسي بشكل عام) على كتاب ما بعد الاستعمار في أفريقيا أمر معروف جيدًا. «سمبيني» و«إياي» و«ألكس لاجوما» هي أول الأسماء (إلى جانب «آرماه» و«نجوجي») التي ترد على الذهن في تصويرها هذه الظاهرة. من ناحية، فإن «كليم سامجن» وغيرها من النصوص الروسية بعد الاستعمار تختلف جذريًّا عن الروايات الأفريقية عن التحلل الذي حدث في مرحلة ما بعد الاستعمار؛ بمعنى أن كُتابًا سوفييتًا مثل «جوركي» يمكن أن يستندوا إلى الثورة الروسية باعتبارها أرضية، وذلك يجعلهم أسبق بخطوة من نظرائهم الأفارقة في الرواية الفانونية للتاريخ الثوري. يُضاف إلى ذلك أن الروائيين الروس، إذا كان قد انتهى بهم الأمر عند نقطة مختلفة في مسار السرد التاريخي؛ فذلك أيضًا لأنهم دخلوا تيار التاريخ (بالمعنى الأوروبي الغربي البرجوازي) بطريقة مختلفة عن دخول الأفارقة. في أفريقيا، «التاريخ» جاء أولًا على متن سفن العبيد وفي أشخاص بعثات التبشير التي كانت مكرسة لتدمير الثقافات والأديان الأفريقية الأصلية. في روسيا، هذه العملية بدأت على نحو أكثر إيجابية من خلال محاولات «بطرس الأكبر» في القرن السابع عشر؛ لتحويل روسيا، التي كانت لا تزال منتمية إلى العصور الوسطى، لكي تسير على امتداد خطوط من وحي التنوير الغربي. مشروع «بطرس» أحدثَ تغيرات رئيسية في المجتمع الروسي (وبخاصة بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية)، بينما كان إسهام روسيا في الحياة الثقافية والسياسية لأوروبا عملًا هامشيًّا وثانويًّا في أحسن الظروف. في الوقت نفسه، فإن الانقطاع الراديكالي الذي حدث لمجرى تدفق التاريخ الروسي أثناء حكم «بطرس»، فصل الروس عن ثقافاتهم المحلية وعن تراثهم السياسي كذلك، وهو ما أسهم في النهاية في شعور الروس بالاغتراب التاريخي في القرن التاسع عشر كما وصفه «هولكست».

لم يكن غريبًا أن تتناول كلٌّ من الروايات التاريخية الروسية والأفريقية، مرارًا وتكرارًا، لحظة دخول التاريخ الغربي هذه. محاولات «بطرس» لتحويل روسيا، على سبيل المثال، هي مادة رواية «ألكسي تولستوي» التاريخية «بطرس الأول» التي يصفها «ك. زيلنسكي K. Zelinsky» بأنها مع «الدون الهادئ» «ذروتا الأدب الروائي السوفييتي.»٤٣ الرواية تستدعي «بطرس الأول»، على نحو شديد الحيوية، ونسيج الحياة الروسية في الزمن المظلم البربري لبطلها الرمزي، وتضع يدها بقوة على تعقد وتناقضات نقطة التحول الفارقة تلك في التاريخ الروسي، كما تقدم شخصيات من كل طبقات المجتمع الروسي الذي يتم تصويره باعتباره كيانًا كليًّا متداخلًا، بالأسلوب نفسه تقريبًا الذي يصفه «لوكاتش» باعتباره مشروعًا مهمًّا في الروايات التاريخية الكبرى. من الواضح، حقيقة، أن روسيا هي البطل الحقيقي للنص، رغم أن «بيتر» نفسه هو الشخصية الرئيسية بالمفهوم التقليدي؛ وعلى الرغم من حرص «تولستوي» على تجنب تصوير الثورة، وفق محاولة «بيتر»، بوصفها نوعًا من التوقع الرمزي للمشروع السوفييتي؛ فإنه يوضح مكانة «بطرس» باعتباره سلفًا للبولشفيك، ومجرد معاصر ساعد في دفع روسيا البدائية خطوة إلى الأمام، نحو اليوم الذي سيصبح فيه الاتحاد السوفييتي إمكانية تاريخية؛ وعلى الرغم من تقديم «بطرس» على نحو تبسيطي، يأتي ذلك في إطار ورؤية إيجابيَّين مثل مشروعه التحديثي.

في الوقت نفسه، فإن الروايات الأفريقية عن بدايات الهيمنة الأوروبية في أفريقيا كثيرة؛ كما أن رواية «نجوجي» «النهر في الوسط» مثال جيد على رواية تتناول هذه العملية من منظور معقد، شديد العداء للاستعمار، بينما ترفض إقرار العودة إلى الحنين إلى الماضي قبل الاستعماري. التاريخ عند «نجوجي» يتحرك إلى الأمام فحسب. رواية «مجبول على العنف» تولي، كذلك، اهتمامًا للحظات الحكم الأوروبي الأولى في أفريقيا، بينما تقدم رؤية أكثر تشاؤمًا للتاريخ الأفريقي، باعتباره دورة لا نهائية من العنف، الاحتلال الأوروبي مجرد مرحلة فيه. رواية «آرماه»: «ألفا موسم» تقدم رؤية بانورامية بالمثل، تعترف بالإسهام الأصيل في تاريخ العنف المهلك في أفريقيا، وتتضمن على الرغم من ذلك عنصرًا يوتوبيًّا مهمًّا يبقي على الأمل في مستقبل أفضل على طريق المجتمع الأفريقي التقليدي.

على الرغم من ذلك، فإن رؤية «تولستوي» لإصلاحات «بطرس» بوصفها خطوة تقدمية، يمكن مقارنتها بنص مثل «الأشياء تتداعى»، الذي يوحي عنوانه المستوحى من «ييتس Yeats» بالطبيعة الصادمة والمدمرة للتحديث في أفريقيا المستعمرة. في مقابل الشخصية الديناميكية التاريخية العالمية لبطرس الأكبر، تصور رواية «أتشيبي» البطل التراجيدي «أكونكو»، الذي يعكس موته موت مجتمع «الإيجبو» التقليدي الذي كان شخصية قيادية فيه من قبل. «أتشيبي» يوضح أن هدفه الرئيسي في الكتاب هو تزويد القراء الأفارقة بتصوير واقعي لماضيهم قبل الاستعمار، خالٍ من التشوهات والصور النمطية المفروضة عليه، كما في الكتابات الأوروبية عنه. الأفارقة في كتاب «أتشيبي» لا يعيشون في بدائية وحشية، وإنما في مجتمع معقد، «الحياة فيه محاصرة ومتداخلة ومتسقة مع سلسلة من الاندفاعات الإنسانية، مجتمع يعترف بالمبادئ الأرستقراطية والديمقراطية معًا. حياة تعيشها عشيرة من المتساوين يجتمعون بالأسلوب الأثيني.»٤٤
رسائل «أتشيبي» التي تذكرنا بأن مجتمعات ما قبل الاستعمار في أفريقيا كانت تعمل على هذا النحو المعقد، وهي بالطبع رسائل ذات قيمة لكلٍّ من القراء الأفارقة والغربيين. في الوقت نفسه فإن «أتشيبي» يذكرنا بأن مقدم «الحضارة» الأوروبية كانت له آثار كارثية على ثقافة «الإيجبو» التقليدية، كما كان (وبخاصة عندما يضاف إليها منظور أربعين عامًا من التاريخ ما قبل الاستعماري تقريبًا) شرطًا مسبقًا لحركة، ليس في اتجاه مستقبل ذهبي، وإنما نحو بؤس وأهوال حرب بيافرا والدكتاتوريات العسكرية التالية في نيجيريا. من ناحية أخرى، وأيًّا كانت مأساوية آثار الاحتلال الأوروبي على ثقافة الإيجبو، فقد يمكن الجدال كذلك (كما فعل «ميكايل فالدز Michael Valdez» بالفعل) بأن «أتشيبي» رغم حدة نقده للاستعمار؛ فإنه يقبل في النهاية بالحتمية التاريخية للتحديث، وعلى نحو يبدو منه الاتفاق المبدئي مع «الموروث التاريخاني لتفكير هيجل.»٤٥ بالنظر إليها على هذا النحو، تبدو «الأشياء تتداعى» شبيهة بروايات «سكوت» التاريخية، وبخاصة عندما يروي «أتشيبي» عن موت ثقافة الإيجبو، ويروي «سكوت» عن سقوط ثقافة العشيرة الاسكتلندية (أو موت ثقافة القوزاق الروسية كما يروي شولوخوف مثلًا). في الروايات الثلاث تقديم ثقافة أقدم، يمهد لموجة انقضاض الحداثة، وعلى الرغم من أن «سكوت» و«شولوخوف» في آخر الأمر يصادقان على هذه العملية باعتبارها خطوة ضرورية نحو انتصار الحداثة، كلٌّ في مجتمعه؛ فإن «أتشيبي» يصف العملية من منظور منافس مهزوم للحداثة.
بهذا المعنى، يكون الكتاب السوفييت الذين جاءوا في أعقاب ثورة اشتراكية ناجحة، أقرب إلى «سكوت» من غيرهم من كتاب أفريقيا مثل أتشيبي رغم أن الحالة هي نفسها؛ إذ إن الكتاب السوفييت بعد الثورة كانوا يعملون في وقت كان فيه انتصار الاشتراكية التاريخي مؤكدًا؛ وبالتالي كانوا إلى حدٍّ ما يستشرفون المستقبل في رؤيتهم للتاريخ. الكثير من الروايات التاريخية كذلك يصور المكونات اليوتوبية القوية، التي لا بد من أن تكون بالضرورة موجودةً في المستقبل. ربما تكون «نادين جورديمر Nadine Gordimer» هي الكاتب الأفريقي الذي يشبه الكُتاب السوفييت إلى حدٍّ بعيد في هذا الجانب، وخاصة في روايتها «رياضة الطبيعة» التي تتصور فيها انتهاء «الأبارتايد» على نحو سوف يتحقق بعد وقت قصير. في الوقت نفسه فإن تعقُّد العلاقة بين الكُتاب الأفارقة والسوفييت فيما يتعلق بانشغالهم بالتاريخ، يعكس تعقُّد ظاهرة الحداثة نفسها؛ فمن زاوية يمكن النظر إلى الاتحاد السوفييتي باعتباره ذروة التنوير؛ وبالتالي باعتباره ظاهرة يمكن الجمع بينها وبين «الغرب» في مواجهة الثقافات الأفريقية وغير الغربية، ومن زاوية أخرى يمكن النظر إلى الاتحاد السوفييتي باعتباره ينتمي إلى ذلك الصنف من الثقافات غير الغربية التي طالما أُقصيت من التنوير، وتحاول منافسة الغرب في السوق السياسية والاقتصادية الكونية.
السقوط الحديث للاتحاد السوفييتي، بالطبع، حدثٌ يلقي ضوءًا جديدًا على ظاهرة الحداثة في روسيا، على الرغم من أن المتضمنات الدقيقة لهذا الحدث في حاجة إلى تأكيد؛ فإذا كان المرء، على سبيل المثال، يمكن أن يتفق مع «جون جراي John Gray» في أن محاولة بناء دولة اشتراكية في الاتحاد السوفييتي كانت «أعظم مشروع عقلاني في التاريخ الإنساني» و«مكونًا عظيمًا من مكونات التنوير»، فمن المؤكد أن يَلقى سقوط الدولة السوفييتية الكثير من الشك على الانتصار التاريخي الحتمي للحداثة. «جراي» يعتقد أن «السقوط السوفييتي، في آخر الأمر، لن ينظر إليه أحدٌ باعتباره اندفاعةً أخرى في الحركة التي لا يمكن مقاومتها نحو الغربنة، وإنما باعتباره بداية ردة تاريخية عالمية لهذه الحركة.»٤٦ هذا السقوط إذَن «ربما لا يكون من الأفضل فهمه — لحسن الحظ — باعتباره انتصارًا للرأسمالية الغربية، وإنما — بدلًا من ذلك — كلحظة حاسمة في الحركة الكونية المناهضة للعولمة، القائمة على قدم وساق الآن في أجزاء كثيرة من العالم؛ حيث يتم التنصُّل من الأيديولوجيات الغربية، ورفض وازدراء أساليب الحياة الاجتماعية الغربية.»٤٧ باختصار، التنوير بالنسبة ﻟ «جراي» إفلاس، أما أفضل أمل في المستقل فيوجد في الثقافات غير الغربية، ولكنه على الرغم من ذلك يظل قلقًا خشية أن يكون الامتداد الكوني لمشروع التنوير قد لوَّث الكثير من تلك الثقافات، عن طريق «المشروع الحداثي الراديكالي لإخضاع الطبيعة باستخدام التكنولوجيا في استغلال الأرض لأغراض بشرية.»٤٨
تحليل «جراي» للأحداث الأخيرة، باعتبارها انتصارًا للثقافات الأصلية الكثيرة، غير الغربية، في الاتحاد السوفييتي السابق على توجه التنوير في الدول السوفييتية الرئيسية. هذا التحليل في حاجة إلى تفحُّص على ضوء العوامل العديدة المعقدة، التي ليس أقلها أن سقوط الاتحاد السوفييتي كان يبدو وكأنه يشع من موسكو نفسها إلى الخارج؛ لكي يصل في النهاية إلى كازاخستان وتركمانستان ولكنه لا يتأصَّل هناك. من جانب آخر، فإن اعتقاد «جراي» أن سقوط الاتحاد السوفييتي كان نقطة تحول رئيسية في تاريخ العالم، يشترك فيه كثيرٌ من الباحثين الذين قد يتفق معهم في القليل جدًّا، موحيًا بالأهمية البالغة لفهم التجربة السوفييتية (وربما الثقافة السوفييتية) بالنسبة لكل من يسعى لفهم مسار الحداثة في القرن العشرين. على سبيل المثال، رؤية «جراي» للثقافة السوفييتية باعتبارها نتاجًا للتنوير، هذه الرؤية تستدعي إلى الذهن — من جوانب عدة — عمل «تيودور فون لاو Theodore Von Laue» الصادر عام ١٩٨٧م بعنوان: «ثورة الغربنة العالمية The World Revolution of Westernization» الذي يصور فيه تاريخ القرن العشرين، باعتباره قصة الانتصار العالمي للغربنة التي يمكن اعتبارها مرادفًا للحداثة تقريبًا. في نظر «لاو»، ربما يكون السوفييت هم الذين أظهروا بالفعل أبرز مقاومة للغربنة، ولكنهم كانوا أنفسهم يمثلون قوة غربنة من نوع يختلف قليلًا. وعلى الرغم من أن «فون لاو» ليس متفائلًا تمامًا بخصوص عالم متغربن متوقع، فإنه يختلف عن «جراي» في أنه لا يرى سببًا خاصًّا لضرورة أو حتمية انتهاء الغربنة.٤٩ بهذا المعنى فإنه يستبق مفهوم «فوكوياما Fukuyama» الذي ظهر بعد الحرب الباردة وهو أننا قد وصلنا إلى «نهاية التاريخ»، وأن كل ما يتبقى هو عملية تنظيف ثانوية، سوف تؤكد فيها الرأسمالية و«الديمقراطية» الغربية هيمنتها الكونية الدائمة.٥٠
«جراي» يرد في الحقيقة على «فوكوياما» مباشرة في كثير من أعماله الأخيرة، معلنًا أن رؤيته — رؤية فوكوياما — «نموذج عبثي» للتاريخ.٥١ الحقيقة أن فكرة «فوكوياما» عن التاريخ يمكن تفنيدها من عدة أوجه، ولعلنا نذكر ملاحظة «جون لوكاتش» الحصيفة بأننا نعيش بالتأكيد في نهاية القرن، بَيدَ أنه من الصعب اعتبار ذلك يمثل نهاية التاريخ تمامًا. «لوكاتش» يسلم حتى بأننا نعيش بالتأكيد بداية نهاية العصر الحديث، ولكن ذلك بالنسبة له ليس سوى البداية الأبدية لانتصار رأسمالي ديمقراطي. هناك بالطبع نقاط ضعف خاصة في طرح «لوكاتش»؛ فمن ناحية نجده يسقط أحيانًا في معاداة فجة للشيوعية، على الرغم من تصويره للأمريكيين المناهضين لها بأنهم انتهازيون. هكذا يرثي لسقوط الاتحاد السوفييتي، ولكنه في الوقت نفسه لا يرى أن الرأسمالية والديمقراطية (من مصطلحات فوكوياما الأساسية) قد تجاوزتا حدودهما القصوى واتخذتا توجهات جائرة، بما في ذلك الميل نحو الحكم بناءً على الذوق الجماهيري؛ وهو ما يتناقض مع القيم الراقية المتحضرة في نظر «لوكاتش»، عندما كانت الهيمنة البرجوازية ما زالت مشبعة بالفضائل الأرستقراطية مثل «نبل المشاعر» و«السماحة» و«إعلاء روح الشرف على الرغبة الجامحة في الشهرة».٥٢
إن قصة القرن العشرين بالنسبة ﻟ «لوكاتش» ليست التناقض بين الرأسمالية والشيوعية، القصة هي منافسة بين الدول لا تختلف كثيرًا عن النزعات القومية في القرن التاسع عشر؛ وهكذا فإنه يجادل بأن الحرب الباردة ظلَّت باردة؛ لأنه لم تكن هناك — إلى حدٍّ كبير — تنافرات قومية تاريخية بين الشعبَين الروسي والأمريكي.٥٣ هذا التأكيد ربما يعكس رغبة «لوكاتش» في الانتقاص من أهمية الشيوعية، باعتبارها قوة في تاريخ العالم الحديث، ولكنه يشبه، من بعض الجوانب، جدل «إيريك هوبسباوم Eric Hobsbawm» الحديث وهو أننا باستعادة الماضي سوف نرى، في النهاية، الحدث الرئيسي للقرن العشرين باعتباره ذروة «ألفيات التاريخ الإنساني السبعة أو الثمانية، التي بدأت باختراع الزراعة في العصر الحجري، ولو لمجرد أنها وضعت نهاية لمرحلة طويلة عندما كانت الأغلبية الساحقة من الجنس البشري تعيش على زراعة الطعام وتربية الحيوانات.»٥٤
رؤية «هوبسباوم» للتاريخ قائمة على فكرة ماركسية عن حركة التاريخ باعتبارها تحولات في أسلوب الإنتاج، على الرغم من أنه (هوبسباوم) يعطي رؤيته مدًى أطول بتحديد بدايات الحركة نحو الحداثة في العصر الحجري بدلًا من عصر النهضة. في الوقت نفسه، يعتقد أن الماركسية ما زالت بديلًا شرعيًّا للرأسمالية حتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وخاصة أنه عندما يجادل بأن الثورة الروسية كانت — إلى حدٍّ بعيد — أهم حدث تاريخي في القرن العشرين، لا يرى أن القرن العشرين قد تأثر بشدة بالتناقض بين الرأسمالية والشيوعية، كما أنه لا يرى فشل الاتحاد السوفييتي إدانة للاشتراكية في حد ذاته. «هوبسباوم» يخلص إلى أن «لينين» وغيره من قادة الثورة البولشفية لم يكن لديهم وهمٌ بأنهم يستطيعون بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي فحسب، بل إنهم — بدلًا من ذلك — كانوا يعقدون الأمل على اعتقاد (ليس بعيدًا بالمرة في الإطار الزمني) مفاده أن ثورتهم قد تطلق عنان انتفاضات وهَبَّات الطبقة العاملة في ألمانيا وغيرها من الدول الصناعية المتقدمة. تلك الثورة الأوسع لم تتحقق، رغم أن انتصارات الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية سوف تؤدي إلى انتشار النفوذ السوفييتي في جزء كبير من شرق ووسط أوروبا، وإلى أن يكمل الشيوعيون الصينيون، الذين عانوا طويلًا، مسيرتهم الطويلة نحو السلطة بعد ذلك؛ رغم هذه الانتصارات العسكرية فإن التزام البولشفيك بالاشتراكية بقي على مدى عقود مقصورًا على الاتحاد السوفييتي نفسه، ولم يتضمن أبدًا جهدًا مركزًا للتوسع الإمبريالي. حتى هذا الالتزام نفسه كانت له علاقة أكبر بالنظرية منها بالتطبيق؛ وبعد أن أحبطت خططهم لتصدير الثورة إلى أنحاء مختلفة من العالم، لم يكن أمام الشيوعيين السوفييت خيار كبير سوى إطلاق المشروع اليائس لبناء الاشتراكية في ذلك الكيان السياسي الواسع الفقير المضطرب، وهو الاتحاد السوفييتي. مدركين أن ذلك لم يكن بالإمكان صنعه في بلد متخلف فقير، بدأ السوفييت حملة طموحة — وخرقاء أحيانًا — للتحديث السريع، كانت تقوم على توليفة من «هجوم شامل على تخلف الجماهير الثقافي، تلك الجماهير الأمية المؤمنة بالخزعبلات، وتوجه شامل نحو التحديث التكنولوجي والثورة الصناعية.»٥٥ هذا المشروع لم يكن بلا نجاحات؛ فالسياسات الاقتصادية السوفييتية، كما يشير «هوبسباوم»، «حوَّلَت الاتحاد السوفييتي إلى اقتصادٍ صناعيٍّ رئيسيٍّ في غضون سنواتٍ قليلة، قادرٍ (وهو ما لم تفعله روسيا القيصرية) على البقاء والانتصار في الحرب على ألمانيا، على الرغم من الخسائر المؤقتة لمناطق كانت تحتوي على ثلث السكان، وأكثر من نصف عدد المصانع في كثير من المجالات.»٥٦
بالإضافة إلى ذلك، وفَّرت السياسات السوفييتية شبكة أمان اجتماعي غير مسبوقة في قرون الحكم القيصري، أما في التعليم فقد تم تحويل «بلد أمي تقريبًا إلى اتحاد سوفييتي حديث، وكان ذلك إنجازًا هائلًا بكل المقاييس.»٥٧ على الرغم من ذلك، فإن التأكيد الشديد للتحديث في عهد «ستالين» كان يعني أن المشروع الاشتراكي للتحرر الاجتماعي والسياسي لا بد من أن يتراجع، وكانت النتيجة النهائية أن أصبحت الستالينية نموذجًا، ليس لبناء الاشتراكية (حيث إنها فشلَت في ذلك) وإنما لتحديث المجتمعات التي كانت متخلفة تمامًا ثقافيًّا واقتصاديًّا، بمقاييس التنوير الأوروبي. هذه الحقيقة، ما زالت تؤسس نقطة اتصال أخرى بين ثقافة ما بعد الثورة في الاتحاد السوفييتي وثقافة ما بعد الاستعمار في أفريقيا؛ حيث اتجه عددٌ كبير من الزعماء الذين فهموا أهمية التخطيط المركزي الستاليني من أجل إحداث التقدُّم، إلى ذلك الأسلوب في محاولاتهم بناء مجتمعات ما بعد الاستعمار، التي استطاعت أن تنافس بنجاح في السوق الاقتصادية والسياسية الكونية. حتى الدول النامية بالأسلوب الرأسمالي الواضح (كوريا الجنوبية مثلًا) اتجهَت إلى التخطيط المركزي في بناء اقتصاداتها الجديدة، بينما كان من المفهوم أن تنظر الدول الاشتراكية الواضحة (كان هناك عددٌ كبير منها في أفريقيا في المرحلة الباكرة بعد الاستعمار) إلى النموذج السوفييتي لكي تسترشد به.
لن يكون غريبًا أيضًا أن يتجه صوب التجربة السوفييتية، من يحاولون تطوير هويات ثقافية جديدة في عالم ما بعد الاستعمار واتخاذها نموذجًا، ليس فقط بسبب التشابه الذي أوردناه سابقًا بين ثقافة ما بعد الثورة وثقافة ما بعد الاستعمار، ولكن أيضًا بسبب الدور المهم الذي لعبَتْه الثقافات غير الأوروبية في الإنتاج الثقافي السوفييتي. الحقيقة أن إحدى المشكلات المحتملة مع تحليل «جراي» للسقوط السوفييتي، هي فشله في مواجهة حقيقة مهمة، وهي أن الثقافة السوفييتية في عقودها الأخيرة كان قد تم إغناؤها بإسهامات آداب «قومية» كثيرة، في الوقت الذي كان فيه التيار الروسي في مرحلة هبوط وتحلُّل. وهكذا، بينما كان الكتاب الروس مثل «أناتولي إيفانوف Anatoli Ivanov» و«كونستانتين سيمونوف Konstantain Simonov» مستمرين في إنتاج أعمال مهمة تنتمي لمدرسة الواقعية الاشتراكية بالأسلوب الكلاسيكي للثلاثينيات، كانت طاقات الأدب الروسي الأكثر إدهاشًا بعد الحرب العالمية الثانية تتفجَّر، عن طريق كتاب مثل القازاقي «مختار أوزوف Mukhtar Auezov» والقرغيزي «جنكيز آيتماتوف Chingiz Aitmatov»،٥٨ وعليه لن يكون غريبًا أن نجد الكاتب الهندي «كومار جوشال Kumar Goshal» يحث، منذ سنة ١٩٤٨م، الشعوب المستعمرة في أنحاء العالم على أن ينظروا إلى آداب جمهوريات وسط آسيا السوفييتية، باعتبارها نماذج لمحاولاتهم الباكرة لصنع أدب محلي، مثلما كان كُتاب ما بعد الاستعمار ينظرون إلى الأدب السوفييتي باعتباره مصدرًا للإلهام.٥٩
من بين أمور أخرى، يوحي التأثير المباشر للثقافة السوفييتية في ثقافة ما بعد الاستعمار بأن مقابلة «جيمسون Jameson» الثنوية بين ثقافتَي العالم الأول والعالم الثالث، كما جاءت في مقاله المنشور في ١٩٨٦م بعنوان «آداب العالم الثالث»، تظل في حاجة إلى إعادة النظر، واضعين في الاعتبار الدور المهم الذي لعبه العالم الثاني، الغائب تمامًا عن مقال «جيمسون»، على الرغم من أن بعض أمثلته الرئيسية لأعمال من أدب العالم الثالث هي أعمال لكتاب متأثرين بالفكر الماركسي، مثل السنغالي «سمبيني» والصيني «لو هسن Lu Hsun»، ولكن الصلات وأوجه الشبه المختلفة بين الأدب السوفييتي بعد الثورة والأدب الأفريقي بعد الاستعمار، توحي كذلك بأن إصرار «جيمسون» على أن مثقفي العالم الأول لا بد من أن يولوا اهتمامًا أكبر لأدب العالم الثالث، هذا الإصرار لا بد من أن ينسحب على أدب العالم الثاني كذلك. في السنوات الأخيرة كان هناك اهتمام كبير بدراسة أدب ما بعد الاستعمار بين الباحثين الغربيين المهتمين بالعلاقة بين الأدب والتاريخ، وهو توجُّه واعد بالاستمرار في المستقبل المنظور، كما أن الواقعية الاشتراكية السوفييتية قد يكون لها عائد مشابه، لو أننا فقط تخلَّصنا من فوبيا الستالينية وأعطيناها الفرصة لذلك.
١  ظهر هذا المقال في كتاب: Socialist Cultures East and West: A Post-Cold War Reassessment (Westport, Conn., and London: Praeger, 2000), pp. 11–30 (Dubravka Juraga and M. Keith Booker, eds).
ونعيد نشره بإذن خاص.
٢  Jameson, “Third-World Literature in the Era of Multinational Capitalism,” Social Text, 15 (1986), pp. 65–88 .
٣  Robin, “Socialist Realism, An Impossible Aesthetic,” (1992); Slonim, “Modern Russian Literature from Chekhov to the Present” (1953); Struve, “Soviet Russian Literature” (1917–50), 1951. On the Obvious Bias of Western Sovietologists See Albert Beliaev, The Ideological Struggle and Literature: A Critical Analysis of the Writings of U.S. Sovietologists (1975).
٤  Clark, “The Soviet Novel: History as Ritual” (1981) .
٥  من بين أهم الدراسات المتوفرة بالإنجليزية:
Yuri Barabash, “Aesthetics and Politics” (1968);
Dimitry Markov, “Socialist Literatures: Problems of Development” (1975);
A. Ovcharenko, “Socialist Realism and the Modern Literary Process” (1968);
and Avner Zis, “Foundations of Marxist Aethetics” (1976).
٦  كلمة روسية تعني إعادة البناء. (المترجم)
٧  نسبة إلى «جدانوف». (المترجم)
Lahusen and Dobrenko, eds, “Socialist Realism without Borders”.
عدد خاص من فصلية South Atlantic Quarterly, 94:3 (1995).
٨  Dobrenko, “The Disaster of Middlebrow Tasr, or, Who “Invented” Socialist Realism”, South Atlantic Quarterly, 94: 3 (1995), pp. 773–806.
فصلية South Atlantic Quarterly, 94:3 (1995), pp. 773–806.
٩  Pietz, “The Post-Colonialism of the Cold War Discourse,” Social Text, 19-20 (Fall 1988), p. 69 .
١٠  Ibid., p. 69 .
وللمزيد عن المصادر الكولونيالية لخطاب ما بعد الحرب الباردة، انظر: M. Keith Booker, “Colonial Power, Colonial Texts: India in the Modern British Novel (1997).
١١  هناك كمٌّ كبير من الأدب اليساري الذي قدمه كتاب أمريكيون وأوروبيون، وكان النقاد يعتبرونه دون مستوى الأدب الرفيع. بعد انتهاء الحرب الباردة بدأ النقاد يلتفتون إليه ويهتمون به. للمزيد عن هذا الأدب الأمريكي، انظر:
• Barbara Foley, “Radical Representations and Forms in U.S Proletarian Fiction, 1929–1941” (1993);
• Cary Nelson, “Repression and Recovery: Modern American Poetry and the Politics of Cultural Memory, 1914–1945” (1989); and
• Alan Wald, “Writing from the Left: New Essays on Radical Culture and Politics” (1994).
وللمزيد عن الأدب اليساري البريطاني انظر:
• Andy Croft, “Red Letter Days: British Fiction in the 1930’s” (1990),
• Pamela Fox, “Class Fictions: Shame and Resistance in the British Working–Class Novel, 1890–1945” (1994), and
• H. Gustav Klans, ed., “The Socialist Novel in Britain: Towards the Recovery of a Tradition,” (1982).
وللمزيد عن التشابهات بين الرواية التاريخية الأفريقية والروايات التاريخية لليسار الغربي، انظر: M. Keith Booker, “The Historical Novel in Ayi Kwei Armah and David Caute: African Literature, Socialist Literature and the Bougeois Cultural Tradition,” Critique, 38: 3 (1997), pp. 235–48.
١٢  للمزيد عن كيفية «تدجين» الحداثة لخدمة هذه الأهداف في الخمسينيات و«تحويلها إلى سلاح دعائي في ترسانة الحرب الباردة الثقافية السياسية ضد الشيوعية.» انظر: Andreas Huyssen, “After the Great Divide: Modernism, Mass Culture, Postmodernism” (Bloomington: Indiana University Press,), (1986), p. 190.
١٣  أحيانًا نقع — نحن أنفسنا — في الفخ نفسه. انظر على سبيل المثال: Booker and Juraga, “Bakhtin, Stalin, and Modern Russian Fiction: Carnival, Dialogism, and History” (1995).
الذي ينطلق، حسب الافتراض الغربي العام، من أن كُتاب المنفى والمهجر الروس أهم من الكُتاب السوفييت الذين ينتمون لمدرسة الواقعية الاشتراكية.
١٤  كانت تلك هي الحال وخاصة قبل الحرب العالمية الثانية. أثناء الحرب، كان هناك بالطبع قليل من النقد الصريح للنظام السوفييتي في الأدب السوفييتي، مثلما كان يتم إسكات النقد الراديكالي الذي كان يميز الأدب البريطاني والأمريكي اليساري في الثلاثينيات في أثناء الحرب. بعد الحرب لم تستعد الواقعية الاشتراكية السوفييتية زخمها، ودخلت في مرحلة تدهور وتآكل كان يؤذن بسقوط النظام السوفييتي بكامله.
١٥  Achebe, “Morning Yet On Creation Day,” (London: Heinemann, 1975), p. 29 .
١٦  Irele, “The African Experience in Literature and Ideology,” (Bloomington: Indiana University Press, 1990), p. xiv .
١٧  Obiechina, “Culture, Tradition and Society in the West African Novel,” (Cambridge University Press, 1975) p. 35 .
١٨  Chinweizu, Jemie and Madubuike, “Toward the Decolonization of African Literature,” (DC: Howard University Press, 1983), p. 8 .
١٩  Mudimbe, “The Invention of Africa: Gnosis, Philosophy, and the Order of Knowledge” (Bloomington: Indiana University Press, 1988), p. 90 .
٢٠  نسبة إلى ميشيل فوكو. (المترجم)
٢١  Ngara, “Art and Ideology in the African Novel: A Study of the Influence of Marxism on African Writing” (1985); Gugelberger, ed., Marxism and African Literature (1985) .
٢٢  Ngugi, “Decolonizing the Mind: The Politics of Language in African Literature (London: James Currey, 1992), p. 76 .
٢٣  Lukács, “The Historical Novel” (1973) .
٢٤  Lukács, “The Meaning of Contemporary Realism” trans. John Mander and Necker Mander (1957); London: Merlin, 1963, p. 101 .
٢٥  Ngugi, “Moving the Centre: The Struggle for Cultural Freedoms,” (London: James Currey, 1993), p. 97 .
٢٦  للاطلاع على اهتمام الأعمال الروائية لنادين جورديمر بتاريخ جنوب أفريقيا، انظر دراسة ستيفن كلنجمان Stephen Clingman بعنوان: The Novels of Nadine Gordimer: History from the Inside.
٢٧  Coquery–Vidrovitch, “Africa: Endurance and Change South of the Sahara,” trans. David Maisel (1985; Berkeley: University of California Press, 1988), p. 66.
٢٨  Mudimbe, “Invention of Africa,” p. 20 .
٢٩  يرى «كريستوفر ميللر Christopher Miller» أن وصف سعيد للاستشراق يمكن أن يمتد ليشمل أفريقيا، ولكنه يجادل بأن خطابات المتأفرقين تماثل خطابات الاستشراق التي يصفها سعيد فيما يتعلق بالرؤى الأوروبية للشرق الأوسط، لكن الرؤى الأوروبية لأفريقيا تتضمن جرعة إضافية من الظلام والبدائية والغموض. (Miller, Blank Darkness: Africanist Discourse in French (Chicago: University of Chicago Press, 1985), pp. 14–23).
٣٠  Said, “Orientalism,” New YorK: Vintage-Random House, 1979, p. 7 .
٣١  للمزيد عن الرؤى الاستشراقية لأوروبا الشرقية، انظر كتاب «ماريا تودوروفا Maria Todorova» الصادر في ١٩٩٧م بعنوان: Imagining the Balkans.
وكتاب «لاري وولف Larry Wolff» الصادر في ١٩٩٤م بعنوان: The Map of Civilization and the Mind of the Enlightenment.
٣٢  للمزيد عن كيف أن المخاوف البريطانية من الروس في القرن التاسع عشر كانت أرضية للمخاوف الأمريكية من الروس في الحرب الباردة، انظر: Booker, “Colonial Power,” pp. 171–99.
٣٣  Holquist, “Dostoevsky and the Novel,” (Princeton University Press, 1977), p. 13 .
٣٤  Ibid., p. 14 .
٣٥  Ibid., p. 28 .
٣٦  Fanon, “The Wretched of the Earth,” 1961 .
٣٧  Lukács, “The Historical Novel,” p. 144 .
٣٨  لرؤية ثاقبة مشابهة فيما يتعلق بالمجتمع البرجوازي الناشئ في يوغوسلافيا المتحاربة، انظر رواية Zastave للكاتب «ميروسلاف كرليزا Miroslave Krleza» Banners (1976) وهي رواية تاريخية في أربعة أجزاء، التي تعتبر، من عدة أوجه «كليم سامجن بلقانية». وللمزيد عن Zastave باعتبارها رواية تاريخية، انظر: Dubravka Juraga, “Miroslave Krleza’s Zastave: Socialism, Yugoslavia and the Historical Novel,” South Atlentic Review, 62:4 (Fall 1997), pp. 32–56.
٣٩  نسبة إلى «فرانز فانون». (المترجم)
٤٠  Armah, “The Beautiful Ones are Not Yet Born,” (London, Heinman, 1969), p. 183 .
٤١  Lazarus, “Resistance in Postcolonial African Fiction,” (New Heaven: Yale University Press, 1990), p. 48 .
٤٢  Gorky, “My Universities,” new edn. Trans. Ronald Wiks (1923; London: Penguin, 1979), p. 157 .
٤٣  Zelinsky, “Soviet Literature: Problems and People,” trans. Olga Shatse (c. 1969; Moscow: Progress Publishers, 1970), p. 103 .
٤٤  William Walsh, “A Manifold Voice: Studies in Commonwealth Literature” (New York: Barnes and Noble, 1970), p. 49 .
٤٥  Moses, “The Novel and the Globalization of Culture,” (New York: Oxford University Press, 1995), p. 108 .
٤٦  Gray, “Enlightenment Wake: Politics and Culture at the Close of the Modern Age,” (London: Routledge, 1995), p. 63 .
٤٧  Ibid., pp. 178-9 .
٤٨  Ibid., p. 178 .
٤٩  Von Laue, “The World Revolution of Westernization: The Twentieth Century in Global Perspective” (1987) .
٥٠  Fukuyama, “The End of History and the Last Man” (1992) .
٥١  انظر الفصل الخاص ﺑ «فوكوياما» في كتاب Gray: “Post-liberalism: Studies in Political Thought” (London: Routledge, 1993), pp. 245–50.
٥٢  Lukacs, “The End of the Twentieth Century and the End of the Modern Age” (New York: Ticknor and Fields, 1993), p. 287 .
٥٣  Ibid., p. 33 .
٥٤  Hobsbawm, “The Age of Extremes: A History of the World, 1919–1991” (New York: Pantheon, 1994), p. 9 .
٥٥  Ibid., p. 376 .
٥٦  Ibid., p. 382 .
٥٧  Ibid., p. 382 .
٥٨  للمزيد عن النمو الكبير للآداب القومية في السنوات السوفييتية، انظر كتاب «جيورجي لوميدز Georgi Lomidze» الصادر في ١٩٧٨م بعنوان: National Soviet Literature: Unity of Purpose.
٥٩  Goshal, “People in the Colonies,” (1948) .

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤