تكفي نظرة سريعة على تاريخ الأدب الحديث في فيتنام، لكي نتعرف على
مدى ما بلغه من تطورٍ شكلًا ومضمونًا، والدور الذي قام به في المجتمع،
وكيف اعتمد ذلك على مجمل الظروف السياسية؛ فتاريخ البلاد المضطرب خلال
القرن العشرين كانت له اليد الطُّولى في أن يكون لاحتياجات نضال ما بعد
الاستقلال، وحركة التحرر الوطني والحرب، أثرُها الكبير في بلورته، وأن
يكون الجهد الخلَّاق في الغالب الأعمِّ ملتزمًا بأهداف أبعد. كما في
دول أخرى في جنوب شرق آسيا كانت خاضعةً للاستعمار من قبل، نما الأدب
الحديث في فيتنام يدًا بيد مع الحركة القومية، كما أن نمو المشاعر
القومية في بدايات القرن العشرين عبأ الشعب في أرجاء فيتنام، لكي
يعبِّر الأدب عن الشعور بالظلم والامتهان على أيدي الحكام الأجانب، وعن
الرغبة في الحرية والاستقلال. في ظروف تعرض الدولة بكاملها للخطر، ومع
تأجج المشاعر الوطنية، كان الكُتاب يُبدون استعدادهم للتخلي عن حريتهم
الإبداعية، وتكريس كل مواهبهم لتحقيق أهداف قومية، مخلصين لتعاليم
«هوشي منه Ho Chi
Minh» التي مفادها أن «ليس هناك ما
هو أثمن من الحرية والاستقلال.»
الأدب باعتباره سلاحًا
لكي نفهم الأدب المكتوب في خضم الحرب الأمريكية، لا بد بداية من
أن نفهم تاريخ الثورة والحرب والنضال اللذَين مرت بهما فيتنام، وهو
ما انبثق منه هذا الأدب. كانت ثورة أغسطس ١٩٤٥م هي بداية المرحلة
ما بعد الكولونيالية، وكان إعلان الاستقلال الذي أطلقه «هوشي منه»
في الثاني من سبتمبر ١٩٤٥م وإقامة جمهورية فيتنام الديمقراطية؛
بداية عملية طويلة للتخلص من الاستعمار، وهي عملية — كما تؤكد
«باتريشيا بيللي
Patricia
Pelly» — مضت على نحو جيد بعد
أن انسحب الفرنسيون من فيتنام في ١٩٤٥م؛ حيث كان «الكثير من
النماذج والتمثيلات الكولونيالية قد بقي في مكانه، سواء باعتبارها
موضوعات للتمثل اللاواعي أو ظواهر سلبية، ينبغي اجتثاثها.»
٤ كان الحزب الشيوعي يبزغ تدريجيًّا بوصفه قوة توحِّد
الفصائل السياسية المختلفة بأساليبَ مدروسة تحت راية التحرر
الوطني، واستمرَّت قوَّتُه في النمو حتى بعد تحقيق الاستقلال. كان
التمهيد للتحول من دولةٍ محتلة إلى دولةٍ مستقلة يتم بأساليبَ
عملية بواسطة الشيوعيين، حتى قبل التخلص من النظام
الاستعماري.
كان لا بد من أن تكون الثقافة أداةً مهمة من أجل تأكيد معنًى
جديد للسلطة خارج نماذج الاستعمار، ومن أجل استعادة هويةٍ قومية
جرحَتها وشوهَتها سنوات الحكم الأجنبي. المسئولون الفيتناميون
الذين كانوا يعرفون حجم تأثير المبدعين في المجتمع وما يحظَون به
من تقدير، كانوا مُصرين على إخضاع هذا التأثير ليكون تحت سيطرتهم،
مستغلين في ذلك المشاعر الوطنية لدى المبدعين أنفسهم. بالنسبة لهم،
كان «وضع قواعد واضحة للعبة» — أو بلورة سياساتٍ ثقافية وتحديد دور
الفنان في المجتمع — خطوةً مهمة في تدجين الثقافة. شهدَت بداية
العام ١٩٣٥م جدلًا واسعًا حول دور الأدب والكاتب في المجتمع
الفيتنامي، ومحاولات استقطاب من جانب المنادين بمبدأ «الأدب للأدب»
وأولئك المنادين بمبدأ «الأدب من أجل الحياة»، ولكن عدد مؤيدي
الأدب الملتزم تزايد مع بداية حرب الهند الصينية الأولى. وإذا كان
الأدب الفيتنامي في العشرينيات والثلاثينيات قد حرر نفسه من قيود
المرجعية الأدبية التقليدية، يساعده في ذلك تطوُّر فلسفةٍ شديدة
الفردانية؛ فإن هذه الفردانية نفسها كانت تواجه تحدياتٍ كثيرة من
المشاعر القومية العارمة في أواخر الثلاثينيات وفي الأربعينيات؛
فكثيرٌ من الشعراء الذين تملَّكَتهم مشاعر اليأس والحزن الباطن،
شحذوا أقلامهم لخدمة حركة التحرر الوطني التي كانت تُزودهم بمشاعرَ
متجددة للتحقق الذاتي. الشعراء الذين كانوا قبل عقدٍ واحد يصارعون
من أجل تحرير أرواحهم الشعرية، كانوا الآن يخلعون عنهم مثاليتهم
الرومانسية ويشجبون أنانيتهم السابقة، ويعلنون الولاء والتأييد
للحزب الشيوعي. الشاعر «زوان ديو Xuan Dieu» على
سبيل المثال، الذي كتب الكثير من القصائد الغنائية الحميمة، استنكر
أعماله التي كتبها قبل الثورة، وهجر الشعر الموضوعي المحايد
وموضوعاته عن الحياة والحب والأمل، وذلك لحساب شعر الثورة والولاء
الحزبي والاحتفاء بالطبقات العاملة.
في جهدهم المنظم لإدارة الثقافة و«تشريع الجماليات الفنية»، كان
«الفيت منه» يسترشدون بالحركات الشيوعية العالمية، وبخاصة
السوفييتية والصينية، في صوغ السياسات الثقافية ووضع قوالب
أيديولوجية مشبعة بروح الاشتراكية. مستلهمين الكُتاب السوفييت،
وبخاصة «مكسيم جوركي Maxim
Gorky»، استطاع القادة
الفيتناميون تطوير نموذجهم الثقافي، بالاتساق مع مبادئ الواقعية
الاشتراكية وأسلوب مبرمج يؤكد الاشتراكية أو الشيوعية باعتبارها
النظام التقدمي الوحيد، وكبح الفردانية لحساب الجماعية، مع جنوح
قوي نحو تفاؤل تحريضي وتوجه تعليمي.
تقترن مهمة تحديد السياسة الأساسية للثقافة باسم «تروأونج شنه
Tru’ong
Chinh»،
٥ المفكر الرئيسي وسكرتير عام الحزب الشيوعي في الفترة
من ١٩٤١م إلى ١٩٥٦م، التابع المخلص للماركسية اللينينية الذي سعى
إلى تحويل الثقافة الفيتنامية إلى ميدان قتال يمكن أن توضع عليه
أسس فيتنام اشتراكية جديدة. كتبه: «أطروحات عن الثقافة الفيتنامية
Theses on
Vietnamese Culture » (١٩٤٣م)،
و«الماركسية وقضايا الثقافة الفيتنامية
Marxism and the Issues of Vietnamese
Culture» (١٩٤٨م)، وضعت
المعايير الضرورية لتسهيل عملية قولبة الثقافة لكي تصبح أداة في يد
الثورة والشيوعية، كما وضعت أسس الجماليات الفنية المسيَّسة. إيمان
«تروأونج» الراسخ بأنك «لكي تكون شاعرًا، يعني أن تكون صادقًا
ونقيًّا وشجاعًا صاحب إرادة قوية، وأن يكون لك هدف ولديك نار.»
ومناشدته الشعراء (للإمساك بالقلم من أجل تدمير طغاة العالم،
بتحويل القوافي إلى متفجرات والقصائد إلى قنابل)، لكي «يصبح شعركم
مع سواعد عمالنا الذين يحرثون حقول المستقبل الزاهر»،
٦ هذه الأفكار تمت صياغتها على نحو أكثر تفصيلًا في
«أطروحات» تروأونج. المثقفون المبدعون يقومون بدور «الكادر»
الثقافي المنوط به تسهيل عملية التواصل بين الحزب والناس. كانت
استعارات مثل «الشعر سلاحًا» و«الثقافة ميدانًا للقتال» مستخدمة
لكي تقضي في الجدل الدائر حول دور الفن، وتضمن استئصال كل ما من
شأنه أن يعطل المسيرة نحو الاشتراكية. الالتزام بالواقعية
الاشتراكية باعتبارها الأسلوب الوحيد المقبول للإبداع، كان يتطلب
أن يكون أي عمل، كل عمل فني، من أجل الجماهير ولخدمة قضية الثورة.
المحكمون النهائيون الذين يقررون قيمة أي عمل إبداعي هم
«الجماهير»، الذين — بكلمات «تروأونج» — «يعرفون أكثر بما أن لهم
آذانًا كثيرة وأعينًا كثيرة وأذهانًا ذكية وعواطف جمعية سريعة
الاستجابة، فما قد لا يؤكده أحدهم، من الطبيعي أن يؤكده غيره.»
٧
كان الإعلاء من شأن الواقعية الاشتراكية لتكون الأسلوب الوحيد
المقبول للإبداع والخلق الفني؛ يمثِّل مشكلات عدة سياسية وفنية؛ إذ
أدى ذلك إلى كبح الإبداع والخلق، وساعد على ظهور فن متماثل متشابه
مكرر لا يحمل أي مفاجآت إبداعية، فكان لا بد من أن يكون النثر
والشعر واقعيين في الشكل واشتراكيين في المضمون. وبينما كانت
السلطات الفيتنامية تقبل، وربما تتذوَّق، الواقعية الاشتراكية لدى
كُتاب أوروبا بشكلٍ عام لأنها تفضح المشكلات الاجتماعية، كانت في
الوقت نفسه تعتبرها برجوازية ومثالية ومتفسِّخة وغير علمية؛ لأنها
لا تكشف عن أن الصراع الطبقي والثورة والماركسية هي الحلول الحتمية
لمثل تلك المشكلات؛ كما كانوا يعتبرونها، بالإضافة إلى ذلك كله،
مغرقة في التشاؤم. على النقيض من ذلك كان لا بد من أن تكون أعمال
الواقعية الاشتراكية النثرية والشعر الثوري نابضة بروح التفاؤل
الذي يحفز القُراء، ويرسم رؤيةً إيجابية للمستقبل الاشتراكي. وحيث
إن أعمال الواقعية الاشتراكية تحلُّ الواجب الجمعي محل المصير
الفردي، لم تقدِّم تصويرًا نفسيًّا شاملًا. لم يكن هناك اهتمام
بالاعتبارات الأسلوبية؛ اللغة الأدبية بسيطة وبعيدة عن التنميق،
وتضمن أن تكون الرسالة السياسية بعيدةً عن الغموض، مفهومة للجميع؛
وبالتالي فإن التأثير الرئيسي للكتابة الثورية يتحقق من خلال
أسلوبٍ مباشر، ولغةٍ مزدحمة بالرطانة الاشتراكية، والكليشيهات
السياسية عَبْر استعاراتٍ شعرية تقليدية مكرورة. ادِّعاء الواقعية
الاشتراكية الموضوعية، على أية حال، كان أمرًا إشكاليًّا. كان
«تروأونج شنه» يحثُّ الكُتاب على أن يؤكِّدوا الحقيقة المفيدة
للثورة فحسب، وبينما كان بالإمكان الكتابة عن هزيمةٍ ما في معركةٍ
ما على سبيل المثال، كان من الضروري أن يجعلوا القارئ يدرك كيف
«ضحى جنودنا بأنفسهم بشجاعةٍ نادرة» و«لماذا خسرنا؟» و«أي جزء في
هذه الهزيمة كان يُعتبر انتصارًا على الرغم من ذلك؟» و«كيف لم
يتردَّد جنودنا في التضحية بأنفسهم؛ حيث إن كلًّا منهم كان يتعلم
من التجربة بكل حماسة، استعدادًا للانتصار في المعارك القادمة؟»
٨ يشير «كيم إن بي ننه
Kim N. B. Ninh»
إلى أن تأثير هذه الأطروحات لم يكن كبيرًا،
٩ وعلى الرغم من ذلك فإن الإصرار الذي صعَّدت به حكومة
«هوشي منه» حملتها للترويج لسياستها الثقافية، والنقد والعقاب لمن
كانوا يعارضونها، إلى جانب إزالة الاختيار والجدال السياسي بعد
ثورة ١٩٤٥م، سرعان ما حول هذه الكراسة لتصبح هي «كتاب» الإنتاج
الثقافي ودليل عمله.
صعود الحرب الباردة في الخمسينيات حَوَّل أبعاد القومية
الفيتنامية تدريجيًّا وأنظمتها في إطار «ساحة القتال» الأوسع للحرب
الباردة، وكانت الروح الوطنية والإرث الاستعماري ورؤية الدولية
الاشتراكية، بالإضافة إلى الآليات الجديدة للحرب الباردة، هي ما
حدد نماذج النظام ما بعد الكولونيالي البازغ في فيتنام. الانتصار
الذي تحقق في «ديان بيان فو» زاد من شعور «الفيت منه» بالكرامة
وجعل قيادتهم وتوجهاتهم أكثر ثورية. قمعهم للتمرد الثقافي
١٠ في أواخر الخمسينيات كثف الإملاءات الأيديولوجية على
الأنشطة الفكرية والثقافية وأحكم السيطرة التنظيمية عليها.
استمرت هذه التوجهات خلال حرب الهند الصينية الثانية، تلك الحرب
التي نحَّت الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية لعملية التحرر
من الاستعمار. الدعم الأمريكي والمساعدات المالية للفرنسيين (وكان
ذلك في عهد إدارة ترومان كجزء من سياسة احتواء الشيوعية) لم ينجحا
في منع سقوط القوة الكولونيالية الفرنسية في «ديان بيان فو». أنهى
مؤتمر جنيف في ١٩٤٥م حرب الهند الصينية الأولى رسميًّا، وقسم
فيتنام مؤقتًا على امتداد خط التوازي ١٧، صانعًا بذلك جمهورية
فيتنام الديمقراطية التي يحكمها الشيوعيون في الشمال، وجمهورية
فيتنام المستقلة في الجنوب. دخلت الحكومة الأمريكية لتقديم الدعم
المباشر لفيتنام الجنوبية، وساعدت في تنصيب نظام «نجو دنه ديم
Ngo Dinh
Diem». كان المفترض أن تمنع
المعونات المالية والاقتصادية والعسكرية ووجود عدد كبير من
المستشارين العسكريين، سقوط فيتنام الجنوبية في أيدي الشيوعيين. في
الشمال صعَّد «الفيت منه» حملة لإعادة توحيد فيتنام تحت سيطرتهم،
وبدَءوا التسلل إلى الجنوب مؤسسين شبكة دعم قوية مع حملة دعائية
كاسحة. منذ ١٩٦٠م، كانت كل هذه الأنشطة تتم بدعم من جبهة التحرير
الوطنية، التي كانت قد شكلت في فيتنام الجنوبية في النهاية لتصبح
صراعًا عسكريًّا كاملًا. حاولت الإدارات الأمريكية المتوالية حل
المشكلة، وبينما كان الجهد الأمريكي يتسع، كانت تتسع كذلك المعارضة
للحرب سواء في داخل الولايات المتحدة أو في العالم بأسره؛ وفي
السابع والعشرين من يناير ١٩٧٣م تم الاتفاق على وقف لإطلاق النار
كان تمهيدًا لانسحاب أمريكي من فيتنام. فشل جيش فيتنام الجنوبية
المنهك في إيقاف تقدم «الفيت منه»، وبسقوط «سايجون» في ٣٠ أبريل
١٩٧٥م التأم شمل الدولة مرة أخرى تحت الحكم الشيوعي، وأُعلِنَت
جمهورية فيتنام الاشتراكية.
أثناء الحرب ضد الأمريكيين كانت الدعوة للوحدة تقوى، كما كان
يقوى الالتزام، وكان المثقفون مستمرين صفًّا واحدًا في شجب العدو
لينخرط الأدب تمامًا في النضال من أجل التحرر الوطني، مبتعدًا عن
كل ما يمكن اعتباره رومانسيًّا أو فردانيًّا، لكي يحفز ويقدم نماذج
ثورية للقارئ، وتمت تنحية كل المثل الأدبية العليا مثل الجماليات
الفنية والإمتاع وتصوير الواقع، وذلك باسم الهدف الأسمى. التحرر
الوطني.
موضوعات وأفكار شعر الحرب
من بين الموضوعات والأفكار الرئيسية السائدة في الشعر الفيتنامي
في فترة الحرب ضد أمريكا، الإيمان بعدالة القضية. الدعم الكبير
للحرب والثقة المطلقة في عدالة أهدافها، مكنا الشعراء الفيتناميين
من أن يستمدوا طاقة نفسية كبيرة من «المساهمة في عمل جماعي له
معنًى وهدف».
١٥ كان ذلك يجعلهم يشعرون بالواجب ويملؤهم بالثقة واحترام
النفس. شعرهم خلو من الشك ورثاء الذات والشعور بالذنب وعلى خلاف
الأمريكيين، لم يكن على الفيتناميين «أن يبحثوا عن معنًى للحرب».
غزو جنود أجانب للأراضي الفيتنامية جعل مشاركتهم في الحرب حتمية،
ليس دفاعًا عن الوطن الأم فحسب، بل عن هوية فيتنام نفسها كذلك. هذا
الشعور نجده منعكسًا في الإشارة إلى الحرب باعتبارها «حرب خلاص
وطني ضد الأمريكيين».
القصائد المكتوبة أثناء الصراع كلها تقدير وإجلال لهذا الهدف
المشترك. هناك قصيدة للشاعر «فام تيان
Pham Tien»
بعنوان «سائقو شاحنات بدون زجاج يحمي من الرياح» (١٩٦٥م)، هذه
القصيدة تصور روح التفاني لدى سائقي الشاحنات الذين كانوا يسافرون
في الظلام على طول طريق «هوشي منه» لنقل المؤن والذخائر؛ فهم
يقومون بعمل شاق وخطر بدافع من الواجب؛ إذ «ما دام هناك قلب في
الشاحنة، فذلك يكفي».
١٦ في قصيدة أخرى بعنوان «خيزران فيتنام» للشاعر «نجوين
ديو
Nguyen
Duy» يستخدم الشاعر قوة ومرونة
الخيزران كناية عن إصرار وعزيمة الشعب الذي «لا يبحث عن غطاء في
الظل»، الذي «لا يخشى التربة الضعيفة
١٧ لأن جذوره قوية»، «لأن إيمانه راسخ بأنه «سيقوم» مرة
أخرى»، وتمضي القصيدة:
في العاصفة، تحمي السوق بعضها بعضًا،
وتلتف الأفرع حول بعضها،
لا أحد يقف بمفرده لأنهم يحبون بعضهم بعضًا،
وهكذا القلاع والحصون.
القوة التجريدية للطبيعة سوف تضمن أن «تنبثق من
التربة سوق جديدة عندما يموت الخيزران القديم»، وبالمثل فإن الثبات
والتضامن هما ضمان استمرار القتال على الرغم من التضحيات.
في قصيدة أخرى بعنوان «الوداع الأحمر» للشاعر «نجوين ماي
Nguyen
My» نجد تمثيلًا آخر ذا صبغة
سياسية أعمق في الدعوة للوحدة التامة لمواصلة الكفاح. الجندي الذي
يودِّع زوجته، مرتبط بها وبالأمة كلها «رمزيًّا» باللون الأحمر
الموجود في كل شيء: الحرارة، نار المطبخ، رداء المرأة، ضوء الشمس،
لون الشفاه، الحب المتأجج. في الوقت نفسه نجد اللون الأحمر
مستخدمًا باعتباره رمزًا للوطنية والوحدة الأيديولوجية والإخلاص
للواجب.
حمرة اللون الأحمر المتوهج،
تشبه الحمرة النارية لبراعم الموز،
تشبه حمرة لهب المطبخ،
التي تلوح من قرية بعيدة في الليالي الباردة
العاصفة.
الحمرة التي سوف تتلاحق،
كذلك يستخدم الشاعر «فام تيان دووات
Pham Tien
Duat» الضوء الذي يخترق الظلام
رمزًا للحياة والبقاء، وذلك في قصيدته «النار في المصابيح»
(١٩٦٧م). مع اقتراب القصف، كانت «الحياة تنسحب» إلى الظلام لكي
تختبئ من طائرات العدو، وكانت المصابيح تساعد الأطفال لكي يذهبوا
إلى مدارسهم ليلًا، كما تساعد الشباب على قراءة رسائل الحب. ضوء
المصابيح، كذلك، يرمز للرغبة في الحرية؛ فالعدو قد يطفئ النور ولكن
الشعب سيعيده لأنه ينهض دائمًا دفاعًا عن الوطن:
ليلة بعد ليلة على أرضنا،
ما زالت المصابيح تضيء،
المصابيح تستعيد نيران ألف عام
من حياتنا النضالية الأولى،
النيران التي يحتفظ بها جيل بعد جيل.
١٩
الضوء في القصيدة رمز للمستقبل، ولإرادة سياسية،
ولنجمة الشيوعية الخماسية.
الارتباط الوثيق بين الأرض والشعب موضوع رئيسي آخر من موضوعات
شعر الحرب الفيتنامي؛ حيث نجد الكثير من القصائد المشحونة بالروح
الوطنية والتماهي مع أرض الوطن الأم. يشير «كيفن باون
Kevin
Bowen» إلى أن «الإيمان بقدرة
الأرض على الإبقاء على شروط الكفاح أمر محوري بالنسبة للشعر والثقافة.»
٢٠ «نجوين ديو
Nguyen Duy»، على سبيل
المثال، كتب عددًا من أفضل القصائد المعبرة عن حب الوطن، وطن
«الآلام المبرحة» الذي يتفجر فيه «العسل من الداخل».
٢١ قصيدته «أرض حمراء – مياه زرقاء» (١٩٧١م) تصور الدمار
الذي تحدثه القنابل، ولكنها في الوقت نفسه حافلة بصور غنائية عن
أنابيب مياه قصفتها الطائرات فتحول الماء إلى «ماء ورد»،
٢٢ وتعلن بقاء الأرض. هذا الموضوع نجد له تصويرًا جيدًا
في قصيدة قصيرة بعنوان «عطر الحديقة» للشاعر الجنوبي «لام ثاي ماي
دا
Lam Thi My
Da»:
ليلة أمس، انفجرت قنبلة في الشرفة لكن زقزقة الطيور تنعش
نسيم الصباح، أسمع الأشجار العطرة، أنظر في الحديقة فأرى
عنقودَي جوافة ناضجَين .. صامتَين …
٢٣
لغة السطر الأول عملية، خلو من العاطفة، في مقابلة مع صور غنائية
لطبيعة متفجرة، وكما في قصيدة «نجوين ديو»: «خيزران فيتنام»، التي
ذكرناها سابقًا، نجد الطبيعة أكبر من أن تحكم عليها الحرب سيطرتها.
الطبيعة لا تذعن لشيء مهما بلغَت قُوَّتُه. بإيجاز محكم ومؤثر تنظر
القصيدة إلى ما هو أبعد من الحرب وتضمن أن يكون للأمل مغزًى
وللحياة معنًى.
يستمد قدرٌ كبير من شعر الحرب في فيتنام قُوَّتَه من التوتُّر
المُضمَر في المقابلة بين هدوء وسكينة الريف الفيتنامي (الأغاني
الرعوية، حقول الأرز، برك الماء، الأنهار، الجبال، الجاموس،
الأطفال … إل خ) وآثار الحرب المدمرة. من أقوى الأمثلة على ذلك
قصيدة الشاعر «بو دك
Pho
Duc» «الصبي والجاموسة في حقل
الجثامين»، والصبي الذي يرعى الجاموسة رمز لفيتنام الريفية، وهي
صورة مشبوبة العاطفة متكررة الاستخدام، ووضعها هنا في مقارنة بحقل
الجثامين يعبر عن حالة الفقد العميقة؛ فقد الحياة وجمال المشهد
الطبيعي وبراءة الطفولة، عندما تكون في مواجهة أهوال من صنع
الكبار. هذه القصيدة أمينة في وصف الموت وما يخلفه من أجساد مشوهة
تلوث مشهد الرعي اليومي. الصبي يحاول أن يفهم ما حدث، والأهم أنه
يحاول أن يفهم لماذا حدث، على أن اكتشاف منطق للحرب، أمر أكبر منه
ومن عقله القاصر.
٢٤ الصبي عاجز عن فهم عبثية القتل، والبشر «المتحضرون»،
بالنسبة له، أسوأ من الحيوانات.
تتشابك قرون جواميسي أحيانًا،
إلا أنها لا تؤذي بعضها البعض وأنا أسوقها
أما أنتم، أيها البشر المتحضرون … المتقدمون …
فلماذا تتقاتلون؟ لماذا تغطون الحقول بالجثث؟
وتروون الأرض بالدماء؟
كما توضح السطور السابقة، نجد أن حضور الحرب
واقتحامها كل جوانب الحياة اليومية، هو أحد الموضوعات الرئيسية في
شعر الحرب الفيتنامي. لم يكن هناك خط فاصل بين جبهة القتال والجبهة
الداخلية، ولا فرق كبير بين الجندي والمدني. قسوة الحرب تكمن في
إلغائها حق الناس في حياة عادية. افتقاد الناس لكل ما هو عادي
ومألوف في الحياة، حتى وإن كان يبدو تافهًا، كان محل شجب في كثير
من قصائد الحرب. في قصيدة «حصاد ليلي» (١٩٧١م) للشاعر «لام ثاي ماي
دا
Lam Thi My
Da»، نحن مع صبايا يحصدن الأرز
ليلًا، على رءوسهن قبعات مخروطية، لا مباليات بأخطار القصف ولا
بالقنابل التي لم تنفجر بعدُ، لا تخيفهن الطلقات والقنابل
والشظايا. الندى، فحسب، الذي يبلل شعرنا المضمخ بعطر الليمون.
٢٥ رفضهن الثوري للسماح للحرب بتعطيل حياتهن يساعد على
التقليل من خطرها. كذلك فإن الحرب لا تحرِّر الناس من الرغبات
الإنسانية، وكثير من القصائد يقيس تكلفة الحرب بمدى الميل العاطفي.
في مجموعته «قصائد حب كتبت في الحرب»، يعبر الشاعر «نجوين كوا دايم
Nguyen Khoa
Diem» عن أحزان فراق الحبيب
ويصف الروح باللهب الذي تؤججه الرغبة.
٢٦ في حمى الحرب، صدمة الفراق هي ما يعذب معظمهم، إلا
أنها في الوقت نفسه «حافز على القتال» يولده «الأمل في اللقاء»،
والتطلع لأن «نكون أحرارًا في حبنا». على نحو مشابه، نجد «نجوين
ديو
Nguyen
Duy» في قصيدته «توق» (١٩٧٠م)
يتحرق شوقًا إلى حبه عند «تسلق المجازات المرتفعة» و«عبور الأنهار»
و«التشبث بالخنادق».
٢٧
وهناك موضوع سائد آخر في شعر الحرب الفيتنامي، وهو معاناة النساء
وما يقدمنه للمجهود الحربي، ويعبر عن ذلك القول المأثور الفيتنامي:
«في الحرب، حتى النساء لا بد من أن يقاتلن.» الوضع الاجتماعي
والثقافي للمرأة الفيتنامية حافل بالتناقضات والتوترات؛ وعلى الرغم
من أن الأخلاقيات الكونفوشيوسية تجعلهن في وضع التبعية للرجل؛ فإن
الأيديولوجية الماركسية جاءت لهن بالتحرر والمساواة، خالقة بذلك
مصدرًا محتملًا للاختلاف مع واقع المجتمع الفيتنامي وحياة الأسر
الفيتنامية. العلاقات الإنسانية المعقدة زادت تعقيدًا بسبب الحرب.
غياب الرجال الذين ذهبوا للقتال في الغابات كان يستلزم قيام النساء
بأدوار مختلفة، لم يكن متوقعًا منهن تحمل مسئوليات الرجال فحسب، بل
وتقديم العون للجبهة والمقاتلين. يشير الناقد «هيو – تام هو تاي
Hue-Tam Ho
Tai»: إلى أن الحرب في الأدب
الغربي تظل تجربة ذكورية في الغالب، كما أن القتال يعتبر اختبارًا
للرجولة، بينما طبيعة حرب العصابات في فيتنام خلقت «فضاءً
عسكريًّا» عامًّا، كان ينتظم الجميع ويتطلب مشاركة الكل بمن في ذلك
النساء، ويخلص إلى أن «تمثيل الحرب بوصفها تجربة في الدفاع البطولي
عن النفس، يجعل تأنيثها ممكنًا.»
٢٨ كثير من الشعر الفيتنامي يتناول إسهامات المرأة: بناء
وتمهيد الطرق، ردم الحفر بعد القصف، إخلاء طريق «هوشي منه» وإصلاحه
لكي تمر عليه شاحنات المؤن … كل هذه الأعمال كانت من نصيب النساء.
كن يختبئن في الغابة إلى أن يتوقف القصف، ثم يخرجن لردم الحفر
وإزالة الأنقاض وتفجير ما لم ينفجر من القنابل. حياة بالغة الخطر،
حيث كان الموت أقرب من حبل الوريد نتيجة للشظايا والمواد
الكيماوية، وظروف الغابة بالغة الصعوبة. يصور الشاعر «فام تيان
ديووات
Pham Tien
Duat» حياة مثل هؤلاء النساء
في قصيدة بعنوان «إلى المتطوعات الصغيرات» (١٩٦٨م)؛ حيث نلتقي
جنديًّا يتذكَّر لقاءً جمعه مصادفة بفتاة كانت تقوم بإبطال مفعول
بعض القنابل، كما يتذكر ابتسامتها العذبة، وسخرياتها الصغيرة التي
كانت تتبادلها معه ومع من يمر بها من الجنود. الجندي، متأثرًا
بشجاعتها التي لا تتباهى بها، مدركًا أهمية وخطورة العمل الذي تقوم
به، يقول:
بجوار البئر سقطت قنبلة،
وأراكِ نائمةً بالقرب منها،
قدماكِ يغطيهما الطين،
طوال النهار، تبطلين مفعول القنابل
وفي الليل تصرخين أثناء نومك …
٢٩
أما قصيدة الشاعر «لام ثاي ماي
Lam Thi
My»: «سماء حفرة القنابل»
فتحتفي ببطولة شابة تضحي بحياتها من أجل إنقاذ الآخرين:
سمعت أنكِ تعملين في إنشاء الطرق،
تحملين كل هذا الحب لبلادك،
اندفعت ملوحة بمشعلك،
تستدعين القنبلة لكي تسقط عليك أنت؛
حتى يظل الطريق صالحًا لاستخدام القوات.
٣٠
أما عملها الذي تقوم به، عملها الذي ينطوي على
إنكار للذات، فيظل إلهامًا للآخرين:
نهارًا، أسير تحت السماء التي تغمرها الشمس،
هذا القرص اليقظ، القلق،
هل هو قرص الشمس أم قلبك
ذلك الذي ينير أمامي،
وأنا أسير على الطريق الطويل؟
لا يقدم الشعر الفيتنامي صورًا من المشاركة
المباشرة للنساء في الحرب فحسب، بل لعل الأهم هو أنه يقدم صورًا
لهن باعتبارهن أمهات جنود يقاتلون دفاعًا عن الأرض الأم. الشاعر
«هيو تام هو تاي
Hue-Tam
Ho Tai» يفسر لنا كيف أن
التباهي بذكرى موت جندي في فيتنام يكون من حق الأم قبل أي إنسان
آخر، هو مدعاة تفاخرها. الأم الثكلى التي تبكي ابنها رمز للحرب
وأهوالها، وكروب الأمهات هي كروب الأمة بأسرها، والشجاعة ليست في
ميدان القتال فحسب، وإنما في تقبل فقد الأبناء والأزواج في الحرب،
إنه ضرب آخر من البطولة أكثر خصوصية. قصيدة «فام ديان دووات
Pham Tien
Duat»: «الأم عند نام هونه»
(١٩٦٨م) تصور، على نحو مؤثر، شجاعة أم «قتلت القنابل زوجها بينما
كان يصطاد السمك»، وعلى الرغم من ذلك «تترك ابنتها تتطوع للقتال».
٣١ في قرية كانت أشجار الخيزران ما زالت تهتز فيها
ارتجافًا من القصف، كانت الفتاة ترعى شئون المارة من المقاتلين
وتقدم لهم الطعام والمأوى، وعلى الرغم من خسارتها الشخصية نجد
كلماتها الوداعية لهم مليئة بالتحدي: «من الأفضل أن تأكل الملح
بقية حياتك من أن تعيش عبدًا»؛ وكما يقول «تشي لان فيان
Ché Lan
Viên» في موضع آخر: «من الصعب
أن تكون أمًّا في فيتنام.»
٣٢ الحرب حولت واجبات الأم من تعليم ابنها أو ابنتها
التعرف على الزهور والطيور إلى التعرف على صوت الطائرات المقاتلة
وهي تقترب، وكيف يجد أو تجد ملجأً للاحتماء به. كانت مسئوليات
الأمهات تجاه أبنائهن الذكور شاقة على نحو خاص، وكما تقول الأم عند
«نام هونه»:
في بعض الأيام،
يكفي أن نعلم أطفالنا كيف يصبحون رجالًا،
في هذه الأيام،
مطلوب منا أن نفعل ما هو أكثر من ذلك،
أن نجعل منهم — كلهم — أبطالًا،
ذلك هو واجب الأمهات في بلادنا.
ولعل الإشارة إلى «الأبطال» هنا توحي كذلك بأن
الموت رمز قوي للصراع في شعر الحرب الفيتنامي، بَيدَ أن الشعر لا
يصوره بقسوة مفرطة. الحضور الكلي للموت وتوقعه أقوى من الموت نفسه،
قربه من الجميع وإمكانية حدوثه الدائمة هي التعبير البليغ عن أهوال
الحرب. الموت مقدَّم على نحو أكثر تجريدًا، هو شيء منتظر ومتوقع،
لا يفعل أكثر من أن يسدل ظلًّا على الحياة. فورية الموت وقربه
الدائم ليست منعكسة في الخوف من القصف والاستعداد الدائم لإخلاء
المكان، وإنما كذلك من خلال ساعي بريد قد يأتي بأخبار عن فقد
عزيز.
كان موت الجنود يمثل مأزقًا للفيتناميين؛ فكما يشير «شون كنجسلي
مالارني
Chaun Kingsley
Malarney»: كان الجندي الميت
أحد أهم الأخطار التي تواجه شرعية وسلطة جمهورية فيتنام
الديمقراطية في العقود الثلاثة الأولى من وجودها.
٣٣ كان جزءًا مهمًّا من أجندتها أن تكرم وتعظم الموت وأن
تقدم كل ما يضمن ويكفل النظر إليه باعتباره قيمة ذات معنًى.
٣٤ تمجيد الموت وفهمه باعتباره تضحية بحياة فرد من أجل
حياة أمة وثورة، هذا التوجه حرم الأدب الفيتنامي من تناول الموضوع
على نحو واقعي رصين. في قصيدة بعنوان «المقبرة وشجرة الصندل»
(١٩٦٩م)، يحتفي الشاعر «نجوين دك ماو
Nguyen Duc Mau»
بالموت البطولي لجندي «قتل واهبًا حياته لأمته».
٣٥ الشاعر لا يتناول الموت بوصفه أمرًا مأساويًّا صادمًا،
لا حداد ولا أحزان أصلًا، موت الجندي مجد وشرف وهو أقصى درجات
الشجاعة والفداء والإخلاص للواجب.
«قضى نحبه واهبًا حياته لبلاده.» آه يا هونج!
لقد خضب دمك العشب فرفرت على الأرض أغنية.
تضحيتك نبع سعادة!
تضحية المرء بحياته من أجل أرض الآباء تجعل للموت
معنًى، تجعله نبيلًا. إزاحة الموت من العالم الشخصي إلى عالم
الجموع تجعله إلهامًا للآخرين، ومثل شجرة الصندل، «سيعطر
الأرض».
جميلة مثل حياة الجندي شجرة الصندل،
تعرف بكل بساطة، أن جسدها ينمو ويموت،
لكي يعطر الأرض، لكي يعطر الأرض والسماء.
القتل عمل متكرر ويحدث على نحو يومي، ولكن ليس
معنى ذلك أن يكون مقبولًا كما يقول «نجوين ديو
Nguyen
Duy» في قصيدة له بعنوان «قف!» (١٩٧٢م).
٣٦ إلا أن وصف «تيان دووات
Pham Tien Duat»
للموت أكثر بساطة وتأثيرًا، كما في قصيدته «دوائر بيضاء» (١٩٧٢م)
التي يصف فيها قرية يربط فيها معظم نسائها وأطفالها أشرطة بيضاء
فوق جباههن رمزًا للحداد؛ وهي قصيدة استثنائية في أنها تتجنب تمجيد
الموت، والحقيقة أن ما جاء فيها من عبارات مثل «لا خسارة أفدح من
الموت» و«شريط الحداد الأبيض يأخذ شكل الصفر.» فهم في حينه وكأنه
تقليل من شأن المجهود الحربي.
٣٧
وهناك موضوع آخر مرتبط على نحو طبيعي بتمجيد الذات وهو شيطنة
العدو. الجندي الأمريكي، أو العسكري الأمريكي بصفة عامة لا ذكر له
على وجه الخصوص في شعر الحرب، ولكن تناوله يأتي في إطار تعميم خطاب
الحرب الباردة القوي؛ فهو «القاتل» و«الكولونيالي» و«الاستعماري»،
كما يقول الشعراء بغضب. هناك استثناءات بالطبع عندما نصادف إشارات
إلى أشخاص بعينهم مثل «جونسون» و«مكنمارا»
٣٨ في قصيدة «إملي كون» (١٩٦٥م) للشاعر «تو هيو
To
Hûu». العدو المجهول هنا «جندي
جوال بوجه طفل»،
٣٩ في قتال يدور وجهًا لوجه.
في الوقت نفسه، يبدو الصراع في الشعر أحيانًا وكأنه حرب أهلية؛
فقد وضع القتال الفيتناميين في معسكرات متعارضة على جانبي خط
التقسيم، قسم العائلات وفصل الإخوة والآباء والأطفال وحوَّلهم إلى
أعداء، بعضهم في الشمال وبعضهم في الجنوب. وحدة الأسرة هي أحد
أعمدة المجتمع الفيتنامي ولكن تقسيم الأمة كان مؤلمًا بالنسبة
لكثيرين، والشعر يتناول هذه الحالة من خلال صور الإخوة الذين
تفرَّقوا وانفصلوا عن بعضهم البعض، وأصبح بعضهم لبعض عدوًّا في
كثير من الأحيان. كان بعض الشعراء يدعو لوحدة الدولة، من بينهم
«ليو ترونج لو
Luu Trong
Lu» الذي يأسى في قصيدة له
بعنوان «الأمواج الصاخبة في خليج تونج» (١٩٥٨م)؛ لأن الأرض
الفيتنامية ليست متاحة لكل الفيتناميين، ويحلم بذراعَين عريضتَين
طويلتَين تستطيعان ضم كل المنطقة الجنوبية.
٤٠
يا لتلك المنطقة الجنوبية،
حيث ملايين الذكريات وملايين العواطف،
اللحم لحمنا والدم دمنا،
اللحم لا يمكن أن يمزق إربًا،
ودمك ما زال مختلطًا بدمنا.
كما نجد مشاعر شبيهة في قصيدة بعنوان «ابن عمك في
الجنوب، مشتاق لرؤية وجه والده.» (١٩٥٩م)
٤١ للشاعر «هيو كان
Huy Cân»، وكذلك
لدى «نجوين آنه داو
Nguyen
Anh Dao»، الذي يرى جنوب
فيتنام بمثابة الأم والإخوة والأخوات الذين يعتبرون مثل «أوردة
وشرايين الدم الأحمر متصلة بالقلب»، ومثل كل الشعراء يتطلع إلى
وحدة بلاده.
٤٢
يحلم شعراء الحرب في فيتنام — على هذا النحو — بعالم بدون حرب،
ويرون السلام حتميًّا رغم أن معظمهم لا يملك رؤية واضحة للحياة بعد
أن تضع الحرب أوزارها. السلام عندهم حلم بوطن «مليء بالزهور
اليانعة» وببيوت «يغمرها نسيم الحرية المنعش» و«ضوء الشمس».
٤٣ السلام عند كثيرين مرتبط بالأمل في عودة الجنود من
القتال، وبالأسر يلتئم شملها، ومرتبط عند آخرين برؤية سياسية أعمق.
في قصيدة «تهويدة لأطفال الأقلية الذين ينمون على ظهور الأمهات.»
(١٩٧١م)، للشاعر «نجوين كووا دايم
Nguyen Khoa
Diem» نجد وعد الحرية المرتبط بكل
وضوح بالعم «هو»، مستخدمًا لتهدئة طفل يبكي حتى ينام،
٤٤ وبالنسبة ﻟ «تو هيو»؛ فإن الأحلام البسيطة التي يشترك
فيها كل الناس هي «السلام والاستقلال والدفء والأكل حتى الشبع»،
٤٥ ولا شك لديه في أن السلام سيكون اشتراكيًّا.