الفصل التاسع

الثورة والتجدُّد

تصوُّر كوبا الشيوعية
هازيل أ. بيير
تتميَّز الرابطة القومية الكوبية بأنها كانت عبارة عن دورة من الثورة والتجدد، منذ الاستقلال عن إسبانيا في ١٩٠٢م. انتقال البلاد إلى القومية، مر بمراحل مختلفة، مثل مرحلة الكولونيالية الجديدة من ١٩٠٢م، والفترة الشيوعية التي تلت ثورة ١٩٥٩م، والمرحلة الحالية التي بدأت مع انتهاء الحرب الباردة في ١٩٨٩م؛ لكنه على الرغم من أن فترة ما بعد الحرب الباردة كانت إيذانًا بتبنِّي سياسة خارجية أكثر براجماتية؛ فإنها لم تقلِّل من التزام الجزيرة الأيديولوجي باعتباره أساسًا للقومية الكوبية. هذا الفصل من الكتاب ينتهج أسلوبًا محددًا في تحليل فكرة القومية الكوبية، مع التسليم بالظروف الخاصة للتاريخ الكوبي مع الاستعمار والعبودية، وأكثر من أربعين عقدًا من الاشتراكية. وبينما نعترف بالمزايا الكثيرة التي تدعم نظريتَين من النظريات الأساسية للأمة — وهي بالتحديد المجتمع المتصوَّر والأمة المروي عنها، كما طرحها «بنديكت أندرسن Benedict Anderson» و«هومي ك. بابا Homi K. Bhabha» على التوالي١ — نقترح هنا أن تكون «السيرة الذاتية: Auto-biography»،٢ كما استخدمها كُتاب وفنانو كوبا وأمريكا اللاتينية والأقليات الأخرى، وسيلة مفاهيمية بديلة يمكن فهم الأمة والتنظير لها بواسطتها؛ ومع التركيز على الفترة الشيوعية في تطور القومية الكوبية سوف نقوم بتحليل مقارن لنصَّين هما «التاريخ سوف ينصفني»٣ ﻟ «فيدل كاسترو روز Fidel Castro Ruz» ورواية «كريستينا جارسيا Cristina Garcia» الأوتوبيوجرافية: «الحلم بالكوبية».٤ هذان النصان سيجعلان من السهل علينا القيام بدراسة طبيعة الكتابة الأوتوبيوجرافية، ومدى إسهامها في تصور مفهوم الأمة والهوية في الإطار المحدد لكوبا الشيوعية، ولأنهما مختلفان في المنظور وتاريخ النشر والإطار التاريخي، فهما مختلفان كذلك في هذا التصور، كما سنحاول في هذا الفصل استكشاف التصورات المتنافسة والمتغيرة للدولة الكوبية الشيوعية، من منظور مهندسها الرئيسي والمشاركين المتحمسين لها والمنشقين عليها.
على مدى العقدَين الماضيَين، قام كلٌّ من «أندرسن Anderson» و«بابا Bhabha» بإحداث تغيير جذري في التنظير للدولة. كانت نظرياتهما تطبق على نطاق واسع في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانيات بوجه خاص، لتوضيح مفهوم الرابطة القومية فيما يطلق عليه عالم ما بعد الاستعمار؛ وعلى الرغم من أن المنظرَين مختلفان في أسلوب التناول (أندرسن ينطلق من الماركسية وهومي بابا مما بعد الحداثة)، نجدهما متفقين على أن قومية الدولة تستمد شرعيتها من عالم الثقافة. كلاهما يعطي أهمية للمكونات الثقافية واللغوية للأمة، وتنظيرهما يستند إلى التعبيرات المتعددة للإبداعات الثقافية التي تجعل فكرة الأمة فاعلة وقابلة للحياة، عبر فضاءات جغرافية في عقول الناس، وعلى الرغم مما قدَّماه من اجتهادات كانت هناك انتقادات كثيرة لعملهما. كانت الانتقادات الأبرز للتوجُّهات العامة المتضمنة في ادعاءات «أندرسن» للطبيعة المعيارية العميقة للدول غير الغربية،٥ ولمنهجية «بابا» اللاتاريخية، التي تنجح في تبديد القضايا الاجتماعية/السياسية المتجذرة، التي هي أساس ظهور الدول وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.٦ الانتقادات في الحالتَين لها بعض المصداقية؛ فادعاءات «أندرسن» عن المعيارية غريبة نوعًا ما؛ حيث إنه يكشف عن حساسية لتصادف نهوض الرأسمالية مع ظهور المفهوم الجديد للدولة، كما أنه يؤكد أن «التمييز بين المجتمعات ليس عن طريق الحكم على زيفها أو صدقيتها، وإنما عن طريق أسلوب تصورها.»٧ وهو ما يتطلب التعرف على الأطر التاريخية المحددة التي تنبثق عنها الدول وتؤثر في طبيعتها الخاصة. وبالنسبة لمستعمرات سابقة مثل كوبا، لا يمكن أن نبالغ في أهمية التاريخ في إعادة تصور الدولة، التي هي عملية مستمرة. يضاف إلى ذلك صعوبة جمع كل الأحداث التي تلاقت لتسهيل نجاح ثورة ١٩٥٩م، وتحرك الجزيرة نحو الشيوعية وتضمينها هذه النماذج النظرية؛ فالأحداث كانت متعددةً ومتنوعةً وتتراوح ما بين السخط الواسع على دكتاتوريات الجنرال «جيرادو ماتشادو Gerado Machado» و«فلجنسيو باتستا Fulgencio Batista»، وسوء توزيع الثروة، والمعارضة الشديدة للولايات المتحدة، والاستعداد لموالاة الاتحاد السوفييتي، كذلك فإن الاعتماد على الأساليب اللغوية لما بعد البنيوية، كما هو ظاهر في تناول «هومي بابا»، ينجم عنه إنكار لعنصر مهم يعارض — على نحو واضح — المقاومة والثورة والتجدد، وكلها من ملامح تطور الدولة في كوبا وأمريكا اللاتينية. وهكذا فإن «ما يسمى بقومية العالم الثالث في الغرب» لم يتم تحليله بنجاح من قبل منظري القوميات؛ لأنه لم يسترشد بنموذج عام أو أيديولوجية،٨ كما يقول «روبرت يانج Robert Young».
على أنه عند الإشارة إلى الثقافة باعتبارها الميدان الذي تحصل فيه الدولة على شرعيتها باعتبارها مفهومًا، نجد «أندرسون» و«بابا» يقدمان مبادرة متقدمة ومهمة نحو أداة تفسيرية بديلة للسياق الكوبي؛ فمن خلال فحص دقيق للتطور التاريخي والثقافي لكوبا نكتشف ميلًا واضحًا نحو الكتابة الأوتوبيوجرافية وممارستها، وخاصة ما يعرف ﺑ «الشهادة Testimonio» التي قد تعود إلى زمن سرديات العبيد — مثل تلك التي كتبها إستيبان مونتيجو Esteban Montejo — التي ما زالت شائعة وبخاصة بين المفكرين والفنانين الوطنيين الذكور مثل «سيريلو فيلافيرد Cirilo Villaverde» و«نيكولاس جللن Nicolás Guillén» و«أليجو كاربنتيير Alejo Carpentier». شهدت فترة ما بعد الازدهار٩ التي تلت ثورة ١٩٥٩م، ظهور العديد من الكاتبات مثل «نانسي موريجون Nancy Morejón» و«إكسيليا سالدانا Excilia Saldana»، ولهما أعمال تنتمي إلى هذا النوع من الكتابة الأوتوبيوجرافية وانتشارها، ليس لأنه أثرى الروح الفردانية التي ستكون لعنة في كوبا الشيوعية، وإنما لأنه كان يسهل «الشهادة» على التجارب ذات الأهمية التاريخية والقومية في حياة البلاد. وكما تقول الناقدة «دوريس سومر Doris Sommer»؛ فإن «الشهادة» لها «أهميتها القانونية والسياسية بالمعنى الواسع؛ لأن صاحبها (المتحدث أو الكاتب) شاهد على انتهاكات طبقة أو جماعة اجتماعية.»١٠ ومنذ ١٩٧٠م أصبحت الشهادات هي الشكل المفضل للكتابة الأوتوبيوجرافية في كوبا، وتلقى تقديرًا سياسيًّا، إضافة إلى اختيار هذا النوع الأدبي لإحدى الجوائز الأدبية الرفيعة وهي جائزة Casa de las Americas.
الكتابة الأوتوبيوجرافية بكل أشكالها، مكون أساسي في الإنتاج الثقافي للمنطقة، وهي عامل مهم في تطور شكل الدولة كما يرى المثقفون والفنانون الكوبيون، وربما تكون الجنس الأدبي الأهم من ناحية احتوائه للمقاومة الأكثر صدقية للمؤسسات الاستعمارية. ولأنها كذلك، فإنها لا تكتفي بتحدي المعرفة المتوارثة عن الذات والتاريخ، بل تفتح المجال أيضًا أمام إعادة كتابة التواريخ المستعادة وتصور فضاءات قومية جديدة؛ وبعبارة أخرى أصبحت الكتابة الأوتوبيوجرافية أداة مهمة بالنسبة لمشروعات التحرر من الاستعمار، والإسهام في «مساءلة وتعرية وتصحيح ذات كولونيالية ربما لا تكون متحررة تمامًا من النصوص الأوروبية السابقة، ولكنها واعية ومقاومة ومبدعة على نحو مستقل.»١١ في هذا الإطار، فإن ممارسة الكتابة الأوتوبيوجرافية موجودة في مركز الصراع على الثقافة القومية في المنطقة، وهذا الصراع، كما يشير «فرانز فانون Frantz Fanon» مرتبط «بحركة التحرر الوطني والتنمية الثقافية».١٢
وعلى الرغم من وجود صفات مشتركة مع سابقتها الغربية؛ فإن الكتابة الأوتوبيوجرافية الكوبية ذات طبيعة متعددة المجالات؛ إذ إنها تضم حقولًا مثل التاريخ والفلسفة والسيرة والأدب. هناك كذلك تنوع في الأسلوب الذي يتراوح بين سرد العبودية والشهادة والاعتراف وذكريات الطفولة والصبا، كما يتنوع الشكل الذي يتراوح بين المقال واليوميات والشعر والقصة القصيرة والتواريخ الشفاهية المنقولة، وقد تتعدد الأساليب والأشكال في العمل الأوتوبيوجرافي الواحد، كما في «الحلم» لجارسيا. هذه السيولة في هذا النوع الأدبي كما يتصوره فنانو ومثقفو الأقليات، تجعله عصيًّا على التعريف أو الاكتشاف السهل أحيانًا، وكما تقول «سيلفيا مولُّوي Sylvia Molloy» فإن الكتابة الأوتوبيوجرافية تتطلب موقفًا خاصًّا من القراءة مثلما هي من الكتابة.١٣
الطبيعة الاستعادية والاستبطانية الملازمة لهذا النوع الأدبي تجعله مناسبًا لمهمة كتابة التاريخ واستعادة الذاكرة الثقافية، وكلاهما ضروري للمشروعات القومية لكوبا تحديدًا ولأمريكا اللاتينية بشكل عام. في المركز من هذه المهمة، هناك مسألة كيفية تذكر (ونسيان) صدمة التاريخ أو تجربته المؤلمة التي حددت بدايات هذه الدول، وليس المقصود بذلك العداءات المسكوت عنها فحسب، وإنما القمع الوحشي للتراث الثقافي والممارسات الدينية واللغات كذلك. بالنسبة لكوبا وأمريكا اللاتينية، تكررت صدمة التاريخ وتجاربه المؤلمة من خلال الثورات المتقطعة التي قام بها الشعب ضد الاستعمار الأمريكي، ولهذا السبب بالتحديد، كانت الصدمة عاملًا محددًا ومهمًّا في اختيار الاستراتيجية المناسبة لرواية حكاية الذات والدولة. إعطاء صوت لمثل هذه الصدمة هو بمثابة اختبار لحدود الذاكرة وكفاءة اللغة وقدرتها على التوصيل والشهادة على التجارب التاريخية. لقد جرب الكُتاب والفنانون استخدام اللغات الموروثة باستمرار، وكان يحدوهم الأمل دائمًا في التوصل إلى «مزج توفيقي» بين الموروث وبقايا ألسنة السلف؛ لكي يصلوا إلى ما يدعوه «إدوارد كامو Edward Kamau» ﺑ «لغات الأمة».١٤ عملية إجادة «لغة الأمة» مرادفة لتلك الصدمة المتعالية وبدايات التعافي منها، وبعبارة أخرى فإن عملية الاعتراف بالصدمة وبيانها مؤلمة ومطهرة في ذات الوقت.
يضاف إلى ذلك أن التوجه التقليدي للشهادات والكتابات الأوتوبيوجرافية أصبح توجهًا مجتمعيًّا أكثر منه فرديًّا، وذلك لأن الصدمة كانت إطارًا لجانب كبير من التجربة الكوبية والأمريكية اللاتينية والكاريبية. استخدام الضمير «أنا» لا يشير حصريًّا إلى الراوي، إنه يلمح إلى اﻟ «نحن» المجتمعية التي ينبثق الفرد من داخلها. كذلك تؤكد «ساندرا بوشيت باكويت Sandra Pouchet Paquet» أن «المأزق الفردي للكاتب باعتباره موضوعًا أوتوبيوجرافيًّا، ينهض بوصفه وسيلة نحو غاية أكثر مما هو غاية في حد ذاته.»١٥ من وجهة نظرهم التمثيلية، ينخرط كُتاب الرواية في عملية تفحُّص للذات، لا تسائل صحة والتزام مشروعهم باعتبارهم مثقفين أو فنانين داخل مجتمعهم فحسب، ولكنها تُقَيِّم المشكلات والحلول الممكنة. وتفصيلًا للتعقُّد المتضمَّن في الفعل الأوتوبيوجرافي في الكاريبي، تشرح «بوشيت باكويت» كيف أن عملية مساءلة الذات مرتبطة بالتقويم الثقافي دائمًا:
هناك توتر محدد وواضح بين الذات الأوتوبيوجرافية باعتبارها شخصية فردية، والتكامل النفسي والذات باعتباره أسلوبًا وسط التعقدات الاجتماعية والسياسية في المنطقة … بوح الذات يصبح أسلوبًا لادعاء المشهد الذي هو في الوقت نفسه جغرافيا وتاريخ وثقافة … في هذه العملية، تتحول الذات الأوتوبيوجرافية إلى نموذج ثقافي بدئي، وتصبح الكتابة الأوتوبيوجرافية مزيجًا من الواقع التاريخي المعيش والأسطورة التي يتم تخليقها من هذه التجربة. التجربة الشخصية والأحداث التاريخية، على السواء، تتحول إلى أسطورة أوتوبيوجرافية.١٦

في الكتابة الأوتوبيوجرافية، من الواضح أن أساطير دمج الذات بأساطير البدايات التاريخية والثقافية، بمشروع استعادة التواريخ الثقافية المفقودة، مرتبطة كلها بعملية بناء الهوية. الصدمة، مقترنة بسيولة النوع الأدبي تيسر الخطابات المتعددة، وكذلك الأهداف الاجتماعية والسياسية الإبداعية التي تغذي الممارسة الأوتوبيوجرافية في المنطقة.

على أن استنطاق الأنا «المجتمعية» بتمثيلها الضمني يثير بعض المشكلات، فحتى وإن كان ذلك يحتوي أصواتًا متعددة على نحو ديمقراطي، من خلال إشارات بيوجرافية وصور مرسومة في رواية حياةٍ ما؛ فإن ذلك يفتح الباب أمام أسئلة عن الصدقية وما يميز فردًا عن آخر ليصبح متحدثًا باسم الجماعة. على نحو أكثر مباشرة: على أي أساس يعتبر «فيدل كاسترو» أو «كريستينا جارسيا» مؤهلين للحديث باسم «الشعب» في كوبا؟ على الرغم من أن ذلك لا يقلِّل من زعم الصوت الأوتوبيوجرافي بأنه يستنطق «أنا» جمعية؛ فإنه يُلقي الضوء على الصعاب التي تعترض الوصول إلى الصوت التابع، وربما نجد مثالًا على ذلك في نسخ سرديات العبيد.

بينما يرى البعض أن سرديات العبيد إلى جانب غيرها من شهادات الأفراد على تجارب الحياة، تُعتبَر نموذجًا بدئيًّا يمثِّل الجماعة؛ ومن ثَم دليلًا على دخول «الشعب» إلى الخطاب الأوسع للأمة؛ فإن هذه السرديات يتم تعديلها بشكلٍ مستمر. وكما يصوِّر «ميجويل بارنت Miguel Barnet» في تقديمه لعمل «مونتيجو Montejo»: «السيرة الذاتية لعبد هارب»، فإن اهتماماته الخاصة باعتباره من يجري المقابلة ويسجل شهادة «مونتيجو»، هي التي أوحت له بالأسئلة المطروحة واستجماع الحقائق وبالتالي استخلاص القصة المروية.١٧ في الوقت نفسه فإن موافقة «بارنت» على «ضرورة مراجعة الحقائق والتأكد منها» على ضوء السجل التاريخي وشهادات شخصية أخرى، يحيل إلى جانب إشكالي آخر وهو ذلك الخط الفاصل بين الصدق والخيال الناتج عن التذكر الانتقائي للحقائق، والملازم لفعل الكلام عندما يتحدث فرد باسم الآخرين. على أن التأكد من التفاصيل ليس ضروريًّا بالنسبة للنصوص غير الروائية (مثل «سيرة» مونتيجو و«تاريخ» كاسترو) فحسب، ولكن ذلك ينسحب أيضًا على النصوص الروائية الأوتوبيوجرافية مثل عمل «جارسيا»: «الحلم بالكوبية». يضاف إلى ذلك أنه على الرغم من إشكالية تمثيل الكتابة الأوتوبيوجرافية الكوبية؛ فإنها على النقيض من ذلك تعتبر مفتاحًا لعملية تصور الأمة، كما يقول «لي جليمور Leigh Glimore».
توظيف الكتابة الأوتوبيوجرافية يوفر مادةً مهمةً لتصور الانتماء الوطني، الأمة تحفز خيال المواطنين، تجعله حقيقيًّا، تجسده، تدمجه فيما هو قومي.١٨

في محاولة كلَيهما لبناء الأمة الكوبية، يستخدم «كاسترو» و«جارسيا» استراتيجيات مختلفة وأصواتًا مختلفة في سردهما الأوتوبيوجرافي، وإن بدرجات مختلفة من النجاح. هناك كذلك تناقض شديد بين «تاريخ» كاسترو و«حلم» جارسيا سواء من ناحية القصد التأليفي أو وجهة النظر. على خلاف «الحلم»؛ فإن «التاريخ» عمل غير روائي ويمثل تسجيلًا لدفاع «كاسترو» الذي قدمه شفاهة عن دور قيادته في ثورة مونكادا في ١٩٥٣م. من هنا، فإن العمل أكثر دقة باعتباره شهادة من ناحية الشكل والهدف، ولكنه يحمل في الوقت نفسه ملامح أوتوبيوجرافية أخرى؛ إذ يقدم تفصيلًا لبعض اهتمامات وأعباء «كاسترو» الأيديولوجية في المرحلة الباكرة من حياته الثورية؛ أما الأكثر وضوحًا فهو أنه يدلي بشهادة عن معاناته ورفاقه أثناء سجنهم. في هذه الشهادة يوثِّق كتاب «كاسترو» تلك اللحظة التاريخية الخاصة، بينما يرسم في الوقت نفسه صورةً «بلاغية» لدولةٍ كوبية بعد الثورة، خالية من الفساد والفقر والظلم الاجتماعي كما كانت تحت الاستعمار.

الميزة التي تُنسَب للشهادات وممارسة الكتابة الأوتوبيوجرافية بشكلٍ عام، وهي أنها تمثِّل جماعة المواطنين، تصبح مشكلةً جدلية بسبب الإطار الذي أُلقي فيه نص كاسترو. شهادته ليست متأثِّرة فقط بالظروف المؤسَّسية التي وجَد نفسه فيها، وإنما بالمعايير الأيديولوجية الأشمل لترسيخ الحقيقة. مرارًا وتكرارًا، يذكِّر «كاسترو» جمهوره بأنه، باعتباره قائدًا للثورة، مفوَّض لأن يقول الحقيقة بخصوص الأحداث التي وقعَت لأسباب تتجاوز ظروفه كسلطة. وكما يرى، فإن التزامه الصُّلب بالعدالة والوطن والإيمان المشترك مع الرفاق بأن نضالهم كان نضالًا عادلًا، هذا الالتزام شجَّعه على أن «ينطق بكلمات هي دم القلب وجوهر الصدق.»١٩ افتراض «كاسترو» عن الأدوار المزدوجة للمدعى عليه والمدافع عنه، يضمن له أنه يقوم بدفاع شخصي ومجتمعي في الوقت نفسه، مع تأكيد أكبر على التعبير عن رؤية سياسية أكثر منها ثقافية. في إطار هذه المحددات، يتبنى «كاسترو» رؤية لكوبا بعد الثورة، رؤية مثالية وخيالية إلى حدٍّ بعيد وذكورية في مجالها. يتضح ذلك على نحو خاص في بسط القوانين الثورية الخمسة المعلنة باعتبارها حجر الزاوية في مانفستو الثورة السياسي. هذه القوانين كانت تستهدف في الأساس تحقيق قدر أكبر من المساواة في توزيع ثروة وموارد الجزيرة، واستعادة السيادة المعلنة في دستور ١٩٤٠م. الدولة الجديدة كان يمكن أن تشعر بالمساواة من خلال تمثيل وانتخابات ديمقراطية، والسعي إلى الإصلاح الاجتماعي والزراعي، والقضاء على الفوارق الطبقية المجحفة، وتدعيم نظام تعليمي كان يعتبر مفتاح التحرر والقضاء على الاستعمار. الغريب أن هذه الرؤية المثالية والخيالية إلى حدٍّ بعيد، بما تنطوي عليه من تغيرات سياسية ودستورية كبيرة، لا يبدو أنها تتوقع معارضة من أصحاب المصالح المتعارضة معها مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
تشغل «الجماهير التي لم يتم استعادتها بعد» موقعًا مركزيًّا في تصور «كاسترو» المثالي للأمة الكوبية، هذه الجماهير تعرف جزئيًّا بأنهم «أولئك الذين يقدم لهم كل شيء، ولكنهم لا يعطون سوى الخداع والخيانة»، ومعهم وباسمهم يتم النضال.٢٠ «الشعب» في شهادة «كاسترو»، الأشبه بالمونولوج الشخصي، شعب متجانس، وذلك على الرغم من اختلافات الجنس والطبقة ونوع العمل. كوبا، كما يراها، تظل عنده غير محددة النوع، ومن هنا تثير — ضمنًا — مفهومًا ذكوريًّا. المشهد كله ذكوري في الواقع باعتباره «أرض الآباء»، مع الاستشهاد بقائمة تضم أسماء ثوريين (ذكور) وكأنهم وحدهم الجديرون بنسبتهم إلى المثل الثورية النبيلة. (القائمة تضم أسماء من «كارلوس مانويل دي كسبيدس» إلى «أنطونيو ماكيو» إلى «خوسيه مارتي».) نتيجة لذلك لا يتبقَّى سوى فضاء محدد لمناقشة التجارب النسائية لدى كاتبات يتفقْنَ عرضًا مع رؤية «كاسترو» المثالية، على الرغم من إسهامهن الطوعي في النضال، وفي بعض الأحيان يذكر كيف كان من حقهن، مع أقرانهن من الذكور، الحصول على أجور أعلى لقاء عملهن بالتدريس، وهو ما يعني قيامهن بدور في التكاثر الثقافي لقيم ومُثُل الأمة. وبينما هناك ذكر لاثنتين من السجينات،٢١ وأخريات كن «على وشك القيام بتمرد في كامب كولومبيا»،٢٢ لا نجد أي إشارة أو إيحاء بدور أكبر لهن في الدولة المستقبلية المتخيلة على نحو مثالي. اتساق هذا «التاريخ» وتناغمه مع وجهات النظر والتوجهات الذكورية التي كانت سائدة في كتابة الشهادات، والأعمال الأوتوبيوجرافية في اللحظة التاريخية لتسجيلها، يمكن أن نعزوه، جزئيًّا، إلى طبيعة الحركة النسائية التي ما زالت جنينية حتى في الولايات المتحدة وأوروبا. ولأن «التاريخ» من هذا المنظور يعني أن الدولة التي كان «كاسترو» يتصورها في ١٩٣٥م محدودة المجال، نجده لا يقترب من الموضوعات المحرمة مثل الجنس والعرق والنوع والدين.
وبفرض رؤيته الخاصة على التراث التاريخي الطويل للثوار الذكور، يرى «كاسترو» ارتباطًا بين أهداف ومقاصد القيادة، وبذلك يتحقق تحول رمزي في «رداء» القائد ليصبح «كاسترو» تجسيدًا لاستمرارية النضال الكوبي من أجل الاستقلال. هذه الارتباطات والتداعيات لها متضمنات أبعد في تعريف الأمة والهوية الكوبية. في هذا الإطار التاريخي يدافع «كاسترو» باستماتة عن تصور مثالي واحد للكوبية يقوم على واجب دائم هو النضال من أجل الحرية، وفوق ذلك استعداد المرء للتضحية بحياته دفاعًا عن أرض الآباء؛ حيث إن «العيش في الأصفاد عار ومذلة، والموت في سبيل أرض الآباء حياة.»٢٣ على ضوء هذا الفهم، يمكن تعريف الرابطة القومية الكوبية ﺑ «الوطنية Patriotismo»، وهو مصطلح أكثر دقة هنا من «القومية Nacionalismo».٢٤ بطرح نفسه تجسيدًا حيًّا ﻟ «الوطنية»، يدعو «كاسترو» الشعب الكوبي لكي يستثمر في نموذجه الشخص للقيادة الكاريزمية والحب الافتدائي الذي يضحي في سبيل الأمة. من اللافت للانتباه أنه على الرغم من عدم وجود أي إشارة إلى ميول «كاسترو» الاشتراكية، نجد أوجه شبه سياسية بين تعريفه للكوبية والتزاماته السياسية المستقبلية.
بينما يعرض «كاسترو» تصورًا ذكوريًّا لكوبا بعد الثورة، نجد حلم «جارسيا» يفسح مجالًا لأصواتٍ نسائيةٍ متعددة تقدم صورًا متنافسة للدولة الشيوعية. كتاب «جارسيا» الصادر في ١٩٩٢م، أي بعد نحو ثلاث سنوات من انتهاء الحرب الباردة، يُعتبَر عدسةً استرجاعية لتقويم فترة من التاريخ الكوبي، من السنوات السابقة على ثورة ١٩٥٩م إلى الثمانينيات. «جارسيا»، مثل «بيلار بوينت Pilar Puente»، الشخصية الأوتوبيوجرافية لديها، من مواليد كوبا، ولكنها هاجرَت إلى الولايات المتحدة في ١٩٦١م، بعد الثورة، وبدأَت مشروعها الأوتوبيوجرافي أثناء إقامتها هناك، لكن الصورة التي ترسمها للدولة لم تتأثر بذلك. وربما لأنها كبرَت في مدينة نيويورك الكوزموبوليتانية، نجدها تحاول أن تفهم تعقُّد التجربة الكوبية وتقديم منظورٍ متعدد الأبعاد وأكثر موضوعيةً لكوبا الشيوعية، يتناقض مع الموقف المُعادي لكاسترو كما يظهر في أعمال كُتاب وفناني المنفى المقيمين في ميامي. في مقابلة أُجريَت معها، تعترف «جارسيا» بأنها «نشأَت في ظرف أبيض وأسود جدًّا»،٢٥ كان فيه والداها «معاديَين للشيوعية بشدة» بينما كان «أقاربها في كوبا، من أشد الموالين للشيوعية.»٢٦ «جارسيا» تعلن أنها ليست منحازة لأيٍّ من الجانبَين، وعلى الرغم من أن ذلك يحتويها ويبعدها عن هذا الإطار في الوقت نفسه، كما تبين في روايتها؛ فإنه جزء من التجربة المستمرة للمنفيين الكوبيين من الأجيال المتوالية، ومحاولتهم التوصل إلى تفاهم مع هوية ثقافية إشكالية باستمرار.
الرواية التي تعترف «جارسيا» بأنها «عاطفية وشديدة الأوتوبيوجرافية»،٢٧ على الرغم من أن التفاصيل ليست حقيقية، تؤرخ زمنيًّا لتأثير ثورة ١٩٥٩م في العلاقات المضطربة بالفعل، بين ثلاثة أجيال من عائلة «دل بينو». عندما يقدم الشخصيات شهاداتهم عن تجاربهم مع الثورة، فلا بد من أن يتعرضوا لقضايا لم يتناولها «كاسترو» على أي مستوًى في كتابه، مثل النوع والجنس والطبقة والممارسات الدينية. إن ما يظهر جليًّا في سرد الشخصيات هو ذلك الحنين، إما إلى ماضي كوبا قبل الثورة أو إلى تحقيق الحريات الديمقراطية والمساواة المتصوَّرة في «تاريخ» كاسترو، التي بدت ممكنةً ذات يوم وإن بشكلٍ خاطف. الطريقة التي تآكلَت بها هذه الحريات بعد ١٩٥٩م، نجدها متمثلة في وضع الكُتاب أنفسهم. «جارسيا»، مثل معظم الكاتبات الكوبيات، ظهرَت بعد الازدهار الذي حدث في المجتمع على أثر ترسيخ برامج محو الأمية وتحفيز الأدباء والفنانين لنشر أعمالهم، كما أن إنشاء اتحاد كُتاب كوبا أثرى مناقشة ومتابعة القضايا الحيوية المؤثِّرة في المجتمع الجديد، ولكن على الرغم من ظهور عددٍ كبير من الكُتاب والفنانين نتيجةً لهذه التطورات، كانت هناك رقابةٌ مشدَّدة على الآراء المُعادية للثورة؛ حتى عندما كان «كاسترو» يُحاوِل أن يهدئ المخاوف من الرقابة، كان يؤكِّد أن الإبداع لا بد من أن يكون موجَّهًا لتدعيم الثورة: «كل شيء في إطار الثورة … ولا شيء ضد الثورة»،٢٨ وعلى الرغم من إفادة الكاتبات من الفرص المتاحة داخل كوبا، كان كُتاب المنفى والمنشَقون — مثل جارسيا — يجدون ناشرين لأعمالهم في الولايات المتحدة أو إسبانيا على وجه الخصوص.
بالنسبة لقضايا الحرية والرقابة، وبالنسبة لملامحَ كثيرة لكوبا الشيوعية، فإن العملَين؛ كتاب «كاسترو» وكتاب «جارسيا» مختلفان جذريًّا، حيث ينطلق كلاهما من لحظةٍ تاريخيةٍ مختلفة تمامًا. ربما تكون هناك وسائل يمكن من خلالها استشراف تلاقٍ ما بين «رواية» جارسيا و«تاريخ» كاسترو. ليس لأن «الحلم» تبدأ السرد بثورة ١٩٥٩م فحسب، وإنما لأنها، كذلك، تمثِّل «كاسترو» باعتباره الزعيم الكاريزمي الفاتن (المستبد الكريه بالنسبة لآخرين)؛ فهو في «التاريخ» يجسِّد الثورة وطموحاتها مثلما يجسِّد نقاط ضعفها. على الرغم من ذلك فإن كل شخصيةٍ من بين كل من يمثِّلون الآراء المختلفة عن الثورة، تضع رؤية «كاسترو» عن كوبا موضع المساءلة، وكذلك تصريحه الجسور «اشجُبوني كما شئتم، لا يهم، فالتاريخ سوف يُنصِفني.»٢٩ بالإضافة إلى ميزة الموقف الاستعادي الذي تحقِّقه الكتابة الأوتوبيوجرافية، تجد الشخصيات أصواتَها فتروي تواريخها الشخصية وتسائل إرث «كاسترو» التاريخي، وتُحاوِل في الوقت نفسه أن تجد نوعًا من التصالح مع الواقع الساخر الذي أصبح جليًّا بعد الثورة.
عائلة «دل بينو» التي تفرَّق شملها بين كوبا والولايات المتحدة يمكن النظر إليها باعتبارها صورةً مصغَّرة للدولة الكوبية والشتات. الضغوط السياسية المتواصلة للثورة شَطرَت ولاءات آل «دل بينو»، كما حدث للعائلات الكوبية الأخرى. «لوز فيللافيرد Luz Villaverde»، إحدى الحفيدات التي تظل في كوبا تنصح أخاها المتردد بخصوص الثورة قائلة «العائلات سياسية بالضرورة، وعليه أن يختار.»٣٠ وهي محقة في ذلك. الأم الكبيرة «أبيولا كيليا Abuela Celia»، على سبيل المثال، تمثل أولئك المدافعين عن الثورة. «كيليا» تمنح كل ولائها للزعيم لأنها ناقمة على المظالم في كوبا «باتستا»، ويحدوها الأمل في التغيير الإيجابي، وفي المقابل نجد زوجها «جورج Jorge»، الذي كان سعيدًا بعمله وكيلَ مبيعات لشركة أمريكية تبيع المكانس الكهربائية والمراوح قبل الثورة، نجده قليل الاحتمال لعداءات الولايات المتحدة، وما ينذر به ذلك من تغيرات كبيرة في الجزيرة.
من بين أبنائهم الثلاثة نجد البنتَين «لوردز Lourdes» و«فيليشيا Felicia»، مثل والدهما ضد الثورة، بينما الولد الوحيد «خافيير Javier» يشارك أمه حماستها لها. التقارب السياسي بين الآباء والبنات وبين الأمهات والأبناء يعبر عن تمزق العلاقة بين الأم والابنة وبين الأب والابن، وهو تمزق ناتج عن سوء الفهم السابق والمعلومات الغائبة وخطوط الاتصال المقطوعة. البنات والأبناء يشعرون بالرفض من قبل الأمهات والآباء على التوالي، وهو شعور نجده متمثلًا في العلاقة بين «لوردز» و«كيليا». «لوردز» التي لا تعرف شيئًا عن التوترات الزوجية بين والدَيها، والتي أدَّت إلى استجابتها السلبية لميلادها، تبني علاقة وثيقة مع والدها. ذكريات أمها القديمة يغلب عليها شعور بالرفض والتخلِّي الذي تعبِّر عنه كلمات «كيليا» وهي تدخل البيمارستان: «لن أتذكر اسمها» (٧٤). كانت الثورة إيذانًا بانفصال دائم عن أمها، حيث تفر «لوردز» وزوجها «رافينو Rufino» والابنة «بيلار Pilar» من كوبا إلى الولايات المتحدة، بعد مصادرة مزرعة الألبان التي يمتلكونها. «جورج Jorge» يتبعهم أيضًا بحثًا عن علاج متخصص لم يكن متوفرًا في كوبا.
من دواعي السخرية، أن نجد هذا النوع من العلاقات يتكرر في الجيل الثالث من عائلة «دل بينو». «فيليشيا»، التي تبقى في كوبا غير مكترثة في البداية، تصبح ضد الثورة — علنًا — بعد فشل أزمة الصواريخ. ترفض بشدة أن تتوافق مع قيم «المرأة الاشتراكية الجديدة»، حتى بعد تدريب عسكري شاقٍّ كان الهدف منه تحويل «الناقمين» و«غير المتكيفين اجتماعيًّا»، واجتذابهم للمشاركة في حرب العصابات (٧–١٠٥)، بينما ابنتاها «لوز Luz» و«ميلاجرو Milagro»، وكلتاهما مولودتان بعد الثورة، تنجذبان نحو والدهما، «هوجو فيللافيرد Hugo Villaverde» نجد «إيفانيتو Ivanito» ابن «فيليشيا» الوحيد يظل وفيًّا ومواليًا لأمه، على الرغم من محاولتها المجنونة الاعتداء على حياته. إنه يخشى والده ويفضل البعد عنه حتى عندما تحاول أخواته إعادة العلاقة مع «هوجو». الأسلوب مختلف على أية حال؛ حيث إن الحفيدات «لوز» و«ميلاجرو» و«بيلار» وعلاقاتهن الشخصية بأمهاتهن شديدة التعقيد، هن اللائي يبقين على علاقات وروابط قوية مع الثائرة «أبيولا كيليا»، وهي صلة تصبح شديدة الأهمية في التوصل إلى تصالح مع تواريخهن الشخصية وتواريخ الأسر ومع كوبيتهن. هناك نقاد مثل «وليم لويس William Luis» يعتقدون أن الولاءات العابرة للأجيال بين الحفيدات وجدتهن (وبينهن وبين آبائهن)، ربما يكون هدفها الانتقام من الأمهات بسبب آلام الرفض والتخلي؛ بل إن «لويس» — أبعد من ذلك — يرى أن هذا الشكل من الصراع الجيلي يعبر عن المجتمع الكوبي، ما دام الجيل الأصغر، الذي يبدو له طيف كوبا باتستا بعيدًا، مقدرًا له أن يثور على الجيل القديم المسئول عن كل الصعاب المرتبطة بالدولة الشيوعية.٣١

تستخدم «جارسيا» مجموعة مركبة من استراتيجيات الحكي في «الحلم»، وهو ما يسهل تعددية الأصوات ووجهات النظر؛ هذا الجمع بين الأساليب النثرية والرسائل والخطابات المتعددة الموضوعات والقصص المجتمعية التي تتقاطع حتمًا، كل ذلك ينتج عنه تعريف غير متجانس لكوبا الشيوعية وللكوبية؛ وعلى الرغم من أن وجهات النظر النسائية تحظى بالاهتمام؛ فهي تشارك الأصوات الذكورية في المساحة المتاحة لها للتعبير عن نفسها. يضاف إلى ذلك أنه مع انخراط الشخصيات النسائية والذكورية في تجاربها مع الثورة، تتضح ملامح التغير والاستمرارية التي شكلت مجتمعة تصور كوبا في الماضي والحاضر. من خلال عناصر الواقعية السحرية، تجهز «جارسيا» كذلك شخصياتها الأوتوبيوجرافية للقيام بإعادة حكي التواريخ الشخصية والقومية لأعضاء العائلة، وهكذا تستطيع «بيلار»، مثل كثيرات غيرها من الشخصيات النسائية، أن تتواصل عن طريق التخاطر من خلال الأحلام حتى مع الموتى، كما أن لها ذاكرة حافظة يمكن أن تعود إلى عمر العامَين. «بيلار» تعرف الكثير من حكايات العائلة والحكايات المجتمعية من حولها ومن الحديث مع جدتها، ولديها مصدر مهم للمعلومات وهو رسائل جدتها التي لم ترسل إلى حبيبها الإسباني، كما أنها تقوم برحلة عودة مهمة إلى كوبا مع «لوردز»، تتوصل خلالها إلى استنتاجات خاصة على الرغم من القصص المختلفة التي أصبحت شخصية بالنسبة لها. تقول: «على الرغم من أنني عشت حياتي كلها في بروكلين، فهي لا تبدو وطنًا بالنسبة لي. لست متأكدة ما إذا كانت كوبا كذلك أيضًا، ولكنني أريد أن أكتشف بنفسي. إذا قدر لي أن أرى «أبيولا كيليا» ثانية، فربما أعرف لمن أنتمي». (٥٨) رحلة «بيلار» إلى الذات والشعور بالانتماء، التي تشمل موروثها الكوبي وحاضرها الأمريكي، تبدو مستحيلة دون الوصول إلى ذلك المصدر المهم.

قصص الأحداث التاريخية المسجلة، التي تصور فترة ما قبل الثورة في كوبا، مليئة بالتواريخ الشخصية. غزو خليج الخنازير، أزمة الصواريخ، حرب أنجولا، هروب سفارة بيرو، قوارب النجاة «ماريل» التي هرب فيها ألوف المنشقين الكوبيين من «الجزيرة». «بيلار» كراوٍ ماهر، عليم بكل شيء، قادرة على تسجيل هذه القصص، ولكنها تشارك في هذه المسئولية أعضاءً آخرين ينتمون إلى الجيل الثالث من العائلة: «لوز» و«ميلاجرو» و«إيفانيتو»، بالإضافة إلى «هيرمينيا ديلجادو Herminia Delgado» أقرب الأصدقاء إلى «تيا فيليشيا Tia Filicia». هذه السرديات المروية على لسان الشخص الأول بالغة الأهمية لأنها توصل إلى منظور كلي عن الشهادات؛ وبالتالي على المتغيِّرات المتصورة عن كوبا الشيوعية. وبينما ينطلق أبناء الجيلَين الأولَين من مواقع إيجابية أو سلبية قوية عن الثورة؛ فإن سرديات أبناء الجيل الثالث والأفرو كوبيين غالبًا ما تنطلق من مواقع معارضة لذلك. يتضح ذلك على سبيل المثال في القصص المروية عن «هوجو» الزوج الأول ﻟ «فيليشيا»، وبينما ترضخ «فيليشيا» و«كيليا» و«إيفانيتو» لغلظة وبذاءة «هوجو»، تلجأ بناته إلى صيغة بديلة تصور الجانب الأكثر لينًا واهتمامًا فيه، وهو جانب لا يخفى على «إيفانيتو» على الرغم من محاولات أخواته تبديد انطباعاته. «بيلار»، بالمثل، في موضع يسمح لها بكشف التجارب الشخصية التي شكلت وجهات نظر الشخصيات المتباينة: اغتصاب «لوردز»، تخلِّي والدَي «كيليا» عنها، ثم زوجها الذي عجل بارتباطها بالثورة، وعدم قدرة «فيليشيا» على التأقلم مع البيئة الظالمة، وهو ما ينتهي بجنونها وموتها وهرب «إيفانيتو» إلى بيرو. هذه الروايات التاريخية مقدمة من وجهات نظر مختلفة للشخصيات، تستدعي مساءلةَ كلِّ شكل منها ودرجة صدقيته، كما تؤدِّي كذلك إلى صمت الآخرين عنها. وكما تتساءل «بيلار» بينها وبين نفسها: «من ذا الذي يختار ما يعرف أو يعتقد أنه مهم؟ أعرف أن عليَّ أن أقرِّر ذلك بنفسي. معظم ما عرفت أنه مهم، عرفته بنفسي أو عن طريق جدتي.» (٢٨)، كذلك فإن قصة «هيرمينيا» تثير همومًا مماثلة عن الحكايات التاريخية السائدة، كما تستكشف المخبَّأ أو المسكوت عنه من القضايا حول العرق والدين، التي كان لها تأثير في الأفارقة الكوبيين. محاصرة بالتاريخ العائلي الذي انتقل إليها عن طريق والدها، نجد «هيرمينيا» قادرة على مقارنة تجربتهم قبل الثورة بالوضع الحالي. في مقابل الإيذاء وسوء المعاملة، وحالات الوفاة المؤسفة التي عانى منها جدُّها وأعمامها أثناء الحرب القصيرة في ١٩١٢م التي كان وقودها الخوف من الأفارقة الكوبيين، نجد «الأمور قد تحسَّنت» بعد الثورة (١٨٢). هذا الخوف كان كذلك سببًا في التمييز ضد أسرتها وسببًا في تنميطه؛ لأن والدها كان «البابالاوو» (كبير الكهنة) للديانة الأفرو كوبية السانتيريا Santeria التي تم حظرها بعد الثورة. الواضح أن «هيرمينيا» لا تشير إلى العرق باعتباره مشكلة عامة في كوبا الشيوعية، ولعل في ذلك ما يشير إلى أن الثورة تؤكد الكوبية في مواجهة ذلك،٣٢ بل إنها «هيرمينيا» ترى أن تمكين النساء في مجتمع ما زال أبويًّا، يتطلب المزيد من الوقت، وفوق ذلك كله تعتقد أن التاريخ الأفرو كوبي سيصبح «هامشًا في كتاب تاريخنا»، وكما تفعل «بيلار» نجدها تضع القصص التاريخية موضع المساءلة وتقارنها بالتاريخ الشفاهي الذي ورثته عن أبيها؛ وفي النهاية تقرر: «أنا لا أثق إلا فيما أرى، ما أعرفه بقلبي، لا شيء أكثر.»

ضرورة إيجاد لغة يمكن للشخصيات أن تشهد بها على حياتها وتجاربها الصادمة، تصبح عقبة أخرى في عملية إعادة بناء خطوط التواصل بين وعبر الأجيال. بينما تتقبل «لوردز» فكرة أن الهجرة وامتلاك لغة جديدة يجعل إعادة اختراع خطوط التواصل ممكنًا؛ فإن ذلك في الوقت نفسه يجعلها تشعر بالاغتراب عن وطنها لأنها تتكلم «لغة أخرى» (٢٢١) غير مفهومة للكوبيين المقيمين، على أن «بيلار» لا بد من أن تتخطى حاجز اللغة هذا؛ لكي تكون منصفةً مع التواريخ التي تعيد حكيها. وجودها بين أمتَين ولغتَين يجعلها تلجأ بداية إلى الرسم بوصفه نظامًا رمزيًّا بديلًا؛ فهي تعتبره «لغة في ذاته … الترجمات تربكه … تضعفه … مثل الكلمات التي تنتقل من الإسبانية إلى الإنجليزية» (٥٩)؛ إلا أنه عندما يثير رسمها التجريبي الرديء لتمثال الحرية رد فعل عنيف من قبل الزائرين، تضطر للتفكير في معنى الحرية في الديمقراطيات الغربية، المناقض غالبًا لما هو شائع في الدكتاتوريات الشيوعية. في كوبا، على أية حال، رأى «أبيولا كيليا» بأن «الحرية لا تعني أكثر من الحق في حياة كريمة.» (٢٣٣)، يعتبر تعريفًا مخلًّا.

اتباع «بيلار» ﻟﻠ «بوتانيكا Botanica» في نيويورك (وهي مرادف اﻟ «سانتيريا» الكوبية) هو المفتاح الذي يفك الشفرات الثقافية واللغوية، وهو ما يمكنها من التوفيق بين موروثها الكوبي وموروثها الأمريكي. نتيجة لذلك تستطيع «بيلار» أن تصل إلى أفكار الناس، ويمكنها أن «تلمح المستقبل» (٢١٦). بعد عودتها إلى كوبا، لا تؤكد «بيلار» موروثها باعتبارها ابنة ﻟ «شانجو Changó»، مثل «تيا فيليشيا» و«هيرمينيا ديلاجو» فحسب، وإنما تصبح متحررة كذلك من قيود رؤى ووجهات نظر جدتها وأمها المعارضة. لأول مرة، تستطيع أن تحلم بالإسبانية، وكأنها تدمج الأنظمة الرمزية في الرسم واللغة بنظام أحلامها، وهو دليل على قبول نهائي بموروثها المزدوج. من هذا الموقع، فحسب، يمكن أن تؤكد بيلار «أنا» مستقلة، على الرغم من أنها تمثل الجيل الثالث والأجيال التالية من الكوبيين، وهو ما قد يظهر في تسهيلها لعملية هروب «إيفانيتو» إلى بيرو. الأهم، أن «بيلار» تحقق رغبات أمها بتذكر وتسجيل سرديات العائلة والأمة المهمة، ومن خلال هذا الفعل كما يقول أحد النقاد، فإن خطوط القرابة عن طريق الأم، يعاد توصيلها ببعضها.٣٣
الشهادات — والممارسة الأوسع للكتابة الأوتوبيوجرافية الكوبية — تشكل تصور الأمة، ذلك لأنها تسهل عملية مساءلة التاريخ الموروث، وكتابة تواريخ بديلة وذاتية، وكلها مهمة في تصور الأمة في المستعمرات السابقة. «تاريخ» كاسترو و«حلم» جارسيا، الكتابان معًا، يحشدان رؤًى متعددة ولكنها متواشجة الصلة، لتاريخ كوبا الشيوعي في فترة الحرب الباردة. وبينما تضع شخصيات مثل «بيلار» و«هيرمينيا» التاريخ السائد الذي ينتقل شفاهة عبر الأجيال موضع المساءلة، فإن استخدام الكتابة الأوتوبيوجرافية يتجاوز هذه المشكلة. الكتابة الأوتوبيوجرافية كذلك تتضمن ما يدعوه «سومر Sommer» ﺑ «المعرفة التجريبية والمعرفة العاطفية، وذلك لأنها تسائل خطابات التاريخ.»٣٤ وهكذا، فإن أي شكل من أشكال المعرفة هنا لا يَجُبُّ الآخر، «المعرفتان» متعايشتان في الإطار الأوتوبيوجرافي، وهو ما يجعل بالإمكان استدعاء جوانب وصيغ متعددة من التاريخ؛ ومن ثم تقديم رؤية متبصرة لتصور كوبا والكوبية.
١  انظر: Anderson, “Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism,” (1983), and Bhabha, “Dissemination: Time, Narrative, and the Margins of the Modern Nation” (London and New York: Routledge, 1990), pp. 291–322.
٢  «الشرطة» في مصطلح السيرة الذاتية (Auto-biography) مستخدمة من أجل التمييز بين أشكالها المختلفة في آداب أمريكا اللاتينية والكاريبي والأقليات الأخرى.
٣    History Will Absolve Me.
٤    Dreaming in Cuban.
٥  انظر على سبيل المثال: Ania Loomba, “Colonialism/Postcolonialism” (London and New York: Routledge, 1990), pp. 184–210, and Partha Chatterjee, “The Nation and Its Fragments: Colonial and Postcolonial Histories” (Princeton: Princeton University Press, 1993), pp. 3–13.
٦  انظر على سبيل المثال: Alex Collinicos, “Wonders Taken for Signs: Homi Bhabha’s Postcolonialism,” in Teresa L. Ebert and Donald Morton, eds., Post-ality: Marxism and Postcolonialism (Washington: Maisonneuve Press, 1995), pp. 98–112, and Benita Parry, “Signs of Our Times: Discussions of Homi Bhabha’s Location of Culture,” Third Text, 28/29 (1994), pp. 5–24.
٧  Anderson, “Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism,” rev. edn. (1983; London and New York: Verso, 1991), p. 6 .
٨  Young, “Postcolonialism: An Historical Introduction” (Oxford: Blackwell, 2001), p. 172 .
٩  يشار إلى الفترة ما بين ١٩٦٥م و١٩٦٩م بفترة الازدهار حيث شهدت الرواية الكوبية طفرة كبيرة، وكان ذلك نتيجة لانتشار التعليم إلى جانب الحوافز التي قدمتها إدارة كاسترو الشيوعية للناشرين. كان معظم كُتاب هذه الفترة من الرجال، أما الكاتبات فقد ظهَرنَ بعد هذه الفترة وكان الشعر هو مجالهن الرئيسي.
١٠  Sommer, “Proceed With Caution, When Engaged by Minority Writing in the Americas” (Cambridge, MA, and London: Harvard University Press, 1999), p. 117 .
١١  Helen M. Tiffin, “Rites of Resistance: Counter-Discourse and West Indian Biography,” Journal of West Indian Literature, 3:1 (1989), p. 30 .
١٢  Fanon, “Wretched of the Earth,” new edn., trans. Constance Farrington (1991; London, Penguin, 1967), p. 166 .
١٣  Molloy, “At Face Value: Autobiographical Writing in Spanish America” (Cambridge: Cambridge University Press, 1991), p. 2 .
١٤  Brathwaite, “History of the Voice: The Development of Nation Language in Anglophone Caribbean Poetry” (London and Port of Spain: New Beacon Books, 1984), p. 5 .
١٥  Pouchet-Paquet, “West Indian Autobiography,” in William Andrews, ed., “African American Autobiography: A Collection of Critical Essays” (New Jersey: Prentice Hall, 1993), p. 197 .
١٦  Ibid., pp. 197-8 .
١٧  Barnet, “Introduction” to Esteban Montejo, “The Autobiography of a Runaway Slave,” new edn., ed. Alistair Hennessy (1968; London: Warwick/Macmillan Caribbean, 1993), pp. 27–31 .
١٨  Gilmore, “The Limits of Autobiography: Trauma and Testimony” (Ithaca and London: Cornell University Press, 2001), p. 12 .
١٩  Castro, “History Will Absolve Me,” in Castro, “Revolutionary Struggle 1947–1958” Volume 1 of the Selected Works of Fidel Castro, eds. Rolando E. Bonachea and Nelson P. Valdes (Cambridge, MA, and London: MIT Press, 1972), p. 165 .
٢٠  Ibid., p. 183 .
٢١  Ibid., p. 166 .
٢٢  Ibid., p. 178 .
٢٣  Ibid., p. 220 .
٢٤  Antoni Kapcia, “Cuba: Island of Dreams” (Oxford and New York: Berg, 2000), p. 22 .
٢٥  Garcia, quoted in William Luis, “Reading the Master Codes of Cuban Culture in Cristina Garcia’s “Dreaming in Cuban”, World Literature Today, 74: 1 (2000), p. 62 .
٢٦  Garcia, quoted in ibid., p. 204 .
٢٧  Garcia, quoted in Rocio G. Davis, “Back to the Future: Mothers, Languages, and Homes in Cristina Garcia’s “Dreaming in Cuban”, World Literature Today, 74: 1 (2000), p. 62 .
٢٨  Castro, “Address to Intellectuals,” in Julio Garcia Luis, ed., “Cuban Revolution Reader: A Documentary History of 40 Key Moments of the Cuban Revolution” (Melbourne and New York: Ocean Press, 2001), p. 81 .
٢٩  Castro, “History,” p. 221 .
٣٠  Garcia, “Dreaming in Cuban” (New York: Ballantine Books, 1992), p. 86. Further References to “Dreaming” will be given in the text .
٣١  Luis, “Reading the Master Codes,” p. 212 .
٣٢  Ibid., pp. 214-15 .
يشير «لويس» إلى أن النقد الموجه لثورة كاسترو، الذي يصور كيف أنها لم تنصف السود؛ إذ إنهم حرموا من فرصة تنمية ثقافاتهم، بل كان يتم تشجيعهم لكي يكونوا «أكثر بياضًا».
٣٣  Davis, “Back to the Future,” p. 67 .
٣٤  Sommer, “Proceed with Caution,” p. 162 .

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤