الرجل
وصانع هذه الصورة مارتن دروشوت (١٦٠١–١٦٥٠) مهندس فلمنكي نزل بلندن مع أبويه ولم تكن سنُّه تزيد على خمس عشرة سنة حين مات شكسبير في سنة ١٦١٦، ومضت ست سنوات بعد موته حين صنع الصورة في أواخر سنة ١٦٢٢ قبيل ظهور الطبعة الأولى من المجموعة.
والمفهوم أنه استعان في استحضار ملامح الصورة برسم تخطيطي تممه بما وعته ذاكرته وراجعه فيه زملاء الشاعر وعارفوه، وجاءت الصورة على ما يظهر مطابقة لقسمات الوجه وتركيب الجسم غاية المستطاع؛ لأن بن جونسون الشاعر — أعرف الناس بشكسبير — كان يرتضيها ويلمح فيها صفات صاحبه وزميله، وقد كتب تحتها أسطرًا منظومة قال فيها يخاطب القارئ: «إن هذا الرسم الماثل أمامك يحكي فيه الرسام صورة شكسبير الرضي الوديع، وإنه ليجتهد اجتهاده أن يباري الطبيعة في صنيعها، ولكنه لو استطاع أن يرسم ذكاءه كما رسم طلعته لفاقت الصورة الكتاب، فأما وهو غير مستطيع فهاك صورة ذكائه فانظر إليها في حروف هذه الصفحات …»
وقد حاول الرسام جهده أن يودع صورته لمحات من صفات النفس كما تنم عليها ملامح الوجوه، فوضحت فيها صفات اللطف والوداعة التي قدمها بن جونسون على سائر صفاته، وبدا فيها مع سماحة الطباع شيء من الجنوح إلى العزوف والاحتجاز في غير جهامة، وشيء من الاعتزاز في غير صلف أو مناجزة، كأنها تنبيه خافت يهمس ولا يجهر، ولكنه لا يهمل ولا يأذن للناظر إليه أن ينساه.
ولا بد أن يكون شكسبير رضيَّ الخلق حقًّا ليذكره بن جونسون بهذه الخصلة قبل سواها من عامة خصاله، فإن بن جونسون لم يكن بالرجل الذي يرضيه ما يرضي غيره من شمائل الطيبة والوداعة، وقد غضب مرة من أحد الممثلين فدعاه إلى المبارزة فقتله وأوشك أن يؤخذ به على أعواد المشنقة لولا سابقة له في الحرب ودالة له على بعض العظماء، وكان يلوم من يحسب إصابته بالمرض خبرًا دون أخبار الزلازل وكوارث الطبيعة، وبينه وبين شكسبير منافسة قوية تثيره عليه ولا ترضيه عنه لو لم تكن سجية السماحة والمودة فيه أقوى من دوافع المنافسة والعداء، بل لا بد أن تكون المودة فيه قوة لا تقهر ولا يسهل نكرانها أو إغفالها في معترك الخصومة والمزاحمة بين أهل الفن وأصحاب المسارح ونظراء الأدب والوجاهة في العاصمة والريف، وقد ارتفع في شهرته إلى الذروة التي تغري بالحسد والغيرة في مجاله وفي غير مجاله، ولكنه لم يدع لأحد من منافسيه ذريعة للتجني عليه، ولم يستدرجه أحد قط إلى مقابلة الخصومة بالخصومة ومجاوبة الذم بالذم والوقيعة بالوقيعة، وخرج من حرب الشهرة الزبون بعدو واحد متهم في عداوته وصداقته، هاجمه عند زملائه وبالغ في إغرائهم بتصديق مثالبه وإقناعهم برأي في الرجل مثل رأيه، فلم يكن لحملته صدى غير الإعراض.
ويشاء القدر الساخر أن تبقى هذه الحملة العنيفة بعد ثلاثة قرون ليرجع إليها طلاب الشهادة لفضل الشاعر وكفايته وصدق دعواه، فهي اليوم حجة من الحجج المقنعة التي تقوم عليها سمعة شكسبير وتنتفي بها عنه شبهات الادعاء والانتحال، وتجد من ثمة مكانها في سيرته بين كفتي الثناء والانتقاص، لترجح بها كفة الثناء.
في الفصل الثالث من رواية هنري السادس التي ألفها شكسبير كلمة يتحدث فيها عن قلب نمر في إهاب امرأة، وهذه هي الكلمة التي استعارها روبرت جرين — منافس شكسبير في التأليف المسرحي — ليقول إن قلب النمر إنما هو ذلك القلب الذي يكمن في إهاب ممثل يظن أنه الوحيد الذي «يهز الستار»، ويومئ بذلك إلى اسم شكسبير الذي يتألف — كما تقدم — من كلمتين بمعنى «هزاز الرمح» … ثم يحذر «جرين» زملاءه الشعراء من هذا الدعي الذي داخله الغرور؛ فخيَّل إليه أنه ينظم الشعر المرسل كأقدرهم وأبرعهم في صناعة القصيد.
ولم تكن هذه الحملة أولى الحملات التي شنها جرين على الممثلين الذين يرفضون رواياته أو يقبلونها ولا يحفلون بآرائه في تمثيلها وإخراجها وتقدير حقوقها، فإنه أطال الحملة عليهم في جملتهم وأفرد أناسًا منهم بأسمائهم، وختم هذه الحملات المتواترة عليهم بحملته الأخيرة قبيل وفاته (١٥٩٢) على شكسبير.
ويستوي شكسبير وزملاؤه الممثلون في حملات جرين وشكاياته، ولكنه يزيد عليهم بأنه ممثل ومؤلف وناجح في التمثيل والتأليف وملحوظ المكانة بين الممثلين والمؤلفين، ولا لوم عليه ولا على زملائه فيما أصابهم من جرين أو فيما أصابه منهم؛ لأنه قد أُصِيب في الواقع من سوء فعله وخلقه وخابت آماله بعد أن تعلم في جامعة كمبردج وتخرج من جامعة أكسفورد فلم يدرك شأو النخبة المفلحين، ممن اشتهروا باسم أذكياء الجامعة ولم يدرك شأو الأدباء الذين انقطعوا للتأليف، وابْتُلي بداء الإدمان وعِشرة المدمنين فأتلف ما عنده من قليل المال وتزوَّج على طمع في مال امرأته؛ فأنفق ما عندها وطردها ليعيش مع امرأة مريبة تنصب الحبائل للمخدوعين من طلاب اللعب والشراب، وقد جار المسكين على بدنه وعقله بالإدمان والإفراط، وقضى نحبه في الرابعة والثلاثين على أثر أكلة فاسدة أكثر فيها من أصناف الأنبذة والخمور، وكتب حملته الأخيرة وهو بهذه الحال من السقم والخبل والقنوط.
وأصدق ما في هذه الحملة الجائرة ما أثبته الكاتب على غير قصد منه في رسالته إلى زملائه الشعراء، فإنه لم يقصد أن يثبت أن شكسبير هو مؤلف هنري السادس وغيرها من الروايات التي تشترك معها في موضوعها، ولم يقصد أن يثبت أن شكسبير كان له عمل في المسرح غير التمثيل والإخراج، وهو كتابة الشعر المرسل ليجاري به أكبر شعراء زمانه غير قانع فيه بمنزلة التابع المسبوق حتى في سنة ١٥٩٢ التي تُعَدُّ من سنوات الابتداء في حياته الأدبية، ولو أن شكسبير كان يدعي روايات المؤلفين المستترين لما خفي ذلك على رجل مثل جرين يخالط المسرحيين، ويخالط أذكياء الجامعة، ويخالط المؤلفين وثراثرة المجالس الأدبية، ولا يفوته في أدوار من يوم كتابتها ونسخها وإخراجها وتلاوة مناظرها في دور التجربة وعثرات شكسبير في النطق بألفاظها أن يكشف سرها الذي لا يخفى في جميع هذه الأدوار، ولا شك أن تأليف هذه الروايات قد كان بعيدًا من كل مظنة وكل واردة من واردات الخواطر حتى غاب أمره عن الحاسد الشانئ الذي يتصيد المزاعم لاتهام غريمه بالادعاء والانتحال.
فلم يقصد جرين أن يقيم هذه الحجة لتثبيت سمعة شكسبير وإدحاض التهمة عنه أو التشكيك فيها وإبعادها من ظنون التابعين كما كانت بعيدة من ظنون المعاصرين، ولكنها حجة تسبق إلى الخاطر على غير قصد من جرين وممن يقرأون حملة جرين؛ إذ ليس من اليسير على العقل أن يصدق أن ممثلًا غير أهل للتأليف يفاجئ القوم بالروايات من أرفع طراز في عصره، ويدعي أنه ألَّفها وهو لا يحسن فهمها ولا يحسن إخراجها، ثم تفوتهم هذه المفاجأة ويستعصي عليهم أن يلحظوها وينقِّبوا عن أسرارها، وهي ليست مما يطول خفاؤه في رواية بعد رواية بين أدوار الكتابة والمراجعة والتوزيع والإخراج والإلقاء، وإن خفي ذلك على النظارة فلن يخفى على الممثل الخبير بصناعته وراء الستار، ولن يخفى على النبيل صاحب المسرح إذا كان المؤلف المستتر نبيلًا من أقرانه يتخطاه إلى فرقته المسرحية ليعرض على يديها عملًا لم يأذن به ولم يطلع عليه.
لم يقصد جرين هذا ولم يقصد كذلك أن يقول إنه كان يخاطب أناسًا يعتقدون في شكسبير غير اعتقاده ويحذرهم من صاحب يركنون إليه ولا يحذرونه، ولكنهم سمعوا هذا التحذير من الممثل الذي يخفي بين جوانحه قلب نمر فلم يصدقوه، وظل أحدهم — وأكبرهم — بن جونسون يركن إلى ذلك القلب ويصفه بعد نيف وعشرين سنة بالسلامة وبراءة الخلق من النفاق والمداجاة.
ويوشك أن نتعلم من سيرة شكسبير أن عفو الثناء أدل على الأقدار وأولى بالإصغاء إليه من الثناء المقصود؛ لأن عفو الثناء حكم عام يسري بين الناس كلما خلا من التشيع والغرض، وقلما سلم الثناء المقصود من نزعة مذهب أو مسحة هوى يغلب على قائله، وإن كان من الصادقين المصدقين.
وأخلى ما يكون الثناء من الغرض الخاص حين نستخلصه من مضامين النوادر والأحاديث ولا نعلم من قاله كأنه نبت وحده من بداهة عامة لا تتوقف على وجهة شخصية أو على فكرة مذهبية، وفي هذه السيرة أشتات من النوادر والأحاديث التي جرت هذا المجرى، وجاز أن تحسبها من الإشاعات المرسلة والأساطير الموضوعة التي تدل برموزها ولا تدل بوقائعها وأسانيدها.
زعموا أن شكسبير وصل إلى لندن بغير زاد وبغير مَعِين؛ فقاده حبه للتمثيل إلى باب المسرح، ولبث يتردد عليه بغير عمل يستطيعه في داخله، أو في خارجه، غير حراسة الخيل لمن يرتادونه من النبلاء والنبيلات، ولم يلبث غير قليل حتى لفت إليه أنظار الروَّاد؛ فجعلوا يسألون عنه ويتفقدونه ولا يسلمون خيلهم إلى غيره إلا إذا كرروا السؤال عنه فلم يجدوه، وتكاثر الطلب على حراسته؛ فاستعان بصبيان له يجيبون النداء عليه، ويقول حاضرهم لمن يسأل عن «ولد شكسبير»: أنا صبي شكسبير!
وكتب الدكتور صمويل جونسون علامة زمانه هذه القصة نقلًا عن مصدرها الأول الذي ظهر في سنة ١٧٥٣ ولم يرجع بها إلى مصدر قبل ذلك، ولكن النقاد من بعده تتبعوا القصة إلى مصادرها المحتملة؛ ففهموا أن راويها سمعها من صديق، عن الأسقف نيوتن، عن الشاعر بوب، عن المؤرخ راو مترجم شكسبير، عن بترتون، عن سير وليام دافنتات معاصر شكسبير، ولم يجدوا القصة في ترجمة راو كأنه استضعف سندها فلم يثبتها فيما نقله عن الرواة الثقات.
وهذه الأحدوثة قد تكون خبرًا واقعًا وقد تكون إحدى الأحدوثات الموضوعة التي تضاف إلى تراجم المشهورين، ولكنها تُروَى لتقول لنا إن شكسبير كان على استعداد بفطرته لكسب الثقة والحمد ممن يعرفونه ويعاملونه، وإن له كياسة يصحبها النجاح والتفوق فيما تصدى له من عمل وإن صغر وهان.
وهذا ما نعنيه بعفو الثناء: ثناء لا يأتي بشيء من عنده ولا يخلق الواقع الذي يثني عليه، ولكنه يكرره في صورة من صور الخيال تعلق به كما تعلق الحواشي والأهداب بالصورة التي تبعث من شهادة الحس ومن تحصيل الحاصل، فهي توحي إلى الأذهان أن تعيد أوصافها بلون من ألوان الخيال.
فالنجاح والتفوق في حياة الممثل شكسبير آية من آيات هذا الاستعداد العجيب؛ لأنه نجاح لم يحرم صاحبه حظًّا من الثقة والحمد بين زملائه المتخلفين عنه، ومنهم من ذهب إلى نهاية الشوط يوم كان هذا الطارئ على الفن يخطو على خشبات المسرح خطو المبتدئين المتطفلين، ولعله لم يبلغ في دور من الأدوار غاية شوطه، ولكنه لم يجهل مداه من هذه الصناعة، ولم يخطئ فيما هو قادر عليه وما هو عاجز عنه من أشواطها، فأعطاه التمثيل قصارى ما يعطيه من علمه وعمله وجدواه.
ونجح شكسبير وتفوق في منافسة أخطر من منافسة الزملاء على خشبة المسرح، وهي منافسته لأكبر الزملاء في تأليف المسرحيات، ونجاحه على الرغم من ذلك في كسب الثقة والحمد منهم، وأكثرهم قد سبقوه إلى التأليف كما سبقوه في مؤهلات الشهرة والدعوى، فمضى في التأليف قدمًا وتخلف وراءه أعلام مبرزون من طبقة مارلو وفلتشر وبوشي وناش ودرايتون ولايلي وبيل وكيد وبن جونسون وروبرت جرين، وفيما عدا هذا الأخير لم ينقم عليه نجاحَه وتفوُّقَه أحدٌ من هؤلاء الأعلام، ولم نسمع من شكسبير كلمة تشف عن نقمة من هذه المنافسة أو ضيق بتكاليفها.
وليس شكسبير المؤلف بصاحب الفضل في هذه الصلة النادرة بينه وبين زملائه، فإن الإبداع في التأليف لم يكن يومًا من الأيام ضمانًا للحمد والثقة بين المتنافسين، وإنما الفضل لخليقة في الرجل تكسر حدة الغيرة وتفلُّ سلاح العدوان وتوصد باب اللجاجة في الخصومة على من يفتحه بغيًا عليه.
تلك — فيما نحسب — خليقة الجد والدأب مع ثقة بالنفس وشعور بالمناعة يدعوه إلى المسالمة ولا يستجيش فيه ثورة النضال ما دام في أمان من قدرته على عمله.
وخليقة الجد والدأب تشغله ولا ريب عن صغائر الكيد ولغو الفضول في غير طائل؛ لأن قرابة أربعين رواية وديوانًا في نحو عشر سنوات عمل شاغل يضاعفه عمل التمثيل والإدارة وتدبير أمر الأسرة التي يعولها في أزمتها، ولكنه عمل شاغل له لا يشغل منافسيه عن الافتيات عليه وتضييع وقته، لولا عصمة من مناعته وثقة منه بنفسه وثقة منهم بفضله، وعزوف ينحيه عن طريق الثرثرة واللغط، وييئسهم أن ينالوا منه بعدوان لا يضيره ولا يسلمون من مذمته.
وربما كان للرجل شأن غير هذا الشأن لو أن رسالته في الحياة كانت رسالة دعوة إلى عقيدة جديدة أو نقض لفكرة مخالفة، أو لو أنه كان مطبوعًا على مزاج الدعاة المصلحين الذين يحسون الأخطاء والعيوب في أعمال الناس وأفكارهم فلا يملكون الصبر عليها ولا يهدأون أو يزيلوها ويتجردوا ليلهم ونهارهم لتبديلها.
فإن صاحب الدعوة إلى تبديل الأفكار مدفوع إلى الغضب والإغضاب يثور على مخالفيه ويثيرهم عليه، ويصدم شعورهم وتفكيرهم ويتلقى صدماتهم لشعوره وتفكيره، وليس في مقدوره أن يتجنب النضال أو يسكن إلى حياة المسالمة أو الموادعة؛ لأن السكينة وتحريك الأفكار للدفاع والهجوم نقيضان لا يتفقان.
ومن كان مطبوعًا على مزاج الدعاة المصلحين فهو منذور لحياة القلق والنضال لاعتقاده أن الإصلاح ضربة لازب وأن الشرور تنتهي على أيدي المصلحين وتنقضي بانقضاء الزمن الذي هي فيه، وربما تجرد للإصلاح وهو لا يؤمن كل الإيمان بزوال الشرور على يديه أو على أيدي المصلحين من بعده، ولكنه يتجرد لجهاده لأنه لا يطيق التوفيق بين حالته وحالة زمنه، ولا يخشى من الجهاد قلقًا أشد عليه من قلق الصبر على ما يخالفه ويستثير سخطه على قومه.
أما شكسبير فلم تكن رسالته دعوة يثيرها بل كانت رسالة عمل يؤديه، فإذا صور الدنيا على صورتها فقد وفَّى عمله كل حقه ورفع المرآة الصادقة أمام دنياه لتصلح من أمرها ما تريد، وإذا بدا لدنياه أنها راضية عن عيوبها لم يعجلها عن هذا الرضا وتركها على مهل إلى اليوم الذي تتبدل فيه على مهل؛ لأنها لن تدوم على حال.
ولو أنه سيق اضطرارًا إلى رسالة من رسالات الدعوة لما وجد في نفسه طبيعة الدعاة؛ لأنه خُلِق بطبيعة الحكيم المتأمل ولم يُخلَق بطبيعة القلق المناضل المدفوع إلى تبديل ما يخالفه من أمور زمنه، وفي وسعه أن يحيط من زمنه بخيره وشره ووفاقه وشقاقه، وليس عسيرًا عليه أن يصنع الهوادة مع الحياة على علاتها كيف كانت، وكيف كان.
تتراءى لنا هذه الطبيعة فيه من موقفه بين مذاهب الخلاف في زمنه، وهو من أكثر العصور مذاهب خلاف.
كان فيه خلاف بين الإنسانيين المجددين وبين المحافظين الجامدين، وكان فيه خلاف بين البابويين والمحتجين على البابوية، وكان فيه خلاف بين البابويين في داخلهم من المسلِّمين بالواقع ومن المعارضين القائلين بالرجعة إلى سنة السلف الأولين، وكان فيه خلاف بين المتطهرين أنصار الحجْر والشظف وبين المترخصين أنصار الهوادة والسماحة، وكان فيه خلاف بين المدرسة التجريبية ومدرسة الفلسفة الإغريقية اللاتينية، وكان خلاف العصر في السياسة بين شيعة الأسرة الذاهبة وشيعة الأسرة المقبلة أشد من خلاف المختلفين على مذاهب الدين والعلم والفن والأخلاق.
وأين كان شكسبير من كل هذا؟ كان في حومتها وكانت كلها في ميزانه بأقدارها وأثقالها، ولم يكن هو ذاهب القرار مختل الوزن بين كفتيها.
هل كان بابويًّا؟ هل كان بروتستانتيًّا؟ هل كان منشقًّا على الكنيسة متبعًا لنحلة من نحل المنشقين عليها؟ هل كان من المتطهرين؟ هل كان من الإنسانيين؟ هل كان على عقيدة أو كان منكرًا لا يؤمن بدين؟ …
وغير هذين يقولون غير هذا وذاك، ولكنهم يأخذون جميعًا بالقرينة والاستنتاج من سيرته وأقواله في رواياته، ولا يذكرون لنا خبرًا قاطعًا عن مذهب معلوم كان ينتمي إليه.
ومن أمثلة هذه القرائن أن القس الذي قام بعمادته كان من غلاة المتشيعين لمذهب البروتستانتية، وأن الشاعر كانت له صدقات لبيوت من معاهد الإحسان لا تتبع الكنيسة البابوية، ولكن القرائن من هذا القبيل لا تقطع بانتمائه إلى البروتستانتية إلا إذا قطعت بانتماء أبناء ستراتفورد جميعًا إليها، إذا كان قس كنيستها يقوم بتعميد جميع أبنائها، وكانت صدقات الشاعر تعم المحتاجين إليها من أبناء القرية ولا تخص فريقًا منها.
وفيما عدا هذا القرائن يرى بعض المعقبين أنه كان بابويًّا لأنه كان يغمز أتباع البروتستانتية في رواياته الفكاهية ويعرضهم على صورة من صور السخرية والاستخفاف، كما يلوح من صورة سيرناثنائيل في رواية «عناء الحب الضائع»، وصورة سير أوليڨر مارتكست في رواية «كما تهوى» وفي صورة سير هوج إيفانز في رواية «الليلة الثانية عشرة» إذ يقول: «لست سياسيًّا، وإني لأوثر أن أكون براونيًّا على أن أكون في زمرة السياسة!»
والبراونيون هم أتباع روبرت براون الذي كان ينكر قوامة الأساقفة، ويخوِّل كل طائفة متعبدة أن تنشئ معبدها حيث شاءت وتختار له الوعاظ والقساوسة مستقلين عن أحبار الكنيسة ورؤساء الدولة.
إلا أن الشاعر كان يلقي على ألسنة أبطاله ما يناسبهم من القول على حسب الموقف أو على حسب مدار الحوار، وقد جعل الملك جون يقول لبندلف رسول البابا إنه لا يسمح للإيطاليين برئاسة الدين تحت سلطانه المستمد من السماء، ولما قال له فيليب ملك فرنسا: إنك تجدف أيها الأخ! أجابه معرِّضًا بالرشوة والفساد في الوصايا البابوية!
وليس لشكسبير رأي في مذهب المتطهرين ولا في مذهب الإنسانيين على غير هذا المثال الذي يتبعه في إملاء الآراء على ألسنة المتكلمين حسب مواقفهم وأدوارهم في الروايات، وإنما المرجع إلى قرائن الرأي إن كانت فيها قرينة من لهجة الخطاب يحس منها القارئ أنه مفرغ في قالب الموافقة والارتياح أو مفروض على المؤلف بمقتضى المقام على حكم الحوار.
إلا أن قرائن الآراء في كلامه على مذهب المتطهرين ومذهب الإنسانيين لا تحتاج إلى عناء كبير في الموازنة والاستنتاج؛ لأنها غير مقصورة على المواقف في بعض الروايات، بل هي قرائن مجتمعة نستمدها من عمله كله ومن حياته كلها، ومما قاله على لسان غيره ومما لا حاجة به إلى قول.
فهو لا يذكر المتطهرين بأسمائهم ولا يذكر مذهبهم باسمه، ولكنه ينعتهم بصفاتهم ويومئ إلى مبادئهم وتقاليدهم، ويكاد يستدعيهم إلى المسرح ليطردهم منه على عجل مشيَّعين بنظرات الضجر والاستخفاف، ولا حاجة إلى هذه الأقوال المعترضة لاستخلاص رأي الشاعر في هذا المذهب وفي غلاة أتباعه من أبناء عصره، فإن الرجل الذي يدين بمذهب المتطهرين أو يُنظَر إليه نظرة العطف والإغضاء لا يقضي حياته في المسرح بين قراءة وتمثيل وتأليف وإدارة وإشراف، ولا يستطيع التوفيق يومًا واحدًا بين رسالة حياته ورسالة القوم الذين يتحرجون من رؤية المسرح بين أسوار المدينة ويُلحقونه بالحانة والماخور وبؤرة الفساد.
ولم يذكر الشاعر مذهب الإنسانيين باسمه، ولكنه ذكر الإنسانية وآدابها في مواطن متفرقة تنصرف إلى معناها في مذهب الإنسانيين، وقال في رواية «هنري الرابع»: «لو كان لي ألف ولد لعلمتهم أول مبادئ الإنسانية.» وتحدث في رواية «هملت» عن الذين يحاكون الإنسانية محاكاة بغيضة، وقال في مواقف السخط برواية «عبد الله»: «إنني آوي إلى مسلاخ القرد بديلًا من هذه الإنسانية …» وجأر بصيحة كهذه الصيحة في رواية تيمون.
على أن الشاعر في غنى عن كلام يقوله بلسانه أو لسان غيره لنعلم منه أنه «إنساني» في عقيدته وتفكيره، فإنه يؤمن بكل ما احتواه المذهب من عقيدة أو فكرة إذا آمن بإحياء الفنون والإقبال على الحياة وعرف حدود الطبيعة الإنسانية، وهو من ثم أكبر من مؤمن بالمذهب وأكبر من مستجيب فيه إلى دعوة السابقين إليه: هو ركن من أركان النهضة الإنسانية يقيمها بعمله وسيرته وإن لم يشرحها بحجته وبيانه، وهو ظاهرة من ظواهر هذه النهضة قد أظهره في عصره ما أظهرها في عصرها، وتُقاس به كما يُقاس بها في تفصيل مقدماتها وأطوارها.
ونرى أن النهضة الإنسانية تُقاس به قبل أن يُقاس بها؛ لأنه يحتويها ولا تحتويه كله في عقيدته وتفكيره، ولأنه يمضي معها إلى حدودها الصالحة ولا يجاوزها إلى ما وراءها، وهو القائل بلسان هملت: «إن في السماء والأرض أمورًا أعظم مما تحمل به فلسفتك يا هوراشيو …» وهو الذي بلغ بالإنسانية إلى قرارها حيث يتمنى الإنسان أن يستبدل بها مسلاخ القرد، وحيث يصبح الإنسان إنسانًا زائفًا بالمشابهة والمحاكاة.
وهكذا يصدق طبعه في موقفه من فلسفة الإنسانيين كما صدق طبعه في مواقفه من مذاهب المتطهرين والبابويين والمنشقين والبروتستانت أو المحتجين على اختلاف الدعاة وأسباب الاجتماع، فهي كلها في ميزانه بأقدارها وأثقالها، وليس هو بالحائر المضطرب بين كفتيها، وهو يلمح ما يؤخذ عليها ويردد هذه المآخذ بألسنة خصومها، ولا يلزم من ترديدها أن يقرها على علاتها، ولكنه يلقيها بلسان غيره عن علم بها ثم لا يفوته أن يميز بين لبابها وقشورها.
ولم نعلم من كلام شكسبير أنه كان مطلعًا على كتب دينه وأنه يكاد يستظهر أسفار العهدين القديم والجديد بحروفها، ولكننا نعلم هذا من أسلوبه ومن تركيب عباراته لأنه يشبه تركيب الجمل في نصوص الترجمتين: ترجمة القرن السادس عشر التي ظهرت قبل مولده بخمس سنوات، وترجمة القرن السابع عشر التي ظهرت قبل وفاته بعشر سنوات، واطلاعه على هذه النصوص اطلاع من يفهم ويحفظ ويضع الشاهد الموافق في مكان الحاجة إليه.
•••
ونحن إذا قلنا بعد هذه التقديرات إننا نعلم القليل عن عقيدة شكسبير على سبيل اليقين، فقد قلنا الكثير عن طبيعة الرجل وتكوُّن مزاجه، وهما سبب السؤال عن عقيدته يوم كان الناس يقذفون بعقائدهم في وجه من يسأل عنها ومن لا يسأل، وناهيك بزمن كان يتوسط النهضة بمنازعاتها في الدين والعلم والسياسة، ويفتتح الثورة التي ثلت العروش وطاحت برؤوس الملوك في وطنه وإلى جوار وطنه وفي العالم الجديد بين أبناء جلدته ومن عاش معهم من ورثة النهضة والإصلاح.
في ذلك الزمن كان صاحب المعتقد يأخذ بتلابيب الناس ليعلنهم برأيه ويقسرهم عليه، وها هنا رجل يعرف من دعوات زمنه وعيوب أهله ما يجهله الكثيرون ويكتب ما لم يكتبه أحد قبله ولا بعده عن طبائع الناس وحقائق الحياة، ونسأل عن عقيدته فنبحث عنها في طوايا كتبه ولا نعلم منها غير القليل من طريق الظن والتقدير.
لو كان لا يعلم ولا يعمل لأمكن أن يُقَال إنه جاهل لا يدري ما حوله، ولما احتاج أحد في أمره إلى سؤال.
ولكنه يعلم ويعمل، فإن جهلنا اليقين من عقيدته فليس اليقين من تكوين مزاجه بمجهول: إنه مزاج رجل يعرف رسالته فيعكف عليها، ويفرغ للجد والدأب في أدائها على وجهها.
إنه رجل يغلب فيه مزاج الحكيم المتأمل على مزاج الثائر الغيور، وشفيعه إلى وجدانه وضميره أنه ينظر إلى جانب هنا وجانب هناك، وأنه لا يرى بينهما موقع الفصل بين الخير والشر ولا قضية الحياة والموت في مشكلات الماضي والحاضر، ومن ورائها مشكلات الغد المجهول.
وندع المفاضلة بين المزاجين لموضعها من كتب الأخلاق وعلم السلوك، ونكتفي هنا بأن نقول إن الفضل لأحدهما على الآخر لا يطرد على إطلاقه في كل قضية وكل آونة، فرب قضية تكون فيها الحكمة جبنًا لا يُغتفَر، ورب قضية في آونة أخرى تكون فيها الحكمة فريضة لا هوادة فيها، ومناط الفصل بين المزاجين في هذه السيرة أن نسأل من يطالبون الشاعر بمزاج غير مزاجه ويوجبون عليه حمل السلاح غيورًا ثائرًا: في أي جانب يريدون منه أن يحمل سلاحه؟
لقد كان موقفه بين الجوانب موقف المؤمن الذي لا تؤويه حظيرة من حظائرها، وكان يؤمن بعظمة الله وعظمة هذا الكون الذي تغيب أسراره في سمائه وأرضه عن فلسفة الحكيم ومعرفة العليم، وكان يأخذ على كل نحلة من نحل العصر مواضع الهدة فيها، ولا يبرئ إحداها من سوء المغبة ولا ينوط حسن المغبة بسواها، ففي أي جانب منها يحمل سلاحه وإلى أي جانب منها يسدد ذلك السلاح؟
إنه صنع في حياته ما كان عليه أن يصنعه لو أنه عاد إلى الحياة بعد ثلاثمائة سنة، وهذه المئات الثلاث من دورات الفلك هي مسافة السبق بين وعي العبقرية الخالد ووعي السالف العابر الذي يغمره غبار المعركة فترميه ضجة هنا وتتلقاه صيحة هناك، وتنقضي حملته ولمَّا ينكشف للمعركة غبارٌ.
•••
ويبدو أن قوام هذا المزاج الناجح الرضيِّ كان صفة لا يُظن لأول وهلة أنها تساعد صاحبها على كسب النجاح والرضا، وهي صفة العزوف.
وغير بعيد أن تكون صفة العزوف قد ساعدته في حياة الفكر كما ساعدته في أسباب المعيشة ومعاملة الناس؛ لأنها يسَّرت له أن يقف موقف الحيدة بين أبطاله وشخوص رواياته، فاستطاع أن يعطي كل شخص من أولئك الشخوص وجهة النظر التي تناسبه في الرواية وأن يلقي على لسانه كلامه الذي يطابق تلك الوجهة دون أن يتخلَّله بكلام المؤلف على حسب تفكيره وشعوره.
والعزوف — كما أسفلنا — صفة لا يُظَنُّ لأول وهلة أنها تساعد صاحبها على النجاح وكسب رضا الناس، لولا أن العزوف في نفس متعددة الجوانب غير العزوف في النفوس الضيقة التي يستوعبها جانبها المحدودة فلا تتسع لغيره، إن العزوف في نفس قادرة على الاشتغال بمختلف الشواغل يلهمها أن تدع الناس وما يعنيهم وتتفرغ لما يعنيها من أعمالها، ومن عزف عن الناس فمن اليسير عليه أن يقول «لا يعنيني» وأن يجعل هذه القولة شعاره في علاقاته بغيره وسياسته لنفسه، وليس أيسر من كسب رضا الناس بهذا العزوف، ولا أقرب إلى النجاح ممن يعكف على شأنه ويصدف عن الفضول في مطالبه وأحواله.
ومهما يكن من أثر هذه الصفة في نجاحه بين زملائه فلا ريب أنها أكسبته ذلك السمت الرصين الذي كان يضمن له الكرامة في كل بيئة يتصل بها ويعيش بين ظهرانيها على قدر ورفق، فلا تمله ولا تنظر إليه نظرتها إلى المقتحم المتطفل عليها.
وكرامة الطبع هي التي خولته كرامة اللقب؛ لأنهم رأوه في بيئة الألقاب أهلًا لحلة التشريف التي توجب لصاحبها أن يُلقَّب بلقب السيد أو الجنتلمان، فكان سيدًا بأدبه قبل أن يكون سيدًا بلقبه، وتيسر له أن يدرك اللقب الذي لا يدركه كل من سعى إليه، وقد كان المتأدبون من نبلاء عصره يقربونه ويستقبلونه في مجالسهم بين خاصتهم وعشرائهم، وارتفعت منزلته في بلاط الملكة اليصابات فشملته برعاية أكبر من رعاية الفنان المستحسن على المسرح، واقترحت عليه تأليف الأدوار التي تحب أن تراها ممثلة على مسرح القصر، ومنها دور فلستاف في موقف غرام.
ويلاحظ كذلك أن الشاعر لم يذكر في رسائله ولا في أقواله المحفوظة شيئًا عن حظوته في البلاط الملكي ولا عن عطف الملكة اليصابات والملك جيمس عليه، ولكننا نعلم ذلك من أبيات للشاعر بن جونسون يتحدث فيها عن بجعة نهر أڨون الحلوة التي ترفرف على نهر التاميز وتروق رفرفتها أعين اليصابات وجيمس، وموضع الملاحظة في سكوت شكسبير عن هذه الأحاديث أنه لا يعنى بالحظوة الملكية ولا بالمكانة المرعية بين علية القوم لأنه يفخر بها فيدل بها على أقرانه، وإنما يطلبها ليصون كرامته ثم لا يبالي متى صينت له هذه الكرامة أن يغض بها من كرامة الآخرين، وليس بالمستغرب من هذا العزوف السليم أن يكسب صاحبه الرضا؛ لأنه يفل سلاح الحسد ويكسر شوكة الغيرة.
تلك صورة جلية من تلك الشخصية تخرجها لنا البداهة من الواقع الثابت الذي لا عمل فيه للسماع والرواية، ونعتقد أن مترجم شكسبير في حِلٍّ من قبول السماع والرواية فيما يطابق تلك الصورة البديهية؛ لأن لسان الحال يطابق فيها لسان المقال، وقد يعرض الشك للرواية المسموعة في جيل بعد جيل الشاعر على ألسنة مجهولة السند متناقضة الخبر، ويضيق مورد الشك في صفة تمليها البداهة ويؤيدها السماع.
وليس الغريب في هذا الخبر أن شكسبير يشرب مع زملائه، فإنه لم يكن بدعًا في عادات العصر بين قومه ولا بين زملائه، ولم يكن من طائفة المتطهرين التي تدين بالحمية في الطعام والشراب، ولكن الغريب أن يفرط في معاقرة الخمر حتى يُقضَى عليه من جرائها؛ إذ لا يُعقَل أن يفرط الرجل في الشراب ويفرغ للعمل الذي أتمه في الكتابة والتمثيل وإدارة المسرح وتدبير شؤون الأسرة في مقامه بلندن ومقامه بقريته، وأن يحدث منه ذلك بعد أن جاوز الخمسين.
ونحسب أن القس جون وارد عجب من أن يقضي الشاعر نحبه في الثانية والخمسين بغير علة معلومة ولا حادث طارئ، فعلل موته بإصابة عارضة من حمى الشراب، وما كان للقس أن يعجب لموت بطله قبل علو السن لو قابل بين عمره وأعمار إخوته وأبنائه، فإنه نبت في قوم قصار الأعمار وأحس وطأة الموت وهو في الثلاثين كما جاء في موشحته الثالثة والسبعين، وختم حياة العمل والاغتراب عن موطنه في نحو الخامسة والأربعين، فإذا كان للشراب أثر في التعجيل بأجله فلا حاجة إلى الإفراط فيه لتقصير هذا العمل القصير.
•••
وبعدُ، فنحن نقنع من الأخبار والقرائن بهذه الصورة الصغيرة «للإنسان» شكسبير؛ لأننا لم نعثر بصورة له تغنينا عنها، وهي على الجملة صورة صغيرة مجردة من الألوان الواضحة، ولكنها على صغرها ونصول ألوانها صادقة الشبه واضحة الخطوط، وقد نحصر خطوطها الواضحة في كلمتين حين نقول إن «الإنسان شكسبير» هو القروي العالمي الذي نفهمه كلما فهمنا العالم الذي عاش فيه والقرية التي نبت منها ولم ينقطع عنها حتى عاد إليها.
فلا تتم في أخلادنا صورة «الإنسان شكسبير» إلا إذا عرفنا أنه عاش في عالم الكشوف الذي تراجعت حوله حدود المجهول في الأرض والسماء وفي أغوار الطبيعة الإنسانية، وإن أهم هذه الكشوف لهو هذا الكشف عن طبيعة الإنسان فيما يغنينا من ملكات الرجل الذي تقوم رسالته على تصوير مئات من الرجال والنساء يمثِّلون الطبائع على خيرها وشرها، ويتقاربون أو يتباعدون على ضروب من العلاقات قلما تغيب عنها علاقة بين إنسان وإنسان.
ولا تتم صورة العبقري العالمي بغير تلك الخطوط التي ترتسم بها سمات القرية بناحيتها الطبيعية وناحيتها الاجتماعية في تلك العبقرية الخالدة، فإن القرية هي التي ترسم لنا من صورة شكسبير الإنسان ملامح السمت والحرص على السمعة وتوجيه خلائق الجد والدأب إلى غايتها في القرية بين غايات الفن والشهرة، وقد تفسر لنا هذه الخطوط القروية خفايا السنوات المجهولة فنرضى عن تفسيرها؛ حيث يتركنا كل تفسير عداه متطلعين إلى سؤال لا جواب عليه.
فلا لغز في اختباء شكسبير بضع سنوات يشتغل فيها بالتمثيل منزويًا عن عشيرته الأولى قبل أن ترتفع عنه معابة الاشتغال بهذه الصناعة، وقبل أن يحمد من أسرته مغبة الانتساب إليها.
وما من غرابة في هذا المسلك تلجئنا إلى طلب التفسير؛ لأنه المسلك الذي لا مسلك سواه بين يديه، ولا فكاك منه للفنان المطبوع الذي وُلد قرويًّا ومات قرويًّا ولم تصرفه المدنية ولا العالم عن أحضان الطبيعة في قريته بين مآلف صباه ومعاهد آله وعشيرته.
فلم يكد يفرغ من حق المدنية والعالم عليه حتى عاد إلى القرية التي أعطته حياته الأولى ليعطيها بقية حياته.