الفنان
يقول روبرت جرين في هجائه لشكسبير إنه دعيٌّ يُخيَّل إليه أنه هزاز الستار غير مدافع في أنحاء البلاد، وأنه من أجل ذلك يحسب أنه قادر على قرض الشعر المرسل كأبدع ما يبدعه فحول الشعراء في زمانه.
ولا ننظر هنا إلى نية روبرت جرين في مقاله، وإنما نستدل منه على اعتداد شكسبير بصناعة التمثيل كاعتداده، بصناعة التأليف ونظم القصيد، وربما لزم التنبيه إلى ذلك في العصور المتأخرة؛ لأن شكسبير قد كاد أن ينفرد بعظمة التأليف المسرحي بين نظرائه الذين سبقوه في الزمن أو لحقوا به إلى هذا العصر الحديث، حتى صغرت في أعين الناس كل شهرة غير شهرة التأليف تضاف إليه.
ومن الراجح أن شكسبيرَ الممثِّلَ لا يفوقُ نُخْبةَ الممثلين كما فاق المؤلِّفُ شكسبيرُ نُخْبةَ المؤلفين، إلا أننا لا نرى من أجل ذلك أن عنايته بالتمثيل كانت أقل من عنايته بالتأليف، فإن العناية بالشيء والقدرة عليه لا تتلازمان، وقد تكون القدرة العظيمة كافية لإتقان العمل بقليل من العناية، وقد تعظم العناية كلما صغرت القدرة ولم تأتِ وحدها بالكفاية من الإتقان، فإذا احتاج الشاعر إلى الجهد في إحدى صناعتيه فلا جرم يكون التمثيل أحوج الصناعتين منه إلى الجهد والاكتراث، ويكون الاعتداد به — كما قال جرين — أظهر من اعتداده بمجاراة الشعراء في النظم والتأليف.
ولهذا يحاول جرين أن يوغر صدور الشعراء على الممثل الذي يسلمون له قدرته في التفرق بصناعته عليهم، فيقول لهم إن نجاحه على المسرح يغريه بالتطاول عليهم في صناعتهم، ويوقع في روعه أنه يضارعهم، إن لم يكن يفوقهم في نظم الشعر المرسل، وهو الشعر المأثور يومئذ لتأليف المسرحيات.
وقد ظهرت في حياة شكسبير مسرحية باسم «العودة من البرناس أو جبل الآلهة» يومئ فيها المؤلف إلى الزميل الذي كان يبز أساطين القلم في تصوير الأدوار وتمثيلها؛ لأنهم يرسلون أدوارهم مشبعة برائحة المكتبة ويرسلها «الزميل الممثل» كما خلقها الله في غير كلفة.
ولا يبدو أن شكسبير قد تخصص في فن من فنون التمثيل ذلك التخصص الذي يغلب على صاحبه فيقصره على طائفة من الأدوار لا يصلح لغيرها، فلم يشتهر كما اشتهر بعض زملائه بالأدوار الهزلية أو أدوار الفواجع ولم يضارع ملوك الفكاهة أو ملوك الفاجعة من أولئك الزملاء الذين شاركوه وشاركهم في فرقة واحدة، ولكنه كان — على ما يظهر — ينتقي أدوار الشخصيات حيث كانت في روايات الفكاهة أو روايات الفاجعة، فلم يُحسَب في طائفة خاصة من طوائف الممثلين، ولم تكن تلك الطوائف مجهولة بأقسامها وفروعها، كما يُفهَم من تقديم الممثلين إلى «هملت» على حسب أدوارهم التي يتقنونها خالصة في بابها، أو مشتركة بين سائر الأبواب.
•••
وإذا كان المؤلف الأوحد لم يتبوأ مثل هذه المكانة على خشبة المسرح فلا يزال كثيرًا على المبتدئ أن يتقن ما أتقنه من صناعة التمثيل في ثلاث سنوات أو أربع على فرض اشتغاله بالتمثيل والتأليف معًا منذ هجرته إلى لندن إلى السنة التي أُغلِقت بها المسارح (١٥٩٣) لاتقاء عدوى الطاعون. وهو أمر مشكوك فيه؛ لأن قبول المبتدئ في المسرح يقتضي قبل ذلك على الأقل أن يلوذ بأحد النبلاء ليحصل على تزكيته وأن يبتدئ عمله فترة من الوقت بمناداة الممثلين في أدوارهم على حسب عاداتهم في تدريب الناشئين بمسارح تلك الأيام.
ففي سنة ١٥٦٩ زارت القرية فرقة الملكة وفرقة ورسستر في سنة ١٥٧٣ زارتها فرقة ليسستر في سنة ١٥٧٥ زارتها فرقة وارويك وفرقة ورسستر، وفي سنة ١٥٧٦ زارتها مرة أخرى فرقة ليسستر وفرقة ورسستر، وفي سنة ١٥٧٩ زارتها فرقة سترانج، وفي سنة ١٥٨٠ زارتها فرقة دربي، وفي سنة ١٥٨١ زارتها للمرة الرابعة فرقة ورسستر وفرقة بركلي، وفي سنة ١٥٨٢ عادت فرقة ورسستر فزارتها للمرة الخامسة، وفرقة بركلي فزارتها للمرة الثانية، وفي سنة ١٥٨٣ زارتها هذه الفرقة للمرة الثالثة، وزارتها كذلك فرقة شاندوز، وفي سنة ١٥٨٤ زارتها فرقة أكسفورد وفرقة ورسستر للمرة السادسة وفرقة أسيكس معها، وفي سنة ١٥٨٦ زارتها فرقة غير مذكورة باسمها، وفي سنة ١٥٨٧ زارتها فرقة الملكة للمرة الثانية، وفرقة أسيكس للمرة الثالثة وفرقة ليسستر كذلك للمرة الثالثة وفرقة غير معروفة وفرقة ستافورد، وفيها ممثلون اشتركوا في فرق شتى.
وتبيَّن لأمين المتحف من تنقيباته المتلاحقة أن الممثلين تارلتون وكيمب أقدر الممثلين الهزليين في ذلك العصر زارا الإقليم مع فرقة الملكة صيف سنة ١٥٨٧ وكانا زميلين بعد ذلك لشكسبير في تلك الفرقة.
وكان جون شكسبير — والد وليام — يستقبل تلك الفرق ويشرف على تصديق الرخص والطلبات التي تفرض على الفرق التمثيلية في رحلاتها خارج العاصمة بحكم وظيفته في المجلس ورقابته على المعاهد والأندية الخاضعة لإشرافه، فإن لم يكن في مقدمة النظارة من وجهاء القرية فهو — بحكم الوظيفة — وثيق الصلة بالمسرح في الشؤون التي تعني النظارة وغير النظارة من أبناء قريته، وقد كان من عادة القوم يومئذ أن يصطحبوا أبناءهم إلى معاهد التمثيل وبخاصة في القرى المتوسطة التي تتشوف إلى ملاهي الحاضرة وترحب بمقدمها؛ لأنها فرجة نادرة وفرصة حسنة للتنافس بين المتفرجين في المظاهر الاجتماعية، فلا بد أن يكون شكسبير الصغير قد شهد التمثيل من طفولته إلى شبابه، وحضر في أكثر الفرق رواية من رواياتها المتنوعة، إن لم يكن قد حضر جميع رواياتها ونظر إلى جميع ممثليها في أشهر الأدوار يحذقونها.
وربما شهد الطفل الصغير رواية واحدة تتكرر أمامه سنة بعد سنة، وينمو في أيامه فينمو في فهمها والإحساس بمعانيها ومناظرها على مراحل العمر من السادسة إلى الحادية أو الثانية والعشرين.
وربما تسنَّى له أن يشهد الدور الواحد يمثله نخبة من أقطاب المسرح كل منهم على طريقته ووفاقًا لمذهبه في إخراجه وإلقائه، فاستطاع أن يختار له طريقة من تلك الطرق يخصها بإعجابه، واستطاع أن يعرف للإعجاب أسبابًا تلائم ذوقه وتفكيره، ثم خرج من ذلك كله بخطة يتبعها فيما يحاوله من اقتدائه وابتكاره.
وربما قرأ المنظر في مختاراته المدرسية ورآه على المسرح معروضًا بأزياء المسرح وهيئات الإخراج والتحضير، فأدرك الفوارق الخفية بين المطالعة في المدرسة والأداء على المسرح، وتعوَّد أن يقرأ لنفسه ويمثِّل لنفسه وهو يقلِّب صفحات الكتاب ويستوعب قصائد الغناء والإنشاد.
وربما احتوته جمهرة من النظارة بعد جمهرة تشاكلها حينًا وتخالفها حينًا، فلمح على وجوهها دخائل نفوسها، وفطن من أطوارها لمكامن أهوائها ومواطن التجاوب بينها وبين المسرح، وبين المسرح وبينها، وانساق معها تارة وانعزل عنها برأيه وشعوره تارة أخرى، وسمع من تعليقاتها في البيوت والمجالس ما يقره وما لا يقره وما يتعلم منه وما ينكره لسخفه وسذاجته؛ فاستفاد من طول التجربة خبرة بطوائف النظارة تنفعه عندها وتنفعه في فنه، وتغريه بمراس ذلك الفن الذي طالما بهج به وأحس القدرة عليه.
ولا حاجة في القرن السادس عشر إلى تلمذة للمسرح أتم من هذه التلمذة ولا أطول منها في أمدها وأوفر منها في تنويعها؛ إذ كانت التلمذة كلها في ذلك القرن تلمذة إعداد بالمحاكاة والاقتباس، وكان زاد الفن من بقايا القرون الوسطى قليلًا من القواعد العامة منقولة على السماع من أصول الخطابة والبلاغة عند قدماء اليونان والرومان، أو منقولة بالدراسة في معاهد العلم من أقوال أرسطو وخلفائه، وقلما وصلت على صحتها إلى أسماع الممثلين ومديري المسارح المحترفين، ولعل شكسبير قد جمع القواعد النظرية التي كانت شائعة يومئذ فيما قاله على لسان هملت من حديثه مع الممثلين أو مناجاته لنفسه، وهي تتلخص في صدق المحاكاة للملامح وترك التكلف في الأداء واجتناب التهويل بالصياح والجلبة وضرب القدم والتلويح باليد، وما إلى ذلك من الوصايا التي لا ينتفع بها من يغفل عنها ويحتاج فيها إلى وصية معادة.
والمعلوم عن ممثلي ذلك العصر أنهم كانوا يخلقون فنهم على أيديهم، وأنهم كانوا يفتتحون طريقهم غير مسبوقين إليه؛ لأنهم كانوا يمثلون على مسرح جديد في بنائه وتبديل مناظره، ويخاطبون جمهورًا لم يخاطبه الممثلون من قبلهم في عهد اليونان أو عهد الرومان، ويرتبون المواقف والمناظر — بل الأدوار والأقوال أحيانًا — على وفاق الحركة المستطاعة فوق المسرح وفي مواعيد التمثيل، ولا مناص للممثل على ذلك المسرح من استخدام الكلام والحركة للدلالة على المواقيت والمواقع وتعويض النقص في أدوات المسرح بحماسة الشعر أو حماسة الحوار أو بالإكثار من الجمل المعترضة التي توحي إلى النظارة ما يستوحونه اليوم بنظرة عاجلة في غير جهد من الممثلين.
فالمسرح في العصر الحديث يستعين بالوسائل الآلية على تذليل صعوبات الإضاءة وتبديل المناظر والدلالة على الأوقات والأماكن وتحريك الأدوات، ولكن هذه الصعوبات كانت في القرن السادس عشر عصية التذليل يتركونها أو يلقون عبئها على الممثل ليحتال عليها بما يدخل في دوره من كلام أو إيماء.
وكانوا يقيمون المسارح العامة مكشوفة بغير سقوف ويمثلون بالنهار في المكان الأوسط من مقاعد النظارة لتيسير الرؤية والسماع عليهم في جوانب الدار، ويقول الممثل شيئًا في عرض الكلام ليدل على مواسم السنة أو ساعات الليل، وقد يكتفون بوضع مصباح مشعل للدلالة على أوقات الظلام، أو يستعينون بالشعر الوصفي لاستجاشة عواطف النظارة وتصوير بهجة الربيع أو جهامة الشتاء، ويسري أثر هذه الصعوبات المسرحية إلى أسلوب التأليف؛ فتكثر فيه الجمل المعترضة وعبارات الكناية والاستطراد التي نحسبها اليوم من الحشو والفضول، وهي في ذلك العصر من ألزم اللوازم للإبانة عن أغراض المؤلفين وأدوار الممثلين، وقد يكثرون من المناجاة المنفردة فلا يستغرب السامعون ذلك كما يستغربونه اليوم، وإنما يرجع هذا الاختلاف في التأليف إلى اختلاف وضع المسرح في القرن السادس عشر ووضعه في العصر الحديث؛ لأن المسرح الحديث في مكانه المستقل قائم على تجاهل النظارة في أماكنهم المفصولة عن خشبة المسرح، ولكن الممثل في القرن السادس عشر كان يقف في موضعه ويتحرك فيه من جانب إلى جانب وهو محوط بالنظارة في وضح النهار فلا يقع في خلده أن يتجاهلهم كأنهم غير موجودين، ويختلف أسلوب التأليف من جراء اختلاف الوضع المسرحي في أغراض عدة لا يشعر بها المؤلفون أو الممثلون في هذه الأيام، فإن صعوبة تبديل المناظر تلجئ المؤلف إلى ابتداء الكلام بدخول الممثل إلى المسرح وانتهائه بخروجه منه في أكثر الأحيان، ولا يبقى الممثلون على المسرح إلا إذا كان بينهم حوار متداول في المنظر الواحد، ولمثل هذا الغرض تخلو خشبة المسرح من الممثلين أحيانًا ريثما يتبدل المنظر مع اتصال الموضوع، فتكتب الرواية في عشرين منظرًا وتبلغ مناظرها الخمسين لضرورة التبديل والتحويل في معالم المكان.
وقد كانت لهذه الاختلافات آثارها في أسلوب التأليف وأسلوب التمثيل، بل في أسلوب النظر والسماع بين المشاهدين للتمثيل، فكان اشتراك المؤلف في التمثيل أو اشتراك الممثل في التأليف أمرًا معهودًا تتيسر له الصناعتان، وكانت الصناعتان معًا أصعب منهما في العصر الحديث؛ لأنهما تحملان العبء الذي أُعفِي منه المؤلفون والممثلون بما اختُرِع في العصر الحديث من وسائل الفن وأدوات الصناعة، وكان المشاهدون للتمثيل يعلمون هذه الصعوبات فيصطلحون على الإغضاء وقبول المفارقات الحسية على علاتها ولا يحسبونها من مواضع النقد التي يطلبون اجتنابها؛ إذ كانوا يعلمون أن اجتنابها غير مستطاع.
وكانت هناك صعوبة أخرى غير الصعوبات المسرحية تواجه المؤلفين والمخرجين في تدبير أمر الممثلين الذين يؤدُّون أدوار النساء؛ لقلة النساء العارفات بالقراءة والكتابة ونفور المتعلمات من الاشتغال بصناعة التمثيل، فإذا تيسر إسناد أدوار الفتيات الأيفاع والفتيان الصغار، فليس إسناد دور الكهولة أو المرأة النصف إلى كهول الرجال بهذه السهولة، ولا سيما في الأدوار الطوال التي تبرز فيها أخلاق المرأة وعواطف جنسها؛ لاختلاف الصوت والسمت بين الجنسين في سن الكهولة، ويسري أثر هذه الصعوبة إلى أسلوب التأليف أحيانًا فيضطر المؤلف إلى كتابة الأدوار النسائية على النحو الذي ييسر تمثيلها مع ملاحظة هذه الصعوبة والاحتيال عليها بالإيجاز وملاءمة المعاني والألفاظ.
•••
وعلى هذا المسرح بدأ شكسبير الممثل عمله فأصاب حظًّا ثابتًا من النجاح في بضع سنوات، ولكنه على ما يظهر لم ينشئ لنفسه شهرة ممتازة في نوع من الأدوار كالذين تخصصوا من زملائه لتمثيل الفواجع أو الفكاهات أو تمثيل أدوار الملوك والأحبار؛ لأن تخصصه لم يبلغ من قوة الظهور أن يسلكه بين طائفة من أصحاب الأدوار الخاصة دون طائفة، بل توسط في جميع الأدوار ولم يتفوق غاية التفوق في بعضها ولم يخفق في توسطه؛ لأنه استقر على المسرح طوال أيامه في العاصمة وعمل في أكبر الفرق التي تُدعَى للتمثيل في البلاط وتظفر بالرعاية الملكية في عهد اليصابات وعهد جيمس الأول، وذلك قسط من الإجادة في صناعة التمثيل لا يستكثر على شاب خارق الذكاء قضى أكثر من عشرين سنة يرقب المسرح في قريته في عهد كان يسمح للممثل أن يخلق قواعده ويبدع طريقته وفقًا لضرورات مسرحه وعلى هدى القول الذي يلقيه المؤلف على لسانه، وهو يؤلف لنفسه ويغطي لمقاصد المؤلفين.
ومن المتفق عليه أن شكسبير مثَّل في مسرح الجلوب ومسرح الستار ومسرح الأخ الأسود، وعمل في فرقة ليسستر وقام ببعض الأدوار مع فرقة كبير الأمناء، وهي الفرقة التي يُسأَل عنها كبير أمناء القصر وتُدعَى للتمثيل على مسرح البلاط، وحضر إلى لندن وهو ممثل صغير يُقَال إنه لاذ بأبواب المسارح قبل أن يُؤذَن له بمعالجة التمثيل فيها، ثم فارق لندن بعد نحو عشرين سنة وهو ممثل كبير وشريك في أكثر من دار للتمثيل.