الخصائص والمزايا
من العسير جدًّا أن تتفق وجهات النظر في استحسان مزايا الشاعر مع كثرة موازين النقد وكثرة آراء النقدة وأساليبهم في تطبيقها، ولكنه إذا تعذر الاتفاق على إنكار مزاياه فقد يكون ذلك لفضل فيه أكبر من وجهات النظر وأجدر منها بالاعتبار وأحق بالبقاء.
فمن الجائز مثلًا أن ينكر الناقد عليه مزية من مزايا الفن ويعود فيشهد له بمزية أو مزايا كثيرة فيما عداها.
ومن الجائز أنه ينكر عليه جميع المزايا ويقابله في زمانه نقدة يضارعونه في المكانة والخبرة ويخالفونه في إنكاره، ويستندون في آرائهم على الأصول التي يستند إليها وإن لم يذهبوا مذهبه في تفسيرها وتطبيق مبادئها.
ومن الجائز أن تعبُر بالشاعر فترةٌ ينساه فيها النقاد والقراء ويلهون عنه بفتنة من فتن الزمن أو نوبة من نوباته، ثم تنقضي تلك الفترة فترجع ذكراه ويتعوض من النسيان إسرافًا في الإقبال عليه، كأنه ندم على جناية الإعراض عنه والحرمان من متعة الاطلاع عليه.
وتطَّرد هذه القاعدة في عظماء الشعراء، فنعرفهم من الإنكار كما نعرفهم من الإعجاب، وكلاهما إذا اختلفت وترددت فيه الأحكام دليل على سعة الجوانب وتعدد المزايا ورسوخ الفضل العميم رسوخًا يحيط بالنقد والناقدين، ولا يحيط به النقد والناقدون.
وليس أكثر من الإنكار على شكسبير إلا الإعجاب به والرد على منكريه هل هو شاعر فنان يمتاز بالجمال والسلاسة وطلاوة العبارة؟
هل هو شاعر حكيم يمتاز بأصالة الفكر وصدق التأمل واستبطان الحقائق الخفية؟
هل هو شاعر بصير بالطبائع والسرائر يمتاز بالوعي المحيط والنظرة الثاقبة والغوص العميق على طوايا الغيب في الطبيعة وفي الإنسان؟
هل هو شاعر المسرح؟ هل هو شاعر القصة؟ هل هو شاعر الملحمة؟ هل هو شاعر قوم؟ هل هو شاعر جميع الأقوام؟
نعم ولا، ووراء «نعم» و«لا» مرجع دائم يبرم وينقض، وينتهي إلى مراجعة الموازين نفسها؛ لأن الشاعر العظيم يصحح الموازين ويضطر فريق كل ميزان إلى إعادة النظر فيه، فله الكلمة الأخيرة فيها وليست الكلمة الأخيرة فيه للميزان الذي يتقبل التصحيح والتبديل منه ومن أمثاله على الدوام.
•••
كان ڨولتير يقول عن شكسبير إنه محروم من الفن والنسق، والمثل الأعلى عند ڨولتير في الفن والنسق أن يكون وفاقًا لسنن الأقدمين التي أخذ الزمن في تبديلها من قبل أيام ڨولتير.
ولما كتب رسائله الفلسفية عن الإنجليز قال عنه إنه محروم من أقل مسكة من الذوق وأقل دراية بالنسق، ولكنه لم يستطع أن ينكر عليه «العبقرية المفعمة بالقوة والخصب والدراية بما هو طبيعي وجليل.» وعاد بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة، فكتب إلى هوراس والبول يقول: «إنه ذو سجية حسنة، ولكنه ذو عنجهية همجية بلا نسق ولا فطنة ولا فن، يخلط الضعة بالعظمة والهذر بالهول …»
وڨولتير الذي يقول هذا هو الناقد الحصيف الذي قرر في مقاله عن الملاحم أن آيات الفن لا تنتظم في نسق واحد، وأنه ما من تعريف يمكن أن يحيط بالروائع من طراز أوديب لسفوكليز، وسينا لكورنيل، وأتالا لراسين، ويوليوس قيصر لشكسبير، وكاتو لأديسون.
وڨيكتور هيجو، وهوند لڨولتير في النقد وفهم الشعر، يفضل الفن الحديث على فن الإغريق لأن الفن الإغريقي يخرج «النشوز النافر» من حسابه ولا يلتفت إلى الصلة بينه وبين الروعة والجلال، ولكن المحدثين — وفي طليعتهم شكسبير — يعرفون كيف يتزحزح أحدهما فينسرب في غمار الآخر، وكيف يصبح النافر جليلًا كما يصبح الجليل نافرًا، وينظرون آخر الأمر إلى النقيضين في أطوار الطبيعة، فلا ينسون التقريب بينهما؛ حيث يقتربان في الحقيقة ولا يبتعدان إلا بتكلف من عمل الإنسان.
ويناصي ڨولتير وهيجو في زمرة النقاد الأدباء هردر وفردريك شليجل الألمانيان، وعندهما أن المسرحية العظيمة لن تخلو من الفن؛ لأن الفن ينبع من الروح ولا ينشأ بداءة من حيل اللباقة أو تزويق الصورة المحسوسة، ويقول هردر: إنه لا يدفع عن شكسبير ولكنه يستند إليه ليرد على ناقديه، فإنه ترجمان الطبيعة التي تتكلم بألسنة كثيرة، ومن قرأه فلا عليه أن ينسى المسرح والممثل وينظر إلى الأوراق المتطايرة من صفحات الكتاب الأبدي: كتاب الكون والحياة.
وبنديتو كروشي الإيطالي نِدٌّ لهؤلاء جميعًا إذا عُدُّوا من النقاد أو عُدُّوا من الفلاسفة، وجوابه لهم فيما افترقوا فيه أن الفن يلتقط أبطاله من الحياة ولكنه لا يماثلها في صورها العامة المشتركة، وأن شكسبير عبقرية عالمية لا يحدها زمانها ولا تحدها فترة واحدة كائنة ما كانت، وهو يمثل لنا أشتاتًا من البشر على تباين شديد في بواطنها وظواهرها، ولكنه يشرف عليها لتمثلها على سواء ولا ينعزل عنها؛ إذ نحن نفرق بينها على حسب شعورنا بها في صورتها المعروضة علينا من صنع يديه، ولو كان بمعزل عنها لما افترق أحد منها عن أحد في شعورنا، وإن شكسبير على هذا الإشراف فوق الشخوص والأمزجة ليطوي كل شيء في شخصه مما تعلمه أو اختبره في حياته، وبهذه الخصلة فيه استطاع أن يأخذ الموشحات من ينبوعها الإيطالي ويودعها ترجمة حياته.
ولعل الأدب الأوروبي لم يَعرف بين أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ناقدًا فنيًّا من الباحثين في فلسفة الجمال أبرع من جورج براند الكاتب الدنمركي صاحب الآراء المأثورة في مباحث «الإسطاطيقا» وتطبيقاتها على الشعر والمسرحية بصفة خاصة، فربما نبغ في عصره من أصحاب هذه المباحث كثيرون من نظرائه وأقرانه، ولكن آراء براند لا تزال حتى الآن في مقدمة الآراء عند من يرجعون بالفن والأدب إلى أصول فلسفة الجمال وأصول الفلسفة على الإجمال.
فهذا الناقد الفنان الفيلسوف يرى أن الوحدة في العمل الفني شرط لازم، ولكنه لا يحصرها في شروط الوحدة التي نص عليها الأقدمون، بل يفضل عليها أحيانًا وحدة الباعث والحركة ووحدة الجو الوجداني الذي يحيط بالأمكنة والأزمنة والحوادث والشخوص، ويعرض براند للعناية باللفظ فلا ينفي أن شكسبير كان يتخير اللهجة الخطابية في أشعاره ومسرحياته، وإنما يعزو ذلك إلى حكم الموقف الذي لا فكاك منه بعد انتقال التعبير من اللاتينية إلى الكلمات السكسونية فالإنجليزية، فليس من الفن ولا من التأثير الفني أن تأخذ الألفاظ السوقية لتضعها على حالها في موضع اللغة التي قدستها التقاليد ودرجت عليها أساليب النخبة الأفذاذ من نوابغ الشعر والنثر والحكمة، وهذه العناية بسَوْق الألفاظ في مساق الخطابة والتأثير هي الموازنة التي لا بد منها لمجاراة الأدب السلفي في مجاله، وما زالت مراعاة المقام في كل كلام شرطًا من شروط الفن الأصيل كيفما اختلفت عليه الموازين والآراء.
ومدرسة الفن للفن لا تغيب عن هذا المعترك الذي تتلاقى فيه الآراء أو تفترق حول الفن والفكر، أو الفن والأخلاق، أو الفن المستمد من أعماق الروح، أو الفن الذي يُنقَل عن الطبيعة ويُلتقَط منها نماذج الصور والألوان.
وإمام هذه المدرسة في الأدب الإنجليزي «والتر پاتر» الذي يُلقَّب بالكاتب المرصع أو الكاتب الموشي؛ لأنه يُجري الكتابة مجرى الصور فيما تعرضه من الأصباغ والظلال أو مجرى العقود فيما تنتظمه من الفصوص والجواهر على تناسب الأحجام والألوان.
•••
وربما اتفق الناقدان من مدرسة واحدة على فهم واحد للشعر ولم يتفقا على مواضع الاستحسان في موضوعاته وأقسامه.
ويمضي الناقد في بيان الأسلوب الذي يناسب هذا السياق المسرحي ويخالف سياق الخطاب الوجداني في قصة فينوس وأدونيس.
•••
وإن القارئ ليمعن في استطلاع هذه الآراء، فيجتزئ منها بالأمثلة الكافية أو يطيل الأمد في الاستقصاء والإحاطة؛ لأن الكتاب الذين عرضوا لنقد شكسبير في لغات الحضارة يُعَدُّون بالمئات، ولكنه يعلم كلما أمعن في الاستطلاع أن مقاييس الفن تُستهدَف للتعديل والتنقيح كلما اقتربت من عبقرية نادرة بين عبقريات الفنون، وإن مقال شاعرنا المتنبي عن قصائده:
يصدق على كل عبقرية تخلق الفن والفن لا يخلقها، وأنه ما من مذهب من مذاهب النقد يستطيع أن ينكر شاعرًا عظيمًا أو يجد من يتقبل حكمه إن أنكره؛ لأن الشاعر العظيم يأتي بدستوره الذي يجري عليه حسابه، وقد يضيق المذهب فلا تتسع حدوده لشاعرين عظيمين.
•••
والنقاد يطيلون النقاش ولا حرج عليهم أن يطيلوه في كل مطلب تتشعب نواحيه وتتعمق أغواره وتتقابل زواياه، لكنهم قد استطاعوا في نقد شكسبير أن يقسموا الكلام عنه إلى قسمين: قسم تتقارب فيه وجهات النظر لأنه أشبه الأشياء بوصف الواقع، وهو الكلام على خصائص الأداء من لفظ وأسلوب وطريقة تنظيم للمناظر والأدوار، وقسم آخر هو الذي يطول فيه النظر ويكثر التعليق والتعليل، وهو الكلام على المزايا العليا التي امتازت بها عبقرية شكسبير.
•••
والكلام على أدائه من وجهة الألفاظ والمفردات مسألة إحصاء؛ إذ كانت مفرداته تُحسَب بالأرقام وتزيد على المفردات في كتابات كل أديب استخدم اللغة الإنجليزية من قبل القرن السادس عشر إلى اليوم، وتبلغ عدتها ستة عشر ألف كلمة، يدخل منها في معجماته الخاصة التي تُعرَف باسم مصطلحات شكسبير أكثر من عشرة آلاف.
وسر هذه الكثرة أن شكسبير كتب في العصر المتوسط بين ابتداء الكتابة باللغة الإنجليزية وبين شيوعها والاقتصار عليها في موضوعات الفن والثقافة وسائر الموضوعات.
فقبل القرن السادس عشر بأجيال قليلة كانت اللاتينية لغة العلم والدين في إنجلترا وفي القارة الأوروبية، وكانت الفرنسية لغة السياسة والمخاطبات الرسمية في أوروبة الغربية، ثم تنبه الشعور باستقلال الفكر واستقلال الوطن في عصر النهضة، فتُرجِمت الكتب اللاتينية والفرنسية إلى اللغات الوطنية، وأخذت طائفة من الإنجليز في استخدام لغة الحديث للكتابة، فظهر أسلوب الكتابة الذي تختلط فيه الكلمات الإنجليزية الدارجة والكلمات النورماندية، أو السكسونية وأشتات من الكلمات النورماندية أو السكسونية وأشتات من الكلمات اللاتينية «المكلنزة» في هجائها والنطق بها على النحو الذي تُنطَق به الكلمات الشائعة.
وأكثر شكسبير من تلك الكلمات الشائعة في لهجات المدن ولهجات القرى من الأقاليم الوسطى، وكان يُفضِّل الاقتباس من هذه اللهجات كلما اقتبس الكتاب المعاصرون من اللاتينية أو الإغريقية؛ لأنه لم يكن واسع المحصول من مفردات هاتين اللغتين، وقد ثبتت مفرداته في اللغة وإن تغير المفهوم من بعضها مع تغير المصطلحات والأذواق، ثم تخصصت الكتابة بألفاظها وعباراتها، فبقيت كلمات من مفرداته مهملة في الكتابة متداولة في الحديث، ولا سيما في قرى الأقاليم الوسطى التي أخذ منها محصوله من عبارات الريفيين.
ويحرص الإنجليز على تدوين لغة شكسبير فيحصرون مفرداته في معجمات خاصة أو يذكرونها في المعجمات العامة مشفوعة بالنسبة إليه، وقد يلحقونها بمجموعة أعماله ويكتفون منها بما يُفهَم على وجه يخالف وجهها في الكلام المتداول بعد عصره، وكثيرًا ما تأتي هذه المخالفة من إيثاره للكناية والمجاز في بعض التراكيب، ولا يعسر فهمهما بغير تفسير على من ألقى باله إلى طريقته في اللحن والإيحاء.
أما أسلوبه في تركيب المفردات فالغالب عليه في أول عهده بالتأليف المسرحي أن يجنح إلى التفخيم والتأثير وأن يودع الجملة غاية ما تحمله من المعنى الصريح والإشارات الخفية.
•••
ويُلاحَظ عند عرض أعماله في تسلسلها التاريخي أنه كان يميل إلى السلاسة والبساطة في مسرحياته ومنظوماته الأخيرة، وأنه كان أسرع إلى السلاسة والبساطة في المنظومات وتتلوها روايات الملهاة ثم روايات المأساة، كأنه كان يستفيد من طول الخبرة فيملك ناصية القلم ويستفيد من سعة الشهرة فيملك حريته مع قادة المسرح وجمهرة النظارة والقراء، وسبقت منظوماته سائر أعماله في هذا الاتجاه الفني؛ لأنه كان أقرب فيها إلى الاستقلال برأيه وهواه.
ويقال على التعميم أيضًا إن شكسبير تطور ولم يتغير، ويقصدون بالتطور — دون التغير — أنه يدل على التقدم ويدل مع التقدم على بقاء الملامح بينة ناطقة لا تختلف إلا كاختلاف ملامح الوجه بين سن الصبا وسن النضج والتمام: من شاء استحسن منها ما شاء، ولكنهم يستحسنون هذا أو ذاك على تفاهم وإدراك.
•••
وتتقارب وجهات النظر في بيان معالم الطريق خلال هذا التطور كما تقاربت في الكلام على خصائص الأداء على الإجمال، وقد أجمل هذه المعالم كاتب من حذاق المترجمين للأدباء في عصر الملكة اليصابات، والمتفرغين لأدب شكسبير على التخصيص، وهو الدكتور هريسون مقدم المسرحيات وصاحب الرسالة الممتعة في تقديم شكسبير، وهي من أحدث ما كتب في تقديم الشاعر لقراء العصر الحاضر ومن أجمع التصانيف الأخيرة لأقوال شراح المطولات والموسوعات، وفي هذه الرسالة يفرد الكاتب فصلًا لتطور أسلوب شكسبير، يسمي فيه معالم الطريق خلال ذلك التطور بأسماء المسرحيات، ويقول في مفتتحه: «إن أسلوبه الأول يتميز بغير مشقة، فالأوزان فيه ملحوظة بدقة وانتظام، والقافية فيه متبعة يفضل منها ذات الأسطر المتخالفة على المثاني المتتابعة، وبين حين وحين يدخل الموشحة في الحوار، ويكثر في الملهيات من الكلم البارع وبخاصة في الحوار بين الفتيان حتى ليضجر السامع لسرعة التبدل في الأذواق، ويتدفق ثمة حشد النكات المركبة مع استخدام الصور الخيالية حبًّا لها لا لتوضيح الفكرة أو مضاعفة التأثير، أما في المآسي — والتاريخيات منها بصفة خاصة — فإنه يعمد إلى اللفظ الطنان أحيانًا ويودعه من أقوال البطولة ما ليس من ضرورات المقام، غير أنه لم يزل يؤثر العبارة الجميلة على الصياغة المسرحية.»
ثم يقول: «إن أحسن عاداته وأسوأها في مسرحياته قبل النضج تتراءى في أجمل مسرحياته الباكرة روميو وجولييت …»
ويمضي فيقول ما فحواه: «إن أسلوبه الأول اختفى سريعًا مع زيادة الخبرة والقدرة على الأداء، وفي سنة ١٥٩٦ كتب تاجر البندقية فكان فيها حواره الجدي خيرًا من مساجلاته الفكاهية … وبعد تسعة أشهر على التقريب كتب الجزء الأول من هنري الرابع؛ فكان لأول مرة مسيطرًا كل السيطرة على أداة تعبيره، وتعددت في الرواية شخوصها المختلفة، فكان لكل منها أسلوبه يلائمه ويحكيه … وبعد ذلك كتب روايته عبد الله المغربي فلعلها كانت أتم المسرحيات في بنائها وتكوينها، وأوفاها لجلاء أساليبه الأربعة في الشعر الغنائي وفي القافية وفي الشعر المرسل وفي النثر … ولما كانت سنة ١٦٠٦ كتب لير وماكبث، فجاءت أولاهما عصية على المطالعة لتركيز الفكر فيها لا لغرابة مفرداتها، ولاستخدام الكلمة والصورة الخيالية معًا للإعراب عن معنى لا يسهل الإعراب عنه … ومضت فترة ندرت فيها كتابة شكسبير … ثم كتب في سنتي ١٦١٠، ١٦١١ سمبلين ونادرة الشتاء والعاصفة … وبدا فيها قليل من الانحدار بعد الذروة التي ارتقاها منذ سنوات، غير أن الحوار في نادرة الشتاء يرينا شكسبير على أحسنه وإن اختل تأليف الرواية لانقضاء ست عشرة سنة بين فصلها الثالث وفصلها الرابع … أما في العاصفة فقد بلغ في رأي النقاد الكفاة قمة التأليف في المسرحيات، وجاء فيها بأجمل ما ترتقي إليه اللغة الإنجليزية في نظم القصيد، وستفنى اللغة الإنجليزية في أجلها المقدور، وذلك الشعر منتهاها من البلاغة والجمال …»
•••
ويُعتبَر النقد الموجَّه إلى الأداء المسرحي، أو العرض المسرحي، في روايات شكسبير نقدًا موجهًا في أساسه إلى بناء المسرح في القرن السادس عشر، وإلى ضرورات التأليف التي استلزمها ذلك البناء.
•••
وتتراجع في هذا العصر محاولات التبديل والتعديل في نصوص شكسبير، بعد أن مرت بأدوار شتى لم تكن كلها تدور على الأسباب المسرحية التي نشأت منها.
واستولت هذه الفكرة على خواطر القوم وأهوائهم قرابة مائتي سنة إلى أواسط القرن التاسع عشر، وفي هذه الفترة سرت دعوة النقد التحليلي ودراسات علم النفس وتطبيقاتها على الفنون، ولا سيما فن التمثيل وفن التأليف المسرحي؛ لأنهما موكلان بتحليل الشخوص وتطبيق الدراسات النفسية، فتبيَّن من إعادة النظر في شكسبير على ضوء هذه الدراسات أنه أعظم من ناقديه وأعظم من مسرحه وجمهوره، وكان من مفارقات الزمن أن شهرته العالمية خارج بلاده نبَّهت قومه إلى المحافظة على تراثه والاعتداد بمكانته فأصبح عندهم، وعند نقاده الأوروبيين فنًّا مستقلًّا يُوزَن بميزانه، ويُحتفَظ به لذاته، وأصبحت له إلى جانب قيمته الحية الباقية قيمة الأثر العزيز الذي يضن به على التغيير.
وقد تراجعت محاولة التبديل — من ثم — إلى حدودها المعقولة، فاستباح المخرجون والممثلون ترك الفضول من المناظر التي يغني عنها بناء المسرح الجديد، وأجمع المشتغلون بالمسرح على التحرج من التبديل الجائر الذي يخفي صنعة الشاعر وأنماطه المألوفة في التعبير والتأثير، واستحبوا أن يعوِّدوا النظارة قبوله في ساحة المسرح على علاته وأن يعرفوا له حقه في الكلام على سجيته، كما يعرفون هذا الحق لمن يقدِّرون نفاسة حديثه ويضنون بها أن تضيع بدواته، أما فنه المكتوب فقد تركوه بحرفه واجتهدوا في تقريبه شرحًا وتيسيرًا على درجات تناسب القراء، مع تفاوت السن والفهم والثقافة.
•••
وننتقل من خصائص الشاعر إلى مزاياه، وكأننا ننتقل من الأداء إلى الرسالة التي أداها الشاعر بفنه من منظوم ومنثور وقصص وتمثيل، ولُباب هذه الرسالة في كلمة واحدة أنها رسالة «الإنسان».
كانت دعوة العصر كله دعوة الإنسانيين، وكان من نصيب هذا الشاعر أن يكون ترجمانًا لدعوة عصره، ولا بد لها من ترجمان، فانتهى العصر وبقيت الترجمة؛ لأنها ترجمة عن الإنسان الخالد، وهو لا ينحصر في عصر من العصور.
والأمر في رسالة شكسبير أكبر من أمر الترجمة عن الإنسان، وأكبر من أمر تصويره أو وصفه أو التعبير عنه؛ لأن ذلك كله قد يصنعه الشاعر ولا يبلغ من المنزلة الأدبية — الإنسانية — أن ينفرد بتمثيل العصر كله، وأن يمتاز برسالة الدعوة بين لفيف من دعاتها الممتازين.
إنما كانت رسالة شكسبير في دعوة الإنسانيين «خلقًا فنيًّا» للطبيعة الإنسانية ولم تكن مجرد تصوير لها أو تعبير عنها.
والفرق بين الرسالتين واضح محسوس يلمسه من يريد أن يتحراه بنفسه في كل آونة.
فليس من النادر أن نعرف إنسانًا فنصوره بصفة غالبة عليه، أو نصوره بجميع صفاته التي يدركها عارفوه.
وليس من النادر أن نعبر عنه ونقول بألسنتنا ما يقوله هو بلسانه، ولكن النادر أن نخلق صورة منه وندعها ماثلة في عالم الكتابة تعيش كما يعيش الأحياء، وتحيا لو نفخ الله فيها روح الحياة فإذا هي نسخة أخرى من صاحبها في قوله وعمله وفي سره وعلنه، وفي خاصة نفسه وفيما يرتبط به مع الناس من مجاوبة في الشعور ومعاملة في الخير والشر والموالاة والعداء.
فرق بين خلق الشخصية وبين الحكاية عنها بالوصف أو بالتعبير، وخلق الشخصية في عالم الفن هو رسالة شكسبير في دعوة الإنسانيين، وأي شخصية؟ شخصية الإنسان في طبيعته المتنوعة المتقلبة حيثما كان وكيفما كان.
مئات من الرجال والنساء والأطفال، في كل سن، ومن كل مزاج، وعلى كل حالة، وبين كل طبقة، تجمعهم تصانيف شكسبير.
ولا تزول الغرابة في إبداع هذه الصور لأبطاله من الرجال؛ لأنه رجل ينبغي أن يعرف كل رجل، فإن الإنسان ليعجز عن خلق صورة فنية لنفسه وهو أعرف بها من غيره، فليس في مقدوره — لأنه رجل — أن يخلق في عالم الفن رجالًا من الملوك والساسة من العظماء والحقراء، ومن رجال الدين ورجال الدنيا، ومن الشيوخ والشبان، ومن الخيرين والأشرار، ومن العاملين على كره والعاملين على اختيار.
إلا أنه كلام يُقَال عن رجل يخلق شخوص الرجال.
لكن ماذا يُقَال عن خلق أمثال هذا العدد من النساء؟ وماذا يُقَال عن خلق شخصيات الأطفال وهم لا يعرفون أنفسهم في أعمارهم ولا يعرفون ما يبقى لهم من ذكريات الصبا إذا جاوزوا سن الطفولة؟
كتبت السيدة آنا جيمسون كتابها المشهور عن بطلات شكسبير، فنقلت فيه خمسًا وعشرين صورة تحليلية من صور النساء في مسرحيات شكسبير: منهن نساء الذكاء والفطنة، ومنهن نساء المطامع والمغامرات، ومنهن نساء العاطفة والحنان، ومنهن النساء المعروفات في التاريخ، وكلهن نساء وليس فيهن واحدة تشبه الأخرى في جملة صفاتها ونياتها، وخلاصة ما قالته عنهن إنها — وهي امرأة — كانت تنظر في مرآة شكسبير؛ فتصحِّح منها علمها بالنساء حين يختلفن مثل هذا الاختلاف، إنه لأبعد اختلاف وُجِد بين أنثى وأنثى في جميع الأمم.
•••
وأغرب من هذا في القدرة على استكناه بواطن النفس ومحاكاتها على حقيقتها أن يقتدر شاعر في القرن السادس عشر على عرض العلل النفسية بحدودها العلمية التي كشفت عنها دراسات العلماء بتفصيلاتها ودخائلها في العصور المتأخرة، ولم يزل منها سر خفي ينكشف من غيابته العميقة عامًا بعد عام إلى هذه الأيام.
إن الأقدمين قد عرفوا حالات الجنون والبلاهة، وعرفوا أن الجنون فنون، وأن الهوى قد يداخل العقول بمس من الجنون في الأصحاء، كما قال ابن الرومي:
غير أن هذه الحالات لم تُعرَف بتفصيلاتها وعوارضها التي تميزت بها قبل شيوع الدراسات النفسانية على منهج العلم الحديث، ومنذ أواخر القرن الثامن عشر بدأت هذه الدراسات كأنها دراسة واحدة ترتبط بموضوع واحد، ثم تفرعت على هذا الأصل الواسع فتخصصت منها دراسة لكل ضرب من ضروب الخلل والشذوذ، وانفصلت كل علة بأعراضها وأسبابها فهي لا تتشابه في عشرات من الشخصيات وإن شملتها كلمة الخبل أو كلمة الانحراف.
وأعرف العارفين بدخائل العلل النفسية اليوم هم الذين يستطيعون أن يراقبوا العلل في مظهرَيْها المختلفين: مظهر الشخصية المريضة، ومظهر الإنسان الصحيح الذي يُصاب بلوثة من الخبل والانحراف؛ فتُشاهد آثارها في توجيه أفكاره وأعماله.
وهذان مظهران مختلفان، فإن الشخصية المريضة وحدة مشتبكة ترتبط فيها بعض الأعراض ويتلازم فيها بعض البواعث، وتكاد الشخصية المصابة بعلة من العلل أن تنفرد بلوازمها وأعراضها فلا تصلح لدراسة علة غير علتها ولا يصلح لها العلاج الذي تعالج به العلل الأخرى، فمريض العظمة غير مريض السوداء، وكلاهما لا يشبه مريض الإجرام في جملة أعراضه وبواعثه، بل يختلف أحيانًا مرضى الإجرام فلا يتشابه مريض القتل والإيذاء، ومريض السرقة والاختلاس.
أما الشخصية التي تعتريها لوثة من لوثات الخبل والانحراف، فقد ينحرف مسلكها فيما يتصل بهذه اللوثة وقد يبدو الخبل فيها كأنه بقعة طارئة، يجوز أن تصبغها كلها بصبغتها ويجوز أن تلابسها بلون غير لونها، ولكنها على هذا وذاك بقعة طارئة وليست من مزاج الشخصية وتركيبها.
فإذا ملك الطبيب النفساني زمام علمه فقصاراه أن يدرك صورة الشخصية المعتلة فلا يخلط بين بواعثها وأعمالها وبين البواعث والأعمال التي تتميز بها شخصية مصابة بعلة أخرى، وقصاراه في أمر العلة الطارئة أن يدرك موقعها من النفس وعلاقتها بالأعمال والبواعث التي تعرضت لتأثيرها.
منذ بدأت الدراسات النفسية في أواخر القرن الثامن عشر — نشأت في عالم الأدب مدرسة النقد التحليلي التي جعلت قوامها تحليل الأدب والأدباء من الناحية النفسية، واتخذت صدق التعبير عن النفس معيارًا لملكات الأديب، كما اتخذت أمانته للطبيعة معيارًا لقدرته على حسن الأداء.
•••
وتقدم العلم في القرن العشرين تقدمًا حثيثًا في البحوث النفسية وتطبيقاتها على الفن والأدب، وكلما نجحت نظرية منها طبقها النقاد على شخوص شكسبير كما يطبقونها على شخوص الطبيعة، واستعانوا على توضيح النظرية بهذه المقابلة بين الشخوص التي اعتبروها بمنزلة واحدة من الصدق والمطابقة، وكان فرويد — إمام النفسانيين — في أوائل القرن أحد الذين اعتمدوا على هذه المقابلة في توضيح فكرته عن العلاقة بين الوعي الباطن وفلتات اللسان، بما اقتبسه من الشاعر الألماني شيلر، ومن شكسبير.
وقد التفت فريق من علماء النفسيات المتخصصين لدراسة الجريمة إلى وجوه الشبه بين الحوادث التي تجري في الواقع والحوادث التي تمثلها مسرحيات شكسبير، وقسموا حوادث الإجرام إلى عناصر، أو أركان تتم بها الجريمة من دور النية إلى دور التنفيذ، فأدهشهم أن تتوافر هذه الأركان في حوادث الواقع وحوادث المسرحيات على وتيرة واحدة، وأن يلاحظ الشاعر عناصر تكوين الجريمة من الوجهة النفسية عفوًا على البديهة، كأنه يتقراها ركنًا ركنًا كما ظهرت للمحققين فيها والمعقبين عليها.
•••
وعلى هذا المنهج رُوِّجت شخوصُ المسرحيات التي تُحسَب من الشخصيات المعتلة، ورُوجِعت العقد النفسية ومركَّبات النقص التي تأتي من صدمات الخيبة وصدمات الغيرة وصدمات التشويه وعيوب الخِلقة، ورُوجِعت معها الأقوال وفلتات اللسان التي يفوه بها المصابون بجنون العظمة أو جنون الاضطهاد أو جنون الحسرة والندم ووخز الضمير، فوجد المراجعون من نقاد التحليل النفساني أنهم أمام طبيعة ثانية خلقها الفن على صفحات الورق، ونقلها من طبيعة الله فأحسن نقلها غاية الإحسان.
وكذلك رُوجِعت عوارض الحالات النفسية التي يشتغل بها علماء هذه الدراسات غير حالات الآحاد من الأبطال والبطلات، وكانت البحوث النفسية قد استفاضت حتى شملت «الشخوص الاعتبارية» كما يُقَال في مجازات القانون، وحتى شملت «الشخوص» الخيالية أو شخوص ما وراء الطبيعة كما يُقَال في مجازات الشعر والأساطير، وقد خلق شكسبير جماعاته في روايات يوليوس قيصر وكريولينس وماكبث وغيرها من المآسي والملهيات قبل أن يخطر على بال أحد أن شيئًا يُسمَّى علم النفس سيهتدي إليه الباحثون، وأنهم سوف يطبقونه على شيء يُسمَّى «نفسية» الجماعات والجماهير في حالات الرضا والغضب، وحالات الاقتناع والاضطراب، فلم يكن صدقه في «وعي» هذه النفسيات المفروضة دون صدقه في وعيه لنفسيات أبطاله من الرجال والنساء والأطفال، ولم يؤخذ عليه خطأ قط في تصويره لحالات «الجماعة» وهي تنتقل من الاقتناع بشيء إلى الاقتناع بضده، ومن الهجوم لسبب تعرفه إلى الهجوم حبًّا للهجوم في غير اكتراث لسبب أو غاية، ومن التسليم المحكوم بزمام إلى العبث المنطلق من كل زمام، ولم يجد النقاد المعنيون بأطوار الجماعة فرقًا بين مراقبة أحوالها في الحياة العامة وبين مراقبة هذه الأحوال في كلماته وفي تضاعيف أقواله وإشاراته أثناء المناظر والأدوار.
ولا يُقَال عن خلائق الخيال إنها تطابق الواقع أو لا تطابقه، وإنما تصدق أو لا تصدق بمقدار تعبيرها عن خوالج النفس التي توحيها، ومقدار براعتها في الرمز إلى معانيها، وقديمًا علم الناس أن ما يتخيلونه من الأطياف والغيلان إنما هي أشباح موهومة كأشباح الأحلام التي يعبر بها النائم عن أشواقه وأوهامه ويخلع عليها صورها وأشكالها على عادة الخيال في تمثيل المعاني بالمحسوسات، فإذا قيل عن خليقة من هذه الخلائق الخيالية إنها صادقة فإنما يُقَال إنها خيال صحيح التعبير ورمز صادق الدلالة، وهذا هو المقصود بتطبيق البحوث النفسية على خلائق الخيال.
يقول أديسون — وهو من كتاب أوائل القرن الثامن عشر في مجلته الإسبكتاتور — «إننا نحس شيئًا من الروعة والصدق في كلمات أشباحه وأرواحه وسحرته لا نملك معه إلا أن نحسبها كائنات طبيعية، وليست لدينا كائنات نرجع إليها في تحقيق صورها، ولكننا لا نرى محيصًا من الاعتراف بأنها لو وُجِدت لتكلمت وتصرفت كما مثَّلها.»
ويقول وليام هازليت من نقاد القرن الماضي: «إن عالم الأرواح مفتوح أمامه كعالم الرجال والنساء، وفي هذا من الصدق والحقيقة ما في ذاك؛ إذ لو كانت هذه الخلائق تُوجَد لأمكن أن تتكلم وتشعر وتعمل على الصورة التي صورها عليها.»
ورأي المحللين النفسانيين يوافق رأي أديسون وهازليت، ولكنهم يقولونه على أسلوبهم فيقولون مثلهم إن خلائق الخيال في شكسبير «طبيعة» ثم يعنون بذلك أنها تعبير صحيح عن أحلام الطبيعة البشرية حين تجيش بالأشواق والمخاوف التي ترسمها بلغة الرموز والأشكال المحسوسة، وأن شكسبير ترك صور الأشباح والأرواح التي تخلفت عن القرون الوسطى ليستبدل بها أشباحًا وأرواحًا تتقبلها طبيعة الإنسان بعد أن ارتفعت عنها كوابيس الفزع والجهالة من ميراث عصور الظلمات، فهي طبيعية صادقة وإن لم تكن لها أشكال تدركها الحواس؛ لأننا نخلع أشكالًا تماثلها على عواطفنا التي نراها في الأحلام، ولو سُئِل الفنان المصور أن يعرضها لنا بفنه لاختار لها أشكالًا على الصورة التي اختارها الفنان الشاعر لإبرازها على المسرح للأنظار والأسماع.
•••
رسالة شكسبير إذن هي رسالة الخَلْق الفني الموكل بالطبيعة الإنسانية يخلقها في صورها الفنية، ويجسِّم لها ما يجول في سريرتها كأنها تحسه وتدركه على مشهد ومسمع منها، وليس في جعبة النقد النفساني رسالة يطلبها من الشاعر أجلَّ وأندر من هذه الرسالة في آداب الأمم؛ ولهذا يستكثر بعض النقاد أن تصدر من قريحة واعية تقصدها وتشعر بصنيعها، ويخطر لهم أنها عمل من أعمال الغريزة كعمل النحل في هندسة خلاياها وعمل العنكبوت في نسيج بيته وعمل العصفور في بناء عشه، ولا نخالهم صنعوا شيئًا ينقل هذه القدرة من القريحة إلى الغريزة؛ لأنها إن كانت غريزة كما يحبون أن يسموها فهي غريزة نادرة جليلة الأثر ممتازة بين الغرائز الفنية من قبيلها، وهذا على كون الغريزة ملكة «مخصصة» تنساق إلى عمل واحد وتعجز عن غيره، فلا تبني العناكب خلية ولا تنسج النحل خيطًا ولا يعرف الطائر طريقًا غير الطريق التي تهديه إليها غريزته الموروثة، وإنه لمن خوارق الطبائع أن تُوجَد الغريزة التي تحسن إبداع كل صورة من الصور الإنسانية وهي غافلة عما تصنع، ساهية عما تقصد إليه، فإن وُجِدت هذه الملكة فسيان أن تُسمَّى بالغريزة المطبوعة أو تُسمَّى بالقريحة الفنية، فهذه هي العبقرية نصِفها بما نشاء من الصفات ونسميها بما نؤثر من الأسماء، وهذه مزية الخلق الفني التي امتاز بها الشاعر، يطول فيها البحث والنظر كما يطولان في كل شيء يتعلق بخلق الإنسان، أما المزية التي أخرجت للعامل خلائقها الفنية فلا نكران لها ولا جدال فيها.
•••
وقد أحاطت هذه الرسالة — رسالة الخلق الفني — بملكات شكسبير، وإن لاح لأول وهلة أنها ملكات مستقلة كملكة البلاغة في جوامع الكلم، وملكة النزاهة في تصوير الشخصيات المتناقضة.
فمن ملكاته في النظم والنثر وفرة الشواهد التي تجري مجرى المثل السائر، وتُورَد على الألسنة والأقلام مورد جوامع الكلم ومواقع الفصل في الخطاب.
هذه بلاغة لسانية فيما يبدر إلى السامع لأول وهلة، ولكن البلاغة اللسانية لا تخلق مواضع الشاهد ولا دواعيه ومناسباته، وإنما يخلقها الشعور بالحالة النفسية التي تمليها، وتتعدد الشواهد كلما تعددت الحالات النفسية وطابقتها الكلمة عند قائلها وسامعها، وليس في وسع بليغ أن يضع الشواهد على الألسنة قبل أن يحرك في النفس شعورها الذي يدعوها إلى التمثل بكلماتها.
ومن ملكات الشاعر في تأليفه المسرحي نزاهته بين أبطاله وبطلاته، وهذه صفة أخرى من صفات الخلق الفني وصدق الوعي في تصوير النظائر والنقائض من أحوال الطبيعة البشرية، فهو لا يكتب الفواجع لأنه حزين متشائم، ولا يكتب الملهيات لأنه فرح متفائل، وهو لا يمثل الظلم في الموقف الواحد لأنه يقسو مع الظالم ويشكو مع المظلوم، وإنما يعطينا الصورة صادقة لهذا وذاك، ويدع لنا حين نلعن الظالم أن نلعنه حق لعنه لأنه ملأ صورته من البغي والشر، ويدع لنا حين نرثي للمظلوم أن نوليه حقه من الرثاء لأنه ملأ صورته من الضعف والبراءة، وبديه أن هذه الرسالة ليست برسالة الداعية الغيور الذي يجاهد في حومة واحدة ويتحرر لقبلة ميممة لا ينحرف عنها ولا يعقل للحياة معنى بغيرها، فلا شأن لشكسبير بهذه الرسالة ولا هو ممن طبعوا على غرارها واستعدوا بفطرتهم للاضطلاع بأعبائها، ولو تجرد لها لترك عملًا يتقنه وتصدى لعمل لا يحسنه، ولا خير في ذلك للفن ولا للدعوة، بل خسارة يضيع فيها الشاعر الخلاق في عالم الفنون ولا يزيد فيها عدد المصلحين الغيورين.
والبصر الدقيق بعناصر الفجيعة والفكاهة تمام هذه المزايا التي تؤدي بها رسالة التأليف المسرحي في مآسي شكسبير وملاهيه، فكل رواية من رواياته تدور على عنصرها من الفجيعة أو الفكاهة، وتكاد تختص به ولا تشاركها فيه رواية أخرى على وتيرتها، وكل هذه العناصر يشف عن إدراك عميق لتطور الزمن في فهم عوامل الفجيعة وعوامل الفكاهة؛ إذ تحل الطبيعة الإنسانية في المكان الأول محل القدر والعرف من روايات الإغريق الأقدمين، فليس صراع القدر كل شيء تدور عليه المأساة، وليست سيطرة العرف كل شيء تدور عليه الملهاة عند شكسبير، وإنما تدور كلتاهما على باعث من بواعث الطبيعة الإنسانية في الأبطال أو في البيئة، ويهمنا من الرواية ما يهمنا من أجل هذا الباعث الإنساني في قوته أو ضعفه وفي سموه أو إسفافه، ولا يمتنع أن تتحكم الحوادث مرة كما تحكمت في مأساة روميو وجولييت، ولكننا نلتقي بالقدر هنا في صورة العصبيات الجائرة التي تخلفت من بقايا القرون الوسطى، فهي هنا قد لبست ثوب القدر وقامت بالدور الذي كان يتولاه في فجائع الأقدمين بمعزل عن إرادة الإنسان فردًا وإرادة الناس مجتمعين.
تطور في إدراك عناصر المأساة والملهاة لم يأتِ عفوًا واتفاقًا، ولم يختلف فيه فن الإغريق وفن النهضة لاختلاف الأساليب والأقلام، ولكنه هو الاختلاف المنظوم في ثمرات الفن الذي تمخضت عنه عصور النهضة وعكفت فيه على رسالة جديدة: هي رسالة الإنسان.