الطبيب الذي عالَج نفسه
١
على مدارِ مسيرته المهنية الناجحة في منصب وزير الداخلية، أجرى السيد الرفيع المقام توبام فينسون الكثيرَ من الإصلاحات ونال نصيبَه من المدح والقدْح على ذلك؛ شأنُه شأنُ بقية المصلحين. وانتهج طرائقَ تُخالف طرائقَ الوزراء الدائمين؛ وبينما جعلته شجاعتُه البالغةُ محبوبًا لدى الشباب، كان ذا شخصية قوية جدًّا ومؤثِّرة أثارت ردودَ فعل قويةً لدى كلٍّ من حلفائه وخصومه، ولم تترك مجالًا للفتور تجاهه. اتصف بازدرائه الدائم للتقاليد؛ ما أثار حفيظةَ كلا الحزبين على حدٍّ سواء، إلى جانب أن ذلك قاده إلى العديد من المغامَرات الشخصية التي كانت مثل النَّفَس الذي لا يستغني عنه الوزير العنيد، غير أنها كلما خرجت إلى العلنِ كانت تعرِّضه لنقدٍ شِبه جماعي. ولحسن حظه أن غالبية تصرفاته الطائشة لم يُكشف الغطاءُ عنها في أثناء تقلُّده هو وأفراد حكومته مناصبَهم؛ إذ كان في أقصى حالاته غيرِ التقليدية أثناء تنفيذه تكتيكاتِه المبتكرةَ التي ترتكز عليها شهرتُه، أو حينما يكون بصحبة ذلك الرجلِ ذي الروح المشابهة له في الميول والتفكير، والذي كان له دورٌ كبير في إنشاء هذه التكتيكات في الأساس.
كان فصلُ الخريف في أوَّله عندما تعارف هذان الرفيقان الاستثنائيان. وامتاز الطقس باعتداله في تلك الليلةِ؛ وهو ما أغرى السيد فينسون بالعودة من وستمنستر إلى ميدان بورتمان سائرًا على قدميه. وما إن بلغ عتبةَ بابه حتى سمع أحدًا يهتف باسمه من مسافةٍ غير بعيدة. كان الصوت أجشَّ يفيض إثارةً خفَّف التحفُّظ حدَّتها؛ إذ كانت الساعة منتصفَ الليل والهدوء يسود الميدان؛ فدار السيد فينسون على عقبيه ليجد شابًّا يركض نحوه، عابرًا الطريق، وتتدلى من يده الممدودة سلسلةٌ ذهبية.
قال الشاب لاهثًا: «ساعتك، يا سيدي، ساعتك!» وأظهر ساعةَ جيب بغطاء، بصليةَ الشكل، في أحد جانبيها حروفٌ منقوشة، وفي الجانب الآخر شارة عائلة فينسون.
هتف وزير الداخلية، وهو يتحسَّس جيبَ صدريته الفارغ قبل أن يصدِّق ما تراه عيناه: «يا إلهي! أين عثرتَ عليها بحق السماء؟ كنت أضعها في جيبي عندما غادرتُ مبنى الوزارة.»
أجاب الرجل الشاب فيما يتروَّحُ بقبعة الأوبرا الخاصة به كالمِروحة: «لم أعثر عليها. لقد أخذتها للتو ممَّن سرقها منك.»
سأل وزير الداخلية بإثارةٍ لا تناسب رجلًا سياسيًّا: «من؟ أين؟»
أجاب الشاب: «شقيٌّ مسكين، في شارع نورث أودلي، حسبما أظن.»
قال فينسون بانفعال: «هذا صحيح! لقد اعترض طريقي هناك، عند منعطف ميدان جروسفينور تحديدًا. وقد أخذتني الشفقة بذلك الوغد وأعطيته نصف كراون!»
ردَّ الشاب: «على الأرجح سرق ساعتك بينما كنتَ تتفقَّد محفظتك.»
وربت الشاب على جبهته الجذابة، التي التمعت في الضوء المنبعثِ من فتحة الباب، بمنديل حريري أبيضَ، أخرجه لتوِّه من جيبه.
سأل فينسون وهو يفحص الشابَّ من رأسه إلى أخمص قدميه: «لكن أين كنتَ أنت؟»
أجاب: «كنتُ قد أتيت توًّا إلى الميدان. آنذاك كنت أنتَ قد غادرت المكان. ووجدت النشَّال يتفقَّد غنيمتَه فيما يودِّعك بمباركاته.»
سأل السيد: «وأين هو الآن؟ هل سمحت له بالإفلات من قبضتك؟»
ردَّ الشاب: «يُخجلني أن أقول إنه أفلتَ من قبضتي؛ لكن دون أن يهرُب بساعتك!» بذلك ذكَّر مالكَها بحماسة زائدة. أضاف: «استطعت أن أخمِّن هويةَ مالك هذه الساعةِ من الشارة والأحرف الأولى المنقوشة، وقرَّرت التحققَ من ذلك بدلًا من ملاحقة اللص.»
أعرب وزير الداخلية عن امتنانه لما فعله الشاب، في استحسانٍ جاء متأخرًا، وقال: «أحسنتَ صنعًا. الصحف تأتي على ذكري كثيرًا بحكم منصبي، ولا داعيَ لأن تظهرني أيضًا بمظهر ساذَج خارج أوقات العمل. تعالَ وادخل، من فضلك، ودعني أكرمك حسبما يسمح هذا الوقت المتأخِّر من الليل.»
أمسك السيد فينسون بالشاب الذي أعاد إليه ساعتَه من ذراعه، وأرشده إلى رَدهة داخلية أنيقة؛ حيث انتظرتهما مرطبات ووجبة خفيفة معَدة بعناية على طاولة جانبية، وبدت نيران المدفأة المتوهِّجة مغريةً مثل المقاعدِ المريحة القابعة بجوارها. وكانت زجاجة وكوب كبير من شامبانيا عالية الجودة موضوعَين جانبًا بالإضافة إلى المحار والكافيار؛ وبعد أن شرح السيد فينسون لمضيِّفه بأنه لم يسمح مطلقًا لأي أحدٍ بأن يجلس مستيقظًا في انتظاره إلى وقتٍ متأخر من الليل، فتح الزجاجة بيدٍ متمرسة، وقاد عملية الانقضاض على الطعام والشراب بحماسة صبي صغير ومِزاج رائق.
في الوقت نفسه كان السيد وضيفه قد انهمكا في دراسةِ أحدهما الآخر. تبيَّن أن الوزير— الذي كانت شخصيته المفعَمة بالقوة مادة مناسِبة لأقلام رسَّامي الكاريكاتير المعاصرين الحذرين — كان مثلما قدَّمته الرسوم المتحركة المعاصرة تمامًا؛ ولم يكن هناك شيءٌ غير متوقَّع في شخصيته؛ لأن حيويته الصبيانية كانت صفةً أفرطت الصحافة في استغلالها. كما اتَّسم بصراحة شديدة، تُخفِّفها نظرةٌ طويلة عادةً ما تكون ثاقبة، لكنها لا تُخفي صراحته تمامًا، وكان بوسعه تعديلُ طريقته في الحديث لتكون بلهجةٍ رسمية رنَّانة أو عفوية عامية حسب الحاجة. لكن ما أدهش ضيفَه هو منزله لا شخصيته. فقد جمع منزلُه بين الفخامة والذوق الرفيع في مزيج مثالي غيرِ مألوف بالمرَّة ممَّن يجاهرون بانغماسهم في الملذَّات ولم ينالوا من ذلك سوى ادعائهم فحسب؛ فهذه الصفة في الرجال العمليِّين والسياسيِّين المنضالين لهي علامةٌ أخرى على ما يتمتَّعون به من طاقات هائلة. وربما كانت قِطع الأثاث القديمة الثمينة، وزجاجة الشامبانيا القديمة المتلألئة من كل الزوايا، والأواني النحاسية التي تلمع في ضوء المدفأة، والنقوش القليلة والدقيقة في جدارية موريس ستنال استحسانَ طالبٍ في كلية الفنون، وربما كانت وسائل الراحة ستحوز رضا فتًى مُدلَّلٍ حديثِ العهد بالرفاهية.
أشبعت هذه المظاهرُ رضا الشاب الغريب من كل النواحي؛ لكنه بدا داخل منزل السيد فينسون أكبرَ سنًّا مما أوحى به مظهره. كان قد نزع معطفه الطويل فيما كان مضيِّفه يفتح زجاجة الشامبانيا، وأبرزت حلَّتُه المسائية نحافةً في الجسد والأطراف لرجلٍ في منتصف العمر. أما شَعره الداكن المجعَّد فكان الشيب قد بدأ يزحف إليه عند الصدغين؛ وعلت إحدى أذنيه منطقةٌ دائريةٌ صغيرةٌ من الشَّعر الفضي تشبه عُملة فلورين جديدة. كان وجهه الحليق شاحبًا ومتلهفًا وجادًّا. واتَّقدت عيناه الداكنتان كشعلتين تحت حاجبيه الكثَّين، ولم يؤثِّر في تميُّزهما أو حدَّتهما حَوَلٌ لا تخطئه العينُ رغم ضآلته. هكذا على الأقل بدا لتوبام فينسون، الذي كان يتميَّز حقًّا بقدرةٍ رائعة على الحكم على الوجوه، لكنه نادرًا ما رأى وجهًا أصعبَ في قراءته من هذا الوجه.
قال، فيما يقطع طرَف السيجار الذي كان عبثًا قد أشاد بنوعه الفاخر: «من المؤسف أنك لا تُدَخِّن. وزجاجة الشامبانيا تلك أيضًا! لم تلمسها، ولو كنت مكانك ما تركتها.»
حينها هبَّ الشاب واقفًا. وقال بانفعال: «لا أدخن أبدًا، ولا أعاقر الخمر إلا فيما ندَرَ؛ لكني أمام ضيافتك السخية هذه لا يسعني إلا أن أكون صادقًا معك يا سيد فينسون كما لم أكن من قبل. لم أفقد أثرَ النشَّال عن طريق الخطأ أو لأنه يفوقني سرعة. بل أنا … أنا من صرفته عن عمد.»
استرخى السيد فينسون في مقعده المريح للغاية، بابتسامةٍ على محيَّاه، غير أن عينيه لم تتخليا عن حذرِهما. كانتا صارمتين على عادة قومه، لكنهما تتقدان بذكاء شديد، بما يتناسب مع وضعه كزعيم جماعته الفكرية وأهمِّ عضوٍ فيها.
سأل السيد بنبرة تخمينية: «هل اختلق صديقنا قصةً مأساوية ليفلِت من قبضتك؟» وأقرَّ أنه لم يرَ رجلًا بائسًا لهذه الدرجة من قبل.
أجاب الشاب: «لا يا سيد فينسون. كنتُ سأسمح له بالذهاب إلى حالِ سبيله على أي حال، بعدما أسترد ما سرقه، تماشيًا مع مبادئي.»
هتف وزير الداخلية: «مبادئك!» لكنه لم يتخلَّ عن رباطة جأشِه السياسية؛ وإنما اكتفى برفع حاجبيه كما كانت عادته المعروفة.
واصل ضيفُه بنبرةٍ أكثرَ صراحة: «كلُّ ما في الأمر أن لديَّ آرائي الخاصةَ فيما يتعلق بالجريمة والعِقاب، إن أذِنت لي أن أشرحَها، ولو على سبيل الإيجاز، فقد تجد فيها مسوِّغًا لتصرُّفي على الأقل. وإن وجدت سلوكي غيرَ مُسَوَّغٍ بالمرَّة، وإن كنتُ قد وضعت نفسي تحت طائلة القانون، فها هي ذي هويتي يا سيدي؛ وها أنا ذا أمامك على استعداد لأتحمَّل عواقبَ ما فعلتُه.»
انحنى وزير الداخلية إلى الأمام وتناول البطاقةَ من اليد الممدودة الحسَّاسة، القوية كالصوت الذي كان يستمع إليه للتو، ولكنها خلَت هي وصوته من أيِّ توتُّر. مرةً أخرى رفع عينيه وتطلَّع في الوجهِ الذي ازداد شحوبًا فوق شحوبه والعينين الداكنتين المتأجِّجتين من حماستهما المكبوتة. لم تكن حماسةً متولِّدة من رحم المعاناة؛ بل بدا للسيد فينسون أن أمامه صِنفًا جديدًا لمتعصِّب غريبِ الأطوار؛ لذا حمل نفسَه حَمْلًا على المحافظة على أسلوبه الدبلوماسي وابتسامته.
قال: «حسبما أرى، أيها الطبيب دولار، فإنك أحدُ جيراني، وتسكن على بُعد مسافةٍ قريبة في شارع ويلبيك. هل لي أن أعتبرَ أن خبرتك بصفتك طبيبًا استشاريًّا هي منشأ الآراء التي ذكرتها؟»
ردَّ الطبيب دولار: «لا، من خبرتي كطبيب نفسي، إذا أمكنني أن أعطيَ نفسي هذا اللقب، على سبيل التجوُّز.»
سأل السيد فينسون: «إلى أي مدًى يمكن أن تصدُق مقولتك أيها الطبيب؟»
أجاب الطبيب: «من منطلقِ أن كل الجرائم ما هي إلا شكلٌ من أشكال الجنون.»
قال السيد: «إذن فأنتَ تلقِّب نفسَك ﺑ…»
أنهى جملته المبتورةَ بنبرةٍ تتوارى عن الاستجواب الصريح بأقصى قدْر ممكن من البراعة كما هي عادة خطيب متمرِّس.
أجاب الطبيب دولار: «بل ألقِّب نفسي بالمصطلح المعروف — الذي سيقرِّره الزمن باعتباره جزءًا من تخصُّص علم النفس — وهو طبيب الجريمة.»
سأل السيد: «أهذا فرعٌ لم يعترف به تخصُّصك بعدُ؟»
أجاب الطبيب: «لم يعترف به بعدُ تخصصي ولا القانون، يا سيد فينسون؛ لكنهما سيصلان إلى هذا الاعتراف حتمًا، مثلما نقبل التطورات العلمية الحديثة الأخرى في زمننا هذا.»
استفسر السيد: «لكن هل برهنتَ على أن هذا الفرع جزءٌ من العلم أيها الطبيب؟»
ردَّ الطبيب دولار: «جاري العمل على ذلك»، وكانت نبرته واثقة متحفظة من شأنها إثارةُ إعجاب شخصٍ يدرك أهميةَ هذه الصفة في نفسه والآخرين. أضاف: «لقد اتخذتُ الخطوةَ الأولى؛ لو لم يكن الوقت متأخرًا كثيرًا لأخبرتك بكل شيء عنها. أنتَ وزير داخلية إنجلترا، أكثر شخص أتمنَّى أن أقنعه بآرائي. لكنني أبقيتك مستيقظًا فترةً طويلة. إن دبَّرت لي موعدًا …»
قاطعه السيد فينسون فيما استرخى أكثرَ في مقعده: «لا بأس. لا يزال الليل في أوَّله، وكذا سِيجاري. من فضلك أخبرني بكلِّ ما تريد قوله، ويمكنك التحدُّث بحريةٍ وانفتاح، فلن أفشيَ سرَّك. أنت تثير اهتمامي أيها الطبيب دولار؛ كما أنني لن أنسى المعروفَ الذي أسديته إليَّ.»
ردَّ الطبيب بسرعة: «لا أرغب في استغلال عرفانك بالجميل. لكن هذا حُلم قديم راودني منذ سنوات كثيرة، أن أحدِّثك يا سيدي عن عملي، وكيف حملني القدَر على السعي في هذا الطريق والسبب وراء ذلك تحديدًا. لم أخطِّط للاتجاه للطب كما ترى؛ فأهلي رجالُ جيش عهِدوا الإتيانَ بجرائمَ على الحدود فيما مضى، ولم يضعوا السلاحَ منذ ذلك الوقت. كان أبي ضابطًا مجندًا مفوضًا في شبه جزيرة القرم؛ وانضم إلى كتيبة حمَلة البنادق الاسكتلندية. وانضممتُ أنا إلى فوج مشاةِ أرجيَل وساذرلاند قبل عام من حرب البوير الثانية في جنوب أفريقيا؛ حيث، بالمناسبة، أتذكَّر رؤيتك مع فرسانك المتطوعين.»
«قضيت هناك ثمانية عشر شهرًا دون أن أصاب بألمٍ في الرأس أو خدشٍ في الجسد.»
ردَّ الطبيب: «ليتني كان بوسعي أن أقول القولَ نفسَه، يا سيد فينسون. فقد أُصبت بطلقةٍ اخترقت الرأس، عند نهر مودر، بعد عشرة أيام من وصولي إلى هناك.»
سأل وزير الداخلية وهو يرفع حاجبيه قليلًا: «أقلتَ إنها اخترقت الرأس؟»
تحسَّس الطبيب الرقعةَ الفضية في شَعره الداكن البادي الصحة. وقال: «هنا الموضع الذي انسلَّت منه الطلقة خارجةً من رأسي؛ وليس بمقدور أيِّ سلاح التصويبُ بهذه الدقة باستثناء بندقيةٍ من طراز ماوزر! وهكذا خلَّفَت الطلقة لديَّ حوَلًا بسيطًا كما ترى؛ وفيما عدا ذلك، استرددت عافيتي في غضون بضعة أسابيع، لكن من الناحية الجسدية فقط.»
هتف الوزير: «رائع!»
تابع: «تعافيتُ جسديًّا وعقليًّا أيضًا — من وجهة النظر الطبية — ولكن ليس أخلاقيًّا يا سيد فينسون! لقد حدث لديَّ خللٌ دقيق، أو ضغطٌ في موضعٍ ما، أو أُصبتُ بشكل من أشكال الشلل الموضعي. ولا أبالغ عندما أقول إن الطلقة حوَّلتني إلى شخصٍ في قمة الخِسة! كنت أتصرَّف مثلَ الآلة بلا أدنى تفكير، لكني لن أخوض في التفاصيل الآن، إن كنت لا تمانع ذلك.»
هتف وزير الداخلية بودٍّ غير متعمَّد: «إطلاقًا، أيها الطبيب العزيز! قد أثرتَ اهتمامي بدرجةٍ غير عادية. أعتقد أنه يمكنني تخمينُ ما حدث تاليًا. لكني أريد الإصغاءَ إلى كل كلمة تودُّ إلقاءها على مسامعي، لا إلى ما تريد الاحتفاظَ به لنفسك.»
واصل الطبيب: «أفسدَت الطلقةُ بوصلتي الأخلاقية في جزئيةٍ محدَّدة غريبة؛ لكني أحمدُ الرب على أنني استطعت إدراكَ السبب مع أنني عانيت آثارَ هذا الأمر معاناةً تعجز الكلمات عن وصفها. بعد ذلك وصلت إلى اختيار إما الانتحار أو العلاج بأي وسيلة ممكنة. فقررت السيرَ في طريق العلاج أولًا. واختصارًا … شُفيتُ.»
سأل الوزير: «بسهولة؟»
ردَّ الطبيب: «لا. سيحل بي الهلاك إن كذبت، لكن لن أنسبَ إلى الأطباء الاختصاصيين اللندنيين أيَّ فضل! لقد أعطيتُ كثيرين منهم قدرًا كبيرًا من المال، بدءًا من أطباءَ معروفين يحملون لقبَ بارون أو فارس وانتهاءً بالمغمورين منهم علَّني أجد حلًّا لِعلَّتي. لكن لم يخجل المتخصصون منهم من أن يدُسوا في جيوبهم جنيهين (وفي إحدى الحالات ثلاثة جنيهات) ليخبروني بكل أدب أنني مجنون لاعتقادي أن هذه هي مشكلتي!»
سأل الوزير: «وماذا حدث في النهاية؟»
أجاب الطبيب: «في النهاية، التقيت شخصًا واسعَ الأفق، لكن ليس في إنجلترا، ولو قلتُ إنه فتح عقلي بالمعنى الحرفي للكلمة، لربما كان كلامي مبالغةً، لكن أحب أن أكتفيَ بهذا الحد. لقد فتَّش في جُمجمتي، مخاطِرًا بسُمعته في مقابل حياتي، لكن خرج كلانا رابحًا.»
سأل الوزير: «هل صرت سيدَ قرارك منذ ذلك الحين؟»
طرح توبام فينسون سؤاله بجدِّية؛ ولو كانت هناك عينان متمرِّستان مثل عينَي السيد فينسون لاستشعرتا تغيرًا كبيرًا في سلوكه، أو نظرات عينيه، أو في أي شيءٍ يخصُّه. لكن الطبيب دولار لم يكن يتصف بقوة الملاحظة. إذا أراد المرء أن يكون مستبصرًا فعليه أن يتطلع إلى أعلى، ولكي يحقق ذلك لا بد له من أن يغفَل عما تحت قدميه مباشرةً. مناط الأمر هو تغيير المسار الذهني. ففي قمة حماسته كان الطبيب الحالِم يحلِّق في الفضاء ويفقد الصلة مع الوزير الجالس في مقعده الوثير.
أجاب الطبيب ببساطة شديدة: «لقد شُفيت. كان العلاج مذهلًا، لكنه لم يكن معجِزًا. فأي شخص يمكنه الإتيانُ بمثله إذا كانت لديه الجرأة والمهارة اللازمتان. لكن بدا لي العلاج جديدًا؛ إذ كادت الاحتمالات التي يطرحها تكون مخيفةً من فرطِ ما كانت مذهلة. يجب ألا أتحدث عنها؛ إذ لا تزال — إلى حدٍّ كبير — مجرَّد احتمالات. لكني قرَّرت أن أكون مؤهلًا لتقديمِ ذلك العلاج، لأكون — على الأقل — في وضعٍ يسمح لي بعلاجِ الآخرين مثلما عُولجت. كنتُ قد تركت الجيش بالفعل؛ لكن نضالي لم يكن قد انتهى بعد. كنت سأكافح الجريمةَ كما لم يكافحها أحدٌ من قبل!»
شكَّلت الاستراحةُ المؤقَّتة من الكلام تحديًا للمستمع أن يردَّ على ما سمعه. لكنه لم يتكلم، فأنهى الطبيب خُطبته الرنانة بنبرةٍ متواضعة، قائلًا: «درست في جامعة سانت ماري على يدِ متخصصين معروفين. كما درست في برلين على يدِ وينترشليدن، وتتلمذت على يدِ ينس جِنسِن في ستوكهولم. وقبل أن أبلغ الثلاثين كنت قد شيَّدت عيادتي في شارع ويلبيك، ولا أزال هناك حتى اليوم.»
قال وزير الداخلية بابتسامةٍ حذرة فاترة: «لكن … لكن تظل الاحتمالات مجرَّد احتمالات!»
أجاب الطبيب: «هذا صحيح من الناحية الجراحية؛ فقد انقدتُ وراء حالتي الشاذة. عندما تحيل إصابةٌ مباغتة أخرى رجلًا أمينًا إلى أحمقَ، أُدرك إلى من آخذه؛ لكن الإصابة العادية تسري في الجسد تدريجيًّا وبخفاء على نحوٍ يصعُب علاجه جراحيًّا. أما الحالات الخِلقية فهي، بالطبع، ميئوسٌ منها من هذه الناحية. لكن هناك وسائلُ علاجية لما أعتبره في يومنا هذا أسوأ صِنف من المجرمين، وهم المجرمون المنخرطون في الجريمة بحسب خِلقتهم.»
قال السيد فينسون بابتهاج: «ليتني كنت أعرف بعضَ تلك الوسائل! ولكن هلَّا تخبرني، من وجهة نظرك، ما هو أسوأ صِنف من المجرمين المجبولين على الجريمة في وقتنا الحاضر؟»
أجاب طبيب الجريمة دون أدنى تردُّد: «أفراد المجتمع الراقي.»
سمح المضيِّف بأن تسري الدهشةُ إلى عينيه مرةً أخرى.
وسأل: «ألا ترى أن أفكارك صادمةٌ نوعًا ما، أيها الطبيب دولار؟»
أجاب الطبيب: «ألسنا في عصرٍ مثيرٍ للذهول يا سيد فينسون؟ فبادئ ذي بَدْء، يتعيَّن على مجرم القرن العشرين، بما يمتلِكه من هاتف وسيارة ذات محرِّك بالإضافة إلى موادَّ شديدةِ التفجير وأدوات علمية لأغراضه المهنية، أن يكون متعلمًا؛ ويؤسفني أن أقول إن عددًا متزايدًا من المتعلمين تدفعهم الحاجة إلى الجريمة دفعًا وإلا سيعيشون فقراءَ طوال حياتهم. إنها حلْقة مفرغة، ولا بد أنك توافقني في هذا، أليس كذلك؟»
أجاب: «هذا إن استطعتَ التدليل عليه.»
عقَّب الطبيب: «ألا يكاد هذا الكلام يكون حقيقةً بديهية، يا سيد فينسون؟ عندما تتقاضى سيدات المجتمع، اللاتي يكسِبن قوتَ يومهن من لعِب البريدج والمتاجرة في تذاكر الدخول إلى القصور الملكية، رسومًا باهظة من أجل تقديم الأخريات إلى البلاط الملكي، وثروةً صغيرة من أجل إدخال عائلة غير متوقَّعة في دائرتهن الاجتماعية، لا بد أن يكون هناك سببٌ ما لهذا الأمر، بخلاف فسادهن الأخلاقي. فهؤلاء السيدات لسن أكثرَ فسادًا من الناحية الأخلاقية مني، لكن ثروتهن قد تكون أقلَّ، ومتطلباتهن بالتأكيد أضعافُ متطلباتي. فالجشع ليس القوةَ الدافعة لأفعالهن؛ وإنما ببساطة عدمُ توافر الأموال اللازمة، من وجهة نظرهن. يزيد المجتمع ويتضاعف في كل النواحي، عدا المال، كما يتوارث أذواقَه الباهظةَ الثمن دون أن يتوارث الوسائلَ الضرورية لإشباعها. وهكذا صارت لدينا سيداتُ مجتمع يتقاضين تعريفةَ تقديم أخريات للمجتمع الراقي، وأعضاءُ أندية كبرى على استعداد دائم للدخول في صفقةٍ على حصان أو سيارة أو أي شيء من شأنه أن يجلِب لهم بعضَ المال. هناك خطوة صغيرة تفصِل بين هذا النوع من الأنشطة وبين الخدعِ الاحتيالية، وبين الخدع الاحتيالية والجُرم الصريح. لكنها خطوة يخطوها عادةً أولئك الذين ينتمون إلى الصِّنف الذي أعنيه، وليس ضروريًّا أن يفعلوا ذلك عن وعيٍ منهم. وهنا تأتي الحاجة إلى تدخُّل طبيب الجريمة.
سأل السيد: «بأن يباشر عمليةَ توعيتهم؟»
أجاب الطبيب: «بأن ينقذَهم من أنفسهم قبل فوات الأوان؛ وفي تلك الحالة لا تكون الوقايةُ أفضلَ من العلاج فحسب، وإنما مبدأ بالغ الأهمية في الطب الحديث من جميع النواحي الأخرى. سيُبعد الصالحين منهم، يا سيد فينسون، عن السِّجن بأي ثمن، ولو حوَّلتَ السجون إلى منازلَ ريفية وزوَّدتها بفُرش وثيرة ووسائل ترفيه أخلاقية مدى الحياة!»
ابتسم وزير الداخلية مرةً أخرى، لكن ببعض الإشفاق وقدْرٍ من التحفُّظ أقلَّ جدًّا هذه المرة. فقد بدأ يرى في كلام الطبيب ما يشبه المنهج، بعدما حسِبه جنونًا تامًّا في البداية، وبدأت تجذب انتباهه وجهةُ نظره الجديدة والمُسلية. لكن ما كان للهجوم على منظومة السجون، ولو على سبيل الهَزل الخيالي، أن يمضيَ دون معارضة من قِبَله، وهو نصيرها الرسمي.
قال الوزير: «أُنشئت السجون، يا عزيزي الطبيب دولار، من أجل منفعةِ أولئك الذين يحرصون على البقاء خارجها لا الذين يصرون على دخولها مرةً تلو الأخرى. الوضع الأمثل، بالطبع، هو تحقيقُ المنفعة لكلا الطرفين؛ وهذا ما نستهدفه طوال الوقت. ليس خطؤنا أن من يدخل السجن يصبح مستهدفًا للأبد؛ كان الأجدر به أن ينأى بنفسه عن هذا الوضع في الأساس.»
هتف الطبيب المتحمِّس: «لقد وضعت إصبعك على موضعِ عوار منظومتك! لمَ يجب أن يكون مستهدفًا في الأساس؟ لمَ يُجبَر مجرمٌ هاوٍ، قد لا يقدِم على ارتكاب أي جريمة ثانية، على أن يصبح مجرمًا محترِفًا؟ هذه الطريقة لن تَمحيَ جُرْمه؛ فحتى شَنْق القاتل لا يعيد الضحية إلى الحياة، والاحتمالات تقول إنه قد لا يرغب في قتلِ شخصٍ آخرَ أبدًا. من ناحيةٍ أخرى هناك جرائمُ خطيرة كثيرة كان من الممكن سَتْرها فلا تفضي بالمجرم إلى حالٍ أسوأ مما كان عليها لحظةَ ارتكابها!»
انهمك السيد فينسون في صياغة توبيخ ساخر باسم الأخلاق والشَّريعة المُوسَويَّة؛ لكنه عَدَلَ عن السخرية غيرَ آسفٍ من أجل محاصرة خَصمه.
قال: «آمُل، أيها الطبيب دولار، ألا تكونَ وظيفةُ القِسم الجديد التعاونَ للتستُّر على الجريمة والمجرمين، أليس كذلك؟»
أجاب الطبيب المتحمس وقد بدأت علاماتُ الإنهاك تظهر على وجهه: «من المستحيل تحديدُ نطاق عِلم لا يزال بعدُ جنينًا. عندما تشتهر فكرةُ «طبيب الجريمة» — وهذا ما سيحدث — أراه يؤدي دورًا مرنًا بتوافقٍ تامٍّ بين تخصُّصه والقانون. سيكون ضابطًا وقائيًّا، ومحققًا خاصًّا، وكاهن اعتراف في آنٍ واحد، بل ربما يصير شريكًا متميزًا بعد وقوع حادثةٍ مروعة. لكن الريادي المتواضع لا يمكن له أن يأمُل في الحصول على كل هذه الصلاحيات في البداية؛ فرصتُه الوحيدة هي أن يعمل في الخفاء وفقًا لتوجُّهاته، وأن يحكِّم عقلَه، ويتحمَّل المخاطرَ مثلما فعلتُ الليلة. إن استطاع الطبيب أن ينقذ أحدًا من خلال التَّستر عليه فليفعل، ولتذهب التوقُّعات إلى الجحيم! إن استطاع أن يحول دون ارتكابِ الجريمة دون فضحِ المجرم كان خيرًا للجميع، وإن أخفق فلا يلومنَّ إلا نفسه! ليكن هو القانون لمريضه ولنفسه، ولكن فليتحمَّل المسئولية نيابةً عن مريضه إن أثبت القانون الذي وضعه عدمَ فاعليته.»
سأل الوزير: «أتعني أنك ستعالج الخللَ في الشخصية بنفس الطريقة التي يكرِّس بها الأطباء العاديون والأفراد أنفسهم لعلاج الجسد والروح؟»
أجاب الطبيب: «سيئول الأمر إلى ذلك يا سيد فينسون. أعلم أنه نظامٌ كبير، ولا أتوقَّع أن أرى ثماره في حياتي. سيتطلب النظام رجالًا أفضلَ مني، كما سيحتاج إلى عدد كبير منهم، لمجرد أن يبدأ في العمل على النطاق الذي أحلُم به. لكن هذه هي الفكرة تحديدًا. لم يُفِد العِقاب قَط في منع الجريمة؛ فما نريده هو أن نفهم طريقةَ تفكير المجرم ودوافعه «قبل» أن يتفاقم الأمر، بل قبل أن يصير هناك مجرمٌ حقيقي في القضية من الأساس.»
عقَّب الوزير: «لقد أفصحتَ عن أفكارك بصورةٍ منطقية أيها الطبيب دولار.»
كانت نبرة الوزير أقلَّ حماسة من نبرة الطبيب، ولكن ذلك كان ينطبق على نبرته فحسب. بدا أن عينيه الثاقبتين تَسبُران غَوْر الطبيب لتصلا إلى خطَّته نفسِها وتبحثا في مزاياها بالحماسة نفسِها التي طُرحت بها. وحدَهم الأشخاص ضيقو الأفق هم من يسخرون من الحماسة الصادقة مهما بدت جامحة أو طائشة. لكن توبام فينسون لم يكن شخصًا ضيقَ الأفق؛ وإنما كانت له، هو الآخر، شطحاتُه الجامحة في فترةِ شبابه ولم يفلِح منصبُه في تحجيمه تمامًا. كان الرجل الرياضي والرجل المُحتال داخِله سرعان ما يُرى انعكاسهما في شخصٍ آخر وأن تُسمع أصواتهما على شفتيه. لكن الحماسة لا تستلزم بالضرورة المخاطرةَ بالعقل. فلا تزال رايةُ الحيادية خفَّاقةً فوق ذلك الحصن.
سأل توبام فينسون فيما يدفع نفسَه دفعًا إلى العودة إلى الحقائق: «ماذا عن عيادتك؟»
أجاب الطبيب: «إن بناء روما استغرق وقتًا أقصرَ من افتتاح عيادة في لندن، بواسطة رجل مغمور يرسم مسارًا جديدًا لنفسه.»
عقَّب الوزير: «حقًّا لا أستغرب ذلك. فمن ذا الذي سيأتيك ليلتمسَ النصح بشأن نزعةٍ لديه للقتل، أو حيلةِ تلاعُب في تبرعات المصلين؟»
ردَّ الطبيب: «في المثال الأول ستأتي عائلةُ المريض على الأرجح؛ ثم قد ترسل المريضَ لأراه تحت ذريعةٍ أخرى.»
سأل الوزير: «وما طريقةُ العلاج؟»
أجاب الطبيب: «ستعتمد على حالةِ المريض. فلا يعلم جميع المرضى أنهم يخضعون للعلاج لظهور أعراضِ الجريمة عليهم. يظن غالبيةُ المرضى أنهم في دار رعاية عادية.»
دفعت الكلمة وزيرَ الداخلية إلى القفز على قدميه في نهاية المطاف؛ إذ لم يعُد قادرًا على المداهنة بواسطة الإيماءات والابتسامات، وهتف: «دار! أتقصد إخباري بأنك تُدير دارَ رعاية للمجرمين غير المدانين، أيها الطبيب دولار؟»
أجاب الطبيب: «بل للمجرمين المحتملين يا سيد فينسون. لا أستضيف في الوقت الحالي مريضًا مطلوبًا من قِبَل العدالة.»
سأل الوزير: «وأين تقع هذه العيادةُ الاستثنائية إذن؟»
أجاب الطبيب: «في منزلي الخاص في شارع ويلبيك.»
عقَّب الوزير: «إنها على بُعد بضع مئات من الياردات من هنا، ومع ذلك لم أسمع بوجودها إلا الآن!»
قال الطبيب: «بوسعي ملاحظة ذلك. هذا ليس خطئي يا سيدي. لقد بذلت غايةَ وسعي لأُعلمك بوجودها.»
سأل الوزير: «كيف؟»
ردَّ الطبيب: «بأن كتبت لك مرارًا لأعرفك بنفسي وعيادتي يا سيد فينسون.»
قال الوزير: «لم أرَ خطاباتك إذن. فوزير الداخلية يستهدفه كلُّ من هبَّ ودبَّ من الكُتَّاب الغريبي الأطوار. وقد وظَّفت الكثير من الشباب للتعامل مع هذه المضايقات تحديدًا. كان ينبغي أن ترتِّب موعدًا لمقابلتي وتقدِّم نفسك لي، أيها الطبيب دولار.»
ابتسم الطبيب؛ إذ لم يسَعْه إلا أن يأخذ تعليقَ الوزير على محملٍ شخصي. وازدادت ابتسامته عذوبةً تحت تأثير النبرة اللطيفة التي أعقبت تلك الكلمةَ التي خرجت بلا تمحيص من الوزير.»
عقَّب الطبيب: «لست آسفًا على هذا الانتظارِ بعد الفرصة التي حظيت بها لتقديم نفسي لك ولقائك يا سيد فينسون.»
سأل الوزير: «أرى أنك تريد مساعدتي في هذا المسعى الطيبِ، أليس كذلك؟»
أجاب الطبيب: «أريدك أن تساعدني بتأييدك ونفوذك إن استطعتَ ذلك.»
قال الوزير: «لا بد أن أرى شيئًا من عملك أولًا. يجب أن أفتِّش منزلك أيها الطبيب دولار.»
نادرًا ما عارضَت نظرةٌ خاطفةٌ حادةٌ نظرةَ السيد فينسون الثاقبةَ أو قابلتها نظرةٌ أخرى تتقاطر صدقًا وشجاعة. لكن ذلك الشك القاسي الذي أثاره حول الطبيبِ دولار مسَّ وجهَه الجذاب بأمانة وشجاعة على حد سواء.
قال الطبيب دولار: «منزلي رهنُ تفتيشك ليلًا أو نهارًا.»
سأل الوزير: «حتى في هذه الساعة؟ حتى الليلة؟»
بدا صوت وزير الداخلية متحمسًا مثلما بدت ملامحه؛ لكن على الجانب الآخر كان هناك الكثير من التردُّد بما يتوافق مع ذلك العيب البسيط في العينين الجذابتين.
قال الطبيب بمودةٍ ممزوجة بالإصرار: «في هذه اللحظة، من غيرِ بُد. دائمًا ما يكون بعض الخدم مستيقظين لوقت متأخر من الليل، كما يمكنك أن ترى المرضى في أثناء نومهم دون إزعاجهم.»
قال وزير الداخلية: «إذن لنستغل الفرصةَ في هذا الوقت من الليل؛ فالنهار مزدحمٌ عن آخره بالمواعيد. لنطرق الحديدَ وهو ساخن، فقد أثَرت حماستي أيها الطبيب بلا شك.»
٢
هذا الشَّغف البغيض بالمغامرات، الذي كان قد حوَّل أملَ آخرِ أحزاب المعارضة إلى محاربٍ ثائر في جنوب أفريقيا، والذي ربما يكون منصبُ وزير داخلية إنجلترا قد كبحه، لم تخْبُ جُذوته قَط فيما اندفع هو إلى الخارج مع رفيقه الاستثنائي. وتجدُر الإشارة إلى أنه اصطحب معه عصاه الغليظة بدلًا من مظلَّته رغم رطوبة الشوارع المهجورة من المارة بسبب مطر منتصف الليل الخفيف. بيدَ أنه من السهل تخمينُ السبب الذي دعاه إلى ذلك. لكن لم تتضمَّن الاحتمالاتُ التي وردت بذهنه دويَّ صفَّارة الشرطة في شارع ويجمور الهادئ وهروب الطبيب دولار عند سماعِها عبْر أول منعطف إلى اليسار!
كان وزير الداخلية واحدًا من أولئك الرجالِ الذين يتمتعون برشاقةٍ كبيرة لالتزامه القاسي بالقوام المثالي؛ ورأى نفسَه يتمتع بلياقةٍ بدنية، وهو في الأربعين من عمره، مثل غيره من الرجال في إنجلترا، ولاحقَ طريدتَه بثقته المعتادة. لكن الطبيب الطويل الساقين كان سيتركه خلفَه مع أعمدة الإنارة، لولا أن الطبيب كان في الواقع يندفع بسرعةٍ ناحيةَ الصوت، ولم يكن يهرب منه كما خطرَ بذهن مطاردِه على الفور. وفي غضون لحظاتٍ عثَر الاثنان على منزلٍ ساطعِ الإضاءة يقف أمامه رجلُ شرطة بَدين أكثر من المعتاد ويطرق على بابه بعنف تارةً ويخترق حاجز الصمت بصفَّارته تارةً أخرى.
هتف الطبيب دولار بنبرة آمرة حادة: «توقَّف عن هذا الضجيج اللعين! ابتعد من هنا، هذا منزلي!»
وصل وزير الداخلية قبل الهجوم الوشيك على الشرطي في الوقت المناسب، مشتتًا انتباهَ الشرطي الساخط بسؤاله عما يجري، فيما انشغل الطبيب بالبحث عن مفتاحه.
قال الشرطي وهو يركلُ قطعةَ زجاج مكسورة جانبًا: «الرب وحدَه يعلم! يبدو أن هناك جريمةَ قتل؛ شخصٌ ما أطلق عيارًا ناريًّا …»
وفي أثناء حديثه سُمع دويُّ عيار ناري مرةً أخرى! وتلا هذا الإنذار المخيف صوتُ صرخاتٍ داخل المنزل وتهشُّمُ زجاج النافذة المُشَبَّكة. آنذاك كان الطبيب دولار قد وضع مفتاحَ المزلاج في القُفل. لو كان الباب ينفتح إلى الخارج لسقطَ ثلاثةُ أشخاص متشابكين على قارعةِ الطريق؛ ونظرًا إلى أن الباب كان ينفتح للداخل وجد الطبيب صعوبةً في فتحِه بسببِ الرجل صاحبِ الرداء الأبيض الذي كان يتصارع مع امرأة (ترتدي قميصًا أحمرَ) وصبيًّا (لا يكاد يرتدي شيئًا) فوق مِمسحةِ الأقدام.
هتف دولار في ذهولٍ تام: «بارتون!» لكنَّ بارتون التعِسَ الحظِّ لم يكن هو الذي فقدَ سيطرته على نفسه. غمغم بارتون بنبرةٍ توبيخية ناكرة للجميل: «لم يسمحا لي بالانقضاض عليه! سيتسبَّبان في مقتل الكثير منا رميًا بالرصاص!» وعندئذٍ استوعب الوافدون الجدد الموقف. فعلى الدَّرج، في نهاية الممر الضيق، رأَوا مسدسًا ضخمًا يحمله شخصٌ يرتدي منامةً ورديةً وينظر بعينين شرستين من خلف ماسورة المسدس.
انسل طبيبُ الجريمةِ أمام المجموعة التي شكَّلت لوحةً هوجارثية ساخرة، وحالَ بجسده بينهم وبين الرجل المسلَّح، وهو يهزُّ رأسه بتعبيرٍ لا يستطيع شخصٌ آخرُ رؤيته غير الرجل.
سمعوه يقول بصرامة: «أنا مندهش مما تفعله يا أوزي. ظننتك رجلًا عادلًا ينأى بنفسه عن التصرُّف بحمق في الليلة الوحيدة التي أتغيَّب فيها عن المنزل. إن كنت ترغب في ترويع الناس، فافعل في مكانٍ لا يضرُّ بممتلكاتهم؛ وإن كنت تنوي القتل، فها أنا ذا أمامك، أيها الفتى! صوِّب على أزرار الصُّدْريَّة فلربما أصبتني في فمي؛ هذا أفضلُ؛ والآن أطلِق النار!»
لكنَّ المجرم ذا الشرائط الوردية لم يخفض ماسورة مسدسه ليُحسِن التصويب. بل خفَضها تمامًا. وفتح عينه الجامحة الأخرى، وطرَفت عيناه بحزن شنيع.
تلعثم قائلًا: «أنا، أنا لم أقصدِ التسبب في أي أذًى. كان الأمر خُدعة فحسب، وسأدفع ثمن الباب.»
ردَّ الطبيب: «هل سيصير الأمر مقلبًا كبيرًا إن أطلقتَ رصاصةً على قدمِك؟ من الأفضل أن تسلِّمني ذلك الشيء قبل أن تفعلَ ذلك» ومدَّ دولار يدَه بثبات عظيم. أضاف: «لا، أعطني السلاحَ من طرَفه الآخر، إذا سمحت؛ ليس من الأدبِ تمريرُ السكاكين والشُّوك من طرَفها المستخدَم. شكرًا! والآن اهرُب قبل أن ينقضَّ عليك بارتون بمباركة عائلته.»
وقف الشاب ذو الثياب الوردية يحدِّق بنظرات جامحة، ثم صعد الدَّرج هاربًا وهو يكتم بكاءه.
قال الطبيب هامسًا: «اذهب خلفه يا بارتون، قبل أن يُقْدِم على تصرُّف غبي. يا عزيزتي السيدة بارتون، ستقصِّين على مسامعي ما حدَث كلَّه منذ البداية إلى النهاية لكن صباح الغد؛ اذهبي إلى فراشكِ الآن مثل روح طيبة، بنفس راضية لأنكِ منعتِ إراقةَ الدماء. بوبي، خذ دَوْرَقًا من خزانة المشروبات وأعطِ أمَّك شرابًا عذبًا قبل أن تخلد إلى النوم.» واستدار على عقبيه فيما أسرعت المرأةُ وابنها بمظهرهما غير اللائق مغادرَين المنزل. أُغلقَ باب المنزل الأمامي؛ وكان وزير الداخلية واقفًا وحدَه على مِمسحة الأقدام. فسأله الطبيب: «عجبًا، يا سيد فينسون، ماذا حدث للخادم المطيع؟»
أجاب توبام فينسون بخشونة: «ظننتك تريد التخلص منه. إنه ينتظر بالخارج كي يشرحَ لقوات الدعم أن ما حدث كان مجرد دعابة.»
قال الطبيب، وهو يمسح جبينه بظهر يده: «يا لها من دُعابة غير مقنعة بالمرَّة!»
ردَّ فينسون: «أنا سعيد باعترافك بهذا أيها الطبيب دولار. هل أفهم من ذلك أن ما حدث كله كان دعابةً سمجة تمرَّن الممثِّلون عليها بحرصٍ من أجلي؟»
فتح الطبيب عينيه اللامعتين.
قال: «أهكذا يبدو لك الأمر؟ عُد بذاكرتك قليلًا إلى الوراء يا سيد فينسون!»
أجاب الوزير: «لا داعيَ لذلك. لم يخطُر ذلك ببالي إلى أن وضعتَ الكلمة على لساني. لكنها مصادفة بالتأكيد، أيها الطبيب، تفوَّقت على مصادفة سرقة ساعتي وحقيقةِ أنكَ دونًا عن الآخرين من قبضت على السارق!»
ردَّ الطبيب: «لكن هذا أمر متوقَّع حدوثه دائمًا عندما يدير المرء ظهره، وسيظل هكذا دائمًا إلى أن …»
توقَّف دولار عن الكلام ونظر إلى وزير الداخلية، فقال الأخير مستحثًّا إياه على الكلام: «إلى أن ماذا؟»
ردَّ الطبيب: «إلى أن تُصعِّب عمليةَ شراء المسدسات والذخيرة على الأقل، يا سيد فينسون، مثلما يصعُب الحصول على جُرعةٍ من حمض البروسيك السام! ها هو ذا شابٌّ مضطرب مُصاب بالصرع قد وُضع تحت رعايتي. لا أدير مستشفًى خاصًّا للأمراض العقلية ولا هو بالمريض المناسب. لو تركتُه يتصرف كما يحلو له، فهذا ما يحدث على الفور! ليت هذا يؤدي إلى قوانينَ جديدةٍ لاستخدام الأسلحة، لكن يجب ألا أدعَ حماستي تأخذني بعيدًا. يمكنك أن تجلس هنا وتدخِّن سيجارةً، ريثما أقوم بجولةٍ على الغرف للتأكد من أن الأوضاع تهدأ، وإن أردت القدومَ معي فسيسعدني ذلك.»
أُجريت الجولة بعد أن تجاذبا أطرافَ الحديث قليلًا في غرفة الطعام التي كانت على الطراز الإسبرطي كبقية منزل طبيب الجريمة المُميز. أضاف ذوقٌ مدروس في الأثاث السندياني، الذي كان عتيقًا، لكنه كان غير مريح في الوقت نفسه، لمسةً صارمةً باردةً لحجرة طعام عامة؛ وعُزِّز هذا الإيحاء لدى الوزير عندما ألقى نظرةً سريعةً على غرفة الاستشارات المجاورة المتناهية الصِّغر التي تصيب زائرها بالدهشة لتشابهها، ربما في ضوء مقارنات الطبيب دولار، مع صومعة راهب وكابينة اعتراف في آنٍ واحد. ربما كانت الطاولة المنحوتة، الخشنة والدقيقة الصُّنع والباهتة جَرَّاء تعاقب السنين عليها، مذبحَ كنيسة في زمانٍ ما بالماضي؛ وبالتأكيد كان المقعد خلفها مقعدًا كنسيًّا. كان الأثاث الثقيل الحجم ثمرةَ اختيار عينٍ صعبةِ الإرضاء، وربما الثمرة الوحيدة لاختيارها. فكل شيء آخر من محتويات المنزل كان يعود إلى القرن العشرين النفعي الحديث الفائق النظافة. لم تكن هناك ذرةُ غبار واحدة على مفرش الأرضية أو على سطح الصور اللامع. وكانت الجدران والأرضيات على نفس الشاكلة في الطابقين العلوي والسفلي. لكن عندما استرقَ الوزير نظرةً داخل إحدى الغرف بالطابق العلوي رأى زهورًا دفيئة متفتحة في أوعية زجاجية على طاولات زجاجية، كما كانت محتويات الغرفة هي الأخرى زجاجية. كانت الكتب نفسها مربوطةً بورق رقٍّ لامع كالزجاج؛ وتكدَّست بجوار الفراش، الذي استلقى فيه شابٌّ مغطًّى بالضِّمادات، منهمكًا في القراءة، في ضوء مصباح كهربائي أخضر.
عبَّر الطبيب عن أسفِه لما حدَث في الطابق السفلي؛ لكن المريض أجاب، دون أن يرفع ناظريه تقريبًا، بأنه نظرًا إلى عدم قدرتِه على الحركة لإنقاذ حياته فقد انهمك في القراءة طوال الوقت؛ ولم يزعجاه، وسُرَّ بلا شك بالتخلُّص منهما.
همس الطبيب وهما في طريقهما إلى الأسفل: «ذلك الشاب سيكون يومًا ما … حسنًا، لا عليك! قبل أن يقدِم إليَّ، لم يكن يقرأ بإرادته الحرة أيَّ شيء سوى الروايات الرديئة أو الجرائد؛ والآن هو منغمِس حتى أذنيه في قراءة الأعمال الخالدة لشابٍّ واهنٍ آخرَ تغلَّب على علَّته بإرادته القوية، وهو الآن تحت إشراف الطبيب جونسون.»
سأل الوزير: «ماذا كانت علَّته؟»
أجاب الطبيب: «هوس الإحراق.»
هتف الوزير: «ماذا؟»
واصل الطبيب: «إنها الرغبةُ في إضرام النار في الأماكن. تولَّدت لديه هذه الرغبة في أثناء صباه؛ لكنه أُثني وقتئذٍ عن إشباعها بالضرب المبرِّح. فأمضى طفولته كلَّها خائفًا من العِقاب، وأبقاه ذلك مستقيمًا. لكنه ذات يوم، عندما التحق بجامعة أكسفورد، أضرم النار في غرفته.»
سأل الوزير: «أهو نوع من التأسُّل الرجعي، على ما أظن؟»
أجاب الطبيب: «إنها حالة شديدة التعقيد، وإذا سمحت لي، سأحكي لك تاريخَها كلَّه.»
قال الوزير: «بل يهمني أكثرَ أن أتعرَّف على طريقتك في علاجها.»
قال الطبيب: «حسنًا، غنيٌّ عن القول أنه مغطًّى بالضِّمادات بسبب إصابته بالحروق؛ لكن قد لا يخطُر ببالك أن ذلك حدث له عندما أقام بمنزلي، إن لم يكن على يديَّ تقريبًا.»
هتف الوزير: «هذا هراء يا رجل!»
قال الطبيب: «أنا المسئول على أي حال، وسيسهِم هذا في شفائه. ما حدث كان عبارة عن تجاوب الخيال غير المنضبط مع هوس الإحراق. لم يكن الشاب من قبلُ يعي مدَى خطورة الحرائق؛ لكنه يعرف الآن من بشرته المحروقة.»
تقوَّس حاجبا السياسي مثلما تقوِّس القطط ظهرها دلالةً على الغضب.
سأل الوزير: «لكنْ هذا تطبيق مُبالغ فيه للطب البديل، أليس كذلك؟»
ردَّ الطبيب: «يجب أن أعترف، يا سيد فينسون، أنني تجاوزت في ذلك الحدَّ المقصود. كلُّ ما قصدته كان أن يرى الشاب حريقًا كبيرًا. لذا نسَّقت مع دائرة الإطفاء كي تتصلَ بي عند اندلاع حريق هائل، ومع مساعدي أن يصطحب الفتى في جميع جولاته الليلية. كان هناك سببٌ وجيه آخرُ لهذا الترتيب؛ وبشكل عام كان ظهورهما معًا في موقع الحادث المروِّع لاحتراق مدرسة الفروسية طبيعيًّا.»
هتف وزير الداخلية: «أعرف ما ستقوله! هذا هو الشاب الذي اندفع للمساعدة في إنقاذ الخيول، وهرب بعد ذلك دون الإفصاح عن اسمه!»
قال الطبيب: «هذا صحيح. ذكر أنه لن ينسى صهيلَ تلك الخيول المحتضِرة حتى ساعةِ مماته! لقد اندفع في وسط المعمعة قبل أن يتمكن بارتون أو غيره من إيقافه؛ ولم يفلح المحتشدون إلا في إيقاف بارتون المسكين من اللَّحاق به. حسنًا، لا يمكنني أن أتلقى المديح على ما كان ينبغي أن أمنع حدوثه؛ لكني أظن أنه من المستبعَد جدًّا جدًّا أن يغويَ عنصرُ الإغراء صاحبنا الذي بالطابق العلوي!»
كانا قد عادا إلى الطابق السفلي أثناء حديثهما؛ ووقف توبام فينسون، الذي كان في المقدمة، مُحملِقًا في طبيب الجريمة، في صومعة رهبنته، وعلى وجهه قناعٌ غامض مُتكلَّف، وهو أحد أقنعته الفعَّالة؛ لكن حدث تغيُّر في ذلك القناع فلم يعُد مثلما كان، بعدما اخترقه شعاع الإعجاب الدافئ وتداخل معه ظلُّ شيء آخر. عندما اندفع الطبيب دولار أمام المسدس المعبَّأ وأقنع حامله بإنزال فوَّهته، كما لو كان يخاطب صبيًّا يوجِّه بندقيةً لُعْبَةً ويتحدَّى صبيًّا طائشًا آخرَ بإطلاق النار عليه وقتله؛ كانت نظرةُ الإعجاب نفسُها قد حلَّت على وجه الرجل الواقف خلفه. لكن آنذاك لم يرَ الطبيبُ هذه النظرة، وبعدما رآها الآن أُصيب بالانقباض قليلًا كأنه يخشى مما سيأتي بعدها.
وهذا ما حدث.
«لا أريد أن تريَني أو تطلعني على المزيد أيها الطبيب دولار. أستطيع أن أمِيز الرجلَ الصالح بمجرد ما تقع عيناي عليه، والعمل الخيِّر عندما أراه يفعله. لعلَّ ما حدث كان ضروريًّا وفقًا لظروف عملك الاستثنائية؛ لكن هل المصادفة المحضة هي التي قادتني إلى رؤيتك وأنتَ تعمل الليلة، أم أن هذا العمل الشاقَّ كان في انتظارك عندما وصلنا إلى هنا؟»
أجاب الطبيب: «أما زلتَ تشكُّ في الأمر؟ عجبًا أنتَ من أصررت على زيارة منزلي في هذه الليلة المبارَكة!»
قال الوزير: «بالضبط. هذا يبرهن على المصادفة الثانية؛ لكن مع كامل احترامي أيها الطبيب لا أصدِّق حدوثَ مصادفتَين من النوع نفسِه، في الليلة نفسِها، للشخصين أنفسِهما!»
سأل الطبيب بصوتٍ مبحوح: «وماذا كانت المصادفة الأخرى؟»
أجاب الوزير: «أنك قبضتَ على من سرق ساعتي وتركتَه يهرُب! هيَّا، أيها الطبيب، قدِّم لي معروفًا آخرَ، وسأبذل غايةَ ما في وُسعي لأجلك وللعمل العظيم الذي تؤديه. هذا، بالتأكيد، إن كنت لا تزال ترغب في اهتمامي بالأمر مثلما كنتُ سأفعل لو أنني قرأت رسائلك.»
هتف الشاب من أعماق قلبه: «إن كنت؟! إن اهتمامك هو الشيء الوحيد الذي أريده منك، وأنتَ الشخص الوحيد الذي أرغب في إثارة اهتمامه!»
تلألأت عيناه كمصباحين بنيَّين كبيرَين، واختفى منهما الحوَل من فرطِ التركيز، متلاشيًا من عظَمة الماثل أمامهما. كان يمكنه الارتجافُ أيضًا، أو هكذا بدا، حيث لم تكن حياته الغالية هي التي على المِحَك، وإنما عملُ حياتِه الأعزُّ عليه. وتأثَّر توبام فينسون في نفسه غايةَ التأثر؛ إذ كان متشبعًا بالفكرة ومتشوقًا؛ لكن لم يعُق هذا ذكاءه الحادَّ أو غريزته السياسية الباحثة عن صفقةٍ رابحة.
قال: «هيَّا. أرِني الشابَّ الذي انتشل ساعتي.»
سأل الطبيب: «أريك إياه؟ ماذا تقصد بذلك؟»
لم يجفُل الطبيب. لكن كشفت عينُه المُصابة بالحوَل عن إصابتها مرةً أخرى.
قال وزير الداخلية بثقة كبيرة، كما لو أنه كان على درايةٍ بما حدث طوال الوقت: «الذي سرقني هو أحدُ مرضاك. هل كنت ستكون في عجلةٍ من أمرك لصرف السارق وإصلاحِ ما فعله لو لم تكن مسئولًا عنه؟»
لم يُجِب الطبيب دولار ولم ينكِر كلامَ الوزير؛ لكنه ألقى نظرةً خاطفةً على الساعة العتيقة ذات العقربِ الواحد وبندولها المكشوفِ الذي مسَّ الجِدار وهو يتحرك في ضجة صاخبة. كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، لكن لا بد أنها كانت ليلةً مريعة على جميع المرضى فلم ينعموا بالراحة. تخلَّى الطبيب عن محاولة تبرير الأمر، وواجه ضيفه بملامحَ يائسة.
سأل: «إذن أتريد رؤيته … الآن؟»
أجاب الوزير: «أجل. لديَّ أسبابي. لكن لن أتخذ أيَّ إجراءات ضده إن سمحت لي برؤيته. ولن يئدَ «ذلك» نواياي الحسنة في مهدِها!» كان واضحًا ما الذي سيئدها.
قال الطبيب، وكأنه يعتصر مخَّه مرةً أخرى: «ستراه. لكن هناك بعض الصعوبات التي قد لا تفهمها. ألا ترى أنني إن فعلت ما تطلُبه فسأكشف عن هوية مريضي؟»
ردَّ الوزير: «بالطبع. أراه عِقابًا مناسبًا، وهو كل ما سيناله. لكنك لا ترغب في أن تفقد سيطرتك. ألا تستطيع إرساله إلى الطابق السفلي متذرعًا بأي ذريعة بدلًا من أن تصحبني إليه؟»
أشرق وجهُ طبيب الجريمة كأنما سرت فيه الكهرباء.
هتف: «لا بأس في ذلك، سأرسله إليك! انتظرني هنا يا سيد فينسون. فهو قارئ آخرُ؛ وسينزل إلى الطابق السفلي كي يحصل على كتاب يقرؤه!»
انتظر الرجلُ العظيمُ الشأنِ وشخصيتُه المستبدة نوعًا ما تشعر بالرضا بهذا الترتيب بعد أن كادت تتعرَّض للإكراه لأول مرة. لقد تملَّك منه الاهتمامُ بشخصية طبيب الجريمة وعيادته الفريدة. ولم يكن ينوي مشاركةَ اهتمامه الجديد مع أقربِ زملائه حتى يتعمَّق في دراسة هذه النظرية والممارسة اللتين اكتشفهما حديثًا. قد يثْبُت عدم فاعليتهما على نطاقٍ واسع، ومع ذلك قد تضيئان الطريقَ إلى تشريعٍ مثيرٍ من ذلك النوع الذي يتطلب شخصًا مثل توبام فينسون كي يطرحه. كان الطموح الذي لا حدودَ له هو أحدَ إمكانات توبام الهائلة الذي يستجيب لنداء أي مهمة أخلاقية مغرية بما يكفي؛ لكنَّ شغفَه بالمغامَرة كان يتغلب على طموحه الذي لا حدودَ له؛ والمهمة الأخلاقية التي من شأنها إشباعُ الشغف والطموح الذي لا حدَّ له لهي مغريةٌ لأشد الناس صلابة!
لم يكن عليه إلا أن يُظهِر لحليفه الجديدِ سيطرتَه قبل أن يصادق على هذا التحالف؛ لهذا السبب أصرَّ على رؤية سارقه. لكن كان لديه سببٌ آخرُ أقل أهمية. فقد زوَّدته ذاكرتُه القوية بانطباعٍ آخرَ عن السارق بعدما سرق. وفي الفترة الفاصلة بين رحيل الطبيب وظهور المريض السريع التي لم تتجاوز دقيقةً تأكَّد ما كان يشك فيه.
استهل الوزير كلامَه، قائلًا: «أظن أننا التقينا من قبلُ أيها الرجل؟» أجفل الرجل بطريقةٍ مسرحية — كما كانت هيئته مسرحيةً من كل النواحي — إذ كان ملتحيًا ويرتدي ثيابًا رثَّة على نحوٍ مقصود متكلف. عثر فينسون على مفتاح الإنارة كي يرى مخاطبه بشكلٍ أفضل. وتابع: «هذا تنكُّر رائع، أيًّا من كنت يا رجل! هل يُزَوَّد المرضى المرموقون هنا بهذا التنكُّر؟»
سأل الرجل الأشعث بصوتٍ خشن وعينين مسبلتين: «من قال لك إنه تنكُّر؟»
قال وزير الداخلية بابتهاج: «حسنًا، لا تبدو مريضًا مرموقًا، أم إنك كذلك؟ من ناحيةٍ أخرى لم يقنعني الزيُّ الذي ترتديه على الإطلاق؛ يبدو لي أنه سينهار لولا ما تسميه النساء بالمِشَدِّ، أليس كذلك؟»
انقضَّ الوزير على طرَف الزي الرَّث بينما كان صاحبه يولي ظهرَه في خزي. كان «المِشَد» عبارة عن مِعطف طويل مميَّز ارتداه صاحبه على نحوٍ معكوس؛ علاوة على ذلك، بدا المِعطف مألوفًا لتوبام فينسون؛ وفجأةً تذكَّر أين رآه من قبل، فانتصب في وِقفته وتجمَّد في مكانه.
لم يستدِر السارق لمواجهة الوزير. لكنه وضع الشَّعر المستعار واللحية بجواره على رفِّ المستوقد؛ ودفن رأسه العاري بين يديه؛ وتلألأ ضوء المصباح الكهربائي على الرقعة المستديرة من الشَّعر الفضي فوق أذنه الشديدة الحمرة.
هتف توبام فينسون بانفعال: «الطبيب دولار!» وكشفت نبرةُ صوته عن مفاجأته فازداد غضبًا فوق غضبه.
أجاب: «بلى! كنت أنا السارق … وقد فعلتُ ما فعلتُ كي أصل إليك … وأنتَ تعلم ذلك!»
كان صوت الطبيب المواجه للجدار صوتَ تمتمةٍ أجشَّ، ويشي بحرجٍ بالغ؛ ما أثَّر في نفس الوزير الذي كان يشعر بالإهانة مما حدث.
«هذه هي نقطة ضعفك إذن!» كان التعليق العادي الذي قاله الوزير قاسيًا أكثرَ من أي استهزاء. وتابع: «النشل والسرقة، ولا تزال يدك تحتفظ بمهارتها!»
ردَّ الطبيب: «أجل. هذا ما نجمت عنه الإصابة في رأسي.» كان الحرج أقلَّ في صوته الأجش، بفضل برود الرجل الآخر. واصل: «بدأ الأمر في المستشفى الميداني، وقوبل بالضحك والتشجيع، وتصرَّف الممرضون بالمثل في مستشفى نيتلي! تعامل الجميع مع الأمر على أنه مزحة؛ وكان الطبيب يسأل عن ساعته أو منديله بعد كل زيارة؛ وكان النجاح الساحق عندما يظنُّ الطبيب أنني سرقت شيئًا ويتبين أنه كان في الواقع شيئًا آخرَ، أو أنني سرقت كليهما، أو أنني سرقت المفاتيح من جيبِ سرواله! وجد قاطنو العنبر الأمرَ مسلِّيًا وذاع صيتي، فيما امتلأ رأسي بالأفكار الانتحارية؛ إذ كنتُ أعلم أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من السرقة لإنقاذ حياتي، وبقية القصة أنتَ تعرفها.»
هتف الوزير: «هذا صحيح!»
أضاف الطبيب: «أمرت بصناعة هذا الزي القبيح خصوصًا حتى أتمكَّن من الركض خلفك مباشرةً حاملًا ما سرقته منك قبل دقيقة! كانت هذه هي محاولتي الأخيرة كي أجذبَ انتباهك وأثيرَ اهتمامك. والآن …»
قال توبام فينسون وهو يضع يدَه الحانية على كتفَي الطبيب المتهدِّلتين دون أن يشيح بصره عن رأسه المُطرِق: «والآن … والآن أظن أنك تحسُب أنك وأدْتَ مساعدتي في مهدِها، أليس كذلك؟ بل وأدْتَ أيَّ شكوك كانت لديَّ بشأنك، يا طبيبي العزيز! لقد أطلقتَ مشروعًا في صميم اهتماماتي وقُدتني إليه بطريقةٍ لم أعهدها من قبل. حسنًا، لا يمكنك تنحيتي الآن؛ ولديَّ من الغرور ما يكفي لأن أعتقد أنني جديرٌ بهذه الثقة. ما رأيك في أن تديرَ ظهرك أيها الطبيب دولار ونتصافح؟»