حالة مستعصية على الشفاء
١
كان على هيئةِ ألفريد كروتشر سَمت المجرمين، في توافقٍ مع حقيقته. كانت عيناه تفيضان بمكرٍ سوقي، وشفتاه خشنتين قاسيتين؛ ولم يكن يمكن لأي ملابسَ فاخرة أن تخفِّف من فظاظة ملامحه أو الإيحاء ولو للحظة بأنه رجلٌ نبيل أو مُنعَّم مهذَّب. ولكن في كثيرٍ من الأحيان، كان مظهره المهلهَل يوحي بإجرامه، بخلاف صباح يوم خروجه منتصرًا من السِّجن، فقد تضاءل رأسه المستدق تحت قبعة مُستعارة، واختفى قوامه المخيف في معطف من ماركة باربوري، أضفى عليه لمسةً رصينة لا تتناسب مع ذوقه.
ولم يكن هذا هو التغيير الوحيد الذي طرأ على السيد كروتشر خلال هذه الأزمة السارة في مساره المهني. التمعت عيناه الجاحظتان في عجب، ما أخمد بريقَ انتصاره نسبيًّا؛ وانصبَّتا بافتنان غير مقصود على الرجل الطويل، صاحبِ القبَّعة المستعارة، الذي لم يكن قد رآه قبل الساعة، لكنه هرول في أعقابه، تاركًا جوف السِّجن، ومتجهًا إلى السيارة المتلألئة تحت أشعة الشمس، فيما وراء مبنى السجن.
هتف كروتشر، في ردة فعلٍ متأخرة، فيما امتنع عن القفز داخل السيارة كما طُلب منه: «مهلًا! لم أسمع اسمك جيدًا بالداخل، فضلًا عن أنني لا أفهم علاقتك بي وبشئوني الخاصة. إن أتيت بطلب من محاميَّ، فأرغب في معرفة السبب؛ وإن كنت في مهمةٍ دينية، فخُذ أشياءك، ودعني وشأني.»
قال السائق: «اسمي دولار. لم أحضُر في مهمة قانونية ولا دينية، ولا حتى طبية، مع أنني طبيب. بل جئت بناءً على طلب صديق لك، وقدِمتُ في سيارته، لأرى ما يمكنني أن أفعلَه لأعوضك عن كلِّ ما مررت به.»
صاح كروتشر بعدم تصديق مثيرٍ للانتباه: «صديق لي!»
ابتسم الطبيب ابتسامةً جافة، وهو يقول: «هو أحدُ الأصدقاء المجهولين الكثيرين الذين فُزت بصداقتهم في الآونة الأخيرة يا سيد كروتشر. كما أنني أرغب في أن أتخذك صديقًا لي ولو في جولة صغيرة ووجبة إفطار في منزلي. هناك الكثيرون ممن يتعاطفون معك، بدرجةٍ لن يدركها خيالك، بل إن البعض على استعدادٍ لأن يُظهِروا لك تعاطفَهم بالطريقة التي تروق لك. لكن لن أقفَ هنا إلا إذا كنت تريد مظاهرةً جماهيرية أولًا.»
قرَّر السيد كروتشر تجاهُل الشكوك التي تثيرها مظاهرُ العطف في نفسه، واتخذ مقعده في السيارة دون أن يتفوَّه بكلمة أو يلقي نظرةً على حَفنة المارة الفضوليين الذين بدءوا يحتشدون على الرصيف. وسرعان ما اندهش من حماقته التي دفعته إلى التردُّد بدايةً. خرجت السيارة بسرعة من ظل السِّجن إلى الشمس الربيعية المشرقة، وانسابت فوق نهر التايمز المتلألئ، وشقَّت طريقها عبْر الازدحام المروري للساعات الأولى من النهار، دون عقبات أو صعوبات. أمسك الرجل النبيل لسانه، وترك نفسَه لنظرات الراكب الفاحصة الجانبية، كما يليق برجل نبيل. لكن معاينة كروتشر للطبيب لم تفصح عن الكثير عندما بلغا شارع ويلبك، باستثناء أنه بدا ذكيًّا جدًّا على أن يكون شخصًا غريب الأطوار وغليظًا مقارنةً بتصوُّره عن معشر فاعلي الخير.
أزالت وجبة الإفطار أيَّ شكوك كانت باقيةً لدى السيد كروتشر، ولو كان محنكًا بما يكفي لولَّدت فيه الشكوك بدلًا من إزالتها. كان الفطار إنجليزيًّا يليق بحاكم أجنبي؛ إذ اشتمل على سمك موسى، وكُلى، وبيض ولحم خنزير، وخبز ساخن، وقهوة فاخرة أنست السيد كروتشر اشتهاءه للمشروبات الكحولية. استغرب الرجل تقديمَ مثل هذه الوجبة السخية على طاولة قديمة سوداء عارية من أي غطاء، فضلًا عن المقاعد الجلدية ذات المسامير الضخمة التي تليق بمتحفٍ لا بمنزل رجل نبيل. لكن السيجار، الذي قدَّمه الطبيب لاحقًا دون أن ينضم إليه في تدخينه، ارتقى لأعلى معايير الزائر مقارنةً بما سبق فأثنى عليه أيما ثناء.
قال الطبيب بابتسامةٍ أكثرَ دفئًا: «يمكنك تدخين الصندوق بأكمله إن أردت المُكث معي.»
هتف كروتشر بعد أن عادت إليه شكوكه: «أمكثُ معك! ولمَ أفعل ذلك؟»
أجاب الطبيب: «لأن هناك أماكن أسوأ، يا كروتشر، وقد تركك أحدها محطَّمًا قليلًا.»
هتف كروتشر بأنينٍ غاضب: «قليلًا! لقد أساءوا معاملتي، أيها الطبيب، إن أردتَ أن تعرف. لقد أمضيت شهرين من الأشغال الشاقة دون أن يصدُر في حقي حكم، وشهرًا آخرَ في زنزانة الإعدام من أجل جريمة لم أقترفْها! تلك هي المعاملة التي تلقيتها منهم، وهي معاملةٌ قاسية لا تليق بكلب مسعور. وما الذي فعلته؟ سرقتُ الأشياء التي وجدتها أمامي، من شدة الجوع، وواجهة محل المجوهرات كانت مكسورة بالفعل بعد أن هشَّمها شخصٌ ممن لم يمروا من قبلُ بما مررت به من إغراءاتٍ وتجارب. لا أقول إن ما فعلته كان صائبًا، فلا تسِئ فهْمي؛ لكن هذا كلُّ ما فعلته، وليس تلك التُّهم التي ألقَوها عليَّ جزافًا ولم يستطيعوا إثباتها. لقد عجزوا عن إثباتها، لأنني لم أرتكبها في الأصل؛ لم يستطيعوا شنقي، لأنهم لم يتجرءوا على ذلك؛ لكنهم مع ذلك جعلوني أعاني. لقد أهدروا عشر سنين من عمري؛ لقد عرَّضوني لمحنة لن أنساها حتى مماتي. ولم يكفِهم ذلك، فاحتجزوني مدة شهرين عصيبين آخرين، بلا قاضٍ ولا هيئة محلَّفين، وأطلقوا سراحي بعدما صرتُ، على حدِّ وصفك، «محطَّمًا قليلًا»، أما أنا فأعرف أنني صرت ميتًا وإن كنتُ حيًّا أتنفس.»
مسح كروتشر المحطَّم جبينه الرطب بسبب آلام البلع وعينيه اللتين لم تدمعا إطلاقًا، قبل أن يستخدم قداحة لإشعال سيجار «أوبمان» الذي كان قد أهمله.
علَّق الطبيب بنبرة خالية من التأثُّر: «ما تقوله هو عادل تمامًا، لكن من العدل أيضًا أن تتذكَّر أن آخرين كانوا يدافعون عنك منذ فترة، ونتيجةً لذلك أُطلِقَ سراحُك هذا الصباح. أعترف أنني خشيت أن تطول مدةُ بقائك في السِّجن؛ لكنني على ما يبدو لم أكن مستوعبًا تفاصيلَ جنايتك الحقيقية. أما فيما يخصُّ معاناتك الجسدية والعقلية، فيمكنني أن ألاحظ بعضَ آثارها، وعلى الأقل هذه يمكنني علاجها. وهذا ما دفعني إلى اللقاء بك، وربما وجب التنويهُ في الحال، أنها لم تكن فكرتي. لقد كانت فكرة ذلك الصديق المجهول الذي حدَّثتك عنه؛ لكني على استعداد لتنفيذها. إنني أدير ما يشبه دارَ رعاية في منزلي، وهناك فراش جاهز لك إن كنت ترغب في شَغْله.»
قال كروتشر، متخيلًا الشاش والأربطة في وَجَل: «دار رعاية! ما بي من خَطْب لا يستدعي الذهاب إلى دار رعاية.»
قال الطبيب، وهو ينظر إلى الصحون الفارغة: «الراحة علاج لكل الأمراض — الراحة والحِمية الغذائية — هذا ما أعتقده.»
سأل كروتشر، فيما يفكِّر في الكُلى على وجه التحديد: «ولكن ألن يكلفني ذلك الكثير؟» وأوضح بمرارة شديدة: «فأنا مفلس كما ترى.»
قال الطبيب بعبوس: «صديقنا يُصِرُّ على التكفُّل بنفقاتك.»
سأل كروتشر: «ومن هو صديقنا الرائع، أيها الطبيب، ومتى سيحضُر، أو ستحضُر، إلى المنزل؟»
ضحك الطبيب فيما دفع مقعدَه إلى الوراء. «هذا هو الشيء الوحيد الذي ليس مأذونًا لك بالسؤال عنه؛ لكن اصحبني إلى الأعلى وتفقَّد الغرفةَ قبل أن تتخذ قرارك وترفض عرْضي.»
قبعت الغرفةُ في أعلى المنزل، من الناحية الخلفية، وهي أقلُّ فخامة من الغرف التي كان وزير الداخلية قد تفقَّدها سابقًا، لكنها كانت مؤثَّثة بالدرجة نفسِها، وأكثرَ جاذبية في ضوء الصباح، وبها نار تطقطق في المدفأة. بجوار المدفأة قبع مقعدٌ أبيضُ من الخوص، وطاولة زجاجية زاخرة بآخرِ الإصدارات الأدبية وأبسطها، الشهرية والأسبوعية؛ وكانت منافض سجائر وعُلب ثقاب موضوعة في مكان بارز؛ وبها سرير طُويت أغطيته البيضاء النظيفة استعدادًا لعناق الضيف الجديد، وكانت منامة زاهية ورداء حمام معلَّقين في خطافات نحاسية لامعة.
فسَّر الطبيب: «المرحاض في الغرفة المجاورة. يمكنك أن تستأثر به تقريبًا لنفسك، لكن غرفتك هي قلعتك الخاصة.»
وأشار الطبيب إلى مزلاج جيد على باب الغرفة.
سأل كروتشر بارتياب: «ألن تحبسني من الناحية الأخرى؟»
أجاب الطبيب: «بالطبع لن أفعل؛ يمكنك الاحتفاظُ بالمفتاح؛ لكن أنتظر منك أن تلزمَ غرفتك وبطبيعة الحال، ألا تغادر المنزل. لستَ سجينًا بشكلٍ من الأشكال؛ لكن إذا خرجت من المنزل، يا كروتشر، يؤسفني القول إنه لن يمكنك العودة إليه. لن يفلح العلاج الذي أقدِّمه إلا بهذه الطريقة؛ فما تحتاجه أولًا هو الراحة التامة وعدم التعامل مع العالم الخارجي كما لو كنت في زنزانة انفرادية.»
سأل كروتشر فيما ينظر بعينيه الجاحظتين إلى الطعام: «وماذا عن الطعام الصحي المفيد؟»
ردَّ الطبيب: «ستحصل على الكثير من الوجبات المُشبِعة. قد لا تكون مشبِعة مثل وجبة الإفطار هذه لأنك لن تمارس أيَّ تمارين رياضية. لكنها ستكون مشبِعة على أي حال.»
سأل: «هل سيكون هناك ولو القليل من المشروبات الكحولية، أيها الطبيب؟»
أجاب: «مع الوجبات، وباعتدال، بالتأكيد؛ لكن لا تطلب مني الشرابَ المهدئ قبل النوم ولا تحاول تهريب المشروبات الكحولية إلى المنزل.»
هتف كروتشر بإصرارٍ متعفف: «لا يمكن أن أُقدِم على مثل هذا التصرف! أنا طوع أمرك، أيها الطبيب، وعلى استعداد لتسليم نفسي متى تشاء.»
وحلَّ أزرار صُدرته البالية في لمح البصر.
قال الطبيب: «مهلًا، إن كنت حقًّا ستأتي إلى منزلي، وتمكث هنا، فسأتصل بالخيَّاط الخاص بي، الذي لن يستغرق إلا القليل من الوقت ليحضُر.»
هتف كروتشر: «خيَّاطك! ما جدوى حضوره؟»
أجاب دولار بصراحة تلقائية: «هذا سؤال جيد! هذا الصديق الوفي، الذي كان أول من أصرَّ على براءتك والذي تَدين له بما لا يخطُر على بالك، يتحرق شوقًا لأن يمنحك بدايةً جديدة في الحياة وملابس جديدة لهذه الحياة.»
أعلن ألفريد كروتشر دون تحفُّظ لأول مرة: «حسنًا! أرى ذلك أمرًا رائعًا. لن أحاول سؤالك عن هذا الشخص مرة أخرى، لكن سأعيش على أملِ أن أعرفه يومًا ما، وأشكره على ما أسداه إليَّ من معروف، كما يليق برجلٍ.» وأضاف: «لا يفعل جميع الناس هذا، ولكنه ما يجب أن يفعله الأغنياء، أن يمدوا يدَ العون لشخص فقير مثلي عُومل معاملةً سيئة بلا ذنب. لكن لا ينظر الجميع إلى الأمر على هذا النحو، وهذا ما يجعل المرءَ ينظر نظرةً أفضلَ إلى العالم عندما يقابل أولئك الذين يفعلون ذلك.»
قال الطبيب بنبرةٍ لم يفهمها مريضه الثرثار على الإطلاق: «أتفق معك.».
وذهب المريض الفاضل إلى أبعدَ من ذلك بأن قال: «أشعر بالامتنان لهذا الصديق، ولك أيضًا، سيدي، إن جاز لي القول.»
انتهز الطبيب الفرصةَ لكي يتكلَّم بصراحة بدوره.
وقال: «أؤكد لك، يا كروتشر، أنه لا داعيَ لذلك. أقول لك بوضوح شديد إن جميع الخدمات التي أقدِّمها لك تعود إلى اتفاقٍ تجاري مسبق مع ذلك الصديق الذي يهتم بمسيرتك المهنية بشكلٍ استثنائي.»
قال هذا الكلام، ولا سيما الجمل الاعتراضية، بنبرة امتعاض، مما استدعى نبراتٍ وجملًا أخرى إلى ذاكرة السيد كروتشر القوية. في غمضة عين كانت هذه الجُمل قد تجمَّعت مع نظيرتها في عقله المتشكك، وظهرت دلائلُ ذلك على وجهِه بوضوح شديد، حتى إن دولار شعر بالارتياح عندما وجد نفسه، لا أحد غيره، محلَّ الريبة.
قال كروتشر بغضب مكشِّرًا عن أنيابه: «تتحدَّث كأن ما حدث عكس رغبتك. هل كنت تظن طوال هذا الوقت أني من فعلها؟»
ردَّ الطبيب: «لا أفهم ما تقصده يا كروتشر.»
غمغم كروتشر بصوتٍ مبحوح من فرط انفعاله: «أقصد الجريمةَ الكبرى — أول جريمة — التي كدتُ أُشنَق بسببها!»
قال الطبيب بنبرةٍ غيرِ متوقَّعة: «لا؛ لا أظن ذلك مطلقًا»؛ ثم تنهَّد وكأنه يأسف على أن مريضه قد أساء فهْم نواياه تجاهه.
كان هذا على الأقل التفسيرَ الذي توصَّل إليه المريض لتصرفات الطبيب غير المُرضية في مجموعها؛ ولو أن بعض الشكوك كانت لا تزال تراوده فإنها كانت عديمة الأهمية مقارنةً بما يوفِّره منزل الطبيب من وسائل الراحة. كان الفراش والغرفة أفخمَ ما استخدمه ألفريد كروتشر في حياته؛ وكانا بعد ما لقيه في السِّجن مثل دخول الفردوس بعد معاناة عذاب شديد في جحيم دانتي. مدَّد كروتشر أطرافه الضخمة على الفراش في سكينة لا يعكِّرها شيء، وغطَّ في النوم وهو يحلُم بالأطقم اللامعة الفاخرة التي أخذ الخيَّاط قياساتها، ولم يستيقظ إلى أن حلَّ المساء.
عندما استيقظ كروتشر من نومه أخيرًا، أعدَّ الخَدم وجبةً خفيفة مُشبعة، وكان هذا أقلَّ ما يمكنهم فِعله لتعويضه عن عدم إيقاظه لوجبة الغداء؛ لكن تذمُّره الواضح في هذا الصدد قد نُسي وسط شهيته النهمة لوجبة العشاء والانتقاء الماهر اللامتناهي للأطعمة الفاخرة. كانت شرائح اللحم والبصل أقوى فصل في دراما رومانسية مثيرة لمست شِغاف قلبِ هذه الشخصية القاسية. ولو أن لائحة الطعام كانت قد قُدمت لألفريد كروتشر، كان سيختار شرائحَ اللحم والبصل، متبوعةً بطبق ريربيت الويلزي؛ وهذا ما حدث بالفعل، كما لو كان سحرًا. لا يمكن قولُ الكثير عن الشراب؛ كان المريض سيسعد بمقدارٍ كبير قوي المذاق من البيرة. لكن ما ناله كان كميةً قليلة من شراب جيد، حسب تقدير السيد كروتشر؛ وقرَّر ألا يشتكيَ من جودة الشراب أو كميته حتى لا يترك انطباعًا سلبيًّا.
أدار المريض عينيه في مَحجِريهما، عندما راقبه الطبيب مرةً أخرى، وغمغم قائلًا: «لقد عاملتني معاملةً ممتازة. معاملة ممتازة، بلا أدنى شك. لم أتذوق شرائحَ لحم فاخرة مثل هذه من قبل. كما كان النبيذ ذا نكهة قوية. لم أكن يومًا شرِّيبَ خمر، لكن هناك أوقات تبدو فيها مفيدة.»
ردَّ دولار بجِدِّية: «ستتناول الخمر بصفةٍ مستمرة، لأغراض علاجية. لكن لا تتوقَّع الحصول على النوعية نفسِها التي حصلت عليها اليوم. ستتناول ثلاث وجبات في المستقبل، لكنها ستكون وجبات أخف. اليوم الأول كان مختلفًا، وحاولت أن أضع نفسي مكانك، وفي الحقيقة أشعر بالسعادة لأنه يبدو أني أفلحت في ذلك في المجمل. لكن تذكَّر أنك هنا لتبقى بعيدًا عن الأنظار، ولن يتحقق هذا بتناول كميات كبيرة من الطعام. هذا يكفي اليوم، يا كروتشر! تفضَّل الأزهار التي أرسلها لك صديقك السري، والسيجار الذي وعدتك بالحصول عليه هذا الصباح. يمكنك أن تحكم على الواهب من هِباته.»
لعلَّه كان من الجيد أن ألفريد كروتشر لم يحاول التريُّث في فهمِ هذه المقولة؛ لأن هذه الزهور النادرة كانت بلا قيمةٍ له مثل حبات ماس معلَّقة في عنق أحدِ أقرانه من الخنازير، أما صندوقُ سيجار «أوبمان» فكان ذا قيمة كبيرة له بنفس القدْر الذي يمثِّله حوضُ فضلات لخنزير. أشعل سيجارًا على الفور؛ ولم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى غطَّ ذلك النائم القانع في نوم عميق مرةً أخرى، بعدما أوصد باب غرفته وأغلق مزلاجه تماشيًا مع مبادئه الشخصية، فيما أخذت النار المتوهجة تخبو تدريجيًّا في المدفأة.
٢
ربما يكون سقوط قطعة فحم هو ما أيقظه من نومه. كان هذا أولَ ما خطرَ ببال كروتشر البريء. لكن ذلك الصوت لا يصدُر إلا عن وابلٍ من الفحم — وابل خفيف لكنه متواصل — ينهمر بجلجلة معدنية حادة غريبة. والأكثر من ذلك أن الصوت لم يكن ينبعث من المدفأة بأيِّ حال من الأحوال، بل على ما يبدو من النافذة في الطرَف المقابل من الغرفة.
أرهف كروتشر السمعَ راقدًا في فراشه حتى لم يعُد من الممكن خداع حواسه المتحفزة. ثمَّة شخصٌ ما قريب من نافذة غرفته، وتذكَّر كروتشر، بقلق واضطراب، أن نافذته هي النافذة العلوية الوحيدة التي يمكن اختراقها عبْر السطح الرصاصي؛ لذا فإنها كانت تحتاج لتأمينها إلى قضبانٍ حديدية بطبيعة الحال إلا أنها لم تكن مؤمَّنة. كان هو نفسه قد فكَّر في أمرِ النافذة غير المؤمَّنة والسقف المؤدي إليها، في اللحظات الأخيرة ليقظته، واعتبره حلًّا غير مستبعَد لمشكلة الويسكي.
لكن الوضع الحالي هذه المرة كان مختلفًا؛ بل كان مريعًا؛ ويستدعي تنبيهَ أهل المنزل بلا تردُّد أو تأخير. كان لا بد أن تكون هذه اللحظة عظيمةً لشخص مثله ذي خبرة في السرقة، كان قد أمضى سابقًا سبعة أعوام في السِّجن بسبب عملية سرقة طامحة؛ لكنَّه ضَعف الشخصية الذي كان قد أسفر عن فشل تلك العملية، عندما حاصره صاحب البيت المسن بمسدسٍ غير محشوٍّ، جعل السيد كروتشر عاجزًا عن تقدير الوضع الحالي كما يجب. كان كروتشر في غاية الاضطراب حتى إن ذلك منعه من أن يتذكَّر حادثة السرقة السابقة، أو يشعر للحظة وكأنه مثل سائقٍ يركبُ حافلةً في عطلته المثالية أو ممثلٍ موجود في الحيِّز المخصَّص للجمهور وليس على خشبة المسرح. شَعر كروتشر بغضب مرير لتعرُّضه لهذا الترويع في الليل مع أنه كان مريضًا في دار رعاية؛ وتحلَّى بقليل من الشجاعة (ولمحة من فضيلة بدائية) عندما فُتح مزلاج النافذة بنفس قدْر الضوضاء الذي كان هو نفسه سيصدره. وقبل أن يحدث أيُّ شيء آخر، كان السيد كروتشر قد عاد ليرتمي على وسادته وأخذ يغط بصوتٍ عالٍ.
ثم رُفع إطار النافذة ببطء شديد، وعبَر شخصٌ النافذة، ثم تحسَّس الأرضية بحذرٍ شديد، وفي تلك اللحظات، التي بدت لألفريد كروتشر وكأنها دهرٌ كامل، عانى الأخير معاناةً تفوق بكثيرٍ ما لقيه في زنزانة الإعدام عندما اقترب موعد تنفيذ حكم الإعدام. انحنى الوحش المجهول فوقه، ولامست أنفاسُه الحارة وجهَه، غير أنه لم يلمس جسدَه المتجمِّد خوفًا.
قال صوتٌ مبارك، فيما تسلل شعاع ضئيل من الضوء إلى جَفنيه المطبقين: «ألفي! هذا أنا يا ألفي!»
ومرةً أخرى تظاهر ألفريد كروتشر بأنه استيقظ للتو، مستعيدًا رباطةَ جأشه. وقال بصوت مبحوح ممزوج ببكاء جنائزي: «شودي! هل أنا نائم وأحلُم مثل طفل رضيع؟! عجبًا، ماذا تفعل هنا، بحق الجحيم، يا شود؟»
قال شودي: «أتيت لرؤيتك أيها العجوز. بالأحرى أردت أن أسألك ما الذي تفعله في منزلٍ مثل كهذا؟»
همس المريض المتحمِّس: «أستمتع بحياتي. أعيش في رفاهية، دون أن أبذل أيَّ مجهود، على نفقة عجوز لعين!»
وقصَّ على مسامع الرجل، الذي كان لا يزال على مقربةٍ شديدة منه، الأمورَ التي لا تُصَدَّق التي حدثت في يومه الأول في الحرية، بدايةً من تعرُّفه على الطبيب دولار، في ضواحي السِّجن الذي كان سيكون مقرَّ إعدامه وقبره القبيح.
قال شودي: «أعرف. لقد رأيتك تخرج من السِّجن في صحبته وتستقل سيارته مثل سيدٍ مهيب. كنت أنتظرك بسيارة أجرة …»
سأل: «أكنت هناك للقائي يا شود؟»
أجاب: «هذا صحيح. بهذه الطريقة اقتفيت أثرَك إلى هذا المنزل. استغرقتُ بعضَ الوقت للعثور على غرفتك؛ لكن لديَّ صديقٌ قديم يعمل في المرأب. قادني هذا الصديق إلى الجزء الخلفي من المنزل ولم أصدِّق عينَيَّ عندما رأيتك من النافذة!»
قال: «لا بد أن هذا حدَث في أوَّل اليوم، أليس كذلك؟ لقد قضيت أغلبَ اليوم في الفراش. يا له من فراش وثيرٍ يا شودي! سأنام عليه حتى يصير رأسي مثل البطاطا المهروسة قبل أن أفكِّر في مغادرته.»
قال شودي بحزم: «لن تفعل. ستأتي معي يا ألفي. لهذا السبب جئتُ إلى هنا.»
ردَّ ألفي بحزمٍ مماثل: «لن أذهب. أعرف متى أكون في وضعٍ مُواتٍ، وأنا كذلك الآن.»
أومأ شودي بتظاهُر بارع بالشفقة: «أتفق معك تمامًا!» كان قد أبقى مصباحه الكهربائي مضاءً طوال الوقت؛ فاتضح في ضوئه المعاناةُ التي لقيها صديقه وانعكست على عينيه الجاحظتين ووجنتيه الغائرتين وشفتيه المرتخيتين ونظرته المتوترة. أضاف: «لا بد أن هذه التجربة أخذت منك ما أخذت يا ألفي!»
تذكَّر كروتشر بانقباض: «وكل هذا من أجل فَعلةٍ لم أقترفها.»
وافقه الأخير بحماسة فاترة: «هذا صحيح. ولكن لهذا بالضبط أتيتُ إلى هنا، يا ألفي. لم تحسَب أنني اضطلعت بمهمةٍ كهذه لمجرد أن أمسك بيدك، أليس كذلك؟ فعلت ذلك، فقط لأنه بدا لي أنك لم تقترف تلك الجريمة، فتعيَّن عليَّ أن أراك بأيِّ وسيلة ممكنة قبل أن ينقضيَ اليوم.»
سأل ألفي بتورية: «ولمَ العجلة يا صديقي؟» لكن صديقه، البارع في سردِ القصص، مثل غيره من رُواة الأحداث الحقيقية، ما كان ليخبره عن التفاصيل الأساسية، حتى يبديَ جمهوره اهتمامًا شديدًا ويطلب المعلومات بشغف.
جلس كروتشر في فراشه، فيما أخذ شودي الساخط يتفقَّد الغرفةَ على أطراف أصابعه، وخلال ذلك رأى، في ضوء مصباحه الكهربائي، البابَ المُوصد بإحكام والصندوقَ المغري الذي يحوي سيجار «أوبمان». دون استئذان أخذ سيجارًا، وقبل أن يواصل جِلسته على الفراش، كان قد دَخَّن سيجارين.
كرَّر شودي السؤال، وكأنما مرَّت ثوانٍ وليس دقائق على هذا السؤال المُبهم: «لمَ العجلة؟». أجاب: «لا يوجد ما يدعو للعجلة حسب علمي — ليس الليلة على الأقل — لكن قد يوجد قريبًا؛ لذا أردت أن أخرجك من هذا المكان. إذا لم تكن قد ارتكبت هذه الجريمة، يا ألفي، ألا ترى أنه لا بد أن شخصًا آخرَ قد فعل؟»
قال كروتشر، همسًا: «أكمِل حديثك!»
قال: «حسنًا، إذا لم تكن أنت من قتل ذلك الشرطي في أثناء تلك الاضطرابات — وكلانا يعلم أنكَ لم تفعل — فهذا يعني أن شخصًا آخرَ قتله!»
سأل كروتشر: «أتقصد أنك تعرف من فعلها؟»
كان قد ساد صمتٌ قصير مفعَم بالتوتر؛ وكانت ثمَّة لحظةُ توتُّر أخرى انشغل شودي خلالها بنقل المصباح من يده اليسرى إلى يده اليمنى، وأخذ نفَسًا من سيجاره، ثم أطلق سحابةً من الدخان فوق رأس رفيقه المضطجع في فراشه.
أجاب: «أعرف ما يقوله الجميع، يا ألفي.»
ردَّ كروتشر: «لقد تردَّدت أقاويلُ كثيرة حول هذه المسألة من قبل. ماذا يقولون؟»
قال شودي: «إحدى السيدات المطالِبات بحق المرأة في التصويت …»
قاطعه كروتشر: «قتلت الشرطي؟»
أجاب: «بالضبط، يا صديقي.»
هتف كروتشر: «لم يخطر هذا ببالي قط!»
قال شودي: «أليس هذا احتمالًا يستحق بعضَ التفكير فيه؟ عجبًا، أنتَ ترتجف بشدة مثل ورقة شجرة ملعونة!»
قال كروتشر: «لا غرابة في ذلك! كنتَ ستفعل مثلَ هذا لو أنك كنت قد مررت بما مررت به … يا شود!»
ردَّ شود: «ماذا تقصد يا ألفي؟»
قال كروتشر: «أدركتُ الآن كيف حدثت الواقعة اللعينة برُمَّتها!»
عقَّب شودي: «توقعتُ أنك ستفعل.»
قال كروتشر: «الفاعل هي السيدة التي كسرت واجهةَ متجر المجوهرات من أجلي!»
قال شودي: «هذا ما يقولونه.»
سأل كروتشر: «هم؟ من تقصد؟»
ردَّ شودي: «الكثير من الأشخاص. تتردَّد هذه الأقاويل في الأرجاء؛ وقد ألمح بعض مروِّجي الإشاعات إلى هذه المسألة. واجه توبام ورطةً كبيرة على كل الأصعدة؛ يقولون إنه تكتَّم على الأمر لأنها من سيدات المجتمع الراقي.»
سأل: «ما اسمها يا شودي؟»
أجاب: «الليدي مويل … الليدي فيرا مويل، على ما أظن. وهناك شيء آخرُ نسيتُ أن أخبرك به.»
قال كروتشر: «أفرِغ ما في جَعبتك.»
قال شودي: «رأيتها آتيةً إلى هنا عصر اليوم، بينما كنت أراقب البابَ تحسبًا لخروجك.»
هتف كروتشر: «يا إلهي، يا شودي! دعني أجلس. لا يمكنني التنفُّس وأنا مضطجع.»
قال شودي فيما استحثَّ ذاكرته: «كانت تحمل باقةَ زهور. يبدو أن لها صديقًا في هذا المنزل.»
قال كروتشر بتجهُّم: «أنا ذلك الصديق. أمسك مصباحك وسَلِّط الضوءَ على المغسلة؛ لقد أحضر صاحبُ المنزلِ نفسُه هذه الزهور مع علبة السيجار هذه.»
تدفَّق ضوء المصباح على وعاء زهور جميلة، وتمتم شودي قائلًا: «ورود في شهر مارس! بالطبع، إنها زهور لرفيقي ألفي! عجبًا، لقد وقعت الفتاة في غرامك أيها الساذَج!»
قال ألفي وأسنانه تصطك من فرط الانفعال: «سأذيقها الويل! لا تنسَ أن حبل المشنقة أوشك أن يسحق عنقي بسبب هذه المحتالةِ الصغيرة!»
تحرَّك شودي ناحيةَ الفراش بمصباحه الساطع وسيجاره المتوهج وقال: «لن أنسى ذلك. وهذا ما أتى بي إلى هنا رغم ما في الأمر من خطورة.»
كرَّر كروتشر بنبرة مختلفة في كل مرة: «إنها الفاعلة المجهولة إذن!» وراح يزعج شودي بسؤاله المتكرر: «كانت هي الفاعلة، أليس كذلك؟» حتى أصرَّ الأخير أن ينتبه إليه جيدًا حتى لا يكرر كلامه مرة أخرى.
قال شودي: «ألم أخبرك مرارًا؟ لمَ آتي إلى هنا وأتحمَّلُ كلَّ هذه المخاطرة لأسمع تُرَّهاتك! ألا يمكنك أن تُنصِت من باب التغيير؟ توجد مهمةٌ كبيرة إن كنت تمتلك الشجاعة الكافية.»
لكنها كانت بسيطة، مثل معظمِ المهام الكبيرة؛ وعرَضها شودي بمهارة بالغة؛ وفي غضون بضع دقائق بدأ السيد كروتشر يتأمل مقترحه المبدئي والعملي إلى حدٍّ كبير.
اضطُر كروتشر إلى الاعتراف: «سأجني بعضَ المال من هذه المسألة، وإن لم يكن بالقدْر الكبير الذي توهِم نفسك بالاعتقاد في وجوده. لكني أعتقد أنها تريد إعطائي بدايةً جديدة في الحياة على أي حال.»
نبَّهه الآخر، قائلًا: «سيكون هذا المال بدايةً ونهاية يا ألفي! عِلاوة على ذلك، سيكون انتقامك؛ لا تنسَ ما عانيته.»
قال كروتشر بتلهُّف: «أنا على أتمِّ استعداد! ولكن … ألا تفهم الأمر؟ لقد عانيتُ الكثير، وهو ما يجعلني أريد أن أنعمَ بالراحة هنا لبعض الوقت. لم أعُد الرجلَ الذي كنتُ عليه. أحتاج إلى مهلةٍ لالتقاط الأنفاس. لا داعيَ للعجلة، أليس كذلك؟ فلن تهرب الفتاة.»
قال شودي: «هذا ما ستفعله الفتاة بالضبط، يا ألفي؛ أن تهرب إلى الخارج في أي وقت … وربما تتزوج في أي وقت شخصًا على شاكلتها. وربما تكتشف عندئذٍ أن السعي إلى الانتقام قد صار أكثرَ صعوبةً وتعقيدًا. لدينا فرصةٌ سانحة أخرى، وقد نفقدها في أي لحظة.»
كانت الفرصة الأخرى مغريةً على نحوٍ قوي غريب لشخصيةِ ألفريد كروتشر ومِزاجه، كما كانت مغريةً بالقدْر ذاته لدهائه، الذي كان سمتًا قيمًا من سماتِ شخصيته. لكنه لم ينعم بمثل هذه الراحة من قبل؛ لم تكن الراحة قدَره؛ كما لا يمكن بسهولة استبدالُ منجم ذهب، بكلِّ ما يحمله من مجازفات ووعود وردية معروفة، بالرفاهية الحالية الملموسة (وبداية جديدة في المستقبل القريب).
انتهت المناقشة بالوصول إلى حلٍّ وسط ومغادرة شودي المنزل خُفية مثلما دخل. لكنه لم يغادر قبل أن يشير، عبْر النافذة المفتوحة وشبكة المداخن الكبيرة، إلى زاويةٍ مضيئة مكشوفة في الطابق السفلي. في الأيام القادمة، سيُضبط المريض، في أوقات معينة، وهو يختلس النظر إلى هناك، أو حتى يأتي ببعض الإشارات الوقحة والماكرة.
كانت حكاية تلك الأيام التالية، لو عُولجت كما تستحق، ستشكِّل قِسمًا من القصة، ذا أهمية مزدوجة، لأنه كان سيتعمق في الجوانب النفسية وتعقيدات الأحداث والشخصيات المعنية، ولأسباب قد تتضح لاحقًا. لكن في اللحظة الحالية شغَل ألفريد كروتشر موقعَ الصدارة في القصة وليست أحاديث المناجاة مع النفس دارجة في السرد القصصي. ومع ذلك تضمَّنت تعاملاته الحياتية مع الآخرين نقاطًا مثيرة للاهتمام. لم يكن كروتشر ينام كثيرًا، لكنه كان يقرأ أكثرَ مما قرأ في حياته كلِّها؛ وكانت قراءاته — وإن لم تكن ذات دلالة على صلاحه — تشير، على الأقل، إلى الطريق الذي كان سيمضي فيه مجرى حياته لولا تدخُّل شودي المؤثِّر.
اختار المريض، القابع في الطابق العلوي من الجزء الخلفي للمنزل، من القائمة الصغيرة للكتب الموصَى بها التي خطَّها الطبيب بيده، كتابًا يحمل عنوان «مدَّة حياته الطبيعية». انخرط في قراءته بادي التأثر، بجبين مقطَّب يتعرَّق من حين لآخر. وعندما انتهى من قراءته، أُوصي بأن كتاب «لا يفوت أوان الإصلاح قَط» كتابٌ أفضلُ من نفس النوعية؛ وقال الطبيب له باستخفاف مدروس: «وذلك على الرغم من اسمه.» فهِم كروتشر المغزى من كلامه، وسرعان ما كان يلتقط أنفاسه بصعوبة، مثلما حدث سابقًا عندما تسلَّل شودي إلى غرفته، قبل أن يعرف هويته؛ وسُمع في عُزلته وهو يعبِّر عن إحباطه وغضبه من بعض الشخصيات، وقاده هذا إلى التساؤل عن الكيفية التي كان مبتكر شخصية توم روبنسون سيصور بها شخصيته لو أنه كان قد التقى به. وفيما كان يعيد الكتاب، أثارت هذه التأمُّلات نقاشاتٍ أطولَ مع الطبيب، وكانت السببَ في زيارات أطول من جانب الطبيب، الذي كلما وقعت عيناه على كروتشر وجد نفسه معجبًا به؛ إذ رأى لديه الدافع والإلهام لإثبات نفسه، كما لو كان صار أخيرًا مصممًا على الارتقاء بنفسه.
ثم ذات صباح، أقبل الطبيب يحمل مراجعةً نقديةً وقصيدةً طويلة مكتوبة حديثًا، فيها من الجراح والمداواة ما فيها؛ لكنها لم تحظَ بفرصةِ الإتيان بأيٍّ من الفعلين؛ لأن ألفريد كروتشر لم يكن في الغرفة العلوية الخلفية؛ إذ كان قد غادر المنزل مرتديًا حلَّة من حلله الجديدة ذات الألوان الأكثر بهرجةً.
٣
ترك قطارُ روما السريع باريسَ مزدانة بنُدف خضراء دلالةً على القدوم المبكر لفصل الربيع؛ واخترق هديره هدوء المساء الذي استحال إلى ليلة مُخملية يزيِّنها قمرٌ فضي متلألئ. لم يكن القطار الشهير يعجُّ بالركَّاب؛ فلا يستطيع الجميع دفْع أجرةٍ قدرها جنيهان وثمانية شلنات وسبعة بنسات من أجل سرير في قطار النوم قد لا يكلِّف، في سويسرا مثلًا، أكثرَ من بضعة وعشرين فرنكًا. بدا أن غالبية من دفعوا هذه الأجرة الباهظة حظوا مقابلها بقسطٍ وافر من الرفاهية؛ حتى السيدة التي كانت تسافر بمفردها في أول عربة نومٍ، وإن امتنعت عن تناول العشاء في عربة الطعام، راحت تكوِّن سلسلةً من المعارف بمزاج رائق كانت قد افتقدته في الأشهر الماضية. تلك كانت هي. لكنها كانت لا تزال أبعدَ ما تكون عن الليدي فيرا مويل المناضلة في العام الماضي.
كانت الليدي فيرا مسافرة في طريقها إلى أمِّها، التي كانت صحتها قد اعتلت بشكل كبير في عيد الميلاد المجيد، وكانت الآن تستكمل تعافيها في روما. كانت الليدي أرماه لا تعطي مَرضها قدرًا كبيرًا من الأهمية بعكس ابنتها المشاكسة التي كان قد قيل لها (من بقية أفراد عائلتها) إنها المسئولة الوحيدة عن مرضِ أمها؛ في الحقيقة ربما كان في هذا الابتلاء بعضُ الخير لليدي فيرا؛ إذ امتنعت عن تصرُّفاتها الطائشة؛ لذا وفي «القطار الفاخر» أدركت الحكمةَ الإلهية الرحيمة من هذه المسألة.
صار ألفريد كروتشر حرًّا طليقًا؛ كان ذلك هو النبأ السار. في بعض اللحظات كان هذا النبأ أمرًا أعظم من استرداد الليدي أرماه لعافيتها. لكن في وقت لاحق، تلقَّت الليدي فيرا خبرًا أعظم أبهجها وهي في القطار. لم يكن كروتشر المسكين حرًّا فحسب، بل إن الطبيب دولار العزيز أعرب عن أنه يحدوه بعضُ الأمل بشأنه أخيرًا! كان قد أخبرها بذلك في اليوم الذي غادرت فيه إلى باريس؛ ولم يكن قد قال شيئًا كهذا من قبل. كان التقييم الأولي لطبيب الجريمة عن أحدث مرضاه شديدَ التشاؤم؛ كما كان قد وفَّر له مأوًى في منزله معربًا بوضوح عن أنه ما فعل ذلك إلا تلبيةً لرغبتها. لم يكن ألفريد كروتشر «طرازه المفضَّل» وكانت نهايته وشيكةً لولا تدخُّل الليدي فيرا.
كانت تنتمي إلى الفئة التي لم يجِد الطبيب بأسًا في أن يصفها بأنها الأكثرُ نزوعًا إلى الإجرام من غيرها. أدركت ذلك جيدًا وولَّد ذلك لديها الكثيرَ من المشاعر المختلِطة فيما تابع القطار مضيَّه في طريقه. شعرت بأنها محورُ اهتمام الطبيب لأغراضٍ طبية نفسية بحتة؛ وأنها في ضآلةِ عينة تحت المجهر؛ وشعرت بأنها وحيدة على نحوٍ لم تشعر به في حياتها من قبل …
كان شعورها بالوحدة هو أبسطَ مشكلاتها. كانت تسافر لأول مرة من دون وصيفتها. كانت هذه المرأة الوفية (وهي مناضلة طامحة متعطشة للدماء على نحوٍ غير معهود في زمانها) قد رافقت سيدتها العزيزةَ يوم الأحد في باريس (من أجل لقاءات المنفيين بسبب القضية)؛ ولكن فيما كانتا تغادران الفندق، وصلت برقيةٌ تستدعيها لأن والدها كان على فراش الموت. كانت إستر ستترك والدَها يموت من دونها لكن سيدتها الغالية — الحديثة العهد بالبِّر — ودَّعتها بقبلةٍ على وجنتها لتمضيَ في مهمتها الكئيبة.
كانت التدفئة أكثرَ من اللازم في مقصورة القطار؛ وكان هذا معهودًا في القطارات إلا إذا اشتكى الراكب من ذلك في الوقت المناسب. عبَّرت الليدي فيرا عن استيائها بقوة لكن بعد فوات الأوان؛ لذا لم تظهر نتيجة شكواها حتى الساعات الأولى من الصباح وقبل بلوغ القطار محطةَ مُودان. وطوال فترة انتظارها هناك ظلَّت مستيقظة، على الرغم من أنها كانت قد عهدت بمفاتيحِ مقصورتها لمحصِّل التذاكر، فيما أحدثت أصوات أولئك الذين كانوا قد نسَوا هذا التدبير الوقائي تغييرًا مرغوبًا في «حبل أفكارها الطويل جدًّا». وأولت ما كان يقوله المسافرون الآخرون كاملَ انتباهها، وأبقته مركَّزًا عليهم بتصميم خالص.
حظيت الليدي فيرا بجيرة مهذبة؛ إذ كان رجل وزوجته مشهوران نوعًا ما في مقصورةٍ مجاورة لها، ورجل دين مسن في الأخرى. نسجت في مخيِّلتها قصةً حول رجل الدين الموقَّر وانخرطت في أفكارٍ وتخمينات حول حال الزوجين. كانت هذه الوسائل البريئة هي طريقتها لتسليةِ نفسها عندما تتجنَّب المشاغبة الفوضوية في سبيلِ أشياء لا يعلمها إلا الرب. فيما عدا ذلك كان مزاجها رائقًا وهادئًا لم يعكِّره شيء، إلا أمر بسيط قبل أن تُسَلِّم عينيها للكرى على تهويدة القطار السريع المتواصلة. كان ذلك الأمر مسألةً غيرَ مهمة على الإطلاق تتعلق بشابٍّ يرتدي حلَّةً مبهرجةً، وكان أحد رجلين إنجليزيين عاديين للغاية، ومع ذلك كان نزيلًا في الفندق نفسِه الذي نزلت فيه في باريس، وأدلى ﺑ «ملاحظة عابرة» لإستر في المصعد، وحملق في السيدةِ إستر بعجرفة واضحة ليس في باريس فحسب، بل كلما مرَّ بها في هذا القطار نفسِه، قبل وقت العشاء وبعده.
بدا لفيرا مويل أنها لم تحظَ بوقت كافٍ على الإطلاق بين تفكيرها العابر في هذا الشخص والضوء الساطع البغيض الذي أيقظها من نومها. في البداية أعشى الضوءُ بصرها لأنها كانت نائمةً في الفراش العلوي على بُعد بوصات من سطوعه المؤلم. وشعرت بالراحة عندما برزَ رأسٌ بين هذا الضوء وبين عينيها.
تغاضت الليدي فيرا بسرعة عن شعورها بالغضب. في البداية منعها شعورها بالنُّعاس من اتخاذ أي إجراء، كما أنها كانت مسافرة قديمة؛ لذا لم يكن يليق بها أن تثيرَ ضجة بسبب مجرد تصرُّف غبي لا أكثر. لم تستطِع رؤيةَ وجهِ الرجل، لكن رأسه كان أشبه بالرصاصة، بل إن الرصاصة تشعر بالإهانة عند مقارنتها به، وزاد من بشاعةِ منظر رأسه انبثاقُ ضوء مصباح كهربائي خلفه وسط الظلام الحالك. حسبت أن هذا الوجه لأحد المسئولين الحمقى، وأمرته بلغةٍ فرنسية وبحدةٍ بالغةٍ بمغادرة مقصورتها. لكن الرجل لم يتحرك قيدَ أنملة. وفي لمح البصر لاحظت فيرا مويل ثلاثةَ أشياء مريعة: أولها أن ذلك الرجل هو صاحب الحلة المبهرجة، وثانيها أنه كان قد أغلق باب المقصورة خلفه، وآخرها أنه كان يوجِّه مسدسًا آليًّا إلى صدرها.
عندما انفرجت شفتاها لتتكلم، تمتم قائلًا: «إن نطقتِ بكلمةٍ يمكن لأي أحد سماعها، فستكون آخرَ كلمة تنطقين بها في حياتكِ! ابقَي هادئةً ولن أعاملكِ بقسوة؛ ولا حتى بنصف القسوة التي عاملتِني بها!»
هتفت الفتاة بانفعال ناتج عن مشاعرَ كثيرة ليس من بينها الخوف: «ألستَ … أوه، ألست كروتشر؟»
قلَّدها كروتشر مستهزئًا: «أنا كروتشر. ولأنك أحسنتِ التصرُّف، سأضع المسدس جانبًا … أرأيتِ؟ … لا خداع!» ثم أسقط المسدس في جيبِ حلَّته الزاهية المُربعة التصميم المصنوعة من الصوف. وختم كلامه بزمجرةٍ تتناسب مع تهديده: «أظن يمكنني التعامل معكِ بلا مسدس … أجل! كما يمكنني العضُّ أيضًا!»
قالت الليدي فيرا بنظرة ثابتة ممزوجة بالأسى: «هلَّا تتفضل بمغادرة المقصورة؟»
قال كروتشر بشراسة مباغتة: «لا، لن أتفضل. بعد أن أقضيَ عليكِ! مثلما كدت تقضين عليَّ! إن سمعنا أحد، فسيُطعَن في شرفكِ؛ لكن يا إلهي لن يخطر ببالهم مقدارُ السوء الذي بداخلكِ!»
لم تستغلَّ الليدي فيرا توقُّفه المتعمَّد عن الكلام. كان المجرم يُعرب عن مقصده بدقة بالغة غير مألوفة من جاهل مثله؛ فبدا أنه ربما يكون قد تدرَّب على هذا الكلام كثيرًا قبل أن يلقيَه على مسامعها. لكن بالنسبة إلى الفتاة في الفراش العلوي كانت هذه معاملةً مُستحَقَّة. رأت أنها عقوبةٌ مخفَّفة على الفعلة الشنيعة التي اقترفتها — بصرف النظر عن أنها لم تكن في كامل وعيها، مدفوعةً بقضيةٍ عادلة أو بحالة جنون مفاجئ — وعُوقب بسببها عقوبةً شديدة باستثناء أنه لم يذهب إلى حبل المشنقة. كان له كلُّ الحق في أن يقول لها بعد ذلك ما يحلو له، وحتى أن يقوله في تلك اللحظة وتلك الظروف، بكل ما يملك من قسوة طبيعية ومكتسبة. ألم يكن لها باعٌ كبير فيما آل إليه من قسوة؟
أضاف كروتشر بنبرة ماكرة ذات مغزًى: «وهذا حتى أخبرهم.» اضطرت إلى استحضارِ ما قاله قبل هذا التوقُّف المؤقت؛ وعندما فعلت ذلك، طلبت منه مجددًا، بتصميم لا يلين، مغادرةَ المقصورة.
وعدته قائلة: «سأراك في الصباح. أنا ذاهبة إلى روما.»
ضحك الرجل بازدراء. وقال: «لستِ بحاجة لأن تخبريني إلى أين أنتِ ذاهبة! فأنا أعرف كل شيء عنكِ، وأعرفه منذ مدة. لقد كنتُ ألاحقكِ يا عزيزتي! خطؤك أننا لم نتواجه من قبل. أعرف أنه ليس بالمكان المناسب للمواجهة، لكنه أفضل من المكان الذي زججتِ بي إليه!»
أنشأت الليدي فيرا تقول: «لكنني عدتُ … وأخرجتك»، لكنْ ثمَّة شيءٌ ما جعلها تعدِل عن استكمال الجملة. واصلت كلامها بتواضع: «لقد كنت أبذُل غايةَ ما في وُسعي من أجلك. ظننت أنك ستأذن لي بأن أمنحك بدايةً جديدة في الحياة.»
هتف: «بداية جديدة! أريد ما هو أكثر من ذلك سيدتي!»
سألت: «حسنًا، ماذا تريد؟»
جال ببصره في أنحاء الأرفف المُثقلة بحقائب اليد الخاصة بها.
قال بسرعة: «حقيبة مجوهراتك. أين هي؟»
أجابت: «تلك الحقيبة، في الزاوية، عند قدمي.»
قد تكون استجابتها السريعة نابعةً من لهفتها للتخلص منه؛ لكن ألفريد كروتشر، بخبرته الكبيرة في الخداع، لم يكن لتنطليَ عليه حيلتُها بهذه السهولة.
قال: «إذن يمكنكِ الاحتفاظُ بها، مع حبي! سأزعجكِ بأن آخذَ الخواتم بدلًا من ذلك … وبقيةَ ما تخفينه من مجوهرات حول عنقكِ!»
شحَب وجهُ الفتاة في ضوء المصباح الكهربائي. كانت تجلس في استعداد مريب لتشيرَ إلى مكانِ حقيبة المجوهرات؛ بينما كانت يدها الأخرى، التي بها معظمُ خواتمها، قد اندفعت غريزيًّا إلى عنقها؛ إذ كانت تسافر بكنوزها الثمينة كما هي عادة السيدات، وحول عنقها التفَّت قلادة ماسية ودَلَّاية وعِقد من اللآلئ، تحسبًا للسرقة.
قالت: «لنفترض أني رفضت و…»
ألقت نظرةً سريعة على الجرس.
ردَّ كروتشر: «عندئذٍ سأفضي بما لديَّ من أسرار.»
أسندت ظهرها إلى الجدار وسألته: «وماذا لديك من أسرار؟»
أجاب: «ما رأيتُه تلك الليلة! سأحكي ما رأيته وكنت في غاية الحُمق ولم أستوعبه حتى خرجت من السِّجن وسمعت جميعَ الشائعات! هل يكفيكِ هذا؟ لو لم يكن كذلك، فستكفيكِ البقية؛ لكنها ستزجُّ بك في السِّجن مباشرةً، ولا أبالي بمن يؤازركِ. هناك قانون للأغنياء وآخر للفقراء. بهذا القانون كنتُ سأُقاد إلى حبلِ المشنقة من أجل جريمةٍ لم أقترفها، وتُسُتِّرَ عليكِ وأنتِ من اقترفتِ الجريمة! لكنني أومن بأنه لا بد من أن يلقى القاتل عقابَه ولو كانت سيدة تتمتَّع بدعم الملِك من فوق عرشه! هذا سيدمركِ، على الأقل؛ سيجلِب الهلاك لكِ ولأسرتكِ، وسيَفطُر قلوبكم!»
لم تشعر بالحاجة لسماع المزيد. جرَّدت عنقَها من القلادة والدلَّايَة وعِقد اللآلئ، وأصابعها من الخواتم؛ قبَعت الخواتم والقلادة واللآلئ والدَّلاية في راحة يده الضخمة في كومةٍ برَّاقة، وأمسك بهذه الأشياء للحظة في انتصار في ضوء المصباح الكهربائي، فانعكست في تلك اللحظة على مرآةٍ كان يخفيها جسدُه الضخم.
كانت هذه هي مرآة باب غرفة الملابس الصغيرة التي تقع بين كل مقصورتين في القطار الفاخر؛ لكنها في لحظةِ ابتهاجه بالنصر هذه كفَّت عن عكس صورةِ ألفريد كروتشر أو غنيمته المسروقة. كان الباب قد فُتِح؛ وبرَز منه رجل يرتدي معطفًا أسودَ من فرو السمور وينتشر الشيب في رأسه؛ كشف الرجل عن يديه النحيفتين، اللتين التفَّتا حول عنق كروتشر، بمهارة فتَّاكة لقاتل محترف.
تراجع الاثنان للوراء في صمت. بدا على أحدهما نيةُ القتل من أسنانه المطبقة، وعلى الآخر أمارات الموت من عينيه الجاحظتين ووجهه المحتقِن وعنقه المطوَّق بالأصابع المتشابكة الشاحبة حتى الأظافر من فرط الضغط. شاهدت الليدي فيرا الرجلين، مثلما يشاهد ولدُ الظبيةِ الأصَلَةَ التي تهاجمه تُضرب حتى الموت في اللحظة المناسبة، حتى انغلق البابُ الواصل بين المقصورتين خلف الرجلين، وانعكس قوامها المثالي في المرآة وحدَه. واصل القطار مضيَّه في طريقه، وأصدرت العربة بكاملها صريرًا وارتجَّت، كما هو حال العربات في القطارات دون استثناء للقطار الفاخر، غير أن ساكنة هذه المقصورة تحديدًا لم تلحظ ذلك بعضَ الوقت.
فور أن استعادت رباطة جأشِها، بدأت فيرا مويل تدرك بعضَ الأشياء تدريجيًّا، بردةِ فعلٍ عكسية. يمكننا القول إنها أدركت عدمَ ملاحظتها بعضَ الأشياء التي كان من المفترض أن تلاحظها بحلول ذلك الوقت. كان أهم ما لاحظته هو عدم صدور أيِّ صوت من المقصورة خلف باب المرآة، وعدم حدوث أيِّ ضجة أو ازدحام غير مُبرَّر في الممر. ماذا حدث؟ هذا ما عرفته في الحال.
كان القطار قد توقَّف في محطةٍ بلا اسم، في مكانٍ ما، في إيطاليا. أتاح ذلك فرصةً للتطلع من النافذة، ومنها انبثق رأسُ الفتاة المضطربة، وتطلَّعت إلى خط السكة الحديدية. وفوجئت عندما رأت ألفريد كروتشر، صاحب السروال الزاهي والمعطف الجديد الصارخ مثل سرواله، يقفز إلى رصيف المحطة المنخفض؛ وكان رجل الدِّين الموقَّر يتأبط ذراعه بل يُحكِم قبضته عليه من كُمِّه!
شعرت الليدي فيرا مويل بأن القطار قد استغرق وقتًا طويلًا في الوصول إلى روما، لكن عندما شارفت الرحلةُ على نهايتها، توقَّفت عربة النوم عن التمايل والضوضاء مثل عربات القطار الأخرى المتواضعة، حتى إنها لم تلحظ مرورَ بلدة كامباجنا بمناظرها الطبيعية الريفية الشاحبة في الخلفية. سمعت طَرْقًا خلف ستارة المقصورة المنسدلة — التي عكست تحوُّل الفراش الآن إلى أريكة من الجلد المنقوش وقماش القطيفة الموهيري — بما يوحي أن المسافرةَ صاحبة الوجه الشاحب والعينين اللامعتين الجالسة إلى المنضدة الصغيرة في الزاوية لم تنعم بليلةٍ هانئة.
هتفت بالفرنسية في انزعاج متوتر: «ادخل!»
فُتح الباب وأُغلق خلف الوجه المكفهِر والجسد الطويل الممشوق القوام لجون دولار.
هتفت: «الطبيب دولار! لم أكن أعرف أنك في القطار!»
تهدَّج صوتها من فرطِ فرحتها؛ وارتجفت يدُها على نحو مثير للشفقة فيما استقرت في يده للحظة.
قال: «لم تظهري أبدًا كما تعلمين. كنتُ في المقصورة المجاورة طوال الوقت منذ غادر القطار من باريس.»
سألت: «المقصورة المجاورة في أي جانب؟»
تحرَّك رأسه بحدة تجاه انعكاس صورته على باب المرآة.
هتفت الفتاة: «ولكن كان رجل دين يمكث هناك!»
قال دولار بابتسامة ساخرة: «هناك مكث الكاهن الأعظم لديانة جديدة لن تؤمني بها بعد الآن أبدًا. أتأذنين للكاهن بأن يجلس قليلًا يا ليدي فيرا؟»
نظرت إليه بعينين هادئتين. أجابت: «بالتأكيد، أيها الطبيب دولار، إن كان هذا سيسهِّل من شرحك لما حدث.»
ردَّ بجرأة: «لم أكن أنوي الشرح على الإطلاق. أردت أن يؤديَ لباسي الكنسي هذه المهمةَ نيابةً عني؛ لكن الشَّعر المستعار طار بفعل الرياح من النافذة في الجهة الأخرى من جِنْوَة. كنتُ أتسكع طوال اليوم على أملِ أن أحظى بفرصة اللقاءِ بكِ. لكن شعرت أنه لا يمكنني تأجيلُ الأمر أكثرَ من ذلك. أردت أن أعطيَك هذه الأشياء.»
ووضع على المنضدة الفاصلة بينهما القلادةَ الماسية والدَّلاية وعِقد اللؤلؤ وحَفنة الخواتم التي كانت تضعها في الليلة السابقة.
هتفت، بدموعٍ شاكرة لم تنهمر قط، لكن أضفَت طابعًا رقيقًا جذابًا عليها، بشكل تعجَز الكلمات عن وصفه: «لقد أجبرته على التخلي عن المجوهرات!»
قال ضاحكًا: «بالطبع. لم يكن الأمر في غاية الصعوبة.»
قالت: «وأنا ظننتك شريكه عندما رأيتكما تعبُران الرصيف معًا!»
قال: «كنت أبثُّ في قلبه الرعبَ من إلقائه في سِجن أجنبي حتى اللحظة الأخيرة. لكن كان لديه شريك في القطار؛ كان يقف متأهبًا خارج مضجعكِ فاستدرجته إلى مضجعي وأفقدته الوعي. ولولا ذلك لكنتُ قدمتُ إليكِ مبكرًا؛ لكن من ناحيةٍ أخرى كان من الأفضل الإمساك بالرجل ومعه مجوهراتكِ؛ حتى لا يجد مخرجًا من الأمر. وقد تنفَّس الاثنان الصُّعداء عندما اكتفيتُ بطردهما من القطار في المحطة التالية. هذا الشريك هو نفس الرجل الذي تسلل إلى منزلي للقاء كروتشر في الليلة الأولى من إقامته بمنزلي.»
سألت: «هل أخبراك بذلك؟»
أجاب: «لا، علِمت به في حينها. سمعت محادثتهما كلَّها، حتى الأجزاء من المحادثة التي لم أتمكَّن من سماعها، تمكَّنت خلالها من استنتاج الخطة التي نفَّذاها بالفعل الليلةَ السابقة. لديَّ قاعدة تنص على ألا أتنصَّت على أبواب المرضى، مثلهم في ذلك مثل الآخرين، لكن لن أخجل من أني أقدمتُ على هذا الاستثناء.»
نظرت إليه بعينيها الرطبتين الرقيقتين نظرةً فاحصةً.
وقالت: «لكن سمحت له بالبقاء، من أجلي!»
أجاب: «ليس تمامًا، يا ليدي فيرا.» كانا ثنائيًّا صادقًا. قال: «لقد وضعني ذلك محلَّ اختبار؛ وجدت نفسي أمام مكيدة يجب أن أحبطَها. في البداية — وأظنكِ تعرفين هذا — لم أرغب في الاقتراب من ذلك الرجل على الإطلاق. كانت حالته تستعصي على العلاج بما لا يحتمل الشك؛ وكانت نهايته المثالية هي حبل المشنقة، حقًّا أو ظلمًا.»
هتفت الفتاة: «لا تقل هذا … أو قُله! فهو يجعلني أرغب في مسامحته رغم كلِّ ما حدث!»
قال: «حسنًا، كان انطباعي الأول صحيحًا تقريبًا. لم يكن علاجه ممكنًا. لكن لم يخطُر ببالي مطلقًا أنه سيُقدِم على جريمة يتحتم عليَّ التصدي لها؛ تلك هي وظيفتي الأساسية على أي حال، كما تعلمين، وقد أضفى ذلك ملمحًا جديدًا على القضية. بدا الأمر كأنْ … كأنْ يظن المرء أن شخصًا مصاب بالسرطان ثم يتبيَّن له أنه يخطِّط لإطلاق النار على مستشار وزير المالية قبل موته! أعتذر عن هذا التشبيه يا ليدي فيرا»، وضحك واستغل ضحكها ليضيف: «لكن الرجل صار قضيةً جديدة في الحال. ومن سخرية القدَر أنني كدت أنجح في علاجه في نهاية المطاف — قدمتُ له معروفًا على أي حال — لولا تلك المكيدة التي تحمستُ لإحباطها!»
تطلَّعت الليدي فيرا إلى أجمةِ الأشجار الشاحبة المُتساقطة الأوراق التي كانت تمرُّ سريعًا في الخلفية. كانت غير منتبهة إليه في اللحظة الراهنة.
قالت في نهاية المطاف: «كنت حمقاء للغاية. ليتني استمعت إليك ورضيت بتقديم المساعدة بشكل آخر. أنا آسفة.»
أجاب الطبيب دولار: «أنا لست آسفًا! كان تصرفًا طائشًا شجاعًا؛ لكنه كان مثلَ بقيةِ تصرفاتكِ!»
هزَّت رأسها بحزن، فيما مرَّ كلمح البصر نهرٌ بنيٌّ، محاطٌ بأشجار الزيتون، تحت القطار مثل طفلٍ يلعب لعبة نَط الحبل.
قالت بقليل جدًّا من العدوانية: «لم أغيِّر آرائي. لكني على استعداد للتضحية بحياتي من أجل التراجع عن الكثير مما فعلته؛ ولا أقصد تلك الجريمةَ فحسب، بل أفعالًا أخرى لا حصر لها!» ونظرت إليه بعينين تفيضان شجاعةً وتواضعًا. وقالت: «لقد نلت ما أستحقه في النهاية، وأستحق ما سيحدث لي لو تكرَّر الأمر من جديد.»
سأل: «ماذا تقصدين؟»
أجابت: «أقصد لو تكرر ابتزازي من ذلك الرجل المسكين!»
قال: «لن يتكرر. فقد زرعتُ الخوفَ في قلبه.»
قالت: «سيفكر في حيلةٍ أكثر مكرًا.»
قال دولار، بمسحةٍ بها مزيج من الثقة والتحفُّظ في اعتقاده الجازم غير المعهود: «إنه لا يتميز بالمكر ولا بالقوة ولا بالمبادرة ولا بأي شيء آخرَ باستثناء قوةٍ غاشمة محضة. ما هو إلا أداة فتاكة لا أكثر. لقد أذعن لي في لحظة.»
هزَّت الليدي فيرا رأسها مرة أخرى، لكنها كانت تنظر إلى وجهه بحزم هذه المرة.
قالت بقناعة رزينة: «أشعر أنني سأكون صيدًا سهلًا له ما دام أحدنا على قيد الحياة. وسأنال جزاءَ ما اقترفته يداي.»
تخلى دولار عن محاولته لتحريرها من الوهم عن طريق الخداع؛ واستخدم نهجًا متطرفًا على نحوٍ مفاجئ للغاية، لكنَّ هذين الاثنين كان أحدهما يفهم الآخر جيدًا.
وجد نفسه مدفوعًا لأن يقول: «لا بد أن تتزوجي يا ليدي فيرا»، لكن أسلوبه افتقر إلى الإبداع إلى حدٍّ كبير. كان نفس الأسلوب الذي ربما كان سيستخدمه وهو يخبرها بأن تسلِّم مفاتيح غرفتها إلى حمَّال الفندق في روما. كان ذلك، في الحقيقة، هو النهج الذي أراد اعتماده، بَيد أنه خرج محمَّلًا بالمشاعر أكثرَ مما تصوَّر.
أجابت بهدوء: «لا يمكنني الزواج أبدًا. فيداي ملطختان بالدماء.»
قال: «يمكنكِ الزواجُ من رجل على دراية بهذه الحقيقة!»
طرأت ارتعاشة على نبرته الثابتة، ولاحظ هو ذلك التغييرَ في خجل؛ لكن أعينهما تعانقت بصراحة وبلا خجل.
قالت: «لا يمكنني الزواج من أي أحد، أيها الطبيب دولار.»
قال: «الرجل الذي أعنيه ليس أهلًا لأن يحلَّ رباط حذائكِ! لكن سيوفر لكِ الحماية، وسيقدِّم لكِ الدعم، ولن تكوني السببَ في نجاحه فحسب، وإنما أيضًا السبب في تحقيق حلمه … ولا أتحدَّث عن حُلمه الصغير فحسب …»
أوقفته بيدها. ومدَّت يدها لتتناول يدَه فوق المنضدة الصغيرة.
قالت: «الرجل الذي تتحدَّث عنه يستحق امرأةً أفضلَ مني بعشرة ملايين مرة! لكن لا يمكنني الزواج منه أو من غيره. وأنتَ، وحدَك، تعلم السبب!»
عادت تنظر بعينيها المفعمتين بالشجاعة إلى المناظر الطبيعية لريف كامباجنا؛ امتدَّت أرض براح عشبية شاحبة إلى الأفق خلف القطار؛ ولم يكن لأشجار الصمغ تأثير يُذكَر على هذا اللون الشاحب السائد؛ كما جذب انتباهها سقفٌ مموَّج عصري، تُثبته بضع صخور بدائية، في أثناء مروره السريع أمام زجاج النافذة؛ وعندما استدارت الليدي فيرا، وجدت نفسها وحيدة تمامًا في المقصورة.