المفتاح الذهبي
هتف الشاب الواقف أمام رفِّ الكتب، وهو يولي ظهرَه المنحني على نحوٍ سابق لأوانه للطبيب دولار، الذي كان جالسًا إلى مكتبه القديم المصنوع من السنديان: «كان شيلي محقًّا تمامًا!»
ردَّ الطبيب، وهو يرفع نظرَه عن الوصفة الطبية غير المكتملة التي مع ذلك جفَّ حِبرها: «إنه لا يخطئ أبدًا عندما يتعلق الأمر بالشِّعْر.»
جفَل الأخير شاعرًا بالخجل. بدا الشاب حسنَ المظهر ظاهريًّا، لكنه من داخله كان في حالةٍ من الفوضى، وكان ذا شعر كثيف دهني مصفَّف للخلف بإحكام بطريقة عصرية، مبرزًا ملامحَ وجهٍ مقبول، على الرغم من الشحوب والإنهاك الباديَين عليه. وكان يرتدي حلَّته المسائية كاملة؛ لأن مرضى طبيب الجريمة كانوا يحضُرون في جميع الأوقات.
سأل بخجل مُبالغٍ فيه: «هل قلتُ شيئًا؟»
قال دولار مبتسمًا: «كنتَ تفكر في شيءٍ ما بصوتٍ عالٍ. لا تدعِ الأمر يقلقك؛ إذ لا ينذر بسوء. ما خَطْب شِعْر شيلي يا سيد إيدنبورو؟»
قال الشاب: «أتحدَّث عن جزئية معينة في أحد خطاباته. صادف أن فتحته على فقرةٍ أعجبتني.» ثم أعاد الكتاب إلى مكانه.
خمَّن الطبيب ممازِحًا: «أنتَ لا تقصد ذلك الجزءَ المتعلق بحمض البروسيك أليس كذلك؟»
سأل إيدنبورو بوجهٍ ما كان، من براءته، لِيفلح في خداعِ طفلٍ صغير: «ما هذا؟»
ردَّ: «إنه تفويضٌ صغير من شيلي إلى تريلاوني، للحصول على مقدارٍ صغير من «زيت اللوز المر العطري» كما أسماه، ليتسنى له «الإمساك بالمفتاح الذهبي لغرفة السلام الأبدي.»
قال الشاب في نهاية المطاف: «هذا هو الخطاب المقصود. يُستحسن أن أكون صادقًا معك. ولكن لا أعرف كيف عرفت!»
ضحك الطبيب ضحكةً صغيرة حانية.
أجاب بنبرةٍ مطمئنة: «من مجردِ معرفةِ اسم الكتاب. إنها فقرة شهيرة للغاية، كنتَ قد أعربتَ للتو عن توقِك إلى مفتاحٍ مجازي فضي على الأقل يفتح لك غرفةً تجد فيها راحةً مؤقتةً من صراعاتِك!»
قال: «قلتَ إنك ستعطيني واحدًا، أيها الطبيب دولار.»
ردَّ الطبيب فيما ينهض من مقعده العتيق: «وأدركت الآن أنني لن أفعل ذلك. لا، لن تذهب قبل سماعِ أسبابي، وما سأقترحه عليك بدلًا من ذلك. هذه المفاتيح، يا سيد إيدنبورو …» ومزَّق الوصفةَ غير المكتملة إلى فُتات، مضيفًا: «… ذهبية أم فضية، ليست مفاتيحَ في الحقيقة وإنما عتَلات يستخدمها اللصوص في تدنيسِ وانتهاكِ الغرفِ التي يقتحمونها. لا بد أن الأمر كذلك فيما يخص الراحةَ الليلية التي تريد الحصولَ عليها بأي ثَمن؛ وربما يصدُق أيضًا على السلام الأبدي الذي استهان شيلي به. لكن للمصادفة لديَّ ما يشبه «غرفة السلام» في منزلي. إنها آخرُ إبداعاتي. لقد وجدتَ تسميةً مناسبةً لها؛ لذا أحب أن أكافئك بأن أعرض عليك أن تمكثَ فيها الليلة.»
قال: «هل تقصد أن لديك غرفةً ستساعدني على الاسترخاء بدلًا من الأدوية المهدئة؟»
بدا الشاب إيدنبورو محتارًا، لكن أفكاره في اللحظة الحالية كانت مشتَّتة. كان قد سمع عن غرابةِ أساليبِ الطبيب دولار، وأنه مع ذلك كان الشخصَ المثالي لإيجاد حلٍّ لمشكلته، وعرف ذلك من مصدرٍ موثوقٍ هو وزير داخلية إنجلترا، وكان ذلك في الأمسية نفسِها على العشاء. وهكذا قدِم من ميدان بورتمان مباشرة، وهو يتوقَّع رؤيةَ معجزات ووصفات سحرية؛ لكن لم يتوقَّع شخصيةَ جون دولار ولا حديثه غير المهني ولا الحول الطفيف، الذي في زاد الواقع من جاذبية عينيه، ولا ثقته المرحة والحانية، ولم يتوقَّع (على الإطلاق) دعوتَه الجادة والعفوية لأن يمضيَ ليلته في منزله.
قال الطبيب الغريب: «هذا ما أقصده بالضبط. إنها أكثرُ غرفة هادئة في لندن، كما أنها لها مميزات صغيرة أخرى. وقد جعلت صديقنا توبام يجرِّبها في أثناء إضراب الخبز. وقرَّر أن من شأن وزير المالية أن ينام هناك نومةً هانئة لا يعكر صفوها شيء!»
ضحك إيدنبورو ضحكةً جعلته يبدو مثل تلميذ في مدرسة؛ لكنه توقَّف عن الضحك بغتةً، كأن صوته جلب له شعورًا بالخزي والألم.
قال: «سأضحي بالغالي والنفيس لأنعمَ بليلة واحدة هانئة. لكنك تتعامل بكرم بالغ، يا سيدي، خاصةً مع شخص غريب لا تعرف عنه أيَّ شيء.»
أجاب الطبيب: «سأعرف المزيدَ من المعلومات في الصباح، يا سيد إيدنبورو، ولكنها يمكن أن تنتظر حتى الصباح، فلا داعيَ للعجلة. يكفيني ما أعرفه الليلة وهو أنكَ صديق لوزير الداخلية، وأنكَ في أسوأ حالاتِك في وقتٍ يلزمك فيه أن تكون في أفضلها.»
ضرب إيدنبورو جبينَه كأنه ممثِّل شاب واقف على خشبة مسرح، لكنه فعل ذلك بعفويةٍ مثيرة للشفقة تعجز عنها كل الأعمال الفنية التاريخية.
هتف بخوف شديد: «إنه يوم الخميس. يا إلهي، سأتزوج يوم الخميس، واليوم هو يوم الأحد! كيف سأفعل ما هو متوقَّع مني أن أفعله، وأنا لم أحظَ بقسطٍ من النوم؟ وكيف سأنام وأنا …»
سارع دولار إلى قطْعِ فترة صمت محُمَّلة بالمعاني حتى لا تطول: «دعْ هذا الأمر لي. دعْ كل شيء لي، واصعد مباشرةً إلى الطابق العلوي. إنني أُبقي الغرفةَ على استعداد لاستقبالِ زائريها في جميع الأوقات؛ سأجهِّز لك منامة، وسأرسل رسولًا خاصًّا في الصباح إلى أي مكان تريده ولأي غرض تشاء. هيَّا يا عزيزي! أتحرَّق شوقًا لاختبار «غرفة السلام» الخاصة بي اختبارًا حاسمًا؛ لأنني أعرف يقينًا أنها ستحقِّق نجاحًا باهرًا!»
كانت ثقة الطبيب دولار أقلَّ، وهو ينزل إلى الطابق السفلي بعد قليل، ويجلس بجوار هاتفه وعلامات الجِدِّية بادية على وجهه. في غضون دقيقة كان قد غادر المنزل، وسرعان ما وصل إلى ميدان بورتمان، وفتح له السيد توبام فينسون الباب.
تحدَّث الطبيب، لاهثًا ونافد الصبر على صديقه ذي النفوذ: «لقد كان هذا تصرفًا سيئًا للغاية من جانبك.»
أقسم الوزير بوداعةٍ آسرة: «لم أستطِع تمالُك نفسي يا صديقي العزيز. أراد أن يذهب إليك مباشرةً، ولم أستطِع الاتصال بك دون أن أفضحه.»
قال دولار وهو يتفقَّد ساعته: «لدي خمس دقائق لأسمع فيها منك ما كان يجب أن تخبرني به قبل أن ألتقيَ بصديقك العصابي.»
سأل الوزير: «ألم يحكِ لكَ كلَّ التفاصيل عن نفسه؟»
أجاب دولار: «لم يخبرني إلا نذرًا يسيرًا لا يكفي على الإطلاق في حالةٍ كهذه، تكون فيها المسبِّبات أهمَّ من النتائج. بالطبع كان بوسعي أن أصرَّ على معرفة كافة التفاصيل، لكن الضغط عليه كان من الممكن أن يزيدَ من سوء الوضع فينهار تمامًا الليلة. ما فهمته، مع ذلك، هو أنه أحد مساعدي اللورد الأعلى، كما أنه صديقك وعلى وشْك الزواج، وفي غاية القلق بشأن الزواج، أو بشأن شيء له علاقة بالزواج.»
انبرى توبام فينسون، الذي يمكنه التصرُّف بحيوية بالغة متى شاء، يقول: «سأتناول النقاطَ التي ذكرتها بالترتيب. جورج إيدنبورو ليس فقط أحدَ مساعدي ستوكتون، وإنما أقرب مساعديه وأوثقهم. إنه ليس صديقي بالمعنى الحرفي للكلمة؛ فقد جمعتني به صداقةٌ لأسباب عائلية، ووجدته شابًّا مهذبًا للغاية. لكن الفتاة التي سيتزوجها — إن كانا سيتزوجان — تنتمي إلى طبقتنا.»
هتف الطبيب: «إن كانا سيتزوجان! أتقصد أنها ستعدِل عن الزواج في الأسبوع الأخير؟»
أجاب الوزير بجِدية: «قد لا يكون لديها أيُّ خيار. تلوح في الأفق نُذُر عاصفةٍ قد تطيح بجورج إيدنبورو في أي لحظة.»
سأل دولار: «عاصفة مفاجئة؟»
أجاب فينسون: «لم أتوقَّعها على الإطلاق. لم أسمع بالأمرِ من ستوكتون إلا يوم الجمعة ليلًا. لكنه كان على درايةٍ به. ليته أعلمني مبكرًا، نظرًا إلى أني السبب في إيصاله بإيدنبورو.»
قال دولار: «هل يتمتع بمهارة معينة؟»
قال الوزير: «أجل؛ يجيد الرسم قليلًا؛ في الحقيقةِ لم يكن سكرتيرًا بالمعنى الحرفي للكلمة، بل الرسَّام الخاص للورد الأعلى. إن ستوكتون مذهلٌ جدًّا في ملاحظة التفاصيل الصغيرة والإشارة إليها، ولكنه يفتقر إلى الكفاءة عندما يتعلَّق الأمر بفهْم التعقيدات الفنية. ما يحبه هو أن يرى التفاصيل على الورق كما يتخيَّلها؛ لذا فإنه يباشر عمليات التدقيق بصحبة إيدنبورو ومسودة رسم، وفي البداية يأخذ إيدنبورو ملاحظاتٍ مرسومة لكل منحًى، ثم يتعاونان على معالجة التحسينات المستحيلة. علمتُ بهذا الليلة من الفتى نفسه. ويُظهِر لك هذا الفرصَ الكثيرة لديه لتسريب المعلومات … أو … بيعها!»
سأل دولار: «هل الأمر بهذا القدْر من السوء؟»
أجاب الوزير: «يُقسم ستوكتون أنه كذلك. أجد صعوبةً في تصديقه. لكنه قدَّم لي أدلة وتفاصيلَ دقيقةً عن مخطَّط واحد على الأقل عبَر بطريقةٍ ما إلى بحر الشمال في بداية السنة. وأقرَّ إيدنبورو أنه إما أضاعه وإما سُرق منه. يبدو أنه كان أكثر حذرًا — أيًّا كان منظورك إلى الأمر — أثناء الصيف. لكن تكرَّرت المشكلة هذا الخريف. وعبَر مخطَّطُ حوضِ سفنٍ بحرَ الشمال، ليستقرَّ في أرض الوطن بوسائلَ يُستحسن ألا نخوض فيها، وأعلن ستوكتون أن هذا المخطَّط تزويرٌ رديء لمخطَّطٍ آخرَ رسمَه إيدنبورو قبل ذلك بستة أسابيع.»
سأل دولار: «لمَ وصلت النسخةُ المزيفة لا الأصلية؟»
ردَّ الوزير: «تقبَع النسخة الأصلية في أرشيف اللورد الأعلى منذ ذلك الحين؛ ويقول إنه لا بد أن النسخة المزورة قد رُسِمَت من الذاكرة؛ ولديه من الأسباب المنطقية ما يجعل إيدنبورو المتهمَ الوحيد في القضية.»
سأل دولار: «أسباب لا يؤخذ بها قانونًا على ما يبدو، أليس كذلك؟»
أجاب الوزير: «بالضبط؛ لذا حتى الآن لا وجود لقضية ولا اتهام. لكن لديَّ تخوُّف كبير من أن كمائن قد نُصبت؛ لذا أخذت على عاتقي مسئوليةَ تحذير الرجل المجنون.»
سأل دولار: «أفعلت ذلك الليلة؟»
أجاب الوزير: «أجل؛ كانت هذه أولَ فرصة للقائه، ولم يكن هذا ممكنًا إلا بدعوة العروس الصغيرة المسكينة هي الأخرى إلى العشاء. كان عبئًا ثقيلًا، يا دولار، أن أشرب نَخبهما، عالمًا بما يلوح في الأفق! كان عزائي الوحيد أن إيدنبورو كان على درايةٍ مثلي بالتطوُّرات؛ كانت بادية على وجهه، للمنتبه كفايةً؛ لذا دخلت في الموضوع مباشرة عندما اختليت به. كان صريحًا للغاية، من وجهة نظره. أخبرني أن الشكوك التي تحوم حوله تدفعه إلى الجنون؛ وقال إن النوم يجافيه لياليَ كثيرة.»
سأل دولار: «رغم عدم وجود اتهام مباشر؟»
أجاب الوزير: «رغم عدم التصريح بكلمة واحدة بشأن تورُّطه في عمل نسخة رديئة من خريطته!»
قال دولار بهدوء: «هذا أسوأ ما قلتَه لي حتى الآن. لا بد أنه أصر على براءته، أليس كذلك؟»
أجاب الوزير: «بلى، وهو يبكي بحرقة!»
سأل دولار: «وماذا كان انطباعك يا سيد فينسون؟»
أجاب الوزير: «راودني شعورٌ مختلِط للغاية حيال كلامه. شعرت أنه كان يقول الحقيقة، غير أنها لم تكن كاملة. كانت تفوح منه رائحة التورط في جريمة، وإن لم يكن المجرم الحقيقي.»
عقَّب الطبيب ببعض التردد: «لا بد أن حالته الجسدية أكَّدت شكوكك. وفوق ذلك سيتزوج الشقي المسكين في غضون أربعة أيام!»
قال الوزير: «في هذا الأمر خاصة، أشعر بالشفقة على الفتاة.»
سأل دولار: «ولكن أليست الفتاة صديقتك هي الأخرى؟ هل يمكنني معرفة اسمها؟»
قال الوزير: «لوسي تريفلين.»
سأل دولار: «أهي قريبة للأميرال تريفلين؟»
أجاب الوزير: «إنها ابنةُ ذلك البحَّار المتمرس، لكنها أكثرُ حيوية منه! لم أرَ فتاةً شابة مثلها تمتلك روح بحَّار مخضرم وسلوكه. لو أن الأمر بيدها لركبت البحر؛ وحيث إنها لا تستطيع ذلك، صارت عضوًا فعَّالًا في الرابطة البحرية، وخطيبةَ أمين سر اللورد الأعلى. أيمكنك الإتيان بمفارقةٍ أكثرَ عبقرية أو قصة أكثر تراجيدية من هذه عندما يخرج الأمر إلى العلن؟ لا بد أن يخرج الأمر إلى العلن قبل يوم الخميس، يا دولار، إن كان ذلك ممكنًا أصلًا!»
سأل دولار: «بغضِّ النظر عن تلك المسألة، هل هما متوافقان؟»
أجاب الوزير: «متوافقان للغاية، فيما عدا التوافق المادي، لكن الشاب سيجني المزيدَ من المال في المستقبل. لديها طاقة ونشاط يكفيانهما هما الاثنين ويتشاركان الأذواق نفسها. أخبرتك أنه يجيد الرسم قليلًا، أمَّا هي ففنانة بارعة، وإن كان يصعب تصديقُ ذلك، إذا رأيتها وهي تعلِّمه التزلجَ في نادي الأمير أو وهي تنافسني في الجولف! لوسي تريفلين هي امرأة رياضية من الطراز الأول؛ مثلما كانت فيرا مويل امرأةً مثيرة للشغْب من الطراز الأول.»
هبَّ جون دولار واقفًا على قدميه.
قال بحدَّة: «حسنًا، لقد مكثتُ أطولَ مما كنتُ أنوي. لقد تعهَّدت بأن أصعدَ إليه لتفقُّده خلال نصف ساعة لأرى هل غلبه النُّعاس أم لا. وأعتقد أنني سأجده نائمًا. ولكن هل للنوم ليلةً فائدة تُرجى في مثل هذه الفاجعة التي ستئول إليها الأمور؟!»
أشار الوزير: «أو في مثل هذا اللغز؟ لو نجحت في سبْر أغوار هذا الموضوع، يا دولار، فربما نعرف كيفيةَ التصرف.»
ردَّ الطبيب بسرعة: «لستُ محققًا»، وفور أن خرجت تلك الكلمات بصرامة من شفتيه المتصلبتين، حتى استرختا في ابتسامة عذبة. تابع: «قلتُ لك هذا من قبل، يا فينسون، ولن أتعجبَ إن جعلتني أكرِّره على مسامعك مجددًا. إنني أسعى إلى الحيلولة دون ارتكاب الجرائم، لا أن أنشغل بالجرائم التي وقعت بالفعل ولا مجال لإصلاحها. لكن في هذه القضية، قد يكون الكشف عن الحقيقة هو لبَّ الوقاية، لذا سأبذل غايةَ جهدي في ذلك، بينما لا يزال لدينا متَّسع من الوقت.»
غدا دولار إلى الوزير عابسًا متذمرًا؛ وراح مرحًا مستبصرًا، يفيض حيويةً ناجمة عن خطورة الأمر، كما هي عادته. لكن كان الوضع جادًّا للغاية، مثلما كان دولار نفسه، خلف القناع الظاهري الجذاب الذي يضعه دون أن يدريَ في جميع الأوقات العصيبة. وعند نقطةٍ بعينها تأكَّدت ثقته على الفور؛ فقد وجد الرجل الشاب في غرفة السلام غارقًا في نومٍ يليق بالاسم الذي كان قد منحه عن غير قصد لذلك المعقل السحري.
ولكن لم تكن هذه القضيةُ من النوع الذي يمكن لطبيب الجريمة أن يُحجِم عن التدخل فيها. قضى كل ساعة من ساعات الليل يصعد الدَّرج وينزله؛ وفيما بين ذلك إما انغمس في قراءاتٍ مُقبِضة مثل «الحالات الإيضاحية للهوس المؤقت»، في المجلد الرابع المريع من كتاب «الطب الشرعي» لكاسبر، أو غاص أكثرَ في تكهناته المُقبِضة بالمثل.
في الصباح، كان الطبيب هو من تولَّى حمل حقيبة سفر المريض إلى الطابق العلوي، وأيقظه من نومه، وشاهد موجةَ الذاكرة وهي ترتفع فيما غصَّ حلقه بكلمات الشكر. وآنَ الآن أوان التحقُّق من نسخة السيد فينسون بشأن مشكلات الشاب؛ لكنه انتظر جورج إيدنبورو كي يفضيَ له بمكنونات صدره، وانتظر بلا جدوى حتى آخرِ خمس دقائق، عندما استهل الفتى حديثه بكلمات الشكر وانتهى بقصته كاملة.
لم تختلف روايته عن رواية الوزير الموجزة إلا في القليل، لكنها أكَّدت لدى دولار أكثرَ من انطباع كان يُفَضِّل أن يثبُت خطؤه. في الحقيقة كان حديث الشاب عن الشكوك التي لا تُطاق أكثرَ انسجامًا مع عذاب ضميره أكثرَ من أي شيء آخر؛ لأنه أتْبَعه بإقرار بأن أحدًا لم يصرِّح بهذه الشكوك بأي شكل من الأشكال. شعر طبيب الجريمة بالأسف لطرحه هذا السؤال في البداية؛ لكنه كان السؤال الوحيد الذي طرحه. لكن بعد أن حضَّ إيدنبورو على أداء تمارين رياضية قدْر المستطاع، ومَدَحَ براعة الآنسة تريفلين في التزلج، لم يجد ذلك المرائي المتردد صعوبةً كبيرة في الحصول على دعوة فورية لتناول الشاي في نادي الأمير للتزلج.
غادر إيدنبورو بوجهٍ يكاد يتهلل لوجود بادرة انفراجة؛ بَيد أنه لم يكن قد تحدَّث عن محبوبته حتى تعرَّض الطبيب فجأة لسيرة التزلج. بدا أن التزلج هو الصلة الوحيدة التي كان لا يزال يمكنه بواسطتها أن يفكِّر في محبوبته دون أن يشعر بالألم أو الخزي؛ وفي وقت لاحق شاهد الطبيب إيدنبورو واقفًا على الجليد، بنفس النظرة المليئة بالفخر والفرح على وجهه.
كانت ذروة اكتظاظ حلبة التزلج بالمتزلجين في فترة بعد الظهيرة، واستحال السطح الأملس العاكس لحلبة التزلج إلى لوحٍ معتِم، وكأن عملاقًا صغيرًا كان يخربش على سطحه بماسة كبيرة. حلَّق المتزلجون مثانيَ، يدورون مثل لاعبي السيرك، فيما اتبع المتدربون الفرادى تعليماتِ المدرِّبين المندفعين في منتصف الحلبة، ودوَّى صوت الزلاجات كحفيفٍ مجلجل يكاد يصمُّ الآذان. ومن بين هؤلاء المتزلجين كان جورج إيدنبورو، الذي أتى يتزلج على ساقٍ واحدة، وجبهته تتصبَّب عرقًا، ليختار لضيفه مكانًا جيدًا للجلوس خلف الحاجز.
قال بتوتُّر: «أنا سعيد جدًّا بقدومك في الوقت المناسب لمشاهدة رقصة الفالس. كان لديَّ يوم طويل حافل خارج المدينة، ووصلت إلى هنا في وقتٍ متأخر أكثرَ مما توقعت. لوسي تكتب خطابًا في صالة الانتظار، لكنها ستأتي بعد لحظات لتشارك في العرض، وبعد ذلك سنتناول الشاي معًا.»
أدرك دولار أن رقصة الفالس على الجليد، مع أنها تستغرق قرابةَ ربع ساعة، تمثِّل تحديًا كبيرًا للجميع باستثناء أولئك الذين يتقنون إلى حدٍّ ما هذا الفن الدقيق والمبهر، لما تتطلبه من مهارة وتركيز وجهد مكثَّف. اعترف إيدنبورو بأنه هو نفسه لا يملك المهارةَ والإتقان الكافيين للمشاركة في هذه العروض، ودلَّل عدم اتزانه على الحلبة على صحة كلامه. بعد أن اتخذ إيدنبورو مجلسه بين المتفرجين، دوَّى صوت ناقوس، فبدأت الفرقة العزفَ، وتفرَّق المبتدئون، وتشبَّثت الأيادي الواثقة بالخصور الطيِّعة، ودارت الزلاجات الطويلة ثلاث دورات في الهواء، قبل أن تهبِط على الحلبة في طرَفها الآخر، وصارت الحلبة متاهةً متداخلة من المتزلِّجين الذين كانوا يرقصون برشاقة وتناغم.
لم يكن دولار قد رأى شيئًا كهذا في حياته من قبل؛ إذ كانت حلبات التزلج على الجليد الصناعي لا تزال في مهدِها في لندن قبل الحرب، ومنذ ذلك الوقت كان منشغلًا عن متابعةِ آخرِ التطورات. في البداية تابع دولار ثنائيًّا من المتزلجين ثم ثنائيًّا آخرَ، وفي كل مرة كان يبدو له الثنائي أمهرَ وأكثرَ رشاقة من نظيره السابق. لكن لم تنتهِ رقصة الفالس القصيرة الأولى، إلا بعد أن تنحَّت المجموعة من تلقاء نفسها، لتفسح المجال لفتاة قوية داكنة ترتدي رداءً أحمرَ، ورجلٍ داكنِ البشرة لامع العينين أسود الشارب.
قال دولار: «هذا الثنائي هو الأفضل بين المتزلجين؛ تلك الفتاةُ ذاتُ الرداء الأحمر ورفيقها الأجنبي الضخم الجثة.»
هتف إيدنبورو بسرور: «أتظن ذلك؟ لا بد أنك تحسِن الحُكم؛ فهذه الفتاة هي لوسي!»
قال دولار ببعض الارتباك: «لم أقصد الإساءةَ إلى شريكها. إنه أفضل من أي راقص فالس آخرَ باستثناء الآنسة تريفلين.»
ردَّ إيدنبورو بنبرةٍ مختلفة: «إنه ماركيز إيطالي. اسمه البغيض هو روكي. أنا لا أحبُّه. لكنه متزلج بارع.»
انتهت رقصة الفالس الأولى، وتبِعتها بسرعة رقصتان أُخْريان، وتكلَّم إيدنبورو بطريقةٍ أفضل عن شريك الآنسة تريفلين التالي. كان شابًّا حديثَ السن مفعمًا بالحيوية، عاد إلى وطنه من إيتون في إجازة مؤقتة، لكن الآنسة تريفلين، التي كانت تفوقه خبرة، تكيَّفت مع اندفاعه، ورقصت معه بحماسة تضاهي حماسته.»
قال إيدنبورو فيما كانت محبوبته تفرُّ بحياتها من قبضة ذلك المتهوِّر: «أنا سعيد بانتهاء الرقصة. اللعنة على ذلك المدعو روكي!»
رقصت الفالس مع المتوحِّش الوسيم مرةً أخرى؛ كان مظهره متماشيًا مع وصفه بذقنه البارز وعينيه المتغطرستين وإدراكه لبراعته. لم يُخفِ إيدنبورو كرهه لروكي، وبدا انزعاجه بوضوح عندما مرَّ الثنائي أمامه بحيوية مفرطة بغرضِ إثارة استفزازه. شعر دولار نفسه بالانزعاج، وظل هكذا حتى نهاية الرقصة، عندما رفع روكي السيدةَ عاليًا قبل أن يسلِّمها لمنافسه، بلمحةٍ من التبجُّح الواضح.
لكن تغيَّر ذلك الانطباع فور أن فتحت الآنسة تريفلين شفتيها العنيدتين. كانت لديها أسنان جميلة، وصوت مرِح، وعينان تشِعَّان جرأةً لطيفةً مرحة. تذكَّر دولار إشادةَ توبام فينسون، ورأى أنه يوافقه في كل شيء فيما عدا تلك المقارنة البغيضة. في الحقيقة، لم تكن هناك امرأتان أكثر اختلافًا من لوسي تريفلين وفيرا مويل؛ لكن لم يحيِّره أحدٌ ممن التقى بهم في الماضي، بما في ذلك لوسي تريفلين، مثلما حيَّرته فيرا مويل، قبل أن يستأذن في الانصراف.
تحدَّث العروسان عن الحفل والهدايا وعطلة الزواج، وكأنه لن تستطيع أيُّ قوة على وجه الأرض العبثَ بخططهما!
حَدَّث دولار نفسه، قائلًا: «لم يتبقَّ سوى ثلاثة أيام!» وسرعان ما انقضى يومان بلا مفاجآت أو أحداث غير متوقَّعة، باستثناء اختفاء طبيب الجريمة نفسِه. كان قد أهمل عيادته من أجل القضية الحالية؛ ولم يُعثر له على أثرٍ عندما كانت الحاجة ماسَّة إليه، لا في ليلة الثلاثاء ولا في صباح الأربعاء؛ والغريب في الأمر أن جورج إيدنبورو كان هو من لجأ إليه، بعد أن ازداد شحوبًا فوق شحوبه، وكان حينئذٍ يتحدث في الهاتف بصوتٍ هَلِع.
في مساء الأربعاء، أدار الطبيب مفتاحه في قُفل الباب، ليجد العريس، الذي كان زفافه في اليوم التالي، يندفع نحوه من غرفة الانتظار.
هتف إيدنبورو: «أخيرًا!» وبدا في غاية الشحوب على ضوء المصباح الكهربي حتى إن دولار لم يُشعل المصباح في غرفة الاستشارات أو يسأله أيَّ سؤال وهو يغلق الباب خلفه.
كان هذا اليوم واحدًا من تلك الأيامِ المعتدلةِ الطقسِ على غير العادة في ذلك الوقت من السنة الذي يبقى فيه أفضلُ الخَدم في العمل بنشاط وجدية؛ فتح الطبيب النافذةَ الطويلة ذات المصراعين التي تفضي إلى الدَّرج الصدئ الذي ينتهي بالحيز المسيَّج القذر المُهمل بما يحتوي عليه من حصًى متسخة وشجيرات محتضرة. في الوقت ذاته، لم يجلس إيدنبورو كما طلب منه دولار بحكم العادة، وإنما وقف بقدمين راسختين عنيدتين أمام المدفأة، وأظهر التوهج تكوُّرَ يديه المضطربتين في هيئة قبضتين، لكنه لم يُظهِر وجهَه الذي كانت نظرة واحدة إليه تكفي لملاحظة اضطرابه.
أنشأ يقول بمرارةٍ كبيرة: «ليتك تركت ملاحظةً تخبرنا بمكانك!»
ردَّ دولار: «فعلت ذلك للتو. تركتها في غرفتك. أردت أن أراك على الفور. بَيد أن القدَر أخذ على عاتقه أن يرسلك إليَّ.»
واصل إيدنبورو كلامه، غيورًا من انشغال دولار عنه، وقال: «ألم تسمع آخرَ الأخبار، حيث كنت؟»
قال الطبيب وهو يرتمي في أحدِ المقاعد: «لقد سمعت الكثير! يُستحسن أن تكون محددًا فيما تقصد، وبأقصى سرعة ممكنة، يا صديقي العزيز. فلدي موعدٌ بعدك مباشرةً.»
ردَّ الآخر بتهكُّم: «أوه! لا حاجة للكثير من الكلام. أتذكُرُ المرة التي قدِمتَ فيها، أيها الطبيب، إلى نادي الأمير للتزلج؟»
أجاب: «نعم.»
تحدَّث الاثنان كأن ذلك حدث منذ بضعة أسابيع.
«أتذكُرُ عندما قلتُ لك إنني قضيت يومًا عصيبًا خارج المدينة؟»
أجاب الطبيب: «نعم.»
قال: «كنت أقصد بذلك أنني أمضيت الوقتَ مع رئيسي — اللورد الأعلى ستوكتون — أتطلع إلى مجموعته الجديدة من الغواصات.»
سأل الطبيب: «أظنك تقصد رسوماتها الأولية؟»
قال: «هذا صحيح، وباشرت رسم المسوَّدات الاعتيادية. تلك هي وظيفتي، أو كانت كذلك! كنتُ آلة التصوير التي تسير على قدمين الخاصةَ بستوكتون حتى عصرِ أمس؛ ثم طُرِدت شرَّ طردة هديةً لعُرسي، ويُحتمل أن أُسجَن هديةً لشهر العسل!»
تهدَّج صوته الخشِن، على الرغم من استخدامه المفاجئ للهجة العامية والسخرية. دُفِعَ دولار دفعًا إلى اتباع سياسته الوحيدة.
قال: «لن أتظاهر بالجهل. سمعت بالأمر من وزير الداخلية. وعلمت بنَسْخ أحدِ رسوماتك الأخيرة …»
هتف: «نَسْخ!»
قال الطبيب: «حسنًا، تقليدها على نحو سيئ، إن شئت القول.»
توقَّف الطبيب عن الحديث وكأنه انتهى من كلامه أو أن التصحيح قطع حبْلَ أفكاره.
سأل إيدنبورو بتجهُّم: «ماذا بعد؟ هل علِمت كيف حصلوا على النسخة المقلَّدة؟»
أجاب: «من مكتب البريد، حسبما فهمت، في طريقها إلى الخارج.»
قال إيدنبورو: «مكتب البريد الخاص بنا. ما أعرفه أن ذلك الإجراء من شأنِه اندلاع الحرب بين الدولتين!»
«ألديك أيُّ فكرة عن الكيفية التي وصلت بها إلى هناك؟» سأله الطبيب بفظاظة؛ ولكن هذه المرة كان يقصد أن يكون فظًّا؛ ولم يبالِ عندما غضِب رفيقه غضبةً واهنة على الفور.
هتف إيدنبورو: «ماذا تقصد أيها الطبيب دولار بحق الجحيم؟ لا أعرف عن الموضوع أكثرَ — كنت سأقول، أكثرَ مما تعرف — لكن بدأت أظن أن لديك معلوماتٍ أكثرَ مما تتظاهر!»
قال دولار ببساطة: «لا أظن أنني تظاهرت بأي شيء.»
سأل إيدنبورو بحدة، مرتابًا غاضبًا: «حسنًا، ماذا تعرف إذن؟» وأضاف بسخرية صبيانية عندما تأخَّرت الإجابة: «أظنك تعرِف المسألةَ كلَّها، أليس كذلك؟»
قال الطبيب بجِدية وببطء شديدين، كأنه يُدفَع لأن يحدِّد مصيرَ أحدهم، إما الحياة أو الموت: «بلى؛ أعرف المسألة كلَّها.»
لم تنبعث صرخةٌ مفاجئة من إيدنبورو. منعه اعتزازه بنفسه من ذلك. لكن بدأت ركبتاه ترتعشان في ضوء المدفأة، ويداه المرتخيتان تنتفضان.
هتف في نهاية المطاف: «لا أصدِّق ما تقوله. أخبرني بما تعرفه!»
ردَّ الطبيب: «أعرف جميعَ الشكوك التي ساورتك، وأمرضَتك، وحرَمتك لذة النوم … منذ فترة طويلة!»
نقلت نبرة الطبيب المشفقة ويده الحانية قناعتَه الكئيبة أكثرَ مما فعلت كلماته. وحينئذٍ كان المريض هو من ارتمى في المقعد، والطبيب منكبٌّ فوق كتفيه المنحنيتين والمرتعشتين.
تابع الطبيب: «يا عزيزي إيدنبورو، لستَ أول رجل تخونه، فيما يبدو، امرأةٌ ما بدم بارد … أو دعني أقول امرأة بعينها. تذكَّر كلامي جيدًا. قلتُ فيما يبدو. ما كنتُ لأدين أعتى المجرمين دون سماع أقواله. أردتُ أن أستمع إلى الآنسة تريفلين أولًا، وفي أعماقي بصيصُ أمل، غير منطقي بالمرة، في أن لديها تفسيرًا غير متصوَّر لما حدث. لكن إن صحَّت بشأنها أسوأ الظنون، فسيكون العكس صحيحًا في حالتك؛ فلم أقابل رجلًا لقي ما لقيت وتحمَّله في جلَد مثلك يا صديقي العزيز!»
تنهَّد إيدنبورو ورأسه مطرق قائلًا: «ما الذي يدفعك إلى الشك فيها؟»
قال: «إنه ليس مجرد شك؛ فلا تخادِع نفسك يا إيدنبورو. أعرف يقينًا أن الآنسة تريفلين قلَّدت المخطَّطَين الأخيرين اللذين أُثيرَت بشأنهما هذه المشكلة كلُّها، وسلَّمتهما طوعًا لآخرين. ما أشكُّ فيه هو أنها جعلتك تريها المخطَّطَين الأصليين، بمجرد الانتهاء منهما، متذرعةً بشغفها بالشئون البحرية.»
قال إيدنبورو، كأنه لا يصدِّق ما يقوله أو كأن فكرةً أخرى خطرت له: «هذا صحيح تمامًا. لقد فَعَلَتْ ذلك.» ثم هتف، وهو يهبُّ واقفًا على قدميه: «لكن الشغف هو رأس هذه المشكلات! شغف أبيها؛ أو حياته في الحقيقة! أليس من غير المعقول أن ابنته — بصرفِ النظر عن جميع الأمور الأخرى التي اكتشفتها بشأنها — هي الفاعلة في هذه الحادثة، دونًا عن أي أحدٍ آخرَ؟»
أجاب الطبيب متنهدًا: «يؤسفني أن أقول إن الأمور غيرَ المعقولة تحدُث بنفس قدْر تواتر الأمور غير المتوقَّعة. في الحقيقة لا يهيِّئنا علمُ الجريمة إلا لهذين الأمرين تقريبًا. تذكَّر الأمهات المثاليات اللواتي كان أول ما لجأن إليه لإراحة عقولهن المضطربة هو قتل أطفالهن! إن انعكاس الانفعالات المسيطرة لهو أحدُ الأدلة على الإصابة بالجنون.»
هتف إيدنبورو: «لكنها ستكون مجنونة بالتأكيد لو أنها من ارتكبت هذه الجريمة. لكن هذا ما لا يمكنني أن أصدِّقه ولن أصدِّقه. يمكنني تصديق ذلك دقيقة ثم أعود أنكره في الدقيقة التالية، مثلما كانت تراودني الشكوك بشأنها ثم كنت أسخر من شكوكي، طوال هذا الوقت العصيب. دائمًا ما كانت نظرة واحدة إلى وجهها كاشفة، وستكون كذلك في الوقت الحاضر.»
قال دولار وهو يتفقَّد الساعة: «حسنًا، سنرى ذلك قريبًا. لكن أود أن أحذِّرك أن الأدلة التي بحوزتي دامغة.»
سأل إيدنبورو بحدةٍ، في نوبة جديدة من العناد الأعمى: «هيَّا؛ فلتطلعني عليها إذن؛ ما أدلتُك؟»
قال دولار: «أنت تجبرني على أن أفعل، يا صديقي العزيز! الرب وحدَه يعلم أن لديك كلَّ الحق في ذلك، ولا يمكن أن يزيد ذلك الأمورَ سوءًا أكثرَ مما هي عليه. يتألف الدليل الذي بحوزتي من إقرار شامل غيرِ مباشر لوغد، لاحظتُ أنك كرهتَه فَوْرَ رُؤيته، ويعمل بمهنةٍ أمضيتُ الأسبوع في التحري بشأنها. لستُ بحاجة لأن أخبرك بأنني أقصد روكي السيئ السمعة.»
«روكي!» همس إيدنبورو بالاسم في محاولته الثانية كأن لسانه يرفض التلفُّظ بهذا الاسم البغيض. لكنه تجمَّد حينئذٍ في مكانه كما لو أنه استوعب الأمر في نهاية المطاف. أضاف بصوت عقلاني متوعد: «حسنًا، لا بد أن أعيشَ حتى أرسله إلى الجحيم، مهما كان ما سأفعله.»
قال دولار: «سيتعيَّن عليك أن تعثر عليه أولًا. لقد عاد إلى رؤسائه — من غير بني جلدته — فقد طرده الآخرون منذ مدة طويلة. وقد أخذت على عاتقي أن أفعل المثل، بدلًا من أن أسلِّمه للشرطة، وأتسبَّب في ضرر يفوق بكثيرٍ ما قد يُرجى من نفع.»
لكن إيدنبورو لم يكن يستمع إلى كلمةٍ واحدة مما قال؛ إذ كان يحادث نفسه، وتحدَّث جهرًا فور أن أُتيحت له الفرصة.
قال: «الآن عرفت لماذا كانت مولعة بمهنتي البائسة … وبالقوات البحرية عمومًا، أليس كذلك؟ … لا، لا أتخيَّل أن الأمر كان احتيالًا طوال هذا الوقت … وكانت تتظاهر ببغضِها مثلي لذلك الرجل الفظ! أعتقد أنها هي الأخرى كانت تبغضه، لولا براعته في رقص الفالس … لا، لم أشعر مطلقًا بالغَيرة منه، ولا في الوقت الحاضر … بل إن ما أشعر به أسوأ بكثير، نحو هذا اللعين المنعدم الشعور!»
أبدى إيدنبورو تجردًا يعجز عنه فيلسوفٌ يلفظ أنفاسه الأخيرة. لكن دولار لم ينتبِه لهذا التحول؛ إذ كانت أذنه المترقِّبة قد التقطت رنين جرس كهربائي.
قال بصوتٍ متصالح متعجِّل: «إيدنبورو، آن أوان أن تُظهِرَ معدِنك الحقيقي. لقد أبقيت، حتى الحين، رأسك مرفوعًا وتحليت بالشجاعة؛ فلا تحنِ رأسك الآن وستصير بطلًا! ما زلتُ لا أستطيع أن أتخيل كيف ستدافع الآنسة تريفلين عن نفسها، لكني أتوسَّل إليك أن تستمع إلى ما ستقوله؛ فقد دخلت المنزل في هذه اللحظة حسبما أعتقد.»
قال: «لوسي … هنا … هل كنتَ تترقَّب وصولها؟»
أجاب دولار: «أخبرتك أن لديَّ موعدًا آخرَ. لكنك أتيت أولًا، وتوالت الأحداث، وربما يكون هذا هو الأفضل للجميع. كان لا بد أن تسويا الأمر بينكما … اليوم. لا أمانع البقاءَ إن كنت ترغب في حضوري … لكن لا أحدَ على وجه الأرض يمكنه مساعدتك!»
أشار إيدنبورو هامسًا مذعورًا: «فيما عداك! لا يمكنني أن أواجهها بمفردي؛ لا يمكنني أن أثق بنفسي!»
كان هناك طرْقٌ على الباب لكن دولار لم ينتبِه إليه. قال بلطف: «يجب أن تفعل يا إيدنبورو. وأيًّا كان ما ستقوله لك — قليلًا أم كثيرًا، وربما يكون كثيرًا — لا بد أن تسمعه بأناةٍ حتى النهاية. هذا واجبك يا رجل! لا تخشَ تلبيةَ ندائه بحق الرب!»
قال إيدنبورو هامسًا: «لكني بالفعل أخشى مواجهتها! أخشى مواجهتها لأجلها بقدْر ما هو لأجلي. لن أخزيها، ولو كان روكي يقول …»
انفتح الباب استجابةً لدعوة دولار بنبرةٍ حاسمةٍ بالدخول. كان الطارق هو الصغير بارتون، الذي جاء ليبلغه أن الآنسة تريفلين في غرفة الانتظار.
قال دولار: «أدخلها. لديَّ ما هو أكثر من مجرد أقوال روكي، يا إيدنبورو.»
نظر الشاب المُشتَّت حوله، مثل حيوان بري حبيس في قفص يبحث عن مخرج للهرب، ورأى المخرج في اللحظة الأخيرة.
قال بأنينٍ مشحون: «لن أكون الرجل الذي يخزيها مهما كان ما فعلته! إن كان ثمَّة تفسير، فلا داعيَ لأن تعرف أنني على دراية بالأمر؛ ولو لم يكن ثمَّة تفسير، فالسلام!»
تسلَّل إيدنبورو من النافذة المفتوحة، وخرج إلى الدَّرج الحديدي، فيما أشعل دولار المصباح الذي أحال ضوء الغسق بالخارج إلى ظلام؛ وانفتح الباب، بينما كان دولار يغلق الستائر باستماتة، في إشارة أخيرة إلى إيدنبورو ألا يتحرك من مكانه وأن يستمع على الأقل إلى كلِّ ما سيقال.
قالت الآنسة تريفلين بسرعة قبل أن يتبدَّد صوت خطواتها القوية: «عِمت مساءً أيها الطبيب دولار، أهناك خطْبٌ ما؟»
أجاب الطبيب: «أمنَ الممكنِ أنكِ لا تعرفين الأمرَ؟»
قالت: «أهو أمرٌ له صلة بجورج؟ أنت طبيبه، أليس كذلك؟» وجَّهت سؤاليها هذين بسرعةٍ أكبر، ولكن بحرص على ألا تُظهِر أيَّ بادرة قلق.
هتف الطبيب بانزعاج مباغت من وقفتها المتحفِّظة ونظرتها الثابتة: «لقد توجَّه إليَّ لطلب المشورة، لكن المسألة أوطد صلة بكِ. لا جدوى من اللف والدوران يا آنسة تريفلين! أريد أن أتحدَّث معك بخصوص الماركيز روكي.»
قالت: «حقًّا!»
كانت الآنسة تريفلين قد أجفَلت عند سماعها للاسم، لكن بدت عيناها أكثر إشراقًا وجرأة، ولم يتخلَّ وجهها الحازم عن عناده وهدوئه.
واصل الطبيب: «لقد فرَّ الماركيز روكي من البلاد بالأمس يا آنسة تريفلين.»
قالت: «كنت أتساءل عن السبب في عدم مجيئه إلى نادي الأمير!»
قال دولار بحزم: «لقد لاذ بالفرار بسبب الفضيحة التي أنتِ متورطة فيها. كان يتاجر في الأسرار البحرية — أسرار هذه البلاد، يا آنسة تريفلين — ويقسم أنكِ من بعتِها له. أهذا صحيح؟»
قالت الفتاة بعد أن ظهرت عليها بوادرُ الانفعال للمرة الأولى: «مهلًا، أتقوم بهذا الاستجواب من تلقاء نفسك أم نيابةً عن السيد إيدنبورو؟»
أجاب الطبيب: «من تلقاء نفسي تمامًا.»
قالت: «هل كنت تتقصى الحقائقَ بناءً على رغبةٍ منك فحسب؟»
أجاب: «يمكنك التعبيرُ عن الأمر على هذا النحو.»
سألت: «هل أنت محقِّق وطبيب كما يبدو؟»
قال: «أتوسَّل إليكِ، يا آنسة تريفلين أن تخبريني إن كانت هذه الأقاويل صحيحة!»
قالت: «لتنقلَ الإجابةَ إلى مريضك، أليس كذلك؟»
قال دولار بنبرةٍ غير صادقة، لكنها تفيض بحزن أعمق: «نعم. لن أخبره.»
قالت: «حسنًا! سأخبرك، وبعد ذلك يمكنك أن تصدح بها في ميدان عام، فلا أكترث. ما قلتَه صحيح تمامًا!»
أجفَل دولار، ليس من كلامها الذي كان متيقنًا منه قبل أن تتلفظ به، لكن من الطريقة التي تلفَّظت بها بهذا الكلام. بدا لعين الطبيب وأذنيه أنها بلغت الحد الأقصى في انعدام الضمير النابع عن سوء الخلق، وعدم الحياء، والتبجُّح. ألقى نظرةً خاطفةً على النافذة المُسدلةِ الستائر، لكن لم ينبعث أيُّ صوت أو حركة من الدَّرَج الحديدي بالخارج.
سمع نفسه يقول في النهاية، بنبرة صبيانية للغاية، حتى إنها جعلته لا يستغرب ابتسامتها: «أصحيح أنك بعتِ تلك الرسوماتِ لهذا المدعو روكي؟»
أجابت الآنسة تريفلين: «هذا صحيح تمامًا.»
«هل بعتِ الرسومات التي رسمَها جورج إيدنبورو للأميرال الأعلى، وأطلعكِ عليها نظرًا إلى أنكِ كنتِ أقوى شخصيةً منه وأصررتِ على رؤيتها، لكن بعدما استأمنكِ على المحافظة على سريتها، بين رجل وامرأة سيجمعهما رباط الزواج في المستقبل؟»
قالت الآنسة تريفلين بضجر: «لم أبِع رسوماته. لقد نسختُها، بالتقريب اعتمادًا على ذاكرتي، ثم بعتُ ما اجتهدت فيه.»
قال بنبرةٍ تنطوي على توبيخ، وعجبه يزداد أكثرَ فأكثر: «أعرف ذلك بالطبع! كانت زلة لسان لا أكثر. كما أنكِ تقرين بجريمتكِ بلا ذرة خجل!»
ردَّت السيدة ببراعة: «سأجعلك أنت الذي تخجل من نفسك، أيها الطبيب دولار. لقد اكتشفتَ ما فعلتُه بمهارة لكنك لم تسألني عن الدافع؛ لا أرى هذا التصرف لائقًا بشخصٍ ماهر مثلك، لكن لا يسعني إلا أن أشرح الأمر قبل مغادرتي. الرسمة الأولى المُسرَّبة لم تكن نسخةً مزورةً؛ بل كانت النسخة الأصلية هي التي تحصَّلوا عليها في تلك المرة، وسُرقت من السيد إيدنبورو، في طريق عودته إلى المنزل من الأميرالية. لم يعرف قَط أين تحديدًا سُرقت منه، لكني طوال الوقت كنت أظن أنني أعرف. أنت محقِّق نوعًا ما، أيها الطبيب دولار؛ حسنًا، وأنا كذلك، بطريقتي الخاصة. لم تطلعني على سرِّ نجاحك؛ لذا ينبغي لي ألا أضجرَك بسرِّي. خمنتُ حصول هذه السرقة في نادي الأمير، وشككت في أن الفاعل هو روكي، وكانت هذه هي القصةَ كلَّها. حدث ذلك في الربيع الماضي، وانشغلت طوال الصيف في التفكير في الحادثة. لكن عندما فُتح النادي، شرعتُ في العمل؛ إذ كان روكي يحاول التودُّد إلى كلينا كما فعل من قبل. لم تفلِح محاولته كثيرًا مع جورج، لكن حاولت التودُّد إليه في غياب جورج، وفي بعض الأحيان في وجوده أيضًا!» وأضافت لوسي تريفلين، بما يشبه تنهيدةَ حزن على فراق رفيق تزلُّج رائع: «فهو يستطيع أداء رقصةِ الفالس، كما تعلم، وأنا أيضًا.»
قال الطبيب: «لكنكِ نسختِ الرسمتين الأخريَين، واعترفتِ ببيع النسختين له، أليس كذلك؟»
قالت الآنسة تريفلين بعينين متألقتين: «بعتُ النسختين بالفعل، ويمكنك أن تخمِّن ما فعلته بالمال الذي جنيته منهما؛ لكن ليس عدلًا تسميتهما بالنسختين. لقد جعلتهما غيرَ دقيقتين بأقصى درجة ممكنة دون إفساد الأمر كلِّه، وفي الحقيقة لم أستطِع رسمهما على هذا النحو غير الدقيق من ذاكرتي فحسب، لا سيما أنهما كانتا مسوَّدتين أوَّليتين أصلًا! بالطبع كان جورج مخطئًا في أنه سمح لي برؤيتهما، لكنه كان يساعدني في قضيةٍ نبيلة. كان روكي جاسوسًا محترفًا خبيرًا. سرعان ما جعلته يدرك حجمه. لكنه لم يكن خبيرًا بالشئون البحرية على عكسي! هذه مفخرتي الأخيرة أيها الطبيب دولار؛ لكنك ستجد أن للأمرِ ما يبرِّره، إذا فكَّرت فيه من ناحية أننا، أنا وجورج، منعنا عدوًّا للأمة من إلحاق أَذًى خطير، وتقديم خطط مزيفة لدولة صديقة، ومنحنا المال لرابطتنا البحرية العزيزة!»
نظر دولار بعينين باديتي الذهول إلى الفتاة الوقحة المتألقة. وكان الأمر الوحيد الذي أحزنه هو أن إيدنبورو لم يندفع عبَر الستائر على الفور؛ لا بد أنه يتمتع برباطة جأش استثنائية، عندما يشاء.
قالت عروس جورج: «لا أعني أن جورج كان طرَفًا مشاركًا عن وعي في عملية التزوير هذه؛ ما كان ليوافق عليها، كان من المستحيل أن يفعل ذلك، جورج المسكين! لكني سأحكي له القصةَ كلَّها الآن؛ بالطبع كنت طوال الوقت أنوي أن أخبره — بعد غدٍ — لكنه لديه ما يكفيه من المشكلات الخاصة به، كما أن هذا المخطَّط كان مسئوليتي أنا. أظن أنك لا تعرف ما الذي كان يزعجه أيها الطبيب دولار؟ يقول إنه يشعر بالإجهاد بسبب الإفراط في العمل، لكني أرى اللورد ستوكتون عجوزًا ظالمًا؛ أتدري أنني لم أرَ جورج منذ أول من أمس في نادي الأمير؟»
قال دولار دون أن يشعر بأي تأنيب ضمير: «ولا أنا. لم أرَه منذ ذلك الوقت وحتى الساعة.»
ختمت الآنسة تريفلين كلامها، كأنهما صديقان حميمان: «أعرف بالتأكيد أنه على ما يُرام؛ لأنه حدَّثني هاتفيًّا العديد من المرات ليخبرني بذلك، وبدا يوم الاثنين أفضلَ حالًا مما كان منذ مدة طويلة. لكن دعني أعترف أنني سأشعر بالسرور عندما أستطيع أن أبعدَه عن هذه الأجواء ليحظى بقسط وافرٍ من الراحة.»
رفضَت الاستماع إلى كلمة أخرى من دولار، ولو على سبيل الإيضاح أو الأسى، ورحلت عن المكان بغتةً، على نحوٍ ينبئ عن شخصية قوية الإرادة. لكن كان قد انتابها شعورٌ بالإحراج مرةً على الأقل في الدقائق الأخيرة. أما الطبيب فركض إلى خلوته، بقلبٍ يرقص طربًا، مستعدًّا لعناق مريضه في فرح بالغ وتهنئة خالصة.
لم يكن هناك مريضٌ ينتظره في غرفته في تلك اللحظة، لكن الستائر كانت تتمايل قليلًا أمام النافذة المفتوحة. قطع دولار المسافةَ الفاصلة بينه وبين النافذة في قفزة واسعة؛ لكن لم يجد أحدًا بالخارج على الدَّرج الحديدي، وارتفعت الستائر وراءه، فيما انغلق باب الغرفة بقوة بفعل التيار الهوائي. كان ذلك الحيز الصغير القبيح في الجزء الخلفي من المنزل، بين الجدران السوداء العالية ذات الإفريز المزيَّن بالزجاجات المكسورة، يمتد خاليًا من أي علامات للحياة تحت فيض الضوء الآتي من النوافذ الخلفية، باستثناء قطة نشيطة لاذت بالفِرار قبل أن ينزل دولار إلى القبو في عجل.
قالت السيدة بارتون على الفور: «لقد رحل السيد. جاء من هذه الناحية منذ قليل … قائلًا إنه لا يطيق الانتظار بالخارج أكثرَ من ذلك!»
سأل دولار: «برأيكِ كم قضى من الوقت منتظرًا؟»
قالت السيدة بارتون بحزم: «ليس طويلًا. كان بوب في راحةِ شاي الساعة الخامسة يتناول وجبةً خفيفة عندما اضطُر إلى صعود الدَّرج ليحضِر السيدة الشابة إليك؛ أما فيما يخص السيد الشاب، فلم تمضِ ثلاث أو أربع دقائق قبل أن يمرَّ من هنا كأن نازلةً ألمَّت به.»
قال دولار: «لم أسمعه.»
أجابت: «كان حريصًا على ألا يزعجك، يا سيدي.»
سأل دولار: «أأنتَ من اصطحبته إلى الخارج يا بوبي؟»
لم يتعامل السيد بفظاظةٍ معهما من قبلُ مطلقًا. فشعرت السيدة بارتون أن ثمَّة خطْبًا ما، لكن فرائص بوبي ارتعدت.
أجاب بوبي: «نعم يا سيدي!»
سأل دولار: «أيَّ طريق سلك؟ وهل غادر سيرًا أم ركِب سيارة أجرة؟»
ردَّ بوبي: «أنا … عفوًا يا سيدي … لم أهتمَّ بالتوقف لمراقبته يا سيدي!»
هُرع دولار إلى هاتفه؛ وسرعان ما تركه ليركب سيارة أجرة؛ وذهب إلى مكان إقامة إيدنبورو فلم يجده؛ وسأل عنه (بصفته مدعوًّا مجهولًا لا يدري أيُّ كنيسة سيُعقد بها العَقد) في منزل الأميرال تريفلين فلم يعطِه أحدٌ إجابةً شافية؛ وفي السادسة والنصف وصل إلى مجلس العموم، وإلى سكوتلاند يارد (مزودًا بأمرٍ كتابي من وزير الداخلية) قبل السابعة.
في تلك الساعة وذلك المكان، خرج الأمر من سيطرة الطبيب جون دولار، الذي لم يكن بوسعه إلا أن يسرع في العودة إلى منزله في شارع ويلبك، حيث كانت تنتظره أكثرُ ليلة مرهقة للأعصاب في حياته بلا نوم، حاملًا هاتفه اللعين تحت إبطه، ويُجري الاتصالات التي أخذ يسأل فيها عن مكان إيدنبورو في قلق، فيما انقضت الليلة ببطء شديد!
لكن لم يَرِده أيُّ خبر.
قُرب منتصف الليل، جاء توبام فينسون، يحمل شطائرَ لذيذة وزجاجة الشمبانيا التي كان قد وجدها تنتظره في المنزل. كان تصرُّفه يليق بقائدٍ بالسليقة؛ إذ لم يكن الطبيب قد ذاق الطعام منذ وجبة الغداء، ولم يغلُبه النُّعاس في الساعات الأولى من الصباح سوى مرَّة واحدة ولعدة دقائق في مقعده.
لكن السياسي لم يكن بالمِزاج الذي يسمح له بالانتظار على الهاتف ليتسنَّى له التحدث إليه؛ أجرى العديد من الاتصالات؛ وأزعج نحو اثني عشر مساعدًا، وفي النهاية حصد نتاج جهده بأن بُعث به إلى مستشفى هامرسميث للتعرف إلى جثة موظف، كان متورطًا في مخالفات مالية، أخُرجت للتو من نهر التايمز.
قال دولار، حتى عندما بدا أن التفاصيل كانت تتطابق مع مواصفات إيدنبورو: «لن أذهب معك. لن ينتحر إيدنبورو غرقًا، وهذه هي قناعتي.»
بدا وكأن الطبيب قد كبر عشر سنين وهو يفتح الباب الأمامي لمنزله مرةً أخرى عند انبلاج الصبح. كان وجهه شاحبًا، مثل أشعة الفجر في فصل الشتاء، فيما وقف أمام القادم منحنيًا منكسرًا. كان توبام فينسون يقف مصعوقًا على عتبة بابه.
قال فينسون: «لم ينتهِ الأمر، أليس كذلك؟»
أومأ الطبيب بشفتين مزمومتين.
سأل فينسون: «متى وأين؟»
قال: «لا أعلم. تفضَّل بالدخول. الخدم يستيقظون في الطابق السفلي؛ وسيكون الإفطار جاهزًا بعد هنيهة.»
قال فينسون: «بحق الرب أخبرني بما سمعته!»
قال دولار: «ألم أخبرك؟ اتصلَ بي شخص بعد ذهابك مباشرة. وأبلغني أنه اشترى حمض البروسيك أمس!»
كان دولار قد ارتمى في مقعده العتيق الدقيق الصنع؛ وتدلى رأسه المطرِق بين يديه، وانعكست صورته على طاولة الكتابة التي تشبه طاولات الرهبان.
سأل الرجل الواقف: «من اتصل بك؟»
أجاب دولار: «أحد رجالك.»
سأل فينسون: «هل هذا ما أخبرك به فحسب؟»
أجاب دولار: «هذه هي كل المعلومات التي حصلت عليها؛ وسرعان ما سنعرف البقية.»
سأل فينسون: «من أين اشترى الحمض؟»
ردَّ دولار: «من الصيدلي الذي كان يتعامل معه … «من أجل إراحة كلب عجوز مسكين من عذابه!» هذه كانت كلماته، يا فينسون، حسبما قيل لي! لن أنسى هذه الكلمات ما حييت.»
قال فينسون: «وهل استغرق الأمر كلَّ هذا الوقت لمعرفته من الصيدلي الذي اشترى الشقي المسكين منه الحمض؟!»
فهِم دولار غضبه العنيف.
قال: «هذه كانت غلطتي. لقد أخبرتهم أن يركِّزوا انتباههم على المدخلات في سجلات المواد السامة التي جرت بالأمس بعد الخامسة مساءً. لقد وَقَّع إيدنبورو باسمه واشترى الحمض في وقتٍ أسبق أمس.»
سأل فينسون: «قبل أن تخبرَه بأي شيء؟»
ردَّ دولار: «لا تنسَ أنه كانت لديه شكوكه. وكنتُ قد أكدتها، كما أن كلماتها الأولى حسمت المسألة لديه، حتى إنه لم يطِق مواصلةَ الاستماع إلى بقية اعترافها!» أضاف متأوهًا كأنه في حفرة بلا قرار من تأنيب الضمير: «ليته انتظر دقيقةً أخرى! ليتني أخذته من مَجامعه كي يواجه الحقيقة! أدعو نفسي طبيب الجريمة، لكني تركت مريضي يفارق الحياة بزجاجة من حمض البروسيك ويرتكب جريمةً كان يتعين عليَّ منعها!»
سأل فينسون: «أتساءل لماذا استخدم حمض البروسيك؟»
وجَّه فينسون سؤاله وهو لا يتوقع أن يحصل على المعلومات، لكن تصادف أن دولار كان يمتلك إجابةَ هذا السؤال بعينه، فاتجه إلى أرفف الكتب بنشاط مفاجئ.
قال: «أعرف السببَ وإن لم يكن قد خطرَ ببالي حتى هذه اللحظةِ! كنت أحاولُ كتابةَ روشتةِ دواء ليلةَ الأحد، عندما علَّق الشابُّ المسكين فجأةً مستحسنًا كلامَ شيلي، ووجدته مستغرقًا في قراءةِ خطاباتِ السالفِ ذِكْره، وهداني الحظُّ إلى تخمين الفقرة التي لفتت انتباهه. كان نصُّ المقطع كالآتي» وقرأ الفقرةَ مستهلًّا ﺑ: «أنت، بالطبع، تنخرط في مجتمع ليجهورن: فإذا التقيت بأيِّ عالِم يستطيع تحضيرَ حمض البروسيك أو زيت اللوز المر العطري، فسأشعر ببالغ الامتنان إن أحضرت لي بعضًا منه»، إلى أن انتهى ﺑ: «سأشعر بالراحةِ وأنا أمسكُ بين يديَّ ذلك المفتاحَ الذهبيَّ لغرفةِ السلام الأبدي.»
لم يفعل توبام فينسون شيئًا سوى أن التقط الكتابَ الذي سقط على الأرضِ عندما انتهى دولار من قراءةِ النص. كان دولار يترنَّح في مكانه وينظر في رعبٍ إلى الباب؛ وفي تلك اللحظةِ بعينها فُتح الباب، ومنه دلفت السيدة بارتون، تحمِل صينيةَ الشاي.
قال الطبيب بصوتٍ خذلَه على نحوٍ لم يحدُث طوال الليل: «لا أريد أن أوذيَ مشاعركِ يا سيدة بارتون، لكن هل كان ولدُكِ صادقًا عندما أخبرني برؤيته للسيد إيدنبورو وهو يخرج من المنزل؟»
هتفت المرأة الصالحة: «لا، لقد كذب يا سيدي، وقد ضربه والده ضربًا مبرحًا على هذا! لقد ارتكبت عائلةُ بارتون خطأ فادحًا، وأنا مذنبة في ذلك مثل ابني لأنني لم أخبرك بالحقيقةِ في حينها. لذا فنحن مخطئون جميعًا، ولا نستحق المُكث في منزلك، وهذا ما أخبرتهما به!»
قُوبل اعتراف المرأة المسكينة بالصفح والمواساة، وعاملها الطبيب، بتعاطف غير واعٍ، لم يخفَ عن توبام فينسون الذي شمله ذلك التعاطف بعد لحظة.
قال دولار: «تناول كوب الشاي الخاص بك. سيكون نافعًا لك.»
قال فينسون: «ماذا عنك؟»
أجاب: «سأذهب للطابق العلوي أولًا.»
قال فينسون: «لقد خطر ببالك شيء ما!»
أجاب دولار بصوتٍ هامس مأساوي: «هذا صحيح. لقد خطر لي تفقُّد غرفةِ السلام الأبدي بمنزلي.»
كان ذلك الملاذ في الطابق الثاني، وكانت له ثلاثة أبواب عريضة لدرجةِ أنه كان لا بد من غلق كل باب على حدةٍ قبل فتح الذي يليه. وبصرف النظر عن الصَّخَب الموجود في المنزل، عندما يدلف المرء من باب الغرفة، كان يترك الأصوات كلَّها خلفه. كما امتازت الغرفة بنوافذَ ثلاثيةِ الطبقات من شأنها عزْلُ صوتِ انفجارٍ على إطارها، وجدران سميكة البطانة تحت كسوتها الظاهرية من خشب الصَّنوبر العطري.
أول ما يدخل المرء الغرفةَ كان يغشاه شعورٌ بالسلام والسكينة اللذين تعجز الكلمات عن وصفهما؛ ثم تتسلَّل إلى أنفه رائحةٌ مُهدئة خفيفة، شأن توابل شبه الجزيرة العربية؛ وفي النهاية، يحسُّ بوجود نظام تهوية مبني على أسسٍ علمية على نحوٍ مُثير للدهشة، يجعل الجدرانَ الأربعة عازلةً للصوت دون أن تمنع دخول الهواء من الخارج، بل تسمح بدخول الهواء اللاذع للجبال المكسوَّة بأشجار الصنوبر، ودورانه في الغرفة بصورة إعجازية، في قلب لندن.
كانت هذه التفاصيلُ تصيب الزائر بالدهشة شيئًا فشيئًا؛ لكنها لجون دولار الذي ابتكرها وأشرف على تنفيذها كانت مألوفةً وطازجة، فيما كان يدخل الغرفة بصحبة وزير الداخلية بهدوء؛ وانقض على حواسه على الفور تأثيرُ مركبٍ مُعَيَّن، لم يتوقَّعه في البداية ولم يهتدِ إلى تفسيره، وامتزج بشعوره بالإنهاك؛ فوجد الطبيب نفسه مدفوعًا لإلقاء جسدِه على الفراش أو الأريكة، مثلما يغرَق بائس هالك في الثلج، لولا ذلك الضوء في الغرفة وما كشف عنه.
ألقى الضوء وهجًا نحاسيًّا غريبًا دفيئًا، كان الطبيب قد اكتشفه بنفسه بصبغ المصابيح الكهربائية غير الشفَّافة مثلما يصبغ الأطفال البَيض في عيد الفصح؛ كان الوهج رقيقًا أيما رقة، ويلقي بظل مرهف فلا تتأذَّى العينان بالنظر إليه، وأحال الغرفة إلى رَدهة صغيرة برونزية. ربما كانت الستائر البسيطة محبوكةً من الدانتيل الذهبي الذي فقدَ الكثير من رونقه بتعاقب السنين؛ وكان الأثاث من النحاس المُصمت؛ والفراش على الطراز الشرقي بلا حافة ولا رأس؛ والجسد المستلقي على الفراش لعربي نائم.
كان النائم على الفراش هو جورج إيدنبورو بكامل حلَّته، وبجواره على غطاء الفراش صورةٌ فوتوغرافية لفتاة، وبجوار الصورة قارورة صغيرة تلألأت في ضوء الغرفة.
همس دولار قائلًا، بصوتٍ أصاب رفيقَه بالإثارة حتى النخاع: «الزم مكانك!» وتسلل على أطراف أصابعه إلى الفراش، وانحنى على النائم برهةً قبل أن يتراجع إلى الباب بهدوء شديد.
«كم مضى على وفاته؟» سأل توبام فينسون بخشونة؛ لكن في الحقيقة، كانت الدماء قد تجمَّدت في عروقه، وهو ينظر إلى الابتسامة الغريبة التي ارتسمت على وجه الطبيب في ذلك الضوء الغريب.
كرَّر الطبيب بصوتٍ مبحوح: «وفاته؟ ألا تعرف رائحةَ اللوز المر؟ ألم تشمَّها بعد؟ ها هي ذي القارورة الذهبية التي لم يفتحها عندما استلقى على الفراش — ربما للمرة الأولى منذ قدومه إلى هنا ليلةَ الأحد — وها نحن أولاء الآن في صباح يوم عُرسه، وهو لا يزال يغطُّ في النوم!»