مقدمة الطبعة الثانية
•••
يزعمون أننا في عصر العلم وفي دهر القانون، ويريدون أن يسلبوا الناس إيمانهم، كأن الإيمان هو مشكلة الإنسانية، مع أنه لا حلَّ لمشكلتها إلا به. إن مسألة الغنى والفقر وما كان من بابهما لا يحلُّها العلمُ ولا القانونُ؛ إذ هي من مواد القضاء والقدر في إنشاء الآلام والأحزان وأضدادها التي تقابلها، وما دام فوق الإنسانية من السماء قوةٌ لا تُحدُّ، وتحت الإنسانية من القبر هُوَّةٌ لا تُسدُّ، فلا نظامَ إلا على تصريف النفس أمرًا ونهيًا، وتأويلِ الحياة معنًى وغايةً، فإنْ لم يكن الشأن في ذلك مقرَّرًا في الغريزة على جهة الإيمان، فلن يكون العلم والقانون على ظاهر النفس إلا ثورةً بما في باطنها، ولن يبرحَ الناسُ على ذلك بعضُهم من بعض كالهارب منه وهو مضطرٌّ إليه، أو كالمضطرِّ إليه وهو هاربٌ منه، وكل من كلٍّ في معنى من معاني النفس لا إنسانيةَ فيه.
ما زاد العلماء على أن خلقوا في ساعدَي الحياة هذه العضلةَ البخاريةَ، وذلك العصب الكهربائي، فمَن لم يستطع أن يتوقَّى ضربةَ الحياة المدنية بعُدَّةٍ من قوةٍ وعتادٍ من المال، طاحَتْ به فدكَّتْه دكَّ الخسف، ووضعته من الناس موضع الحبَّة من الرحى الدائرةِ، فما بينه وبين أن ينهارَ موضعٌ يستمسك عليه، وإنما هذا الموضع هو إيمان المؤمن؛ إذ يعطف على الضعفاء، أو يُسعد أو يبرُّ بما كُتِبَ عليه أن يرقَّ لهم من ذات نفسه ويتحنَّى ويتوجَّع.
ومتى كان العلمُ والدينُ يقومان جميعًا على تنظيم الطبيعة في مادتها وإنسانيتها، لم تجرِ الإنسانيةُ إلا على ناموس بقاء الأصلح في الجهتين، فإذا تخلَّى بها العلمُ وحده، فلن تجريَ أبدًا إلا على ناموس بقاء الأصلح في ظاهرها لإيجاد الأفسد في باطنها.
وإنما محلُّ الإيمان من أهله فوق محل الحكومة ممَّن تحكمهم! فهو الأمر والنهي بلغة الدم والعصب، وهذه الغايات التي تتألف من أجلها الحكومات، كأمن الناس ونظامهم وحريتهم وسعادتهم، هي أنفسُها محكومةٌ بمسائل تأتي من ورائها في طبائع الناس وعاداتهم ومعايشهم ومصالحهم، فإنْ لم تكن في النفوس من الدين أصولٌ تأمرُ وتحكم، وفي الطباع من اليقين أصولٌ تستجيب وتخضع؛ رجعت الحكومة في الناس أداةً مسلطةً لا تُغني كبيرَ غَنَاءٍ في الخير والشر؛ إذ يحتاج الخير أبدًا إلى قوتها تحميه، ويحتال الشر أبدًا على قوتها تستنقذه، ومتى لم يكن الخير إلا بالقوة فاحتياجه إليها شرٌّ، ومتى لم يكفَّ الشر عن القوة فاحتياله عليها شرٌّ مثله؛ فإذا تضعضعت من الأديان هذه الدعائم الرأسية، وفَرَطَ من الإنسانية هذا الفارطُ الذي ليس في الأرض كِفاءٌ منه؛ لم تجد حسنةً في حكومة من الحكومات إلا معها من طبيعتها سيئةٌ، ولم تجد سيئةً إلا هي سيئتان، فلن تكون الحياة حينئذٍ إلا تعقيدًا أشد التعقيد من طغيان القادرين عليها بالمال والغنى، ومن حِقد العاجزين عنها بالفقر والحاجة.
والغنيُّ القادر على مُتَعِ الحياة ولذَّاتِها هو دائمًا في فلسفة العاجز قادرٌ بلا قدرة، كما أن الفقير الضعيف هو دائمًا عند نفسه عاجزٌ بلا عَجْز، ولا أدلَّ على ذلك من تعبيرهم عن معناه بالكلمة التي تُشبِه أن تكون هي أيضًا معنًى بلا معنًى؛ وهي الحظُّ. فلا بد للناس من الحدود التي تبني بين كل ضدين من أحوال الإنسانية جدارًا يعطف نفسًا على نفسٍ بالرحمة، ويردُّ قوةً عن قوةٍ بالصبر، ويكفُّ عاديةً عن عاديةٍ بالتقوى، ويحقِّق عوامل التوازن بين أسباب الاضطراب في الجماعات المتصادمة؛ ليُقِرَّ كلَّ مضطربٍ في حيِّزٍ إنْ لم يمسكه فيثبتَ فيه لم يُفلِته فيعدُوَ على سواه.
فإذا عملَتِ المدنيةُ على هدم هذه الحدود، وتركَتْ قوةَ الإيجاب في طبيعة الحياة بغير قوة سلبيةٍ من الإيمان في طبيعة النفس، كشفَتْ للإنسان عيوبه ببلاغةٍ من تعبير شهواته فزادتها رسوخًا فيه، كما تقول للص: إنك لتسرق وستصبح غنيًّا تمرُّ يدك في الذهب، تنفق وتستمتع على ما تشتهي … فما يراك قلتَ له: لا تكن لصًّا وتعفَّفْ. بل قلتَ له: كُنْ غنيًّا واستمتع. ويومئذٍ يغبرُّ البؤسُ ويقشعرُّ الفقرُ كما نرى لعهدنا في الأمم التي فشا الإلحاد فيها، فليس من بعدُ إلا أن يتحوَّل الفقر عن صورته البيضاء في سكب الدمع إلى صورته الحمراء في سفك الدم، وكان سؤالًا فيعود اغتصابًا، وكان الأسفلَ فيرجع الأعلى، وكان يفرِضُه الحقُّ فإذا هو الحق نفسه، واللهِ لكأنَّ المسكين في هذه المدنية هو الجزء اللئيمُ الذي طرده الغني من نفسه وتبرَّأ منه وأمات ما بينه وبينه، فإذا هما اعترضا في مذهب من مذاهب الحياة، نفرَ الغني كأنما يرى قبره يدنو منه، وأطبق عليه البائس بمعاني النقمة واللعنة يقول له: ما أنا إلا لؤمُكَ أنت!
وكان على هذه الأرض أغنياء مؤمنون فيهم من كرم الحس شِبْهُ الفقر، ومساكينُ مؤمنون لهم من كرم الصبر شِبْه الغنى، فهل تنقلب المدنيَّةُ من الغنى المحض والفقر المحض إلى مادة تخلق اللحمَ الحيَّ، وأخرى لا تخلق له إلا الظُّفْر الحيَّ …؟
وكان اختراع الإنسان في المادة الجامدة؛ أَفتراه يجيء يومٌ على الناس يكون أعظم اختراع فيه للإنسان الأخير أن يُعِيدَ إلى الأرض إنسانَها الأول الكريم؟